دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

منها : ان يكون رافعا له بفعلية مجعوله (١) ، بان يكون مفاد الدليل المورود مقيّدا بعدم فعلّية المجعول في الدليل الوارد.

ومنها : ان يكون رافعا له بوصول المجعول لا بواقع فعليّته ولو لم يصل.

ومنها : ان يكون رافعا له بامتثاله ، فما لم يمتثل لا يرتفع الموضوع في الدليل المورود.

ومثال الاوّل : دليل حرمة ادخال الجنب في المسجد (٢) الذي يرفع

__________________

وهي التفاتة جيدة ، إذ لو لا هذه التوضيحات لكان من الممكن ان يثار اشكالات على هذه الامثلة بانّ الادلّة الغالبة فيها ليست واردة لعدم الغائها بنفس جعلها لموضوع الدليل المغلوب ..

(١) بعد ما عرفت في الاسطر الماضية أنه لا ورود في مرحلة الجعل قال انّ الورود يكون في مراحل الفعلية والعلم والامتثال ، هذا أولا ، ثم انّ الورود يكون بين دليلين. من خلال هاتين المقدمتين ترى سيدنا المصنف رحمه‌الله يعبّر هنا بتعابير «بفعلية مجعوله» و «بوصول المجعول» و «بامتثاله» ، فانّ دليل «يحرم ادخال الجنب الى المسجد». في مرحلة الجعل. ليس واردا على دليل «اوفوا بالعقود» ، ولكن اذا تحققت الشرائط الفعلية للحرمة بان وجد شخص جنب فانّ هذا الدليل يصير فعليا ، فنقول ح «يحرم فعلا ادخال هذا الجنب الى المسجد» ، هذا الدليل الفعلي هو الوارد على دليل «اوفوا بالعقود» ، وذلك لان قوله تعالى «اوفوا بالعقود» مقيّد ولو لبّا بعدم كون العقد على أمر محرّم.

(٢) هذا هو الدليل الوارد.

٢٤١

بفعليّة مجعوله (١) موضوع (٢) صحّة إجارة الجنب للمكث في المسجد ، إذ يجعلها إجارة على الحرام ، ودليل صحّة الاجارة مقيّد بعدم كونها كذلك.

ومثال الثاني : دليل الوظيفة الظاهريّة الذي يرفع بوصول (٣)

__________________

(١) الحاصلة بجنابة الأجير.

(٢) الذي هو كون العمل المستأجر عليه مباحا. وكان الاولى ان يقول هكذا : «... موضوع دليل صحّة الاجارة ، ودليل صحّة ...» بحذف قوله «اذ يجعلها ...» ، فانّ مفاد دليل صحّة الاجارة هكذا مثلا : «يشترط في صحّة الاجارة اباحة العمل المستأجر عليه».

ومن هنا يكون دليل حرمة ادخال الجنب في المسجد للمكث فيه رافعا بفعليّة مجعوله لموضوع دليل صحّة الاجارة الذي هو اباحة العمل المستأجر عليه. ولك ان تعبّر بعبارة اخرى فتقول : إن دليل صحّة الاجارة (الذي هو الدليل المورود) مفاده كالتالي : «إن لم يكن العمل المستاجر عليه حراما. مع شروط اخرى. فالاجارة صحيحة» ، ومفاد الدليل الوارد هكذا «إذا اجنب شخص فادخاله الى المسجد للمكث فيه حرام» ، ففي هذه الحالة يكون مفاد الدليل المورود مقيّدا بعدم الدليل الوارد.

(٣) الوصول هنا بمعنى العلم ، اي الذي يرفع بالعلم بفعلية اصل عملي معيّن ... ، وقد تتساءل عن سبب قول السيد هنا «... الذي يرفع بوصول مجعوله عنوان المشكل ...» ولم يقل «الذي يرفع بفعلية مجعوله ...» ، فنجيب صحيح ان فعلية الحكم بالبراءة مثلا إنّما تحصل بمجرّد الفحص المتعارف عند المتشرعة عن الادلّة المحرزة مع عدم وجدانها ، ولكن هذا الحكم الفعلي بالبراءة او الاستصحاب مثلا لا يتنجّز على المكلّف إن لم يعلم بأدلة الاصول العملية ، فبالعلم بها يصير المكلّف على بيّنة من امره ويرتفع عن القضيّة عنوان المشكل.

٢٤٢

مجعوله عنوان المشكل المأخوذ في موضوع دليل القرعة.

ومثال الثالث : دليل وجوب الاهمّ الذي يرفع بامتثاله موضوع دليل وجوب المهم (١) ، كما تقدّم في مباحث القدرة.

وقد يتّفق التوارد من الجانبين ، وهو على انحاء :

ـ فبعض انحائه معقول ويأخذ مفعوله في كلا الطرفين ،

ـ وبعض انحائه معقول ويكون احد الورودين هو المحكّم دون الآخر ،

ـ وبعض انحائه غير معقول فيؤدي الى وقوع التعارض بين الدليلين المتواردين.

فمثال الاوّل : ان يكون الحكم في كلّ من الدليلين مقيّدا بعدم ثبوت الحكم الآخر في نفسه (٢) ، وحينئذ حيث ان كلّا من الحكمين في

__________________

(١) فانه بناء على القول بالترتّب يرفع موضوع الحكم التنجيزي في دليل وجوب المهم ، وباصطلاح السيد الشهيد (قدس‌سره) يرفع موضوع فاعلية الحكم ومحرّكيّته. ففي المثال المعروف اذا تزاحم امتثال الصلاة في ضيق الوقت مع انقاذ الغريق فانّ دليل «انقذ الغريق» يرفع بامتثاله موضوع «أقيموا الصلاة» الذي هو عدم الابتلاء بامتثال الأهم.

