دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

الاستصحاب (١) على الرغم من ان ذلك الحكم الواقعي المستبطن (٢) هو المهم ، إذ مع ثبوته لا بد من الاتيان بركعة مفصولة حينئذ سواء جرى استصحاب عدم الاتيان أو لا ، إذ تكفي نفس اصالة الاشتغال والشك في وقوع الرابعة للزوم إحرازها (٣). فالعدول في مقام البيان عن نكتة الموقف

__________________

(١) الذي يثبت عدم الإتيان والذي يفهم منه وجوب الركعة الموصولة ، على الرغم من أن المهم هو ذكر وجوب الركعة المفصولة لا الاستصحاب ، فان الاستصحاب ليست ضرورية في المقام إذ يمكن الاستغناء عنها بأصالة الاشتغال العقلية بلا حاجة الى إثبات قاعدة الاستصحاب.

(٢) وهو وجوب الركعة المفصولة.

(٣) اي للزوم الاتيان بالركعة المفصولة(*)

__________________

(*)[أقول] يمكن للمحقّق النائيني [قدس‌سره] ان يجيب السيد الشهيد هنا بانّ إعطاء قاعدة عامّة في المقام ذو فائدة كبيرة اولى من إعطاء قاعدة خاصّة يدركها العقل.

وعلى أيّ حال فليس كلامنا في معرفة سبب وجوب الاتيان بالركعة هل انه الاستصحاب ام الاشتغال ، انّما الكلام في معرفة سبب فصلها في حالة الشك ، فنقول :

أولا : إننا لا نفهم من ((عدم الاتيان)) و ((الشك)) إلا معنى ((الشك في الاتيان)) فهو اذن موضوع بسيط ، وحكمه الاستصحاب.

ثانيا : إنّ الاستصحاب في هذه الرواية وارد لاثبات وجوب الاتيان بالركعة بنحو الاهمال من حيث الوصل والفصل وإنّما قلنا بالاهمال هنا لعدم امكان تطبيق الاستصحاب على ما نحن فيه بالتقريب السابق ، وامّا اثبات فصلها فطريقتنا الى معرفته كلام الشارع المقدّس الذي عرفناه من هذه الرواية بنحو الاشارة [وذلك كاشف عن وجود تقية فيها] ، وعرفناه من خارجها ، ولو لا الروايات الخاصّة في الباب لقلنا بوجوب وصل هذه الركعة انطلاقا من حكم الامام عليه‌السلام هنا بالاستصحاب

٤١

إلى ما يستغنى عنه ليس عرفيّا.

ومن هنا يمكن ان يكون الاعتراض الثاني بنفسه قرينة (١) على حمل الرواية على ما ذكر في الاعتراض الاوّل (٢) ، وإن كان خلاف الظاهر في نفسه ، وبالحمل على ذلك يمكن ان نفسّر النهي عن خلط اليقين بالشك وادخال احدهما بالآخر بأن المقصود التنبيه بنحو يناسب التقيّة على لزوم فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقّنة.

الاعتراض الثالث (٣) : إن حمل الرواية على الاستصحاب متعذّر ،

__________________

(١) مراد السيد الشهيد هنا ان يقول :

أوّلا : إنّ هذا الاعتراض الثاني (الذي كان مفاده ان تطبيق الاستصحاب على ما نحن فيه غير ممكن) ثابت وصحيح.

ثانيا : إذن. وهروبا من هذا الاعتراض الثاني. يتعيّن علينا ان نحمل هذه الرواية على إرادة اصالة الاشتغال لا الاستصحاب ، وإن كان ذلك. كما قال سابقا. خلاف الظاهر في نفسه.

ثالثا : وبعد أن حملنا هذه الرواية على ارادة اصالة الاشتغال يمكن ان نفسّر النهي عن خلط اليقين بالشك وادخال احدهما بالآخر بان المقصود التنبيه. بنحو يناسب التقيّة. على وجوب فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقّنة

(٢) وهو إرادة أصالة الاشتغال من هذه الرواية.

(٣) ذكره السيد الخوئي في مصباحه ج ٣ ص ٦١ بقوله «وذكر بعض الاعاظم ان الاستصحاب في الشك في عدد الركعات غير جار في نفسه.

__________________

وامّا تحليلنا لسبب فصلها فهناك احتمالات ووجوه لا تخفى على من يقرأ الروايات التي ليس هاهنا محلّ ذكرها

٤٢

لأنّ الاستصحاب لا يكفي لتصحيح الصلاة حتّى لو بني على اضافة الركعة الموصولة ، وتجاوزنا الاعتراض السابق (١) ، لأنّ الواجب ايقاع التشهّد والتسليم في آخر الركعة الرابعة ، وباستصحاب عدم الاتيان بالرابعة يثبت وجوب الاتيان بركعة ، ولكن لو أتى بها فلا طريق لاثبات كونها رابعة بذلك الاستصحاب ، لأنّ كونها كذلك لازم عقلي للمستصحب (٢) فلا يثبت ، فلا يتاح للمصلّي إذا تشهّد وسلّم حينئذ اثبات (٣) أنّه قد اوقع ذلك في آخر الركعة الرابعة.

