دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

بالنظر إلى مفاد الدليل المحكوم كما تقدّم ، ودليل حجيّة الخبر في المقام وكذلك [دليل حجية] الظهور هو السيرة العقلائية وسيرة المتشرّعة ، أمّا السيرة العقلائية فلم يثبت انعقادها على تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي [المأخوذ على نحو الصفتية] لعدم انتشار حالات القطع الموضوعي [الصفتي] في الحياة العقلائية على نحو يساعد على انتزاع السيرة المذكورة ، وامضاء السيرة العقلائية شرعا لا دليل على نظره إلى اكثر ممّا تنظر السيرة إليه من آثار ، وامّا سيرة المتشرّعة فالمتيقّن منها العمل بالخبر والظهور في موارد القطع الطريقي ، ولا جزم بانعقادها على العمل بهما في موارد القطع الموضوعي [الصفتي].

__________________

يعلم انه قد نزّل خبر الثقة منزلة العلم بحيث يقوم مقام العلم الموضوعي ، فمثلا من جملة الادلة المعروفة على حجيّة خبر الثقة سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة ولم يثبت منهما انهما ينظران إلى خبر الثقة بمثابة العلم بنحو يقوم مقام العلم الموضوعي لا سيّما مع عدم انتشار حالات العلم الموضوعي بينهم ليعلم هل انهم يقيمون خبر الثقة مقام العلم الموضوعي أو لا ، (نعم) خبر الثقة يقوم مقام العلم الطريقي ، فمثلا حين وردنا «الخمر حرام» وجاءنا ثقة اخبرنا بانّ المائع الذي امامنا خمر فانك ـ ككل العقلاء ـ ترى نفسك تجتنب هذا المائع رغم انه لم يحصل عندك من خبره علم بخمريّته ، وما ذاك إلّا لارتكاز قيام خبر الثقة مقام القطع الطريقي. (ونفس الكلام تماما) يجري بالنسبة إلى دليل حجيّة الظهور ـ والذي هو سيرة العقلاء ـ فانه لم يثبت انه قد أعطى الحجيّة للظهور إلّا بنحو يقوم مقام القطع الطريقي دون الموضوعي.

٣٠١

والاصحّ ان نلتزم بأخصيّة دليل حجيّة الخبر والظهور بل كونه نصّا في مورد تواجد الاصول على الخلاف (١) للجزم بانعقاد السيرة على تنجيز الواقع بالرواية والظهور وعدم الرجوع إلى البراءة ونحوها من الاصول العملية (٢).

__________________

(١) وبكلمة اخرى : ان مقتضى دليل الاصل هو مرجعية الاصل في حالة الجهل بالحكم الواقعي ، إلّا ان السيرة خصّصت هذا الدليل في حالة ورود امارة ، فكأن الحكم الظاهري هكذا : إذا جهل المكلّف بالحكم الشرعي الواقعي فانّ عليه أن يرجع إلى الاصل العملي ، إلّا ان يوجد امارة حجّة فتتّبع اوّلا (وذلك لانه غالبا تصيب الامارة الواقع) (*).

(٢) كالاستصحاب الذي كان الكلام عنه ، وكان الاولى ان يقول بدل «البراءة» الاستصحاب.

__________________

(*) الصحيح هو نظرية الورود ـ دون الحكومة والتخصيص ـ ولا اظن ان هذا يحتاج إلى مزيد تأمّل بعد بيان تعاريف هذه الاصطلاحات في اوائل بحث التعارض هذا ، إذ ان الورود هو قيام دليل بوجود صغراه يلغى موضوع دليل آخر تكوينا ـ لا تعبّدا ـ ، وهنا الامر كذلك تماما ، فانّ مفاد دليل الاصل هو ((إذا لم يعلم الحكم الواقعي ولم تقم امارة حجّة فاتّبع الاصل العملي)) ، فعلى هذا تكون الامارة واردة على دليل الاصل بوضوح ، دليلنا على كون ((ولم تقم امارة حجّة)) ماخوذة في موضوع دليل الاصل نفس دليل حجية الامارة من قبيل سيرة المتشرّعة الناشئة من اقوال واشارات المعصومين [عليهم‌السلام] فانها تفيد وجوب اتباع الامارات دون الاصول العملية بل هذا امر معلوم ووجداني ، وبتعبير آخر : عرفت سابقا انه في حالات الورود يوجد طولية وفي التخصيص يوجد عرضية ، وهنا الطولية واضحة دون العرضية ، ولا حاجة بعد هذا إلى نقض مسلكي الحكومة والتخصيص.

٣٠٢

فالامارة بحكم هذه الأخصّيّة والنصيّة في دليل حجيّتها مقدّمة على الاصل المخالف لها ، وإن لم يثبت بدليل الحجيّة قيامها مقام القطع الموضوعي عموما (١).

