دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

المنع عن وفاء دليل حجيّة الامارة باثبات قيامها مقام القطع الموضوعي وعدم صلاحيّته للحاكمية ، لأنّها فرع النظر إلى الدليل المحكوم وهو غير ثابت فلاحظ.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله وحاصله ـ على ما قيل في تفسيره ـ : ان اليقين بالحدوث ليس ركنا في دليل الاستصحاب ، بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.

وقد اعترض السيد الاستاذ على ذلك (١) بانّ مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة الواقع لزم كونه دليلا واقعيا على البقاء وهو خلف كونه اصلا عمليا (٢) ، ولو (٣) كان مفاده الملازمة بين الحدوث

__________________

ولا يثبت اعطاء الامارات صفة الكاشفية والطريقية ، وعليه فلا تقوم الامارة مقام العلم.

(١) راجع المصباح ٣ ، الوجه الثاني من التنبيه الثالث ص ٩٧.

(٢) ولوقعنا في التصويب الباطل.

(بيان الخلف) إنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب انها مجعولة في حال الجهل بالحكم الواقعي ، فقوله عليه‌السلام «حتى يجيء من ذلك أمر بيّن» معناه حتى يعلم انه قد نام واقعا وإلّا فانه يبني على بقاء طهارته ، واوضح منه قوله عليه‌السلام «فانك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه» أي طاهر ولو بناء على اصالة الطهارة لو قوله ثقة أي رغم احتمال تنجّسه واقعا ابن على الطهارة ، المهم انّ ظاهر الأدلّة إرادة إفادة حكم ظاهري ـ كالطهارة في المثال السابق ـ في حال الجهل بالحكم الواقعي الذي قد يكون النجاسة ، فاذا ادّعي ان الاستصحاب يريد إفادة حكم واقعي بالبقاء فهو خلف بل هو تصويب أيضا.

(٣) بيان ذلك أنّه لو علمنا بالعلم الاجمالي بنجاسة احد إناءين ، ثم علمنا

٦١

__________________

بنجاسة احدهما بالعلم التفصيلي بنحو يصلح لمتعلّق علمنا الثاني ان ينطبق على متعلّق علمنا الاوّل ، بأن كنا نعلم مثلا بوقوع قطرة دم في أحد إناءين ثم علمنا بوقوع قطرة دم في احدهما المعيّن بحيث يحتمل ان تكون قطرة الدم التي علمنا بها ثانيا هي نفس تلك التي علمنا بها أوّلا ، ففي هذه الحالة المعروف ـ بل هو الصحيح(*) ـ حصول.

__________________

(*) قد ذكرنا في مباحث العلم الاجمالي ان السبب في عدم جريان الاصول المؤمّنة في اطراف العلم الاجمالي هو استبعاد العقلاء ان تشمل ادلّة الاصول المؤمنة موارد العلم الاجمالي مع قلّة الاطراف وعدم وجود فرد يصلح للانطباق على المعلوم بالاجمال ، امّا مع وجود هكذا فرد فلا استبعاد عندهم في شمول أدلّة الاصول المؤمّنة لحالة الانحلال ، فلا محلّ إذن للاستصحاب بوجه ، فانّ مورد الاستصحاب انما هو فيما لو ثبت التنجيز ثم شككنا في رفعه ، وهنا لا شك في رفعه بأدلّة الاصول المؤمّنة او قل لجريان الاصول المؤمّنة في بقية اطراف العلم الاجمالي ، وكما ترى لا يلزم من القول بالملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجّز بقاء بعض اطراف العلم الاجمالي منجّزة بعد انحلاله بعلم تفصيلي.

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى لا بأس بنقل ما قاله صاحب الكفاية في كفايته ج ٢ ص ٣٠٩ قال ان الاظهر هو ((انّ اعتبار اليقين انما هو لاجل ان التعبّد والتنزيل شرعا انما هو في البقاء لا في الحدوث ، فيكفي الشك فيه ـ أي في البقاء ـ على تقدير الثبوت ، فيتعبّد به على هذا التقدير ، فيترتّب عليه الاثر فعلا فيما كان هناك أثر ... وبه يمكن ان يذبّ عما في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها بانّ الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطريق ح محكوم بالبقاء فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّدا للملازمة بينه ـ أي بين البقاء ـ وبين ثبوته واقعا ، ذلك لأنّ الظاهر انّ اليقين قد أخذ كاشفا عن المتيقّن ومرآتا لثبوته ليكون التعبّد في بقائه ، والتعبّد مع فرض ثبوته انما يكون في بقائه فافهم)) انتهى بتصرّف يسير.

وكلمة ((واقعا)) من قوله ((للملازمة بينه وبين ثبوته واقعا)) راجعة إلى ثبوته ، اي وثبوته

٦٢

والبقاء في مرحلة التنجّز ـ فكلّما تنجّز الحدوث [ولو بأمارة أو أصل عملي كأصالة الطهارة] تنجّز البقاء ـ لزم بقاء بعض اطراف العلم الاجمالي منجّزة حتّى بعد انحلاله بعلم تفصيلي ، لأنّها كانت منجّزة حدوثا ، والمفروض انّ دليل الاستصحاب يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجّز.

__________________

الانحلال الحكمي وجريان قاعدة الطهارة في الاناء الآخر.