(٢) ذكره في تقريرات السيد الهاشمي ج ٧ ص ٥٤ ، القسم الثاني ، ومثاله ما لو فرضنا وجود دليلين مفادهما هكذا :

١ ـ لو لا وجوب الحج لكان النذر واجبا ، لكن الحج واجب ، فالنذر غير واجب.

٢ ـ لو لا وجوب النذر لكان الحج واجبا ، لكن النذر واجب ، فالحج غير واجب

٢٤٣

نفسه ولو لا الآخر ثابت ، فلا يكون الموضوع لكلّ منهما محقّقا فعلا ، وهذا معنى ان التوارد نفذ واخذ مفعوله في كلا الطرفين.

ومثال الثاني (١) : ان يكون الحكم في احد الدليلين مقيّدا بعدم ثبوت حكم على الخلاف ، وامّا الحكم الثاني فهو مقيّد بعدم امتثال حكم

__________________

ففي المثال الاول يكون دليل وجوب الحجّ واردا على دليل وجوب الوفاء بالنذر ، وفي المثال الثاني يكون دليل وجوب الوفاء بالنذر واردا على دليل وجوب الحج فيتوارد الدليلان ، ولا يمكن ان يصبح ح شيء من الحكمين فعليا.

(١) ذكره في التقريرات ج ٧ ص ٥٦ ، ومثاله ما لو فرضنا وجود دليلين مفادهما كالتالي :

الاوّل : «إذا لم يجب عليك حكم فعلي مخالف للنذر فف بالنذر» (افرض ان متعلق النذر كان زيارة الامام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة) ، وهذا التقييد ناتج من اشتراط ان لا يكون النذر محلّلا للحرام كمن ينذر ترك الصلاة الواجبة او الحج الواجب ونحو ذلك.

والثاني : «إذا لم تمتثل حكما فعليا لا يقلّ أهمية من الحج فحجّ» أو «اذا لم تنقذ الغريق فصلّ» ، فانّه في هذه الحالة من الطبيعي ان يتقدّم وجوب الحج ، لانّه ان اريد من تقدّم الدليل الاوّل تقدّمه مطلقا حتّى في غير حال امتثاله فهو مستحيل ، وذلك لانّه في غير حال امتثاله سيكون الوجوب الثاني فعليا ، واذا اريد من تقدّمه تقدّمه في حال امتثال الزيارة والذهاب الى كربلاء فهذا ايضا مستحيل وذلك لاستحالة ان يصير الحكم فعليا بامتثاله ، او قل لا يعقل توقف الحكم على امتثاله ، سواء كان الحكم في مرحلة الجعل أو في مرحلة الفعلية او في مرحلة التنجّز ، وذلك كما إذا قال لك المولى «إذا تصدّقت على الفقير بهذا الدرهم فانّ

٢٤٤

مخالف ، ففي مثل ذلك يكون دليل الحكم الثاني تامّا ومدلوله فعليا ، وبذلك يرتفع موضوع دليل الحكم الاوّل ، وامّا دليل الحكم الاوّل فيستحيل ان ينطبق مدلوله على المورد ، لأنّه إن اريد به اثبات مفاده حتّى في غير حال امتثاله فهو مستحيل ، لأنّ غير حال امتثاله هو حال فعلية الحكم الثاني التي لا يبقى معها موضوع للحكم الاوّل .... وإن اريد به اثبات مفاده في حال امتثاله خاصّة فهو مستحيل ايضا لامتناع اختصاص حكم بفرض امتثاله كما هو واضح.

ومثال الثالث : ان يكون الحكم في كلّ من الدليلين مقيّدا بعدم حكم فعلي على الخلاف (١) ، ففي مثل ذلك يكون كلّ منهما صالحا لرفع

__________________

هذه الصدقة تصير واجبة عليك ويلزم عليك فعلها حينئذ» (*)

(١) ذكره في التقريرات ج ٧ ص ٥٥ القسم الثالث ، مثاله ما لو ورد دليلان :

(احدهما) يقول : «لو لم يكن وجوب النذر فعليا لكان الحج واجبا» ، لكنه فعلي ، فالحج غير واجب ، و (الآخر) يقول : «لو لم يكن وجوب

__________________

(*) [اقول] هذا المثال انما هو لتقريب المطلب لا اكثر ، وإلّا فلعلّ الصحيح فقهيا ان يفصّل بين ان يكون النذر قبل حصول الاستطاعة او بعدها ، فان كان بعدها فلا يصحّ النذر لانه يكون تحليلا لترك واجب فعلي ، وإن كل قبلها فانّ علينا ان ننظر في الروايات في مراد الشارع المقدّس من الاستطاعة ، وهل انّها تشمل الاستطاعة الشرعية أيضا ام يراد بها الاستطاعة العقلية فقط ، والمسألة موضع خلاف بين الاعلام ليس هاهنا محلّ ذكرها ، وإن كان يظهر لنا حتّى الآن ان المراد من الاستطاعة هي العقلية والشرعية ، ويتفرّع على ذلك ان من نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الامام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة فانه حينئذ لا يجب عليه الحج ، لانه بهذا النذر يكون قد منع نفسه من تحصيل الاستطاعة ، على تأمّل ، خاصّة اذا كان النذر الى آخر عمره.