وقد أجاب السيد الاستاذ على ذلك بأنّ المصلّي بعد ان يستصحب عدم الاتيان ويأتي بركعة يتيقّن بأنّه قد تلبّس بالركعة الرابعة (٤) ويشك في

__________________

ـ مع قطع النظر عن الاخبار الخاصّة الدّالة على وجوب الاحتياط ـ ، وذلك لوجوب التشهّد والتسليم في الركعة الرابعة وفي الشك بين الثلاث والاربع ، غاية ما يثبت بالاستصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة ، وبعد الاتيان بركعة اخرى لا يمكن اثبات كونها هي الركعة الرابعة ليقع التشهّد والتسليم فيها إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولا نقول به. ولعلّ هذا هو السرّ في إلغاء الفقهاء الاستصحاب في الشكوك الواقعة في عدد الركعات على ما هو المعروف بينهم ، انتهى» هذا تمام ما أورده السيد الخوئي (قدس‌سره) من كلام المعترض.

(١) اي سواء بني على الركعة الموصولة او على الركعة المفصولة لا يمكن ان نثبت بالاستصحاب كون التشهّد والتسليم قد وقعا في آخر الركعة الرابعة.

(٢) اي لازم عقلي لكون الركعة الاخيرة هي الثالثة.

(٣) كلمة «إثبات» غير موجودة في النسخة الاصلية واثباتها اولى.

(٤) امّا الآن واما قبل الاتيان بركعة الاحتياط.

٤٣

خروجه منها إلى الخامسة فيستصحب بقاءه في الرابعة.

ونلاحظ على هذا الجواب : ان الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم كونه في الرابعة ، لأنّه يعلم إجمالا بأنّه إمّا الآن أو قبل ايجاده للركعة المبنيّة على الاستصحاب ليس في الرابعة ، فيستصحب العدم ويتساقط الاستصحابان.

كما يلاحظ على اصل الاعتراض بأنّ اثبات اللازم العقلي بالاستصحاب ليس امرا محالا بل [إثباته] محتاج الى الدليل ، فإذا توقّف تطبيق الاستصحاب في مورد الرواية على افتراض ذلك (١) كانت بنفسها دليلا على الاثبات المذكور.

الرواية الرابعة :

وهي رواية عبد الله بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام وانا حاضر : انّي أعير الذمّي ثوبي وأنا اعلم انّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليّ ، فاغسله قبل ان اصلّي فيه؟ فقال ابو عبد الله عليه‌السلام «صلّ فيه ولا تغسله من اجل ذلك ، فانك اعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجّسه ، فلا بأس ان تصلّي فيه حتّى تستيقن انّه نجّسه» (٢).

__________________

(١) اي على افتراض انك في الركعة الثالثة او في الركعة الرابعة وانه يجب عليك التشهد والتسليم كانت نفس هذه الرواية دليلا على إثبات اللازم العقلي تعبدا.

(٢) وسائل الشيعة ابواب النجاسات الباب ٧٤ ح ١ ص ١٠٩٥ ، ولا إشكال في صحّة سندها.

٤٤

ولا شك في ظهور الرواية في النظر إلى الاستصحاب لا قاعدة الطهارة ، بقرينة اخذ الحالة السابقة في مقام التعليل ، إذ قال : «فانّك اعرته اياه وهو طاهر» فتكون دالّة على الاستصحاب ، نعم لا عموم في مدلولها اللفظي ، ولكن لا يبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل وانصراف فحواها إلى نفس الكبرى الاستصحابية المركوزة عرفا.

هذا هو المهم من روايات الباب (١) وهو يكفي لاثبات كبرى الاستصحاب.

وبعد اثبات هذه الكبرى يقع الكلام في عدّة مقامات ، إذ نتكلّم في روح هذه الكبرى وسنخها من حيث كونها امارة او أصلا وكيفية الاستدلال بها ،

ثمّ في اركانها ،

ثمّ في مقدار وحدود ما يثبت بها من آثار ،

ثمّ في سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكل مورد ،

ثمّ في جملة من التطبيقات التي وقع البحث العلمي فيها.

فالبحث إذن يكون في خمسة مقامات كما يلي :

__________________

(١) ذكر في الرسائل (فرائد الاصول) احدى عشرة رواية فراجع من ص ١٩٠ إلى ص ٢٠٢. وذكر في جامع الاحاديث ج ١ باب ٩ حوالي تسع روايات في هذا المجال.

٤٥

الاستصحاب أصل أو أمارة؟

قد عرفنا سابقا (١) الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب الامارات والحكم الظاهري في باب الاصول ، وهو أنه كلما كان الملحوظ فيه أهميّة المحتمل كان اصلا ... وكلما كان الملحوظ قوّة الاحتمال وكاشفيته محضا كان المورد امارة.

وعلى هذا الضوء إذا درسنا الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب واجهنا صعوبة في تعيين هويّتها ودخولها تحت احد القسمين ، وذلك لأنّ ادخالها في نطاق الامارات يعني افتراض كاشفية الحالة السابقة وقوّة احتمال البقاء ، مع انّ هذه الكاشفية لا واقع لها ـ كما عرفنا في الحلقة السابقة ـ ولهذا انكرنا حصول الظن بسبب الحالة السابقة ، وادخالها في نطاق الاصول (٢) يعني ان تفوّق الاحكام المحتملة البقاء على الاحكام المحتملة الحدوث في الاهمية اوجب الزام الشارع برعاية الحالة السابقة ، مع ان الاحكام المحتملة البقاء ليست متعيّنة الهويّة والنوعية ، فهي تارة وجوب ، واخرى حرمة ، وثالثة اباحة ، وكذلك الامر فيما يحتمل حدوثه ،

__________________

(١) في بحث «الامارات والاصول» من الجزء الاوّل ص ٦٨ ، وفي اوائل الجزء الثالث ، ويأتي في بحث «مقدار ما يثبت الاستصحاب».