ولكن اعترض السيد الخوئي (قدس‌سره) على هذا الانحلال وجريان الطهارة في الاناء الثاني بناء على الاخذ بتفسير الملازمة التي ذكرها صاحب الكفاية بمعنى الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجّز ، بانّه على هذا الوجه يلزم علينا ان نستصحب نجاسة الاناء الآخر ، لان وجوب الاجتناب عن هذا الإناء الآخر كان منجّزا علينا سابقا بحكم العقل ـ وان لم يكن عندنا يقين سابق بنجاسته ، فانّ صاحب الكفاية لا يشترط اليقين السابق ـ ثم نشك في ارتفاعه فنستصحب بقاء التنجّز ، مع انّ الاستصحاب هنا غير صحيح ، فاذن لا يصح كلام صاحب الكفاية بأن الاستصحاب عبارة عن الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فانه بناء على هذا كان الإناء الآخر حدوثا منجّزا فيلزم رغم انحلال العلم الإجمالي أن يبقى منجّزا وذلك لكفاية التنجّز حدوثا وعدم اشتراط اليقين حدوثا!

__________________

الواقعي ، والملازمة ظاهرية ، وبهذا تعرف صحّة كلام السيد الشهيد [رحمه‌الله] حينما قال ((وهذا الاعتراض غريب ...)).

وقوله [قدس‌سره] ((ومرآة لثبوته)) يعني ومرآة لثبوت المتيقّن ولو كان الثبوت قد حصل بحجّة كالامارة.

والصحيح ان يقال بدل ((الملازمة بين البقاء وبين الثبوت واقعا))((للملازمة بين بقائه وبين ثبوت الأعم من اليقين والتعبّد)) ، وبهذا يجري الاستصحاب فيما لو ثبت الحدوث تعبّدا ، وقد اوضحنا هذا التقريب في تعليقتنا على آخر هذا الوجه الثاني.

٦٣

وهذا الاعتراض غريب لأنّ المراد بالملازمة الملازمة بين الحدوث الواقعي والبقاء الظاهري (١) ، ومردّ ذلك في الحقيقة إلى التعبّد بالبقاء منوطا بالحدوث [ولو تعبدا] ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر.

والصحيح ان يقال : إنّ مردّ هذا الوجه الى انكار الاساس الذي نجمت عنه المشكلة ، وهو ركنيّة اليقين المعتمدة على ظهور اخذه إثباتا (٢) في الموضوعية ، فلا بدّ له من مناقشة هذا الظهور ، وذلك بما ورد في الكفاية من دعوى ان اليقين باعتبار كاشفيّته عن متعلّقه يصلح ان يؤخذ بما هو معرّف ومرآة له ، فيكون اخذه في لسان دليل الاستصحاب على هذا الاساس ، ومرجعه إلى أخذ الحالة السابقة.

وهذه الدعوى لا بد ان تتضمّن ادّعاء الظهور في المعرّفية ، لأنّ مجرّد ابداء احتمال ذلك بنحو مساو للموضوعية (٣) يوجب الاجمال وعدم إمكان تطبيق دليل الاستصحاب في موارد عدم وجود اليقين.

__________________

(١) فالاستصحاب إذن دليل ظاهري لا واقعي كما احتمل السيد الخوئي من كلام صاحب الكفاية ، وأيضا حينما قال صاحب الكفاية بأنّ مفاد الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء لا يرد الاحتمال الثاني الذي احتمله السيد الخوئي رحمه‌الله إذ ان حدوث التنجّز للطرف الثاني كان مبنيا ومتفرّعا على وجود العلم الاجمالي ، فحينما يزول العلم الاجمالي بالانحلال يزول التنجّز ولا يبقى شك فلما ذا نستصحب التنجّز يا سيّدنا الخوئي ونحمّل هذا الاستصحاب على صاحب الكفاية حتى نستشكل عليه بعد ذلك بعدم صحّة هكذا استصحاب؟!

(٢) اي لفظا.

(٣) اي بنحو مساو لظهور اليقين في اليقين الصفتي وبما هو يقين.

٦٤

ويرد عليها ان المقصود بما ادّعي إن كان إبراز جانب المرآتية الحقيقية لليقين (١) بالنسبة إلى متيقّنه فمن الواضح انها انّما تثبت لواقع اليقين في افق نفس المتيقّن الذي يرى من خلال يقينه متيقّنه دائما ، وليست هذه المرآتية ثابتة لمفهوم اليقين ، فمفهوم اليقين كأيّ مفهوم آخر (٢) انما يلحظ مرآة إلى افراده لا إلى متيقّنه ، لأنّ الكاشفية الحقيقية التي هي روح هذه المرآتية من شئون واقع اليقين (٣) لا مفهومه .. وإن كان المقصود اخذ اليقين معرّفا وكناية عن المتيقّن فهو امر معقول ومقبول عرفا ، ولكنه بحاجة إلى قرينة ولا قرينة في المقام على ذلك لا خاصّة ولا عامّة ، امّا الاولى فانتفاؤها واضح ، وأمّا الثانية فلأنّ القرينة العامّة هي مناسبات الحكم والموضوع العرفية وهي لا تأبى في المقام عن دخل

__________________

(١) اي جانب اليقين الصفتي أي بما له من صفة اليقين.