٢٤٥

موضوع الآخر لو بدأنا به ، ولما كان من المستحيل توقف كلّ منهما على عدم الآخر يقع التعارض بين الدليلين على الرغم من ورود كلّ منهما على الآخر ويشملها احكام التعارض.

وسنتكلّم فيما يأتي عن احكام التعارض ضمن عدّة بحوث.

__________________

الحج فعليا لكان النذر واجبا» ، لكنه فعلي ، فالنذر غير واجب.

ففي المثال الاوّل يكون دليل وجوب النذر بفعليّته واردا على دليل وجوب الحج لكون موضوع دليل وجوب الحجّ عدم فعليّة وجوب النذر ، وفي المثال الثاني يكون العكس تماما ، فيكون دليل وجوب الحجّ بفعليّته واردا على موضوع دليل وجوب النذر ، فيتواردان هنا ايضا ، بل بالتأمّل تلاحظ توقف كلّ دليل على الآخر ، لأنّ معناهما هكذا : «ان وجوب الحجّ متوقف على عدم فعلية وجوب النذر» ، وهو مفاد الدليل الاوّل ، وفعليّة وجوب النذر متوقّفة على عدم فعليّة وجوب الحجّ وهو مفاد الدليل الثاني ، وعدم فعليّة وجوب الحجّ متوقّف على فعلية وجوب النذر ، وهو الدور ، ولذلك يقع التعارض المستقرّ بينهما لتكاذبهما.

٢٤٦

ـ ١ ـ

قاعدة الجمع العرفي

ونتكلّم في بحث هذه القاعدة عمّا يلي :

. النظرية العامّة للجمع العرفي ،

. أقسام الجمع العرفي (او اقسام التعارض غير المستقرّ) ، وملاك الجمع في كلّ واحد منها ، وتكييفه على ضوء تلك النظرية العامّة ،

. احكام عامّة للجمع العرفي تشترك فيها كل الاقسام ،

. نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب ،

. تطبيقات للجمع العرفي وقع البحث فيها ،

فهذه خمس جهات رئيسية نتناولها بالبحث تباعا :

٢٤٧

١ ـ النظريّة العامّة للجمع العرفي :

تتلخّص النظرية العامّة للجمع العرفي في : انّ كلّ ظهور للكلام حجّة ما لم يعدّ المتكلّم ظهورا آخر لتفسيره وكشف المراد النهائي له ، فانّه في هذه الحالة يكون المعوّل عقلائيا على الظهور المعدّ للتفسير وكشف المراد النهائي للمتكلم ويسمّى بالقرينة ، ولا يشمل دليل الحجيّة في هذه الحالة الظهور الآخر (١).

وهذا الاعداد تارة يكون شخصيا وتقوم عليه قرينة خاصّة ، واخرى يكون نوعيا ، بمعنى ان العرف اعدّ هذا النوع من التعبير للكشف عن المراد من ذلك النوع من التعبير وتحديد المراد منه ، والظاهر من حال

__________________

(١) بيان ذلك : إنه قد يتوهم أنّه في حال تنافي دليلين في الدلالة يحصل تعارض بين دلالتيهما ، وهذا التوهم خاطئٌ ، ذلك لاننا ذكرنا سابقا ان التعارض انما يحصل بين مدلولي الجعلين لا بين دلالتيهما ، بمعنى انّ التعارض يحصل في عالم الجعل والثبوت لا في عالم الدلالة ، وإن كان التنافي في مرحلة الدلالة يكشف عن وجود التعارض في مرحلة الجعل ، وعليه فان ورد عام وخاصّ مثلا فاين التعارض ومن اين نشأ؟ وقبل الجواب نقول إنّه لو كان ظهور العام ـ مثلا ـ في هذه الحالة غير حجّة لما وقع تعارض ، إذن منشأ التعارض هو شمول دليل حجّية الظهور لكلا الدليلين اي ان مفاد دليل حجيّة الظهور «خذ بظهور العام» و «خذ بظهور الخاص» متعارضان ، ويزول التعارض فيما لو كان دليل حجيّة الظهور مقيّدا بالنحو التالي : «كل ظهور للكلام حجّة ما لم يعدّ المتكلم كلاما آخر لتفسيره ، فانه في هذه الحالة تكون الحجّة ما يوافق القرينة المفسّرة».

٢٤٨

المتكلم الجري وفق الاعدادات النوعيّة العرفية ، فمن الاوّل قرينية الدليل الحاكم على المحكوم ، ومن الثاني قرينية الخاص على العام.

وكل قرينة ان كانت متّصلة بذي القرينة منعت عن انعقاد الظهور التصديقي (١) اساسا (٢) ولم يحصل تعارض اصلا (٣) ، وإن كانت منفصلة

__________________

(١) للعام في العموم.

(٢) اي الاستعمالي والجدّي.

(٣) لا بأس قبل بيان هذا المطلب ان نذكر نظرية السيد المصنف (قدس‌سره) في مجال الدلالات الثلاث للكلام ، فنقول :

صرّح السيد الشهيد (قدس‌سره) بان لمفردات الكلام مدلولات تصورية وتصديقية اولى وتصديقية ثانية ، ولمجموع الكلام ايضا هذه المدلولات الثلاث ، ولكن المدلول التصوّري لمجموع الكلام قد يغاير المدلول التصوّري لمفرداته ، فانّ قول الشارع مثلا «اتقوا الله» مرّة واحدة له مدلول تصوّري يغاير قوله «اتقوا الله ، واتقوا الله» ، فاننا في الحالة الثانية نفهم التاكيد من تكرار اتقوا.