٦ ـ إذا تعارض اصل سببي واصل مسبّبي كان الاصل السببي مقدّما ، ولهذا يجري استصحاب طهارة الماء الذي يغسل به الثوب المتنجس ، ولا يعارض باستصحاب نجاسة الثوب المغسول به ، وقد فسّر ذلك على اساس الحكومة لانّ استصحاب نجاسة الثوب في المثال موضوعه الشك في نجاسة الثوب بقاء ، واستصحاب طهارة الماء يلغي تعبدا الشك في تمام آثار طهارة الماء بما فيها تطهيره للثوب فيرتفع بالتعبد موضوع استصحاب النجاسة كما تقدّم في الحلقة السابقة.

ولكن يلاحظ من ناحية ان هذا البيان يتوقّف على افتراض قيام الاحراز التعبدي بالاصل السببي مقام القطع الموضوعي وقد مرّت المناقشة في ذلك (٢) ، ومن ناحية أخرى ان التفسير المذكور غير مطّرد في سائر موارد تقديم الاصل السببي على المسبّبي ، لانه يختصّ بما إذا كان مفاد الاصل السببي الغاء الشك وجعل الطريقية كما يدّعى في الاستصحاب ، مع ان الاصل السببي قد لا يكون مفاده كذلك ومع هذا يقدّم على الاصل المسبّبي حتى ولو كان مفاده جعل الطريقية (٣) ، فالماء

__________________

(١) أي أصلا وبدلا.

(٢) ص ٣٠٠ ـ ٣٠١ من هذا الكتاب.

(٣) كقاعدة الطهارة ، فانها تقوم مقام القطع الطريقي بلا شك ، فانه حين يردنا مثلا «يشترط في الصلاة طهارة الثوب» فانه يشترط بالعنوان

٣٠٣

المغسول به الثوب في المثال المذكور لو كان موردا لاصالة الطهارة لا لاستصحابها لبني على تقدّمها بلا اشكال على استصحاب نجاسة الثوب المغسول ، مع ان دليل أصالة الطهارة (*) ليس مفاده الغاء الشك لتجري

__________________

الاوّلي تحقق العلم بطهارة الثوب ، هذا العلم اسمه علم طريقي (لانّه لم تلفظ لفظة علم في موضوع الحكم ، فلم يقال مثلا يشترط في الصلاة العلم بطهارة الثوب) ، وحينما يأتينا «كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه قذر» القدر المتيقّن من هذه القاعدة انها تفيدنا طهارة الثوب ظاهرا فتتحقق صحّة الصلاة به ، وهذا معناه قيام قاعدة الطهارة مقام القطع الطريقي.

__________________

(*) تذكير : ليس المراد من اصطلاحات ((اصالة الطهارة)) و ((اصالة الحليّة)) و ((اصالة الاباحة)) ونحوها ان الاصل في اللوح المحفوظ الطهارة والحليّة ونحوهما ، فانه في اللوح المحفوظ لكل شيء حكم يناسبه من الاصل ، فالكلب والخنزير مثلا من الاصل نجسان .. وانما المراد الاصالة بالنسبة لنا ، اي الحكم الظاهري الاوّلي العقلائي ، وقد مرّ في بحث البراءة ان قوله تعالى (قل لا اجد فيما اوحي إليّ محرّما على طاعم يطعمه ...) يوحي بأصالة الاباحة وأن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواب من سأله عن وجوب تكرار الحجّ كل عام ((ما يؤمنك ان اقول نعم ، فإذا قلت نعم فقد وجب ...)) يوحي باصالة براءة الذمّة وهكذا .. [هذا] بنحو الاجمال وإلّا فانك تعلم باختلاف نظر السيد الشهيد عن المشهور في مسألة حكم العقل الاوّلي بالنسبة إلى الاحكام المجهولة ، وهل انه الاحتياط [كما عند السيد الشهيد] او البراءة ... [واصطلاح] اصالة الطهارة لا ينافي مسلك السيد الشهيد بحق الطاعة ، إذ قد يختلف الامر عنده بين مسألة الطهارة ومسألة البراءة ولو من باب ان اصالة الطهارة واضحة عقلائيا ، إذ من غير المعقول اصلا ان يكون الاصل في العالم النجاسة.

٣٠٤

الحكومة بالبيان المذكور ، وهذا يكشف عن ان نكتة تقدّم الاصل السببي على المسبّبي لا تكمن في إلغاء الشك بل في كونه يعالج موضوع الحكم [الآخر] ، فكأنه يحلّ المشكلة في مرتبة أسبق على نحو لا يبقى مجال للحل في مرتبة متأخرة عرفا ، وهذا يعني ان السببيّة باللحاظ المذكور نكتة عرفية تقتضي بنفسها التقديم في مقام الجمع بين دليلي الاصلين السببي والمسبّبي.

٧. إذا تعارض الاستصحاب مع اصل آخر كالبراءة واصالة الطهارة تقدّم الاستصحاب بالجمع العرفي ، والمشهور في تفسير هذا التقديم وتبرير الجمع العرفي ان دليل الاستصحاب حاكم على أدلة تلك الاصول لانّ مفاده التعبّد ببقاء اليقين وإلغاء الشك ، وتلك الأدلة اخذ في موضوعها الشك فيكون رافعا لموضوعها بالتعبّد.

فإن قيل : كما ان الشك مأخوذ في موضوع أدلة البراءة وأصالة الطهارة كذلك هو مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب.