(٢) كاصالة الطهارة والبراءة والحلّية.

٤٦

فلا معنى لان يكون سبب تفضيل الاخذ بالحالة السابقة الاهتمام بنوع الاحكام التي يحتمل بقاؤها ، وبعبارة اخرى ان ملاك الاصل. وهو رعاية اهميّة المحتمل. يتطلّب ان يكون نوع الحكم الملحوظ محدّدا ، كما في نوع الحكم الترخيصي الملحوظ في اصالة الحل ، ونوع الحكم الالزامي الملحوظ في اصالة الاحتياط ، وإمّا اذا كان نوع الحكم غير محدّد وقابلا للاوجه المختلفة فلا ينطبق الملاك المذكور.

وحلّ الاشكال : انّه بعد ان عرفنا انّ الاحكام الظاهرية تقرّر دائما نتائج التزاحم بين الاحكام والملاكات الواقعيّة في مقام الحفظ عند الاختلاط ... فبالامكان ان نفترض ان المولى قد لا يجد في بعض حالات التزاحم قوّة تقتضي الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس الاحتمال ، وفي مثل ذلك قد يعمل نكتة نفسيّة في ترجيح احد الاحتمالين على الآخر ، ففي محل الكلام حينما يلحظ المولى حالات الشك في البقاء لا يجد اقوائيّة لا للمحتمل إذ لا تعيّن له (١) ولا للاحتمال إذ لا كاشفيّة ظنّية [دائمية] له ، ولكنه يرجّح احتمال البقاء لنكتة نفسيّة ولو كانت هي رعاية الميل الطبيعي العام الى الاخذ بالحالة السابقة ، ولا يخرج الحكم المجعول على هذا الاساس عن كونه حكما ظاهريا طريقيا ، لأنّ النكتة النفسيّة ليست هي الداعي لاصل جعله بل هي الدخيلة (٢) في تعيين كيفية جعله.

__________________

(١) لانه تارة يكون الطهارة وتارة النجاسة وتارة الوجوب وتارة الحرمة وتارة الزوجية ..

(٢) الفرق بين الداعي والدخيل هو انّ الاوّل هو سبب الحكم كتمامية ملاك وجوب الصلاة فانه داع للحكم بوجوب الصلاة ، وأما بالنسبة الی

٤٧

__________________

«الميل النفسي للبقاء على الحالة السابقة» فانه وإن لم نكن نعلم بانه داع وسبب تام لتشريع الاستصحاب الّا اننا نعلم بدخالته في تشريعه ولو بنحو جزء العلّة لظهور الروايات بذلك ، يقول السيد الشهيد في تقريرات السيد الهاشمي ج ٦ ص ١٨٠ : «وامّا الاستصحاب فانه وإن لم يكن قد لوحظ فيه نوعيّة المحتمل لأنّه لا بشرط من حيث نوع الحكم المؤدّي إليه كالخبر والظهور ، كما انّه ربما تكون قوّة الاحتمال والكشف النوعي ولو الضعيف ملحوظا في حجّيته ، إلّا أنّ (احتمال) أخذ خصوصيّة ونكتة نفسية في حجيّته ولو نكتة الثبوت سابقا أو اليقين السابق بحيث لا يمكن الغاء ذلك بعد ان كان دليل حجيته ظاهرا في اعتباره (متّجه) ، كما ان الارتكاز لا يقتضي الغاء ذلك ان لم نقل باقتضائه ملاحظته ، حيث تقدّم ان بناء العرف على الاستصحاب لا يستبعد ان يكون لما فيه من حالة الانس والانسياق مع الوضع السابق والميل النفسي نحوه ، لا لمجرّد الكاشفيّة وقوّة الاحتمال(*)» انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________

(*) [أقول] كنّا قد ذكرنا في مسألة ((الامارات والاصول)) من الجزء الاوّل الفرق بين الامارة والاصل ، وقلنا انّه لم يرد هكذا عناوين في شرعنا الحنيف ، وانما الفرق بينهما هو من حيث ثبوت الآثار الشرعية المترتّبة على اللوازم العقليّة في الامارة وعدم ترتّبها في الاصل ، ومن هنا يتعيّن ان نبحث في الفرق بينهما من هذه الناحية فنقول :

إنّ الامارة هي ما تدلّ على مدلولاتها المطابقية والالتزامية بنفس القوّة في نظر العرف ، وذلك لانها تدّعي انّها تحكي عن الواقع وتدّعي الكاشفية عنه والمطابقة له ، فعند ما يعتبرها الشارع المقدّس حجّة فهذا يعني عرفا انّها بكل مداليلها العرفية تصير حجّة ، أي بما في ذلك مداليلها الالتزامية العقلية ، ومن هنا يقول علماؤنا رضوان الله عليهم بحجيّة مثبتات الامارات.