(ثم) انه رحمه‌الله تارة يتكلم على اساس النظر الاوّل ، كما هو نظره هنا في المتن (١) ، وتارة يتكلم على اساس مجموع الكلام (٢) ، فعلى النظر الاوّل إذا ورد مثلا «اكرم العالم العادل» ، فانّ المدلول التصوّري للعالم

__________________

(١) وفي ح ٢ بحث «التطابق بين الدلالات» ، وح ٣ ج ٢ ص ١١٩.

(٢) كما في ح ٢ المصدر السابق ، وبحث «الاحتراز في القيود» ، وح ٣ ج ١ ص ٢٤٦ ـ ٢٥٢ وح ٣ ج ٢ ص ١٤١ عند قوله «فإذا كانت القرينة متصلة دخلت في شخص الكلام ..» وص ١٤٤ عند قوله «... والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكل ما يتضمّن من خصوصيات ..» ، والتقريرات ج ٧ ص ١٨٦ ، وقد تكلّم على كلا النظرين في التقريرات ج ٧ ص ١٧٣ ، وشرح المطلب فيه بشكل موسّع.

٢٤٩

__________________

معروف ، ولكن الآمر ـ في مرحلة الاستعمال ـ لم يرد مطلق العالم وانما اراد «العالم العادل» وكذا في مرحلة الارادة الجدية ، وبما انّ التعارض يحصل في مرحلة الارادة الجدّية فلا تعارض هنا.

وان كانت القرينة منفصلة بان قال اوّلا «اكرم العلماء» فانّ الدلالات الثلاث للكلام تنعقد فتثبت ح الحجية له لما ذكره في ج ٢ آخر بحث «دليل حجية الظهور» وذلك حينما قال بأنّ السيرة العقلائية كانت تجري على طبق عادة العرف من عدم الاعتماد على القرائن المنفصلة في كلمات الشارع ، امّا للعادة او لعدم الاطلاع الى فترة من الزمن على خروج الشارع ـ في اعتماده على القرائن المنفصلة ـ عن الحالة الاعتيادية ، وهذا يشكل خطرا على الاغراض الشرعية يحتم الردع لو لم يكن الشارع موافقا على الاخذ بظواهر كلامه. ومن هنا يكشف عدم الردع عن اقرار الشارع لحجية الظهور في الكلام الصادر منه. ولكن عند ما جاءت القرينة المنفصلة فانّها ترفع حجية الكلام في العموم فقط دون التصرّف بإحدى الدلالات الثلاث وذلك لانّ مفاد دليل حجية الظهور إعطاء الحجية للكلام ما لم يردنا قرينة منفصلة على خلافه ، فاذا وردت هكذا قرينة فانّ دليل حجية الظهور يسقط ح الحجية المعطاة اوّلا للكلام ، ولا يمسّ دليل حجية الظهور كرامة المداليل الثلاثة ، وكيف يتصرف بها وقد صدرت ـ بحسب الفرض ـ من الشارع المقدّس الذي لا هزل في عالمه ، والفرض ايضا انه لا تقية في كلامه ايضا ، ولو قلنا بسقوط المدلول التصديقي واستكشاف عدم ارادة العموم ـ مثلا ـ بمجيء القرينة المنفصلة لاستلزم ذلك عدم امكان التمسك بظهور كلام مع احتمال ورود قرينة منفصلة بعد مدّة ، وهذا مخالف لبناء العقلاء(*).

__________________

(*) [اقول] لا شك في صحّة ما افاده السيد المصنف هنا إلّا في قوله بعدم ارتفاع المدلول التصديقي الثاني وارتفاع الحجيّة فقط ، [وقد صرّح بهذا القول في ح ٣ ج ١ بحث احترازية

٢٥٠

__________________

القيود ـ الحالة الاولى وج ٢ ص ١٤١ وفي التقريرات ج ٧ ص ٢٩٠] ، [فانّه] لا معنى لبقاء الارادة الجدّية في العموم مع ارتفاع الحجيّة لتلازمهما ، وثانيا الصحيح عدم ارتفاع المدلول التصديقي الثاني أيضا بالبيان الآتي ... فهنا كلمتان :

الاولى : ان ((الحجيّة)) في الواقع مرتبة معلولة لمرتبة ((العلم بالارادة الجدّية)) ، ولا يتصوّر وجود العلّة وعدم وجود المعلول ، وانما يوجدان معا او يرتفعان معا ، وعليه فمع العلم بوجود ارادة جدّية في الكلام للعموم فانّ ذلك يعني ان المدلول التصديقي حجّة علينا لا محالة لكون العلم بوجود ارادة جدّية للكلام علّة عقلائية لترتب الحجية على هذا الكلام.