(٢) كمفهومي حائط وباب ، فكما ان هذين المفهومين كلّيان ينطبقان على كل حائط وكل باب ، فكذلك مفهوم اليقين ينطبق على كل يقين ، يقين زيد بكون الكتاب الفلاني له ، ويقين عمرو بكون الشيء الفلاني له ، وهكذا .. فلو قلنا «اليقين بالحالة السابقة حجّة» لكان المراد هذا اليقين وذاك اليقين وسائر افراد اليقين ، فالمقصود من اليقين هنا مفهوم اليقين بالحمل الشائع أي عنوان اليقين وقد لوحظ هنا كمرآة إلى افراده ، امّا لو قلنا «عندي يقين بكون الكتاب الفلاني لي» فالمراد من اليقين هنا بما هو مرآة وكاشف عن المتيقّن ، اي ان هذا القول يعني «الكتاب الفلاني لي» ، فلك هنا ان تحذف اليقين لانه منظور إليه ككاشف عن الواقع ومرآة وطريق إليه ، وليس منظورا إليه بنحو الموضوعية وبما ان له صفة اليقين.

(٣) اي مصداق اليقين.

٦٥

اليقين [الصفتي] في حرمة النقض ، وكان الاولى بصاحب الكفاية ان يستند في الاستغناء عن ركنيّة اليقين إلى ما لم يؤخذ في لسانه اليقين بالحدوث من روايات الباب (*).

الوجه الثالث : إنّ اليقين وإن كان ركنا للاستصحاب بمقتضى ظهور أخذه في الموضوعية ، إلّا أنّه مأخوذ بما هو حجّة (١) فيتحقّق الركن بالامارة المعتبرة ايضا باعتبارها حجّة.

__________________

(١) بيان هذا الوجه ان كلّ ما ورد في شريعتنا الغرّاء من لفظة «علم» ونحوها ومشتقاتها المراد منها معنى الحجّة والعلم الطريقي لأنّ حقيقة العلم هي الكاشفية والمرآتية عن متعلقه لا الصفتي وبما هو كاشف تام ومن حيث له صفة العلمية حتّى في الآيات التالية.

__________________

(*) الصحيح كما ذكرنا سابقا هو ما ذكره صاحب الكفاية [قدس‌سره] من ان العرف يفهم من روايات الاستصحاب الملازمة بين الحالة السابقة والحالة الحاضرة ، بمعنى جرّ الحكم المستصحب الثابت سابقا إلى زمان الشك ، وهذا يعني انه لو ثبتت الطهارة بالاصل العملي فضلا عن الامارة فانّ العرف يستصحبون عند ما يطّلعون على روايات الاستصحاب. ثمّ إن العرف عند ما يستعملون الفاظ اليقين ونحوها يستعملونها بما هي طريق وكاشف عن المتيقّن كما سنذكر عدّة امثلة على ذلك في التعليقة التالية ، وهذا الاستعمال الشائع قرينة عامّة على ان المراد باليقين في روايات الاستصحاب معنى الدليل والحجّة وهذا ـ كما قلنا ـ يشمل الاصول أيضا ، ممّا يعني ان المراد من روايات الاستصحاب معنى الملازمة بين الحالتين السابقة واللاحقة.

اضافة إلى ما ذكره السيد الشهيد رحمه‌الله من الروايات التي لم يؤخذ اليقين فيها في موضوع الاستصحاب ممّا يعني ـ بمقتضى الجمع العرفي ـ ان المراد من اليقين في روايات الاستصحاب اليقين الطريقي المرآتي الكاشف عن متعلّقه ، ممّا يعني ركنية ثبوت الحالة السابقة عند الشاك والتي تحصل بالحجّة الشرعية كالاصل.

٦٦

__________________

(فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) و (فان علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفار) ، فانّ الشارع المقدّس يكلّم الناس بالسنتهم ، والناس تفهم العلم الوارد في موضوعات الاحكام بنحو العلم الطريقي ، اي المهم ان يثبت متعلّق العلم بدليل وحجّة ينجّز ويعذّر ، فمثلا عند ما يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امتي ما لا يعلمون» يفهمون من هذا العلم العلم الطريقي ، بحيث لو وردت امارة مثلا لكانت واردة على حديث الرفع ، ومثلها «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» ، فإذا وردت أمارة يقدّمها العرف على قاعدة الحلّ هذه ، وكذلك «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك شيء» ، ومثلها قوله : «وعرف احكامنا» و «يعلم شيئا من قضايانا» فانّ ما يفهمه العرف من العلم الوارد فيها العلم الطريقي والذي يعني ثبوت متعلّق العلم ولو بحجّة ودليل.

وكذا لو سمعوا بقول الآمر «ان علمت بخمرية مائع فاجتنبه» فانهم يجتنبونه إذا سمعوا من ثقة انه خمر لنفس النكتة السابقة ، وكذا المراد من العلم الوارد في مثل صحيحة معاوية بن وهب عن ابي عبد الله عليه‌السلام «فالوكالة ثابتة ابدا حتّى يعلمه بالخروج كما أعلمه بالدخول فيها» فقد علمنا من الشارع ولو من خلال صحيحة هشام بن سالم عن ابي عبد الله عليه‌السلام انه قال : «إن الوكيل إذا وكّل ثم قام عن المجلس فأمره ماض ابدا والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلّغه او يشافهه بالعزل عن الوكالة» انّ المراد من العلم الوارد هنا العلم المرآتي والكاشف عن ثبوت متعلقه والذي يكفي فيه ثبوته بحجّة شرعية ، ومثله ما ورد في ثبوت طلوع الفجر من لزوم التبيّن ، وورد في الروايات الاكتفاء باذان العدل او الثقة العارف ...