٤٨

__________________

وأمّا الاستصحاب فليس احتمال بقاء الحالة السابقة فيه كاشفا عن الواقع ولا يحكي عنه اصلا ، وإن كان فيها نحو من الكاشفية ، لكن هذه الكاشفية قد تكون ضعيفة في بعض الاحيان ورغم ذلك يجري الاستصحاب شرعا بلا شك ، اذن الاستصحاب لا يدّعي الحكاية عن الواقع دائما كخبر الثقة واليد وسوق المسلمين وقاعدة الصحة وغيرها وهذا أمر واضح ، وايضا لا نفهم الاماريّة من كلمة اليقين الواردة في السنة الروايات وذلك لما ذكرناه في تعليقتنا على الوجه الثالث من اوجه الركن الاوّل من اركان الاستصحاب من ان المراد من اليقين الوارد في أدلة الاستصحاب وغيره هو اليقين الطريقي والمرآتي والكاشف عن متعلّقه ، والذي يعني ثبوت الحالة السابقة ، [فلا يصحّ تعلّق السيد الخوئي [قدس‌سره] بلفظه اليقين لاثبات اماريّة الاستصحاب] اضافة إلى انّ بقاء الحالة السابقة ليس دائما مظنونا ، بل حتّى ولو فرضناه مظنونا دائما فانّه لم يعلم ان الشارع المقدّس عند ما تعبّدنا ببقاء الحالة السابقة انما تعبّدنا به بما انّه حاك وكاشف عن الواقع كخبر الثقة مثلا ... فلا يبقى عندنا دليل على امارية الاستصحاب.

إذن ما هي حقيقة الاستصحاب؟

فنقول : في الحقيقة الاستصحاب هو اصل عقلائي المنشأ ارشدنا إليه المشرّع الحكيم لا بقائنا على هذا الارتكاز الفطري ، ألا ترى القضاة في الشرائع والقوانين الوضعيّة يحكمون. من حيث عقلائية تشريعاتهم. بالملكية بناء على سند ملكية قديم التاريخ ولا يرفعون اليد عن ذلك حتّى يثبت لديهم الخروج عن ملكيته بدليل اقوى كاخبار صادقين ، ألا تراهم يحكمون الدّين على المستدين حتى يثبت لديهم دفعه ، ويحكمون ببقاء الزوجية الى أن يثبت الرافع ويرتّبون على ذلك الارث ، ويقرضون بعضهم بعضا ... وقد يكون هذا الاقراض ونحوه ناشئا احيانا من الغفلة عن احتمال عروض الموت او غير ذلك للمستدين ، وهذا ما يؤكد شدّة هذا الارتكاز العقلائي ولذلك انتشرت هذه الاعمال والاحكام عند جميع العقلاء.

لكن هناك حالات لا يصحّ ان يجري فيها الاستصحاب للزوم ثبوت الحالة السابقة وجدانا كما فيما لو اراد تاجر ان يبعث اموالا الى تاجر آخر احتمل موته لبعض قرائن ،

٤٩

__________________

ونحو ذلك من الامور التي لا يترتّب عليها آثار شرعية وانما يراد منها تحصيل العلم الوجداني بحصولها.

ومن هنا تعرف الفرق بين النحو الاوّل من الموارد والنحو الثاني ، فالنحو الاوّل يفترق عن النحو الثاني بانّه يكون في مجال القوانين والتشريعات ، ففي هذا المجال من العقلائية ان يشرّع المشرّع ـ انسانا كان ام ربّ الانسان ـ قاعدة الاستصحاب ، لأنها هي الطريق العقلائي ، وذلك بان يحكم ببقاء الحالة السابقة حتّى يثبت ارتفاعها بدليل.

هذا الامر تراه واضحا ايضا في رواياتنا ، فترى مثلا الرواية الاولى تقول ـ بعد ما يسأل زرارة من الامام عليه‌السلام .... فان حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ ـ ((لا ، حتّى يستيقن انّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك امر بيّن ، وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ...)) فانّ قول الامام ((فانه)) التأكيدية إثارة لحسّ الفطرة والارتكاز العقلائي لدى السائل ، وكأنّ الامام يتعجّب منه ويقول إنّه على يقين من وضوئه ولم يستيقن من رفع الحالة السابقة المتيقّنة ففي هذه الحالة عليك ان لا تنقض يقينك بثبوت الحالة السابقة بالشك في رفعها بطروء عارض ، وببيان آخر : لم يستدلّ الامام عليه‌السلام هنا لعدم وجوب إعادة الوضوء بالقرآن او بحديث او بانّ الله تعالى قد تعبّدنا بذلك كما تعبّدنا بكون صلاة المغرب مثلا ثلاث ركعات ، وانّما استدلّ لنا ـ لكي يقنعنا ـ بامر عقلائي وفطري وهو كونه على يقين بوضوئه ثم شك في طروء ما يرفع تلك الحالة السابقة ، فقال عليه‌السلام لكي يثير عندنا هذا الاحساس الفطري ((لا ، حتّى يستيقن انه قد نام حتّى يجيء من ذلك امر بيّن ، وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ...)) ، ومثلها صحيحته الثانية إذ سأل فيها زرارة الامام قال عليه‌السلام ... فان ظننت انّه اصابه ولم اتيقّن فنظرت ولم أر شيئا فصليت فرأيت فيه؟ قال عليه‌السلام تغسله ولا تعيد. قال زرارة لم ذلك؟ فلم يجبه الامام بآية ولا رواية او بأمر يفهم منه التعبدية المحضة وانما اجابه بتعليل فطري فقط فقال عليه‌السلام : ((لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا)) الصريحة في المطلوب ، ومثلهما رواية الخصال ... عن محمّد بن مسلم وابي بصير عن الصادق عليه‌السلام ((من كان على يقين ثمّ شك فليمض على يقينه)) ، ثمّ علّل عليه‌السلام ذلك بهذا الارتكاز

٥٠

__________________

الفطري المحض فقال ((فان الشك لا ينقض اليقين)) وفي رواية اخرى ((فان اليقين لا يدفع بالشك)) ، وكذلك الامر في صحيحة عبد الله بن سنان التي يسأل فيها ابوه الامام الصادق عليه‌السلام عن ثوب اعاره لذمّي وهو يعلم انّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليه هل يجب عليه ان يغسله قبل ان يصلّي فيه؟ فقال ابو عبد الله عليه‌السلام : ((صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك)) ثم يعلّل الامام عليه‌السلام ذلك بالطريقة السابقة ، قال : ((فانك اعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجّسه)) ، وهو ايضا صريح في المطلوب.