كان الجواب : ان الشك وإن كان ماخوذا في موضوع ادلّتها جميعا ولكن دليل الاستصحاب هو الحاكم لانّ مفاده التعبّد باليقين وإلغاء الشك بخلاف أدلّة الاصول الاخرى.

وهذا البيان يواجه نفس الملاحظة (١) التي علّقناها على دعوى

__________________

(١) وهي انه يشترط في الحكومة نظر الحاكم إلى الدليل المحكوم وليس في دليل الاستصحاب نظر إلى ادلة الاصول الاخرى ، ولم يتّضح قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي الماخوذ في ادلة سائر الاصول ،

٣٠٥

حكومة دليل حجيّة الامارة على أدلّة الاصول فلاحظ.

والاحسن تخريج ذلك على اساس آخر من قبيل ان العموم في دليل الاستصحاب عموم بالاداة لاشتماله على كلمة «أبدا» فيكون اقوى واظهر في الشمول لمادّة الاجتماع (١).

__________________

فانّ ادلة سائر الاصول تفيد انه «إذا لم تعلم بالحكم الواقعي فاجر الاصل العملي كالبراءة مثلا». ولم يعلم باعتبار الشارع المقدّس الاستصحاب علما.

(١) وهي مادّة الاجتماع بين الاستصحاب والبراءة مثلا(*).

__________________

(*) لم نجد وجها لهذا التخريج فانّ الاستصحاب يقدّم على سائر الاصول كالبراءة والاحتياط والطهارة ولو لم توجد كلمة ((أبدا)) بلا شك ، وانما يقدّم الاستصحاب لانّه اصل تنزيلي بمعنى انه قد نزّل الشك فيه منزلة اليقين على وجه ، وعلى المختار لانه اصل عقلائي اي فيه كاشفية عقلائية تقتضي اتباعها في حالة الجهل كما اشرنا إلى ذلك في بحث الاستصحاب عند ذكرنا للتعليل ب ((فانه على يقين من وضوئه)) بان هذا إلفات لنظر زرارة بانّ هذا امر عقلائي فطري ، ولذلك لم يعلّل الامام المسألة بانها تعبديّة محضة وانما ارجعنا فيها إلى وجداننا العقلائي. وعلى اى من هذين المسلكين يقدّم الاستصحاب على سائر الاصول العملية لوجود نحو من الكاشفية فيه بخلاف غيره فيكون هذا التقدّم ورودا لانه طولي على ما عرفت سابقا.

٣٠٦

ـ ٢ ـ

التعارض المستقرّ على ضوء دليل الحجيّة

نتناول الآن التعارض المستقرّ (١) الذي تقدّم ان التنافي فيه بعد استقرار التعارض يسري إلى دليل الحجيّة (٢) ، إذ يكون من الممتنع شمول دليل الحجيّة لهما معا ، وسنبحث هنا حكم هذا التعارض في ضوء دليل الحجيّة وبقطع النظر عن الروايات الخاصّة التي عولج فيها حكم التعارض ، وهذا معنى البحث عمّا تقتضيه القاعدة في المقام.

والمعروف ان القاعدة تقتضي التساقط ، لانّ شمول دليل الحجيّة للدليلين المتعارضين غير معقول ، وشموله لاحدهما المعيّن دون الآخر

__________________

(١) كما في «لا بأس ببيع العذرة» و «ثمن العذرة سحت».

(٢) دليل حجية الظهور او دليل حجيّة السند او كليهما ، على حسب جهة الظنّ في الدليل على ما عرفت سابقا بالتفصيل في بحث «احكام عامّة للجمع العرفي» القسم الثالث ، وسيعاد عليك ايضا في بحث «تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقرّ» ، فمثلا من غير المعقول ان يشمل دليل حجيّة السند كلا الدليلين السابقين في ثمن العذرة بأن يتعبّدنا الشارع بتصديق كلا هذين الخبرين او بالاخذ بكلا الظهورين وذلك لأنّ بينهما تعارضا مستقرا.

٣٠٧

ترجيح بلا مرجّح (١) ، وشموله لهما على وجه التخيير لا ينطبق على مفاده العرفي وهو الحجيّة التعيّنية (٢) ، فيتعيّن التساقط.

ونلاحظ من خلال هذا البيان ان الانتهاء إلى التساقط يتوقف على إبطال [هذه] الشقوق الثلاثة (٣) فلنتكلّم عن ذلك :

اما الشقّ الاوّل وهو شمول دليل الحجيّة لهما معا فقد يقال : ان الدليلين المتعارضين تارة يكون مفاد احدهما اثبات حكم إلزامي ومفاد الآخر نفيه ، واخرى يكون مفاد كل منهما حكما ترخيصيا ، وثالثة مفاد كل منهما حكما الزاميا ، ففي الحالة الاولى يستحيل شمول دليل الحجيّة لهما لانّه يؤدّي إلى تنجيز حكم إلزامي والتعذير عنه في وقت واحد ، وفي الحالة الثانية يستحيل الشمول لادائه ـ مع العلم بمخالفة احد الترخيصين للواقع (٤) ـ إلى الترخيص (٥) في المخالفة القطعية لذلك

__________________

(١) هذا عقلا ، والكلام هنا على مستوى القاعدة الاوّلية ، فلا تقل «ناخذ بالاشهر وما اشبه» ممّا ورد في الروايات فانّ لهذا بحثا سيأتيك إن شاء الله.