وكذلك الامر في كلمات اليقين الواردة في ادلة الاستصحاب فان من

٦٧

__________________

الطبيعي والعادي جدّا ان يعبّر الامام عليه‌السلام عن الحالة الاولى باليقين لأنّ الحديث في الروايات الثلاث عن شخص كان متيقّنا بحالته السابقة فهل تراه يقول له لأنّه عنده دليل على وضوئه ، فانّ هذا اللسان ليس لسانا متعارفا ، ولم تعوّدنا الروايات على مثل هذا المنطق.

(فان قلت) إذن ايّ فائدة من ذكر «فانه على يقين من وضوئه» ان اريد من هذا اليقين اليقين الطريقي والذي يعني ثبوت الحالة السابقة التي يكفي فيها وجود حجّة تعبدية؟

(قلت) ان ايراد لفظة «اليقين» هنا هي لابراز النكتة في تشريع الاستصحاب على ما ذكرنا في تعليقتنا على الرواية الاولى ، ويتّضح هذا الامر اكثر إذا لاحظنا كلمة «فانّه» التأكيدية ، فانّ الامام عليه‌السلام هنا يريد ان يثير عند السائل حسّ الالتفات إلى ركوزيّة هذا التشريع في فطرة الانسان ، فانّ من كان على يقين من ثبوت الحالة السابقة وشك في طروء عارض من الخارج يغيّر تلك الحالة السابقة فانّ الارتكاز الفطري يقتضي استصحاب تلك الحالة السابقة حتى يثبت طروء العارض الرافع للحالة السابقة ، إذن المناط هو ثبوت الحالة السابقة ولو بحجّة.

وهذا الجواب اشمل من جواب المحقق النائيني (قدس‌سره) الذي نظر إلى احد شقّي المشكلة وهي قيام الامارة مقام اليقين السابق ولم ينظر إلى حالة قيام الاصل مقامه ، فعلى هذا الجواب وهو انّ المراد من اليقين السابق هو ثبوت الحالة السابقة والذي يحصل من ايّ حجة شرعية ولو كانت أصلا يحلّ كلا شقّي المشكلة ، فلو ثبتت طهارة الثوب باصالة الطهارة ثم شككنا بطروء نجاسة عليه فانّ لنا بهذا الوجه الثالث(*) ان نستصحب.

__________________

(*) الواقع انّه لا فرق بين الوجهين الثاني والثالث ـ وان يتوهم وجود فرق بينهما في بادئ النظر ـ وذلك لانّه حتّى على قول صاحب الكفاية الذي يعتبر ثبوت الحالة السابقة هو

٦٨

ويختلف هذا الوجه عن سابقه بالاعتراف بركنيّة اليقين (١) ، وعن الاوّل بأنّ دليل حجيّة الامارة على هذا يكون واردا على دليل الاستصحاب لأنّه يحقّق فردا من الحجّة حقيقة (٢) ، وأمّا على الوجه الاوّل فدليل حجيّة الامارة (٣) يكون حاكما على دليل الاستصحاب لا واردا.

__________________

(١) إذ انّ الوجه الثاني لم يكن يعترف بركنيّة اليقين وانّما كان يعتبر الركن الاوّل هو ثبوت المتيقّن سواء حصل هذا الثبوت باليقين ام بحجّة تعبّدية كالامارة.

(٢) أي بناء على هذا الوجه الثالث الذي يرى أن المراد من اليقين في أدلّة الاستصحاب هو الحجّة يكون دليل حجيّة الامارة ـ كآية النبأ مثلا ـ واردا على دليل الاستصحاب لانه يحقق موردا للاستصحاب وهو مورد اخبار الثقة عن الحالة السابقة.

(٣) وذلك لأنّ شرط الاستصحاب (وهو اليقين) قد تحقّق بنحو تعبّدي ، لانّ دليل حجية الامارة ـ على ما يرى المحقق النائيني (قدس‌سره) ـ اعتبر الامارة علما ، ولذلك يكون دليل حجيّة الامارة حاكما على دليل الاستصحاب ، لأنّه يحقق موضوع دليل الاستصحاب تعبدا.

(والوارد) في النسخة الاصلية بدل «فدليل حجية الامارة يكون حاكما على دليل الاستصحاب لا واردا» فدليل الاستصحاب حاكم لا وارد ، وما أثبتناه أوضح.

__________________

الركن الاول لا بدّ له من طريق لتحصيل هذا الثبوت ولو بالاصل ، اذن فحتى على مقالته لك ان تقول الركن الاوّل هو وجود حجّة على الحالة السابقة ، والمراد بالحجّة على كلا الوجهين الحجّة الطريقية والمنجّزة والمعذّرة كما كان الامر في اليقين ، وعلى أي حال فالمهم على كلا الوجهين ثبوت الحالة السابقة عند الشاكّ.

٦٩

ويرد على هذا الوجه ان ظاهر أخذ شيء [في قضيّة] كونه بعنوانه دخيلا ، فحمله على دخل عنوان (١) جامع بينه وبين غيره يحتاج إلى قرينة.