هذا ، ولكن هذا لا يعني انّ الاستصحاب صار يثبت لوازمه العقلية على ما سيأتيك في بحث ((مقدار ما يثبت الاستصحاب)) من انّ العقلاء يلاحظون الفرق بوضوح بين الامارات التي تحكي عن الواقع كخبر الثقة وبين قاعدة الاستصحاب الناظرة إلى اثبات آثارها الشرعية وليست ناظرة بوجه الى اثبات الآثار الشرعيّة المترتبة على الوسائط العقلية او العادية ، وذلك لأنّ ترتيب تلك اللوازم العقلية أو العاديّة ليس أمرا فطريّا ، مثال ذلك : من المعلوم وجوب الكفّارة على المحرم إذا قتل صيدا ، فلو رمى محرم سهما نحو طائر مثلا ثم شك في بقائه في مكانه ، بحيث لو استصحبنا بقاءه في مكانه لقتله فهل ترى من نفسك الحكم على هذا المحرم بوجوب دفع الكفّارة بعنوان أنّه قتل طيرا؟! وببيان آخر : الاستصحاب هنا انما اثبت ((عدم طيران هذا الطائر)) ، ولازم ذلك ((اصابته)) ولازم اصابته ((قتله)) ، والكفّارة انما تترتب على عنوان ((القتل)) لا على ((عدم طيرانه)) ، ولذلك لا نظن ان احدا من العقلاء يوجب في هذه الحالة على الرامي دفع الكفارة.

وبكلمة اخرى : ان الاستصحاب وان كان يوافق الطبع العقلائي كما ورد في الروايات إلّا أنّه ليس امارة لا في نظر الشارع ولا في نظر العقلاء ، اما بالنسبة إلى نظر الشارع المقدّس فلم يعلم ـ بل نستبعد ـ ان ملاك تشريع الاستصحاب هو اماريته وكشفه عن الواقع وحكايته عنه واقوائية احتمال اصابته كما كان الحال في سائر الامارات كخبر الثقة مثلا.

وأمّا بالنسبة إلى نظر العقلاء ، فانّ الاستصحاب وان كان يوافق طبعهم ـ وهو البناء على الحالة السابقة حتّى يعلموا برفعها ـ إلّا أنّه ليس عندهم من قبيل خبر الثقة ، ومجرّد

٥١

__________________

الموافقة للطبع لا يعني ان الاستصحاب كاشف عندهم عن الحالة السابقة ، والنتيجة مع ملاحظة هاتين النقطتين [وهما وجود نحو من الامارية والكاشفية ، وعدم ثبوت ان هذا النحو من الكاشفية واقوائية احتمال المصادفة للواقع هي الملاك التام لتشريع الاستصحاب كما كان الحال في خبر الثقة مثلا] ان يكون الاستصحاب اصلا محرزا ، فهو بالتالي يغاير الاصل العملي البحت كالبراءة التي ليس فيها جنبة امارية وكاشفية ، وكذا قاعدتا الحلية والاحتياط.

[وبالتالي] تعرف ان القدر المتيقّن ان يثبت الاستصحاب خصوص المدلول المطابقي ـ كما في استصحاب حياة الابن فانه يثبت بقاءه حيّا فلا توزّع تركته ولا تعتدّ زوجته ـ ولا يعلم أنه يثبت لوازم المستصحب ـ كنبات اللحية ـ ولذلك لو نذر الاب أن يذبح شاة اذا نبتت لحية ولده فان الاستصحاب لا يكفينا لاثبات نبات اللحية وذلك لعدم معلومية تشريع الاستصحاب لكاشفيته ، وانما المعلوم هو دخالة ((ميل الطبع للبناء على الحالة السابقة)) في تشريع الاستصحاب لظهور الروايات في ذلك كما رأيت مرارا ، وهذا الميل لا يقتضي اثبات لوازم المستصحب عقلا ولا عقلائيا ولا دليل شرعي على اثبات لوازم المستصحب فافهم.

[ثمّ] إن اقتصرت في تسمية الامارة على ما تترتب عليه اللوازم العقلية ـ على ما هو معروف عند علمائنا. فالاستصحاب ليس امارة ، وان اطلقت لفظة ((امارة)) على ما كان علّة تشريعها الكاشفية ـ قويت او ضعفت ـ حتّى وان لم تترتب عليها اللوازم العقلية فالاستصحاب امارة ، وكذلك ان اطلقت لفظة ((امارة)) على ما نزّل الشارع الاحتمال فيه منزلة اليقين وقلت ان هذا التنزيل موجود في أدلة الاستصحاب فسيكون الاستصحاب ح امارة ايضا.