والثانية : هل ان القرينة المنفصلة تهدم المدلول الجدّي ـ كما ذهب إلى ذلك المحقق النائيني والسيد الخوئي [قدس سرّهما] (١) وبالتالي تنهدم الحجية (٢) المترتبة عليه ، او الذي ينهدم هو خصوص الحجيّة دون المدلول الجدّي ـ كما ذهب إلى ذلك السيد المصنف رحمه‌الله ـ؟

الجواب : ان فكرة الانهدام خطأ من الاساس ، والصحيح عدم انهدام شيء منهما ، ولبيان الدليل علينا ان نفصّل الحالات المتصورة فنقول :

١ ـ تارة يكون هذا الكلام المطلق مطلقا واقعا كما لو كان واردا في مقام العمل فهنا لا شك في بقاء هذا الاطلاق رغم مجيء قرينة منفصلة مقيّدة ، لانه يتعيّن حملها حينئذ على الاستحباب او الكراهة او الاباحة ، وذلك كما إذا سأل أحدهم الامام عليه‌السلام عن كفّارة ذنب فعله فقال له ((اعتق رقبة)) ، وسأله آخر عن نفس السؤال في مجلس آخر فقال له مثلا ((اعتق رقبة مؤمنة)) فهنا من الواضح عرفا حمل هذا القيد الزائد على الاستحباب ، وإلّا لنقض الامام عليه‌السلام غرضه وهو بيان الاحكام الواقعية ، والفرض عدم وجود تقيّة في المقام ، فهنا لا يسقط المراد الجدّي ولا الحجيّة.

__________________

(١). راجع مثلا مصباح الاصول ج ٢ ص ١٢٧.

(٢). المراد من الحجيّة التنجيز والتعذير.

٢٥١

لم ترفع اصل الظهور ، وانما ترفع حجيّته لما تقدّم (١) وهذا هو معنى

__________________

(ومراده من الحجية ـ على ما صرّح هو نفسه في ح ٢ بحث موضوع الحجّية ـ هو «اثبات مراد المتكلّم وحكمه بظهور الكلام»)

(١) في ج ١ بحث «احترازية القيود وقرينة الحكمة». الحالة الاولى وفي ج ٢ تحت عنوان «الخلط بين الظهور والحجيّة»

__________________

٢. ان يكون الشارع المقدّس في مقام الاهمال وبيان اصل الحكم كما في ((اقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)) ثم جاءت روايات تقيد وتوضّح معالم هذين الحكمين ، فهنا ايضا لا يسقط المراد الجدّي ولا الحجيّة.

٣. ان نشك في كون المراد من عدم التقييد الاطلاق واقعا ام في كون المراد منه بيان اصل الحكم. وليس في مقام بيان تمام حدود الحكم. فلا يكون له إطلاق ، ثم جاء تقييد ، فهل يأخذ العرف باطلاق الاوّل ويحمل التقييد على الحكم غير الالزامي ، ام يقدّم التقييد على الاطلاق وكأنّه متصل؟

الصحيح هو الاوّل لظهور حال المشرّع الحكيم انه في كلامه الاوّل في مقام بيان تمام حدود الحكم ولو من باب انه في صدر الاسلام كان المسلمون يأخذون بهذا الظهور ولم يثبت مخالفة الشارع المقدّس لهذا الارتكاز العقلائي ، بل قد يدّعى ان ارادة التقييد بالقيد المنفصل مع شك العرف بارادته وتقديمه على الاطلاق خلاف الحكمة من كون المشرّع الحكيم في مقام بيان تمام حدود احكام الله جلّ وعلا لا في مقام التستر والاخفاء والايهام.

(وامّا) قولهم ((ما من عام إلّا وقد خصّ)) فيحمل على الحالة الثانية السابقة.

(والنتيجة) انه لا يحصل انهدام في كل الحالات ويبقى كلام الشارع المقدّس في كل الحالات عقلائيا جدّا.

(وإذا) توسوست في الامر فلا بأس بالتمسك بالبراءة من احتمال ارادة الالزام من التقييد المنفصل فتصل إلى نفس هذه النتيجة.

٢٥٢

الجمع العرفي.

والقرينية الناشئة من الإعداد الشخصي يحتاج اثباتها إلى ظهور في كلام المتكلم على هذا الإعداد ، من قبيل ان يكون مسوقا مساق التفسير للكلام الآخر مثلا.

والقرينية الناشئة من الاعداد النوعي يحتاج اثباتها إلى احراز البناء العرفي على ذلك ، والطريق الى احراز ذلك غالبا هو ان نفرض الكلامين متّصلين ونرى هل يبقى لكل منهما في حالة الاتصال اقتضاء الظهور التصديقي في مقابل الكلام الآخر او لا ، فان رأينا ذلك عرفنا ان احدهما ليس قرينة على الآخر ، لانّ القرينة باتصالها تمنع عن ظهور الكلام الآخر وتعطّل اقتضاءه (١) ، وان رأينا ان احد الكلامين بطل ظهوره اساسا عرفنا ان الكلام الثاني قرينة عليه.

وعلى هذا الضوء نعرف ان القرينية مع الاتصال توجب الغاء التعارض ونفيه حقيقة (٢) ، ومع الانفصال توجب الجمع العرفي بتقديم القرينة على ذي القرينة لما عرفت ، كما ان بناء العرف قائم على ان كل ما كان على فرض اتصاله هادما لاصل الظهور (٣) فهو في حالة الانفصال

__________________

(١) وبتعبير آخر : إن رأينا انه يبقى لكل كلام ظهوره عرفنا ان احدهما ليس قرينة على الآخر ، لان دور القرينة. سواء كانت متّصلة او منفصلة. أنها توجّه ظهور الكلام الآخر بما يناسبها فان لم تؤثّر في معناه فهي ليست قرينة اذن.