والتحقيق ان يقال : ان الامارة (تارة) تعالج شبهة موضوعيّة كالامارة الدّالة على نجاسة الثوب ، و (اخرى) شبهة حكمية كالامارة الدّالة على نجاسة الماء المتغيّر ، وعلى التقديرين تارة ينشأ الشك في البقاء من شبهة موضوعية كما إذا شك في غسل الثوب او زوال التغيّر ، واخرى ينشأ من شبهة حكمية كما إذا شك في طهارة الثوب بالغسل بالماء المضاف و (*) ارتفاع النجاسة عند زوال التغير من قبل نفسه ، فهناك إذن اربع صور :

* الاولى : ان تعالج الامارة شبهة موضوعية ويكون الشك في البقاء شبهة موضوعية أيضا ، كما إذا اخبرت الامارة بتنجس الثوب وشك في طروّ المطهّر ، وفي مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعية ليرد الاشكال القائل بأنّه لا يقين بحدوثها ، بل يمكن إجراء الاستصحاب بأحد وجهين آخرين :

__________________

(١) أي فحمل هذا الشيء ـ كاليقين الوارد في أدلّة الاستصحاب ـ على عنوان آخر كالحجّة ـ كما ادعى أصحاب الوجه الثالث ـ يحتاج الى قرينة. (وأنت تعلم أنّ الحجّة جامع بين اليقين الذي هو حجّة وجدانية والحجّة التعبّدية).

__________________

(*) في نسخة السيد الهاشمي «أو»بدل «الواو».

٧٠

الاوّل : ان نجري الاستصحاب الموضوعي فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء ، ومن الواضح ان نجاسة الثوب مترتبة شرعا على موضوع مركّب من جزءين : احدهما ملاقاته للنجس ، والآخر عدم طروّ الغسل عليه. والاوّل ثابت بالامارة ، والثاني بالاستصحاب لأنّ اركانه فيه متوفّرة بما فيها اليقين بالحدوث (١) ، فيترتّب على ذلك بقاء النجاسة شرعا.

الثاني : ان الامارة التي تدلّ على حدوث النجاسة في الثوب تدلّ ايضا بالالتزام على بقائها ما لم يغسل ، لاننا نعلم بالملازمة بين الحدوث والبقاء ما لم يغسل ، فما يدلّ على الاوّل بالمطابقة يدلّ على الثاني بالالتزام ، ومقتضى دليل حجية الامارة التعبد بمقدار ما تدلّ عليه بالمطابقة والالتزام ، فإذا شك في طروّ الغسل كان ذلك شكا في انتهاء أمد البقاء التعبّدي الثابت بدليل الحجيّة ، فيستصحب (*) لانّه معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.

__________________

(١) او قل : بما فيها اليقين بدوا بعدم الغسل والشك لاحقا في حصول الغسل.

__________________

(*) يرد على هذا الاستصحاب انه استصحاب للحكم الشرعي وهو لا يجري ، لان الاصل أن الشارع المقدّس لم يجعل له الحجيّة بالمقدار الزائد المشكوك ، وسيأتيك بيانه فيما بعد ان شاء الله. [نعم] يصحّ هذا الاستدلال عند من يصحّح هكذا استصحاب كالسيد الشهيد [قدس‌سره]. وكذلك يصحّ الوجه الاوّل على ان يكون مبنيا على استصحاب عدم طروّ رافع للحالة السابقة على المبنى المختار لا أنّ المستصحب هو بقاء الحالة السابقة ، وذلك لدليلين عقلي ونقلي يأتيانك ان شاء الله في التعليقة الاخيرة على الركن الثاني

٧١

* الثانية : ان تعالج الامارة شبهة حكمية ويكون الشك في البقاء شبهة موضوعية ، كما إذا دلّت الامارة على نجاسة الماء المتغيّر ، وشك في بقاء التغيّر (١). وهنا يجري نفس الوجهين السابقين ، حيث يمكن استصحاب [بقاء] التغيّر (* ١) ، ويمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهرية المغيّاة بارتفاع التغيّر (* ٢) ، للشك في حصول غايتها.

* الثالثة : ان تعالج الامارة شبهة موضوعية ويكون الشك في البقاء شبهة حكمية ، كما إذا دلّت الامارة على نجاسة الثوب وشك في بقائها عند الغسل بالماء المضاف. وفي هذه الصورة يتعذّر إجراء الاستصحاب الموضوعي ، إذ لا شك في وقوع الغسل بالماء المضاف وعدم وقوع الغسل بالماء المطلق ، ولكن يمكن إجراء الاستصحاب على الوجه الثاني ، لأنّ الامارة المخبرة عن نجاسة الثوب تخبر التزاما (* ٣) عن بقاء

__________________

(١) بعد العلم بحصول التغير بالنجاسة سابقا.

وانت تعلم بان «الشك في بقاء التغير» هو شك موضوعي لانه شك في موضوع خارجي.

__________________

(* ١) لا كلام في صحّة هذا الاستصحاب فعلا ، بل هو خارج عن الفرض ، فان الفرض هو امكان استصحاب الامر الثابت بالامارة بطريق آخر

(* ٢) يرد عليه ما ورد على الوجه الثاني من الصورة الاولى من كون هذا الاستصحاب استصحابا لحكم شرعي وهو لا يجري عندنا ، نعم يصحّ عند السيد الشهيد رحمه‌الله

(* ٣) يرد على السيد الشهيد [قدس‌سره] هنا جوابان بنائي ومبنائي ـ ١ ـ.