المهم ان التسمية بانه امارة او اصل لا تفيد ، والذي يفيدنا هو انه هل تترتب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقليّة أو لا؟

وستأتي تتمة هذا البحث إن شاء الله تعالى في مسألة ((مقدار ما يثبت الاستصحاب)) ، وستعرف هناك ان النتيجة ستكون هي الاقتصار على ترتيب الآثار الشرعية الغير مترتبة

٥٢

وعلى هذا الاساس يكون الاستصحاب أصلا ، لان الميزان في الاصل الذي لا تثبت به اللوازم على القاعدة عدم كون الملحوظ فيه قوّة الاحتمال محضا سواء كان الملحوظ فيه قوّة المحتمل او نكتة نفسيّة ، لان النكتة النفسيّة قد لا تكون منطبقة إلّا على المدلول المطابقي للاصل فلا يلزم من التعبّد به التعبّد باللوازم.

كيفية الاستدلال بالاستصحاب :

وقد يتوهّم (١) ان النقطة السابقة تؤثّر في كيفية الاستدلال

__________________

(١) ما يريد افادته هنا سيدنا الماتن رحمه‌الله هو انه قد يتوهّم ـ كما حصل بالفعل مع السيد بحر العلوم ـ أننا اذا قلنا بأمارية الاستصحاب فانّ الاستصحاب ح يقدّم على أصالة الحل بالتخصيص (بدليل ان الاستصحاب دليل كحجية خبر الثقة ، فكما يقدّم خبر الثقة على أصالة الحل فكذلك الاستصحاب الأمارة يقدّم على أصالة الحل) ، وأما اذا قلنا بأصليّته فيجب أن تلحظ النسبة ح بين مدرك هذا الاستصحاب ومدرك أصالة الحل (لان الاستصحاب ح ليس دليلا وانما يكون مفاد دليل والنسبة يجب أن تلحظ بين نفس الأدلّة) ، وقد تكون النسبة ح العموم من وجه لاعميّة مورد الاستصحاب على مورد الحليّة بغير موارد الحليّة ممّا لها حالة سابقة كما في استصحاب طهارة الثوب وكريّة الماء وأعميّة مورد الحلية على مورد الاستصحاب فيما لا حالة سابقة له معلومة له عندنا وكان الاصل فيها الحليّة كما لو شككنا في حليّة طعام ما أو شراب

__________________

على اللوازم العقلية أو العادية ، ولاهمية هذا البحث كثيرا في الفقه يلزم على الطالب اتقانه والتأمّل فيه

٥٣

بالاستصحاب ، وبالتالي في كيفية علاج تعارضه مع سائر الادلّة ، فإن افترضنا ان الاستصحاب امارة وان المعوّل فيه على كاشفيّة الحالة السابقة ، كان الدليل هو الحالة السابقة على حدّ دليلية خبر الثقة ، ومن هنا يجب ان تلحظ النسبة بين نفس الامارة الاستصحابية وما يعارضها من أصالة الحل مثلا ، فيقدّم الاستصحاب بالاخصّيّة على دليل اصالة الحل كما وقع في كلام السيد بحر العلوم (١) انسياقا مع هذا التصوّر ، وإن

__________________

(قال) سيدنا المصنف وهذا التوهّم باطل إذ انّ المدار في ملاحظة النسبة ينبغي ان يكون دائما بين كلا كلامي الشارع ـ وهما دليلا الاستصحاب والحليّة ـ لا بين مفاد كلاميه ـ وهما نفس الاستصحاب والحليّة ـ ، (على) انك تعلم ان جميع أهل بيت العصمة انما يفيدون من جهة واحدة وكلامهم ناظر الى بعضه البعض

(١) الطباطبائي في فوائده ، الفائدة ٣٥ ص ١١٦ ، ذكر ذلك في الرسائل / أوائل بحث الاستصحاب عند قوله «بقي الكلام في أمور ... الثالث» صفحة ٥٤٥ من طبعة جماعة المدرسين ، وصفحة ٣٢٠ من الطبعة الحجرية المحشّاة ، وصفحة ١٥٦ من شرح الرسائل للاعتمادي الجزء الثاني.

وهاك كلام السيد بحر العلوم رحمه‌الله «استصحاب الحكم المخالف [الاصل] في شيء دليل شرعي رافع لحكم الاصل مخصّص لعمومات الحل كاستصحاب حكم العنب ، فانّ الاصل قد انتقض فيه بالاجماع والنصوص الدالّة على تحريمه بالغليان وعمومات الكتاب والسنّة قد تخصّصت بهما قطعا ، وح فينعكس الاصل في الزبيب ويكون الحكم فيه بقاء التحريم الثابت له قبل الزبيبية بمقتضى الاستصحاب فلا يرتفع إلّا مع العلم بزواله ، والخاص وإن كان استصحابا مقدّم على العام وإن كان كتابا كما حقّق في محلّه ، وأما استصحاب الحل فغايته الحلّية

٥٤

افترضنا الاستصحاب اصلا عمليا وحكما تعبّديا مجعولا في دليله فالمدرك حينئذ لبقاء المتيقّن عند الشك نفس ذلك الدليل لا أمارية الحالة السابقة ، وعند التعارض بين الاستصحاب واصالة الحل يجب ان تلحظ النسبة بين دليل الاستصحاب. وهو مفاد رواية زرارة مثلا. ودليل أصالة الحل ، وقد تكون النسبة حينئذ العموم من وجه.