(٢) فانّ كل دليل يجرّ النار إلى قرصه ويدّعي الحجيّة التعيّنية لنفسه ، أي فكيف نحكم بالتخيير مع ان كل دليل يدعو إلى نفسه فقط اي مفاده الحجيّة التعيّنية.

(٣) وهي شمول دليل الحجيّة للدليلين المتعارضين وشموله لاحدهما المعيّن دون الآخر وشموله لهما على وجه التخيير.

(٤) هذا هو الردّ الاوّل وهو ان احد الترخيصين ـ إمّا الاستحباب مثلا وإمّا الكراهية ـ يخالف الواقع حتما.

(٥) وهذا هو الردّ الثاني ، ومعناه انه إذا شملت ادلة حجيّة السند وحجية

٣٠٨

الواقع المعلوم إجمالا ، وامّا في الحالة الثالثة فان كان الحكمان الالزاميان متضادّين ذاتا كما إذا دلّ دليل على وجوب الجمعة ودلّ آخر على حرمتها فالشمول محال ايضا لادائه الى تنجيز حكمين إلزاميين [متضادّين] في موضوع واحد (١) ، وإن كانا متضادين بالعرض ـ للعلم الاجمالى من الخارج بعدم ثبوت احدهما كما إذا دلّ دليل على وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر ـ فلا استحالة في شمول دليل الحجيّة لهما معا ، لانه انما يؤدّي إلى تنجيز كلا الحكمين الالزاميين مع العلم بعدم ثبوت احدهما ولا محذور في ذلك. (ولكن) الصحيح ان هذا التوهّم يقوم على أساس ملاحظة المدلول المطابقي في مقام التعارض فقط وهو خطأ ، فانّ كلّا من الدليلين المفروضين يدلّ بالالتزام على نفي الوجوب المفاد بالآخر فيقع التعارض بين الدلالة المطابقية لاحدهما والدلالة الالتزامية للآخر ، وحجيّتهما معا تؤدّي إلى تنجيز حكم والتعذير عنه في وقت واحد.

فان قيل : هذا يعني ان المحذور نشأ من ضمّ الدلالتين الالتزاميّتين

__________________

الظهور كلا الدليلين فانّ هذا الشمول سيؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية للحكم الواقعي الواحد وهذا مرفوض عقلا او عقلائيا على الأقلّ.

(١) او قل فالشمول محال لانه يكشف عن وجود مصلحة الزامية ومفسدة الزامية في هذه الصلاة وارادة الزامية من المولى بفعلها وارادة الزامية بتركها ، وهذان الامران واضحا التناقض في مرحلة المبادئ ، وكذلك يوجد مشكلة على المكلّف في مرحلة الامتثال كما هو واضح ايضا.

٣٠٩

في الحجيّة إلى المطابقيّتين فيتعيّن سقوطهما عن الحجية لانهما المنشأ للتعارض ، وتظل حجيّة الدلالة المطابقية في كل من الدليلين ثابتة.

كان الجواب (١) : اننا نواجه في الحقيقة معارضتين ثنائيتين ، والدلالة الالتزامية تشكّل احد الطرفين في كل منهما فلا مبرّر لطرح الدلالة الالتزامية إلّا التعارض وهو ذو نسبة واحدة إلى كلا طرفي المعارضة ، فلا بدّ من سقوط الطرفين معا.

فإن قيل : المبرّر لطرح الدلالة الالتزامية خاصّة دون المطابقية انها ساقطة عن الحجيّة على اي حال سواء رفعنا اليد عنها ابتداء او رفعنا اليد عن الدلالتين المطابقيتين ، لانّ سقوط المطابقية (٢) عن الحجية يستتبع سقوط الالتزامية (٣) ، فالدلالة الالتزامية إذن ساقطة عن الحجية على ايّ

__________________

(١) بيانه : انكم قلتم ان الوارد ـ بحسب الفرض ـ هو وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر وعدم وجوب ستّ صلوات يومية في اليوم الواحد ، وبأدنى تأمّل تلاحظ وجود تعارضين بين هذه الاحكام ، وهما : اذا قلنا بوجوب صلاة الجمعة فمعناه عدم وجوب صلاة الظهر وهو يعارض وجوب صلاة الظهر ، واذا قلنا بوجوب صلاة الظهر فمعناه عدم وجوب صلاة الجمعة وهو يعارض وجوب صلاة الجمعة.

(ولا مبرّر) لطرح الدلالة الالتزاميّة وهو مثلا عدم وجوب صلاة الظهر إلّا التعارض مع وجوب صلاة الظهر ، والتعارض انما ينظر الى المتعارضين بنفس المستوى كأسنان المشط فيسقطهما معا ولا يسقط خصوص المداليل الالتزاميّة.

(٢) وهي «وجوب صلاة الظهر».

(٣) وهي «عدم وجوب الجمعة».