(٢) خاصّة إذا نظرنا بالنظر الثاني السالف الذكر (وهو النظر الى المدلول التصوّري لمجموع الكلام لا لكل كلمة على حدة).

(٣) وهذا مبني على النظر الاوّل.

٢٥٣

يعتبر قرينة ويقدّم بملاك القرينية.

هذه هي نظرية الجمع العرفي على وجه الاجمال ، وستتّضح معالمها وتفاصيلها اكثر فاكثر من خلال استعراض اقسام التعارض غير المستقر التي يجري فيها الجمع العرفي.

٢ ـ أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقرّ

الحكومة :

من أهم أقسام التعارض غير المستقرّ ان يكون احد الدليلين حاكما على الدليل الآخر ، كما في «لا ربا بين الوالد وولده» الحاكم على دليل حرمة الربا ، فانه في مثل ذلك يقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم.

والحكومة (١) تعبير عن تلك النكتة التي بها استحقّ الدليل الحاكم التقديم على محكومه ، فلكي نحدّد مفهومها لا بدّ ان نعرف نكتة التقديم وملاكه ، وفي ذلك اتّجاهان :

الاتّجاه الاوّل : لمدرسة المحقّق النائيني (قدس‌سره) وحاصله ان الاخذ بالدليل الحاكم انما هو من اجل انّه لا تعارض في الحقيقة بينه وبين الدليل المحكوم ، لانّه لا ينفي مفاد الدليل المحكوم وانّما يضيف إليه شيئا جديدا (٢) ، فان مفاد الدليل المحكوم مردّه دائما إلى قضية شرطية

__________________

(١) يظهر ان هذا الاصطلاح قد اخذ من كتاب الاعتقادات ، إذ قال فيه : «اعتقادنا في الحديث المفسّر انه يحكم على المجمل كما قال الصادق عليه‌السلام» انتهى.

(٢) اي يضيف اليه بيانا جديدا مخالفا للظهور العرفي للدليل المحكوم.

٢٥٤

مؤدّاها في المثال المذكور : «إنّه إذا كانت المعاملة ربا فهي محرّمة» ، وكل قضيّة شرطية لا تتكفّل اثبات شرطها ، ولهذا يقال : إن صدق الشرطية لا يستبطن صدق طرفيها ، ومفاد الدليل الحاكم قضيّة منجّزة فعليّة مؤدّاها في المثال نفي الشرط لتلك القضيّة الشرطية وان معاملة الاب مع ابنه ليست ربا ، فلا بدّ من الاخذ بالدليلين معا (١).

وهذا الاتجاه غير صحيح ، لأنّ (٢) دليل حرمة الربا موضوعه ما كان

__________________

(١) ذكره المحقق النائيني (قدس‌سره) في الاجود ج ٢ (آخر سطرين من ص ٥٠٥ فما بعد) ، قال ـ بتوضيح منا ـ : «يعتبر في التعارض ان لا يكون أحد الدليلين حاكما على الدليل الآخر ، فان المحكوم ـ مثل «الربا حرام» ـ يثبت الحرمة على تقدير ربوية المعاملة (اي بنحو القضية الشرطية) ، وامّا الدليل الحاكم فهو ناظر إلى اثبات ذلك التقدير او نفيه ـ بقوله مثلا «لا ربا بين الوالد وولده» ـ فلا يعقل المعارضة بينهما ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ... وكيفما كان فقد ظهر انه لا يعتبر في الحكومة إلّا ما عرفت من كون الدليل الحاكم بمدلوله المطابقي موجبا للتصرّف في موضوع الدليل المحكوم او في محموله ، فتكون نتيجتها هي التخصيص ، كما ان نتيجة الورود هو التخصّص.» واوضحه السيد الخوئي في المصباح ج ٣ ص ٢٥١.

(٢) خلاصة الردّ على المحقق النائيني (الذي يرى ان الحكومة ليست من اقسام التعارض لأنّ الدليل الحاكم ليس إلّا مفسّرا للمراد الجدّي من موضوع الدليل المحكوم او محموله بالتوسعة او التضييق) :

انّ هذا التفسير هو تفسير تعبّدي لا وجداني ، فبالنظر الوجداني نرى ان كل معاملة مع الزيادة من أحد الطرفين ربا سواء كانت بين الوالد وولده او بين غيرهما ، فعند ما وردنا انه «لا ربا بين الوالد وولده» فهذا

٢٥٥

ربا في الواقع سواء نفيت عنه الربويّة ادّعاء في لسان الشارع او لا ، والدليل الحاكم لا ينفي صفة الربوية حقيقة وانما ينفيها ادّعاء ، وهذا يعني انه لا ينفي الشرط في القضية الشرطية المفادة في الدليل المحكوم ، بل الشرط محرز وجدانا ، وبهذا يحصل التعارض بين الدليلين ، فلا بدّ من تخريج لتقديم الدليل الحاكم مع الاعتراف بالتعارض.

الاتّجاه الثاني : وهو الصحيح ، وحاصله انه بعد الاعتراف بوجود

__________________

يخالف ما ثبت اوّلا ، وهو عين التعارض (بين المعنى العرفي للربا وبين تفسير الدليل الحاكم له).