وهذا التوهّم باطل فانّ ملاحظة نسبة الاخصيّة والأعميّة بين المتعارضين وتقديم الاخصّ من شئون الكلام الصادر من متكلّم واحد خاصّة ، حيث يكون الاخصّ قرينة على الاعم بحسب أساليب المحاورة

__________________

بالفعل وهي لا تنافي التحريم بالقوّة ، والحل المنجّز يرتفع بحصول شرائط التحريم المعلّق ، (فان قيل) مرجع الاستصحاب الى ما ورد في النصوص من عدم جواز نقض اليقين بالشك وهذا عام لا خاص (قلنا) الاستصحاب في كل شيء ليس إلا بقاء الحكم الثابت له ، وهذا المعنى خاص بذلك الشيء ولا يتعدّاه الى غيره ، وعدم نقض اليقين بالشك وان كان عاما إلّا أنه واقع في طريق الاستصحاب وليس نفس الاستصحاب المستدلّ به ، والعبرة في العموم والخصوص بنفس الأدلّة لا بنفس أدلّة الادلّة والّا لزم أن لا يوجد في الأدلة الشرعية دليل خاص أصلا ، إذ كل دليل ينتهي الى أدلّة عامّة هي دليل حجيّته ، وليس عموم قولهم عليهم‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» بالقياس الى أفراد الاستصحاب وجزئياته الّا كعموم قوله تعالى «إن جاءكم فاسق بنبإ» بالقياس الى آحاد الاخبار المرويّة ، وكما ان ذلك لا ينافي كون الخبر خاصّا اذا اختصّ مورده بشيء فكذا هذا (ثم استشهد بجملة من كلمات العلماء وقال) ولو لا انّ الاستصحاب دليل خاص يجب تقديمه على الاصل والعمومات لم يصحّ شيء من ذلك ، وهذا من نفايس المباحث فاحتفظه» انتهى (أوثق الوسائل).

٥٥

العرفية ، ولما كانت حجّية كل ظهور منوطة بعدم ثبوت القرينة على خلافه كان الخبر المتكفّل للكلام الاخصّ (١) مثبتا لارتفاع الحجيّة عن ظهور الكلام الاعمّ في العموم ، وليست الأخصّيّة في غير مجال القرينية ملاكا لتقديم احدى الحجّتين على الاخرى ، ولهذا لا يتوهّم أحد انّه إذا دلّت بيّنة على ان كل ما في الدار نجس ، ودلّت اخرى على ان شيئا منه طاهر قدمت الثانية للاخصّية ، بل يقع التعارض ، إذ لا معنى للقرينية مع فرض صدور الكلامين من جهتين. وعلى هذا ففي المقام سواء قيل بامارية الاستصحاب او اصليّته لا معنى لتقديمه بالاخصّيّة الملحوظة بينه وبين معارضه ، بل لا بد من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من دليل الاصل او دليل حجيّة الامارة ، فان كان اخصّ قدّم بالاخصّيّة ، لأنّ مفاد الادلة كلام الشارع (٢) ، ومتى كان أحد كلاميه اخصّ من الآخر قدّم بالاخصّيّة (*).

__________________

(١) المنفصل ، فان السيد الشهيد (قدس‌سره) يقول بسقوط حجيّة ظهور ذي القرينة في هذه الحالة دون المدلول الجدّي له ، فراجع ص ٢٤٩ ـ ٢٥٢ من ابحاث التعارض.

(٢) وهو كلام صادر من جهة واحدة وان تعدّدت الائمة عليهم‌السلام فانهم كلهم يبيّنون عن جهة واحدة.

__________________

(*) سنتعرّض إلى هذا البحث في بحثي تعارض الامارة والاصل وتعارض الاصلين ان شاء الله تعالى. ونكتفي هنا بذكر الصحيح في المقام باختصار وهو : ان دليل الاستصحاب يتقدّم على دليل الاصل البحت بالتخصيص لكون مورده في عرض مورد الاصل البحث؟؟؟ ـ لا في طوله ـ فهذا الاستثناء يكون من باب التخصيص ، وتتقدّم الامارة على الاستصحاب من باب الورود ... [فراجع] ، وعلى أي حال فانّه لا شك في ان النسبة بين مورد الاستصحاب ومورد اصالة الحل ونحوها هي العموم من وجه كما افاد السيد بحر العلوم ، لكن في موضع الالتقاء يقدّم الاستصحاب بالتخصيص كما ذكرنا.

٥٦

أركان الاستصحاب

وللاستصحاب ـ على ما يستفاد من ادلته المتقدّمة ـ أربعة اركان ، وهي :

ـ اليقين بالحدوث.

ـ والشك في البقاء.

ـ ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

ـ وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات أثر

عملي مصحّح للتعبد بها.

وسنتكلم عن هذه الاركان فيما يلي تباعا إن شاء الله تعالى :

٥٧

أ ـ اليقين بالحدوث :

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوّم للاستصحاب ، ومعنى ذلك ان مجرّد ثبوت الحالة السابقة في الواقع لا يكفي لفعليّة الحكم الاستصحابي لها ، وانما يجري الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة متيقّنة ، وذلك لان اليقين قد اخذ في موضوع الاستصحاب في ألسنة الروايات ، وظاهر اخذه كونه ماخوذا على نحو الموضوعية لا الطريقية الى صرف ثبوت الحالة السابقة.

نعم في رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة علّل الحكم الاستصحابي بثبوت (١) الحالة السابقة في قوله «لأنك اعرته إيّاه وهو طاهر» لا باليقين بها وهو ظاهر في ركنية المتيقن لا اليقين ، وتصلح ان تكون قرينة على حمل اليقين في سائر الروايات على الطريقية إذا تمّ الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلّية.