٣١٠

حال إمّا سقوطا مستقلا او بتبع سقوط الدلالة المطابقية ، ومع هذا فلا موجب للالتزام بسقوط الدلالة المطابقية.

كان الجواب (١) : ان الدلالة الالتزامية في كل معارضة ثنائية تعارض الدلالة المطابقية للدليل الآخر ، وهي غير تابعة لها في الحجية ليدور امرها بين السقوط الابتدائي والسقوط التبعي ، فلا معيّن لحلّ المعارضة باسقاط الدلالتين الالتزاميتين خاصّة.

وامّا الشقّ الثاني وهو شمول دليل الحجيّة لاحدهما المعيّن فقد برهن على استحالته بانه ترجيح بلا مرجّح ، إلّا ان هذا البرهان لا يطّرد في الحالات التالية :

الحالة الاولى : ان نعلم بانّ ملاك الحجية والطريقية غير ثابت في

__________________

(١) بيانه : ان الدلالة الالتزامية لوجوب الظهر تعارض الدلالة المطابقية لدليل وجوب الجمعة ، والدلالة الالتزامية غير تابعة للدلالة المطابقية في الحجية وعدمها وانما هي مستقلة في حجيّتها (لانها تأخذ حجّيتها من دليل حجيّة الظهور كالمدلول المطابقي تماما) وقادرة على معارضة الدلالة المطابقية فيتساقطان.

وبتعبير آخر : تقولون علينا ان نسقط الدلالة الالتزامية لوجوب الظهر فقط ... فنقول ما هو مبرّركم على سقوط هذه الدلالة؟ أليس مبرّر ذلك هو التعارض بينه وبين «وجوب الجمعة» في عالم الجعل؟! فكيف نسقط احد المتعارضين دون الثاني مع انهما بنفس القوّة في عالم الجعل؟! فاذا كانت صلاة الظهر في علم الباري عزوجل هي الواجبة فمدلوله الالتزامي (وهو عدم وجوب صلاة الجمعة) ثابت أيضا في علم الباري تعالى.

٣١١

كل من الدليلين في حالة التعارض (١) ، وفي هذه الحالة لا شك في سقوطهما معا بلا حاجة إلى برهان ، لان المفروض عدم الملاك لحجيّتهما (٢).

الحالة الثانية : ان نعلم ـ بقطع النظر عن دليل الحجية ـ بوجود ملاكها (٣) في كل منهما ، وبانّ الملاك في احدهما المعيّن اقوى منه في الآخر (٤). ولا شك هنا في شمول دليل الحجية لذلك المعيّن ولا يكون ترجيحا بلا مرجّح للعلم بعدم شموله للآخر ، وكذلك الامر إذا احتملنا اقوائية الملاك الطريقي في ذلك المعيّن ولم نحتمل الاقوائية في الآخر ، فانّ هذا يعني ان اطلاق دليل الحجية للآخر معلوم السقوط لانه إمّا مغلوب

__________________

(١) اي : ان نعلم بانّ ملاك الحجية والطريقية ـ وهو الظهور وصحّة السند وواقعية الجهة ـ غير ثابت في كل من الدليلين في حالة التعارض ، بمعنى انه في حالة التعارض لا تعطي ادلة حجية السند والظهور الحجية للسند والظهور ، وذلك بسبب معلومية بطلان احد الدليلين الذي منشؤه لا محالة كذب او خطأ احد الدليلين الذي يمنع من وجود ملاك لاعطائهما الحجيّة.

(٢) وبالتالي عدم وجود ترجيح في نفسيهما فضلا عن وجود ترجيح لاحدهما على الآخر.

(٣) اي ملاك الحجية.

(٤) كأن تكون دلالة احدهما صريحة ودلالة الثاني ظاهرة ، او سند احدهما صحيحا والثاني موثقا ، او متن احدهما هو المشهور بين اصحابنا والآخر شاذّا نادرا ، او احدهما يخالف العامّة والثاني يوافقهم ... الخ.

٣١٢

او مساو ملاكا لمعارضه ، وامّا اطلاق دليل الحجية لمحتمل الاقوائية فهو غير معلوم السقوط فنأخذ به (١).

الحالة الثالثة (٢) : أن لا يكون الملاك محرزا بقطع النظر عن دليل الحجيّة لا نفيا ولا إثباتا وانما الطريق إلى احرازه نفس دليل الحجية ونفترض اننا نعلم بانّ الملاك لو كان ثابتا في المتعارضين فهو في احدهما

__________________

(١) هذا الكلام قد اضمر مقدّمة وهي فرض كون دليل الحجية لفظيا ، فحينئذ يكون له اطلاق ، امّا لو كان دليلا لبيا كدليلية السيرة على حجية الظهور فانه لا يصحّ هذا الكلام لعدم وجود اطلاق له حينئذ ، فمن هنا تعرف ان محلّ التعليق هو في اصل وجود هكذا اطلاق في دليل حجية الخبر او في دليل حجية الظهور.

(اما) بالنسبة إلى دليل حجية الظهور فلا اطلاق فيه لعدم كونه لفظيا بلا شك ، وامّا بالنسبة إلى دليل حجية السند ففيه كلام طويل مرّ عليك مفصلا في محلّه.