__________________

ـ ١ ـ المقصود بالبنائي انّه مع غضّ النظر عن صحّة المبنى ، اي مع فرض التسليم بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فانه يرد عليه الجواب الفلاني. والمراد بالمبنائي ان النظر فيه إلى نفس المبنى وهو هنا مبنى السيد الشهيد (قدس‌سره) في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

٧٢

هذه النجاسة ما لم يحصل المطهّر الواقعي. وعلى هذا الاساس يكون التعبّد الثابت على وفقها بدليل الحجّيّة تعبّدا مغيّا بالمطهّر الواقعي أيضا ، فالتردّد في حصول المطهّر الواقعي ولو على نحو الشبهة الحكمية يسبّب الشك في بقاء التعبّد المستفاد من دليل الحجيّة والذي هو متيقّن حدوثا ، فيجري فيه الاستصحاب.

* الرابعة : ان تعالج الامارة شبهة حكمية ويكون الشك في البقاء شبهة حكمية أيضا ، كما إذا دلّت الامارة على تنجّس الثوب بملاقات المتنجس وشك في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف.

__________________

اما الاوّل فهو ان الامارة وإن اخبرت بمدلولها الالتزامي ببقاء هذه النجاسة ما لم يحصل المطهّر الواقعي ، إلّا انّ هذا خارج عن محل الكلام ، لأنّ كلامنا في مرحلة الشك في حصول المطهّر الواقعي اي في مرحلة الظاهر ، والتعبّد بحجيّة الامارة انما ينظر الى اثبات نجاسة الثوب بالمدلول المطابقي ، وبقاء نجاسته ما لم يحصل المطهّر الواقعي بمدلولها الالتزامي ، وهذا النظر انما هو في مرحلة الواقع الذي لا كلام فيه الآن ، ولا ينظر دليل حجيّة الامارة إلى مرحلة الشك في حصول المطهّر الواقعي ، وانما في هذه المرحلة تنتقل الكرة إلى ملعب الاصول العملية كالاستصحاب مثلا.

وبتعبير آخر لا يصحّ استصحاب بقاء التعبد ببقاء هذه النجاسة لأنّ دليل حجيّة الامارة ناظر إلى مرحلة الاخبار بالواقع لا إلى مرحلة الشك والجهل ببقاء الحالة المخبر عنها ، فافهم.

واما الثاني فهو اننا قلنا بعدم صحّة جريان استصحاب الحكم الشرعي لانه استصحاب في الشبهات الحكمية وسيأتينا إن شاء الله تعالى في مسألة ((القول الآخر)) من بحث ((عموم جريان الاستصحاب)) بيان عدم صحّة الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

٧٣

وعلاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة ، فان النجاسة المخبر عنها بالامارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرّة مغيّاة بطروّ المطهّر الشرعي ، وعلى هذا فالتعبّد على طبق الامارة يتكفّل اثبات هذا النحو من النجاسة ظاهرا ، ولما كانت الغاية مردّدة بين مطلق الغسل [أي حتى بالمضاف] والغسل بالمطلق فيقع الشك في حصولها عند الغسل بالمضاف ، وبالتالي يقع الشك في بقاء التعبد المغيّى المستفاد من دليل الحجيّة ، فيستصحب.

ففي كل هذه الصور يمكن التفادي عن الاشكال باجراء الاستصحاب الموضوعي (١) او استصحاب نفس المجعول (٢) في دليل الحجيّة ، وجامع هذه الصور ان يعلم بانّ للحكم المدلول للامارة ـ على فرض ثبوته (٣) ـ غاية ورافعا ويشك في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعيّة او الحكميّة.

نعم (٤) قد لا يكون الشك على هذا الوجه ، بل يكون الشك في

__________________

(١) المذكور في الوجه الاوّل من الصورتين الاولى والثانية.

(٢) اي استصحاب بقاء التعبّد بثبوت الحالة السابقة ، وبتعبير آخر اذا شككنا في طول أمد التعبّد بحجيّة الامارة بين كونه قصيرا أو طويلا فاننا نستصحب بقاء حجيّته في الفترة الزائدة المشكوكة.

(٣) اي على فرض ثبوت الحكم بالنجاسة مثلا بالامارة الحجّة.

(٤) يريد ان يقول رضي الله عنه هنا انه في حالة الشك في قابلية المستصحب للبقاء لا يمكن اجراء الاستصحاب الموضوعي ولا استصحاب الحكم المجعول في دليل الحجيّة وذلك لعدم وجود يقين سابق ليستصحب ، نعم يمكن إجراء الاستصحاب ـ كاستصحاب وجوب البقاء في المسجد

٧٤

قابلية المستصحب للبقاء ، كما إذا دلّت الامارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال ، وشك في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال ، فانّ الامارة هنا لا يحتمل انّها تدلّ مطابقة او التزاما على اكثر من الوجوب إلى الزوال ، وهذا يعني ان التعبد على وفقها المستفاد من دليل الحجيّة لا يحتمل فيه الاستمرار اكثر من ذلك ، وفي مثل هذا يتركّز الاشكال ، لان الحكم الواقعي بالوجوب (١) غير متيقّن الحدوث ، والحكم الظاهري (٢) المستفاد من دليل الحجيّة غير محتمل البقاء (٣). ويتوقّف دفع الاشكال حينئذ على انكار ركنيّة اليقين بلحاظ مثل رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة (٤).

__________________

إلى ما بعد الزوال كما في مثال المتن ـ بانه قد كان واجبا قبل الزوال وشك في ارتفاع الوجوب بعده فيستصحب حكم الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة.

(١) إلى ما بعد الزوال ، وعدم تيقننا بحدوث وجوب الجلوس بعد الزوال واضح ، وذلك لأنّ المعلوم وجوبه هو الجلوس إلى حين الزوال والزائد غير معلوم الحدوث من الاصل.