(ومن هنا) تعرف ان نفي المحقق النائيني وغيره ـ كالسيد الخوئي والسيد البجنوردي والشيخ المظفر ـ للتعارض بين الحاكم والمحكوم كان ملاحظا فيه نكتة التفسير وانّ المرجعية في تفسير الاحكام الشرعية ـ بموضوعاتها ومحمولاتها ـ في الدرجة الاولى هي للشارع المقدّس ، لانّ هذا المجال مجاله ، فان لم يتدخل في التفسير فحينئذ يرجع الى العرف ، وعلى هذا فكانّ الامام عليه‌السلام يقول : ليس بين قولينا هذين تعارض لانّ القول الاوّل مفسّر للثاني.

وامّا السيد الشهيد فلاحظ حالتي الاتصال والانفصال ، ففي حالة الانفصال يحصل التعارض بين المعنى العرفي للربا مثلا والمعنى الشرعي له ، ولهذا ستسقط حجيّة ظهور الدليل الاوّل ـ كما سيقول في الاتجاه الثاني ـ وهو امارة حصول التعارض ، نعم يصحّ كلام المحقق النائيني فيما لو كان الحاكم متصلا ، ولكن هذا لا كلام فيه لخروجه اوّلا عن محلّ الكلام ، وثانيا لوضوحه ، ذلك لأنّ المدلول التصوّري للربا ـ مثلا ـ ينعقد من الاوّل على طبق التفسير ، فاين التعارض ، وما الذي يسقط من المداليل؟

٢٥٦

التعارض بين الدليلين يقدّم الدليل الحاكم تطبيقا لنظرية الجمع العرفي المتقدّمة (١) ، لانّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم وهذا النظر ظاهر في ان المتكلّم قد اعدّه لتفسير كلامه الآخر فيكون قرينة ، ومع وجود القرينة لا يشمل دليل الحجيّة ذا القرينة ، لان دليل حجيّة الظهور مقيّد بالظهور الذي لم يعدّ المتكلم قرينة لتفسيره ، فبالدليل الناظر المعدّ لذلك يرتفع موضوع حجيّة الظهور (٢) في الدليل المحكوم ، سواء كان

__________________

(١) قبل عدّة صفحات (ص ٢٤٨) وذلك عند ما قال : «تتلخّص النظرية العامّة للجمع العرفي في «انّ كل ظهور للكلام حجّة ما لم يعدّ المتكلم ظهورا آخر لتفسيره ...».

(بيان الجواب) إننا إذا اردنا ان نعرف نكتة تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم فانّ علينا ان ننظر إلى وجه عدم تقديمه ليتّضح لنا منشأ المشكلة فنقول :

وجه عدم تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم او قل وجه التعارض المستقرّ هو شمول دليل حجيّة الظهور لكلا ظهوري الدليلين بنحو الاستغراق ، بمعنى ان دليل حجيّة الظهور يفيدنا «حجيّة ظهور الدليل المحكوم على الاطلاق» (بمعنى ان حجيّة ظهوره لا تسقط سواء ورد قرينة توضّحه ام لم يرد) ويفيد «حجيّة ظهور الدليل الحاكم» ايضا فيتعارضان.

ولكن الحقّ انّ دليل حجيّة الظهور مقيّد من الاصل ـ كما قال قبل قليل السيد المصنف ـ فانه يفيد الحجيّة بشرط «عدم وجود قرينة على الخلاف» ، فإذا وردنا قرينة على الخلاف فانها تتّبع وتقدّم ، ومن هنا تعرف النكتة في تقدّم القرينة التي منها الدليل الحاكم.

(٢) موضوع حجيّة الظهور هنا هو شرطها وهو «عدم وجود قرينة على الخلاف» ، ولك ان تقول انّ موضوع حجيّة الظهور هو المراد الجدّي

٢٥٧

الدليل الحاكم متصلا او منفصلا ، غير انه مع الاتصال لا ينعقد ظهور تصديقي في الدليل المحكوم اصلا ، وبهذا لا يوجد تعارض بين الدليلين أساسا ، ومع الانفصال ينعقد ولكن لا يكون حجّة لما عرفت.

ثمّ ان النظر الذي هو ملاك التقديم يثبت بأحد الوجوه التالية :

الاوّل : ان يكون مسوقا مساق التفسير بأن يقول : أعني بذلك الكلام كذا ، ونحو ذلك.

__________________

للمتكلّم ، وذلك لاننا نقول ان المراد الجدّي حجّة أي ينجّز ويعذّر ، وبما اننا نعرف المراد الجدّي من ظهور الكلام مع عدم نصب قرينة على الخلاف يصحّ ان نقول بانّ موضوع حجية الظهور هو عدم ايجادنا لقرينة مخالفة للظهور. فان تحقّق هذا الموضوع تحقق الحكم وهو حجيّة ظهور الدليل وإلّا فان وجد دليل حاكم مثلا فلا يكون ظهور الدليل المحكوم حجّة.

(بيان ذلك) ان الدليل الحاكم قد يكون متصلا وقد يكون منفصلا ، فان كان متصلا لا ينعقد الظهور التصديقي (الاوّل والثاني) ، وانما تنعقد الدلالة التصوّرية لكلمة «الربا» ـ مثلا ـ فقط ـ بناء على النظر الاوّل للدلالات (السالف الذكر ، وهو النظر إلى دلالة كل مفردة بمفردها) ـ ، ذلك لانّ القرينة المفسّرة المتّصلة دليل وكاشف على انّ المتكلّم لم يرد استعمال لفظة الربا مثلا إلّا بمعناها المفسّر بالقرينة المتّصلة ، وبالاولويّة نستكشف عدم الارادة الجدّية لمعنى «الربا» العرفي.