(٢) بيانها : ان يوجد جهة رجحان في أحد الدليلين وذلك كما في الأخبار المختلفة سندا من حيث القوّة ، فاننا لو لا أدلّة حجية خبر الواحد لما علمنا بوجود ملاك للحجية ، وانما علمنا بالملاك وبرجحانه الذاتي من خلال دليل حجيّة السند ، الذي هو مثلا آية النبأ التي تفيد عند البعض حجّية خبر العادل وعند البعض الآخر حجّية خبر الثقة ، فاذا افترضنا ان احد السندين اقوى وارجح في الحجية عند الله من السند الآخر كما هو الحال بين السند الصحيح والسند الموثّق ، وفي حالة التعارض بينهما نعلم بسقوط الدليل الموثّق على أيّ حال لأنه إمّا سيسقط. مع صاحبه. بالتعارض لعدم امكان شمول دليل حجية السند للسندين المتعارضين وإمّا سيسقط لوحده ويبقى السند الصحيح مشمولا لاطلاق آية النبأ.

٣١٣

المعيّن أقوى ، وهذا يعني العلم بسقوط اطلاق دليل الحجية للآخر لانّه إمّا لا ملاك فيه وإمّا فيه ملاك مغلوب ، وأمّا اطلاق دليل الحجيّة للمعيّن فلا علم بسقوطه فيؤخذ به ، ومثل ذلك ما إذا كان أحدهما المعيّن محتمل الاقوائيّة على تقدير ثبوته دون الآخر ، ومن أمثلة ذلك ان يكون أحد الراويين أوثق وأفقه من الراوي الآخر فانّ نكتة الطريقية التي هي ملاك الحجية لا يحتمل كونها موجودة في غير الاوثق والأفقه خاصّة.

وهكذا يتّضح ان إبطال الشمول (١) لاحدهما المعيّن ببرهان استحالة الترجيح بلا مرجّح انما يتّجه في مثل ما إذا كان كل من الدليلين موردا لاحتمال وجود الملاك الاقوى فيه.

وأمّا الشقّ الثالث (٢) وهو اثبات الحجيّة التخييرية فقد ابطل بانّ مفاد الدليل هو كون الفرد مركزا للحجية لا الجامع.

__________________

(١) اي وهكذا يتضح ان عدم شمول دليل حجية السند او دليل حجية الظهور لاحدهما المعيّن دون الآخر ...

(أو قل) وهكذا يتضح ان سقوطهما معا ببرهان استحالة الترجيح بلا مرجّح انما يتّجه في حالة التساوي بينهما من جميع النواحي.

(٢) مراده اننا ان اردنا ان نجمع بين الدليلين المتعارضين ك «صلاة الجمعة واجبة» و «صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة» بنحو التخيير بينهما لفرض عدم امكان الجمع العرفي بينهما ـ للتسالم على عدم وجوب اكثر من خمس فرائض في اليوم الواحد ـ فانّه غير ممكن وذلك لكون كل دليل يقول لنا اتّبعوني انا بنحو التعيين ـ لا بنحو التخيير بحجّة انّي احد مصداقي الجامع والامر متعلّق بالجامع ـ (على) انّ تعلّق الامر بالجامع بين المصداقين خلاف ظاهر كلا الدليلين.

٣١٤

ويلاحظ (١) ان الحجية التخييرية لا ينحصر أمرها بحجية الجامع ليقال بأن ذلك خلاف مفاد الدليل ، بل يمكن تصويرها بحجيتين مشروطتين بأن يلتزم بحجيّة كل من الدليلين لكن لا مطلقا ، بل شريطة ان لا يكون الآخر صادقا ، فمركز كل من الحجيّتين الفرد لا الجامع ، ولكن نرفع اليد عن اطلاق الحجيّة لاجل التعارض ، ولا تنافي بين حجيّتين مشروطتين من هذا القبيل ولا محذور في ثبوتهما إذا لم يكن كذب كل من الدليلين مستلزما لصدق الآخر ، وإلّا رجعنا إلى إناطة حجيّة كل منهما بصدق نفسه وهو غير معقول.

فإن قيل : ما دمنا لا نعلم الكاذب من الصادق فلا نستطيع ان نميّز ان ايّ الحجّيتين المشروطتين تحقّق شرطها لنعمل على اساسها ، فايّ فائدة في جعلهما؟

__________________

(١) ويلاحظ على ذلك : انه لا مانع من الالتزام بحجية احد الخبرين بنحو التخيير بين «صلاة الجمعة واجبة» و «صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة» ، لكن بشرط تقييد كل دليل بكذب الآخر ، فيصير مفاد كل دليل هكذا «ان كان الدليل الآخر كاذبا فأنا صادق» ، فان آمنّا بامكان هذا النحو من التخيير لم نجد ضرورة للالتزام بما هو خلاف ظاهر الدليلين وهو ان الامر متعلّق بالجامع بين الدليلين. اذن نلتزم بالتخيير والتقييد بكون صدق احدهما متوقفا على كذب الآخر لكن بشرط عدم الوقوع في محذور آخر كما في المتناقضين مثل «صلّ» و «لا تصلّ» فاننا إن قيّدنا «صلّ» بشرط كذب «لا تصلّ» وقيّدنا «لا تصلّ» بشرط كذب «صلّ» ستكون النتيجة الدور ، وبتعبير آخر : إن كان «صلّ» صادقا ف «لا تصلّ» كاذب ، وان كان «لا تصلّ» كاذبا ف «صلّ» صادق وهو دور واضح

٣١٥

كان الجواب : ان الفائدة نفي احتمال ثالث (١) ، لاننا نعلم بانّ احد الدليلين كاذب ، وهذا يعني العلم بانّ احدى الحجّيتين المشروطتين فعلية ، وهذا يكفي لنفي الاحتمال الثالث.