(٢) بتصديق خبر الثقة.

(٣) لانّ دليل حجيّة خبر الثقة ناظر إلى مداليل خبر الثقة ، وحالة ما بعد الزوال ليس من مداليله ، فهي ليست استمرارا لما قبل الزوال ، فان ثبت وجوب الجلوس بعد الزوال فبدليل آخر لا بخبر الثقة هذا.

(٤) التي لم يعتبر فيها الامام عليه‌السلام لزوم اليقين بالطهارة ، وانما قال له : «لأنّك اعرته إياه وهو طاهر» فهنا اعتبر الامام نفس الطهارة موضوعا للاستصحاب لا اليقين بالطهارة ، والطهارة قد تثبت شرعا باليقين او بامارة حجة او باصالة الطهارة ، مثال الاخير ان تثبت طهارة ثوب باصالة

٧٥

ب ـ الشك في البقاء :

والشك في البقاء هو الركن الثاني ، وذلك لاخذه في لسان ادلة الاستصحاب ، وقد يقال (١) : انّ ركنيته ضرورية (٢) بلا حاجة إلى اخذه في لسان الادلة ، لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوّم بالشك ، فانّ فرض الشك في الحدوث كان مورد قاعدة اليقين ، فلا بد إذن من فرض الشك في البقاء.

ولكن سيظهر (٣) ان ركنيّة الشك في البقاء بعنوانه لها آثار اضافية لا تثبت بالبرهان المذكور بل باخذه في لسان الأدلّة فانتظر.

وتتفرّع على ركنيّة الشك في البقاء قضيتان :

الاولى : ان الاستصحاب لا يجري في الفرد المردّد ، ونقصد بالفرد

__________________

الطهارة ثم نشك بطروّ نجاسة عليه فانّ المتشرّعة في هذه الحالة يستصحبون الطهارة بلا تردّد(*).

(١) راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٦ ص ١١٢ ، الركن الثاني من أركان الاستصحاب.

(٢) أي بديهية وواضحة.

(٣) في الفرعين التاليين ، وعليه كان الاولى عدم ذكر كلمة «فانتظر».

__________________

(*) الصحيح عدم صحّة جريان الاستصحاب في هذه الحالة المذكورة في المتن ، وذلك لأنّ حالة الشك في بقاء وجوب الجلوس في المسجد بعد الزوال الاصل فيها عدم جعل الوجوب فيها ، او قل الاصل براءة الذمّة ، مثلها كمثل حالة الشك في وجوب اعطاء درهمين لزيد او درهم واحد. وعدم جريان الاستصحاب هنا لا يفرق فيه الحال بين ان ننكر ركنيّة اليقين ـ كما هو الصحيح ـ او ان نؤمن بها.

٧٦

المردّد حالة القسم الثاني (١) من استصحاب الكلّي ، كما اذا علمنا بوجود جامع الانسان (٢) في المسجد وهو مردّد بين زيد وخالد ، ونشك في بقاء هذا الجامع لانّ زيدا نراه الآن خارج المسجد ، فان كان هو المحقّق للجامع حدوثا فقد ارتفع الجامع ، وان كان خالد هو المحقق للجامع فلعله لا يزال باقيا.

وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع اذا كان لوجود الجامع اثر شرعي (*) ، ويسمّى بالقسم الثاني من استصحاب الكلي كما تقدّم في الحلقة السابقة ، ولا يجري استصحاب بقاء زيد ولا استصحاب بقاء

__________________

(١) يقصد الحالة الثانية من القسم الثاني من استصحاب الكلّي.

(٢) لا يريد بالجامع الفرد المردّد ، وانّما يريد الجامع بين زيد وخالد ، وبتعبير آخر يريد مقدار ما يرى بالعنوان الاجمالي للجامع. (راجع القسم الثاني من استصحاب الكلّي ص ١٨٥).

__________________

(*) قد تقول إنّ الصحيح هو عدم صحّة جريان هذا الاستصحاب ـ حتى وإن كان الاثر يترتب على الجامع ـ وذلك لأن الجامع هنا انما يكون موجودا بوجود زيد أو خالد ـ بحسب مثال المتن ـ فاذا خرج زيد فقد انتفى وجود الجامع الذي وجد بوجود زيد ، فحتى لو دخل خالد ـ قبل خروج زيد ـ فقد وجد جامع آخر منشؤه خالد لا زيد ، فالركن الثالث للاستصحاب غير موجود ، والركن الثالث هو وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة وهما هنا اثنتان لكون الاولى هي وجود الجامع الذي وجد بوجود زيد والثانية هي الجامع الذي يوجد بوجود خالد.

[ولكن] يجاب عن هذا التوهّم ان الفرض هنا هو ترتب الاثر على عنوان الجامع سواء كان موجودا ضمن زيد او خالد او غيرهما ومع غضّ النظر عن المحقّق لهذا الجامع فتتّحد القضيتان المتيقّنة والمشكوكة.

٧٧

خالد (١) بلا شك.

ولكن قد يقال : إنّ الآثار الشرعية إذا كانت مترتّبة على وجود الافراد بما هي أفراد أمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، بأن نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد ونقول : إنّه على إجماله (٢) يشك في خروجه من المسجد فيستصحب.