وقد نشأت مشكلة من افتراض ركنيّة اليقين بالحدوث وهي انّه إذا كان ركنا فكيف يمكن اجراء الاستصحاب فيما هو ثابت بالامارة (٢) إذا دلّت الامارة على حدوثه وشككنا في بقائه مع انه لا يقين بالحدوث؟ كما إذا دلّت الامارة على نجاسة ثوب وشكّ في تطهيره ، أو على نجاسة الماء المتغيّر في الجملة (٣) وشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر.

__________________

(١) في النسخة الاصلية قال : بدل بثبوت «بنفس» وما أثبتناه أولى.

(٢) راجع هذا البحث في تقريرات السيد الهاشمي ج ٦ ص ٢١٩ تحت عنوان «موارد ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين».

(٣) قيد «في الجملة» هنا يمكن ارجاعه إلى الماء والى المتغيّر ، فعلى

٥٨

وقد افيد في جواب هذه المشكلة عدّة وجوه :

الوجه الاول : ما ذكرته مدرسة المحقّق النائيني (قدس الله روحه) (١) من انّ الامارة تعتبر علما بحكم لسان دليل حجّيتها (٢) ، لانّ دليل الحجيّة مفاده جعل الطريقية والغاء احتمال الخلاف تعبّدا ، وبهذا تقوم مقام القطع الموضوعي ، لحكومة دليل حجيتها (٣) على الدليل

__________________

الاوّل يكون المعنى : مع غضّ النظر عن قلّة الماء وكرّيته وكونه نابعا ، وعلى الثاني يكون المعنى «المتغيّر في الجملة» اي المتغيّر بعضه او كلّه أو المتغيّر ولو ببعض فروع النجاسة كأن كانت النجاسة دما فتغيّر الماء الى أصفر أو تغيّر تغيّرا تقديريا بحيث لو كان لون البول مثلا غامقا لأثّر في لون الماء وهكذا ... ولا يفوتك أن النظر في مثال دلالة الإمارة على نجاسة ثوب الى حالة الشبهة الموضوعية وان النظر في المثال الثاني الى حالة الشبهة الحكمية.

(ثمّ) إنّه كان الأولى ان لا يتعرض عند ابراز مشكلة موضوعية اليقين للجواب بقوله «نعم في رواية عبد الله بن سنان ..» ثمّ يقول «وقد نشأت مشكلة ..» وانّما كان الأولى تأخير التعرّض لرواية عبد الله هذه بعد ذكر تمام المشكلة.

(١) راجع المصباح ج ٣ ، التنبيه الثالث ص ٩٩.

(٢) قد اوضحنا دليل القول بالطريقية في الجزء الاوّل ، فراجع بحث «الامارات والاصول» ص ٦٨ ، وبحث «وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي» ص ١٤٧.

(٣) مرجع ضمير الهاء هنا إلى الامارة ، أي لحكومة دليل حجيّة الامارة ـ كالسيرة العقلائية الممضاة التي تعتبر الامارة علما ـ على دليل الاستصحاب ـ الذي يرتّب لزوم البناء على الحالة السابقة على اليقين بالحدوث ـ وذلك لأن دليل حجيّة الامارة يعتبر الامارة علما ويقينا بالحدوث.

٥٩

المتكفّل لجعل الحكم على القطع ، ومعنى الحكومة هنا ان دليل الحجيّة يحقّق فردا تعبّديا من موضوع الدليل الآخر ، ومن مصاديق ذلك قيام الامارة مقام اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب وحكومة دليل حجّيتها على دليله.

وقد تقدّم ـ في مستهلّ البحث عن الادلة المحرزة من هذه الحلقة (١) ـ

__________________

(١) في اوائل الجزء الاوّل ، اواخر مسألة «وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي» ص ١٥٥ عند قوله «واما إذا كان القطع ماخوذا بما هو كاشف تام ...» وشرحناه هناك مفصّلا ، وذكره ايضا في بحث تعارض الاصل مع الامارة من ابحاث التعارض عند قوله «ونلاحظ على ذلك كلّه ان الدليل الحاكم لا تتمّ حكومته إلّا بالنظر إلى مفاد الدليل المحكوم ..» ص ٢٩٨ ، ولكن مع ذلك لا بأس ببيان ردّ السيد المصنف (قدس‌سره) هنا ولو باختصار فنقول :

إنّه لو ثبت في دليل حجية الامارة اعطاء الامارة صفة العلم والطريقية تعبدا كأن يرد مثلا «الامارة علم» لصحّ إدّعاء المحقّق النائيني للحكومة ، لكن ما ورد وما استدلّوا به هو قول الامام «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما» و «ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم» ، وكلمتا «عرف» و «يعلم» هنا ليستا ناظرتين الى اعطاء الامارة (التي يعتمد عليها القاضي مثلا) صفة العلم ، بل هذه تعابير عرفية يستعملها الناس ايضا في افادة معنى انه يعلم الاحكام الشرعية ولو من خلال الامارات والاصول.

(وكذلك) لم يثبت أن العقلاء أو المتشرعة يعتبرون الإمارة علما إلّا اذا أورثت عندهم اطمئنانا.

فان شكّكت بما يقوله السيد المصنف فيؤخذ ح بالقدر المتيقّن المذكور

٦٠