وعلى ضوء ما تقدّم يتّضح :

أولا : ان دليل الحجيّة يقتضي الشمول لاحدهما المعيّن إذا كان ملاك الحجيّة ـ على تقدير ثبوته ـ اقوى فيه او محتمل الاقوائية دون احتمال مماثل في الآخر (٢).

ثانيا : انه في غير ذلك (٣) لا يشمل [دليل الحجية] كلّا من المتعارضين شمولا منجّزا.

__________________

(إذن) يمكن القول بالتخيير في حالة التضاد مثل «صل الجمعة» و «صلّ الظهر يوم الجمعة» لا في حالة التناقض كما في «صلّ» و «لا تصلّ».

(١) كاحتمال استحباب صلاة الجمعة او حرمتها مثلا.

(٢) قد عرفت ان صحّة هذا الكلام متوقفة على وجود اطلاق في دليل الحجية ، ولا يوجد هكذا اطلاق إلّا إذا كان دليل الحجية لفظيّا كآية النبأ مثلا إن آمنا بدلالتها على حجية خبر العادل ، (لكن) لا إطلاق في دليل حجية الظهور لعدم كونه لفظيا ، وانما هو دليل لبّي كما هو معلوم (لكون الدليل على حجيّة الظهور هو السيرة ...).

(٣) أي في غير حالة وجود رجحان في احد الدليلين ـ إمّا سندا أو دلالة ـ لا يشمل دليل الحجية كلّا من المتعارضين شمولا فعليا منجّزا بحيث يجب اتباع احد او كلا الدليلين ، وإن كان دليل الحجية يشملهما اقتضاء لوجود ملاك الحجيّة في كل دليل بحسب الفرض ، انما المشكلة من ناحية التعارض ، فإذا لم يشمل دليل الحجيّة كلّا من الدليلين فهو يعني عدم حجيّتهما قبل ان نصل إلى مرحلة التساقط.

٣١٦

ثالثا : انه مع ذلك يشمل كلّا منهما شمولا مشروطا بكذب الآخر لاجل نفي الثالث ، وذلك فيما إذا لم يكن كذب احدهما مساوقا لصدق الآخر (١).

هذه هي النظرية العامّة للتعارض المستقرّ على مقتضى القاعدة.

تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقرّ :

ومن اجل تكميل الصورة عن النظرية العامّة للتعارض المستقرّ يجب ان نشير إلى عدّة امور :

(*) الاوّل : ان دليل الحجيّة الذي يعالج حكم التعارض المستقرّ على ضوئه تارة يكون دليلا واحدا واخرى يكون دليلين ، وتوضيح ذلك باستعراض الحالات التالية :

الاولى : إذا افترضنا دليل ين لفظيّين قطعيين صدورا ظنيّين دلالة تعارضا معارضة مستقرّة فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجيّة كما تقدّم ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجيّة الظهور (٢).

الثانية : إذا افترضنا دليلين لفظيّين قطعيّين دلالة (٣) ظنيّين سندا

__________________

(١) كما في المتناقضين ، وإلّا لانتج الدور كما عرفت.

(٢) هذا امر واضح ، وذلك لقطعية الصدور فلا مشكلة فيه من هذه الناحية ، انما المشكلة من ناحية انه «كيف يشمل دليل حجية الظهور كلتا الدلالتين؟».

(٣) كما في الموثقة «صوموا العاشوراء التاسع والعاشر فانه يكفّر ذنوب سنة» وكما في «لا تصم في يوم عاشوراء ، وإنّ من صامه كان حظّه من

٣١٧

تعارضا معارضة مستقرّة فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجية كما تقدّم ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجيّة السند (١).

الثالثة : إذا افترضنا دليلين لفظيّين ظنيّين دلالة وسندا فلا شك في سراية التنافي إلى دليل حجية الظهور ، ولكن هل يسري إلى دليل حجية السند ايضا؟

قد يقال بعدم السريان ، إذ لا محذور في التعبّد بكلا السندين ، وانما المحذور في التعبّد بالمفادين.

ولكن الصحيح هو السريان لانّ حجية الدلالة وحجيّة السند مرتبطتان احداهما بالاخرى ، بمعنى ان دليل حجية السند مفاده هو التعبّد

__________________

ذلك اليوم حظ ابن مرجانة وآل زياد وهو النار» فلو فهمنا أنّ الاولى نصّ في الاستحباب والثانية نصّ في التحريم فحينئذ لا يمكن الجمع العرفي بينهما.