ولكن الصحيح ان هذا الاستصحاب لا محصّل له ، لاننا حينما نلحظ الافراد بعناوينها التفصيليّة لا نجد شكّا في البقاء على كلّ تقدير ، إذ لا يحتمل بقاء زيد بحسب الفرض ، وإذا لاحظناها بعنوان إجمالي وهو عنوان الانسان الذي دخل إلى المسجد فالشك في البقاء ثابت ، [وحينئذ] فان اريد باستصحاب الفرد المردّد اثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي فهو متعذّر ، إذ لعلّ هذا الفرد هو زيد ، وزيد لا شك في بقائه (٣) ، فيكون الركن الثاني مختلّا ، وإن اريد به إثبات بقاء الفرد بعنوانه الاجمالي (٤) فالركن الثاني محفوظ ، ولكن الركن الرابع (٥) غير متوفّر ، لأنّ الاثر الشرعي غير مترتب بحسب الفرض على العنوان الاجمالي بل على

__________________

(١) لاننا لم نعلم بأصل دخول خالد انما كنّا قد رأينا في المسجد رجلا مردّدا بينهما.

(٢) أي إنّ هذا الفرد الواقعي المردّد بالنسبة لنا رغم إجماله عندنا يشك في خروجه من المسجد فيستصحب بقاؤه.

(٣) لعلمنا بخروجه.

(٤) وهو الفرد الواقعي المردّد.

(٥) وهو وجود اثر شرعي لهذا الاستصحاب.

٧٨

العناوين التفصيلية للافراد (*).

ومن هنا نعرف ان عدم جريان استصحاب الفرد المردّد من نتائج ركنيّة الشك في البقاء الثابتة بظهور الدليل ، ولا يكفي فيه البرهان القائل بأنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشك ، إذ لا يأبى العقل عن تعبد الشارع ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه (١).

والقضيّة الثانية : هي ان زمان المتيقّن قد يكون متصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه ، وقد يكون مردّدا بين ان يكون نفس زمان

__________________

(١) ملخّص البحث : قال سيدنا المصنف قدس سرّه انّ الركن الثاني من اركان الاستصحاب هو الشك في البقاء وقد اعتبرناه ركنا لاخذه في لسان دليل الاستصحاب. فقيل له : ليس من اللازم ذكر «الشك في البقاء» في ألسنة الروايات بعد كون هذا الركن واضحا جدا وارتكازيا في جميع الاصول العملية. فاجابهم سيدنا المصنف بقوله : بل ذكره في ألسنة الروايات له اثر عملي وهو انه لو لا ذكره في الروايات لجرى استصحاب الفرد الواقعي المردّد وذلك لوجود شك في بقائه ـ في المسجد مثلا حسب مثال المتن ـ ، ولكن لذكره في الروايات لا يجري الاستصحاب لاننا بعد رؤيتنا لزيد خارج المسجد واحتمالنا ان يكون هو الفرد الواقعي المشكوك عندنا في دخوله وخروجه نحتمل ان نكون عالمين بخروجه ولا ندري ، اي يحتمل ان لا يوجد شك في بقاء الفرد الواقعي في المسجد بعد رؤيتنا لزيد خارج المسجد فلا يجري الاستصحاب لعدم تحقق الشك في البقاء

__________________

(*) هذا لا نوافق عليه لانّ الفرض أنّ الاثر الشرعي مترتّب على وجود الافراد بما هي افراد ، والفرد الواقعي المردّد هو فرد ، ولذلك يكون الركن الرابع ايضا محفوظا

٧٩

المشكوك او الزمان الذي قبله.

ففي الحالة الاولى يصدق الشك في البقاء بلا شك ، وامّا في الحالة الثانية فمثالها ان يحصل له العلم إجمالا بانّ هذا الثوب امّا تنجّس في هذه اللحظة (١) ، او كان قد تنجّس قبل ساعة وطهر ، فالنجاسة معلومة التحقق في هذا الثوب اساسا ولكنها مشكوكة فعلا ، وزمان [التنجّس] المشكوك (٢) هو اللحظة الحاضرة ، وزمان النجاسة المتيقّنة لعلّه نفس زمان المشكوك [أي الآن] ولعله ساعة قبل ذلك.

وفي مثل ذلك قد يستشكل (* ١) في جريان الاستصحاب (٣) لأنّ من المحتمل وحدة زماني المشكوك والمتيقّن ، وعلى هذا التقدير لا يكون

__________________

(١) ولم يطهر بعد

(٢) لا شك انك تعلم الفرق بين المتيقّن واليقين والمشكوك والشك ، فانّ المتيقّن والمشكوك هما متعلّقا اليقين والشك.

(٣) فينكرون صحّة جريانه لعدم احراز كون الشك في البقاء بعد اليقين ومتصلا به ، وذلك لاحتمال حصول النجاسة في هذه الدقيقة وبقائها.

(إذن) إذا اشترطنا الشك في البقاء في جريان الاستصحاب لن يجري الاستصحاب هنا لعدم احراز هذا الشرط.

(وبتعبير آخر) لانّي احتمل النجاسة الآن في نفس الوقت الذي احتمل فيه الطهارة ، واحتمل ان تكون النجاسة قد حصلت قبل ساعة ، وعلى التقدير

__________________

(* ١) هذا من التطويل بلا طائل ، بل في هذه الحالة لا يكون لعلمنا بالنجاسة قبل ساعة اي اثر فعلا لعلمنا بالتطهير بعد ذلك ، فيبقى شكّنا بحصول نجاسة في هذه اللحظة ام لا وفي هذه الحالة لا شك في استصحاب الطهارة.

٨٠