وامّا إذا كان الدليل الحاكم منفصلا فلا اشكال في انعقاد الدلالات الثلاث ، ولكن الخلاف في سقوط الارادة الجدية والحجيّة ام في بقاء الارادة الجدّية وسقوط الحجيّة فقط كما يقول السيد الشهيد رحمه‌الله.

٢٥٨

الثاني : ان يكون مسوقا مساق نفي موضوع الحكم في الدليل الآخر ، وحيث انه غير منتف حقيقة فيكون هذا النفي ظاهرا في ادّعاء نفي الموضوع وناظرا إلى نفي الحكم حقيقة (*).

الثالث : ان يكون التقبّل العرفي لمفاد الدليل الحاكم مبنيّا على

__________________

(*) هذا القسم ناظر إلى بيان الحكومة بلحاظ موضوع الدليل المحكوم ، والوجه الثالث ناظر إليها بلحاظ محموله .. فنقول :

امّا بالنسبة إلى الاوّل منهما فقد بيّناه مختصرا ص ٢٣٧ ، وقلنا إنّه امّا يوسّع الموضوع وامّا يضيّقه ... مثال الاوّل قوله تعالى (لّولا جآءو عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشّهدآء فأولئك عند الله هم الكذبون) بناء على فهم أنّهم كاذبون ظاهرا وتنزيلا ، واما براءة ماريا القبطية واقعا فتثبت بالنقل كموثّقة زرارة وغيرها ، وكقول الرسول الأعظم [صلى‌الله‌عليه‌وآله] في الحديث المشهور ((سين بلال شين عند الله تعالى)) [مستدرك الوسائل باب ٢٣ من ابواب قراءة القرآن ـ ح ٣] ، ومثال الثاني قوله تعالى (قال ينوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صلح) ولم يقل الله تعالى إنّه ممن سبق عليه القول [وهم الذين ظلموا] مشيرا بذلك إلى انّ الظالم سواء كان من أهل النبي تكوينا ام لم يكن يعتبره المولى جلّ وعلا انّه ليس من اهله تضييقا منه تعالى لدائرة اهل النبي ، ومن هنا نقول ان صاحبة الجمل ومثيلتها ليستا من اهل رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] عند الله تعالى ، اي تنزيلا واعتبارا ، بأن تكون آية (إنّه ليس من أهلك ، انّه عمل غير صالح) حاكمة على قوله تعالى (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا).

وقد ذكر هنا السيد [قدس‌سره] حالة التضييق وفاته ذكر الحالة الاولى ، وكان قد ذكرها في الحلقة الثانية بحث الحكم الاول ، قاعدة الجمع العرفي وفي بحوث خارجه ج ٧ ص ١٦٨ ، والامر سهل.

٢٥٩

افتراض مدلول الدليل المحكوم في رتبة سابقة ، كما في «لا ضرر» (* ١). او «لا ينجّس الماء ما لا نفس له» بالنسبة إلى ادلّة الاحكام وادلّة التنجيس (* ٢).

__________________

(* ١) ومثل بعضهم ب «لا حرج» واعتبروا ذلك من الحكومة ومن الاحكام الثانوية وهذا من اشتباهاتهم ، فانّ الله تعالى لا يريد بنا العسر ، كما في قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، ولذلك فالقضايا العسيرة تكون خارجة عن الواجبات والمحرمات بالتخصيص او التقييد لا بالحكومة

(* ٢) فدليل ((لا ضرر)) مثلا ناظر إلى محمولات ادلّة الأحكام ويبيّن المراد منها فيضيّق اطلاقاتها ... وقد شرحنا ذلك فى اوّل حديث الرفع من الجزء الثالث ، وعلّقنا على هذا القول ، وقلنا بان دليل ((لا ضرر)) ونحوه هي مقيّدة لا حاكمة ، بيان ذلك : ان محمولات الاحكام ما هي إلّا ظلّ ومعلولات لموضوعاتها ، فالقيمة الاصلية اذن للموضوعات ، فلا يصحّ ان يتصرّف بالمحمول إلّا من خلال موضوعه وذلك بناء على مسلك العدلية الحق بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وفي المقام يوجد خصوصية زائدة وهي ان صفة الضرري هي في الحقيقة صفة للموضوع لا للمحمول ، فالغسل الفلاني امّا ضرري وامّا لا ، وامّا وصفنا لوجوبه بالضرري فهو بلحاظ موضوعه ، وهذا يعني ان الرسول الأعظم [ص] عند ما قال ((لا ضرر ولا ضرار)) انما يرفع الحكم برفعه للموضوع ، وبهذه المقالة قال صاحب الكفاية رحمه‌الله أيضا ، فكأنه قال لا موضوع ضرري في عالم التشريع ، وبالتالي يصنّف الموضوعات إلى ضررية وغير ضررية فيسحب بساط الاحكام الاوّلية من تحت الموضوعات الضررية ويبقي الاحكام الاوّلية للموضوعات الغير ضررية ، فهي إذن من قبيل قول القائل مثلا ((اكرم العالم)) ثم بعد فترة من الزمان قال ((لا تكرم العالم الفاسق)) ، فانّه يدلّ على ان نظره أولا إلى الموضوع ، فهو يصنّف العلماء إلى فساق وغير فساق ، فيبقي الحكم الاوّلي على غير الفسّاق ويسحبه عن الفساق منهم ، ومن هنا تعرف ان ((لا ضرر)) تقيد موضوعات

٢٦٠