(١) ينبغي التنبيه هنا على ان ادلة حجيّة خبر الثقة ـ الآيات والروايات والسيرة ـ ناظرة إلى إعطاء الحجيّة لخبر الثقة مع غضّ النظر عن تعارضه مع اخبار اخرى ، فإذا جاءنا أخبار ثقات متعارضة فلن تكون مشمولة لدليل حجيّة السند ، اي لن يكون خبر الثقة المعارض بمثله حجة من الاصل وذلك قبل الوصول إلى مرحلة التساقط ، ولذلك تراه يقول «فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجية» ، اي المشكلة ستكون في شمول دليل حجيّة السند لهذا الخبر المعارض ، فإذا قلنا إنّ دليل حجية السند لا يشمل هذين الخبرين لم يعودا حجّة من الاصل ، ونفس هذا الكلام يصحّ بالنسبة إلى الحالة الاولى فلا يشمل دليل حجيّة الظهور كلا الدليلين وذلك قبل الوصول إلى مرحلة التساقط.

٣١٨

بمفاد الكلام المنقول لا بمجرّد التعبّد بصدور الكلام بقطع النظر عن مفاده.

الرابعة : إذا افترضنا دليلين لفظيّين احدهما ظني سندا قطعي دلالة والآخر بالعكس ولم يكن بالامكان الجمع العرفي بين الدلالتين (١) فالتنافي الذي يسري هنا لا يسري إلى دليل حجيّة الظهور بمفرده ولا إلى دليل حجيّة السند كذلك ، إذ لا توجد دلالتان ظنيّتان ولا سندان ظنيّان ، وانما يسري إلى مجموع الدليلين بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجيّة السند في احدهما ودليل حجيّة الظهور في الآخر ، فإذا لم يكن هناك مرجّح لتقديم احد الدليلين على الآخر طبّقت النظرية السابقة (٢).

الخامسة : إذا افترضنا دليلا ظنيا دلالة وسندا معارضا لدليل قطعي دلالة وظني سندا وتعذّر الجمع العرفي سرى التنافي بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجية الظهور في ظني الدلالة ودليل [حجية] السند في الآخر ، ويؤدّي (٣) ذلك إلى دخول دليل السند لظني الدلالة في التعارض ايضا لما

__________________

(١) كما لو وردتنا امارة حجة تقول «غسل الجمعة واجب» ورواية متواترة تقول «لا تغتسل للجمعة» ، فان الاولى نصّ في الوجوب والثانية ظاهرة في الحرمة ، وانما لا يمكن الجمع العرفي بينهما لكون الثانية مردّدة بين الحرمة والكراهة ولا جامع بين الوجوب والمبغوضيّة.

(٢) التي ذكرها قبل «تنبيهات النظرية العامّة» بقوله «وعلى ضوء ما تقدّم يتضح».

(٣) إن سألت : لما ذا قال «ويؤدّي» ولم يدخل دليل حجيّة السند في بادئ الامر؟ قلنا : لانّه في المرحلة الاولى يقع التعارض بلحاظ الدلالة لأنها هي ـ في هكذا حالة ـ منشأ التعارض ، ثم في المرحلة الثانية وبسبب

٣١٩

عرفت من الترابط. والمحصّل النهائي لذلك ان دليل السند في احدهما يعارض كلّا من دليل حجيّة الظهور ودليل السند في الآخر.

السادسة : إذا افترضنا دليلا ظنيا دلالة وسندا معارضا لدليل ظني دلالة وقطعي سندا سرى التنافي إلى دليل حجيّة الظهور لوجود ظهورين متعارضين ، ودخل دليل التعبّد بالسند الظني في المعارضة لمكان الترابط المشار إليه.

(*) الثاني : ان التعارض المستقرّ تارة يستوعب تمام مدلول الدليل كما في الدليلين المتعارضين الواردين على موضوع واحد (١) واخرى يشمل جزء من المدلول كما في العامّين من وجه (٢) ، وما تقدّم من نظريّة التعارض كما ينطبق على التعارض المستوعب كذلك ينطبق على التعارض غير المستوعب ، ولكن يختلف هذان القسمان في نقطة وهي انه في حالات التعارض المستوعب بين دليلين ظنيّين دلالة وسندا يسري التنافي إلى دليل حجيّة الظهور ، وبالتالي إلى دليل التعبّد بالسند ، وامّا في حالات التعارض غير المستوعب بينهما فالتنافي يسري إلى دليل حجيّة الظهور ولكن لا يمتدّ الى دليل التعبّد بالسند ، بمعنى انه لا موجب لرفع اليد عن سند كلّ من العامّين من وجه راسا (٣).

__________________

وجود ترابط بين دليل حجية السند والظهور يدخل دليل حجية السند ساحة المعركة.

(١) نحو «صلّ» و «لا تصلّ».

(٢) من قبيل «ذرق الطائر طاهر» و «ذرق السباع نجس» ، وبين الطائر والسباع عموم من وجه.

(٣) وذلك لامكان الاستفادة من بقية مصاديق الروايتين كالطيور غير

٣٢٠