دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

الحكم ويشك في إناطة بقائه ببقائها (١) فترتفع الخصوصيّة ويشك حينئذ في بقاء الحكم ، كالشك في بقاء (٢) نجاسة الماء بعد زوال تغيره ، وإمّا بأن تكون خصوصيّة ما مشكوكة الدخل من اوّل الامر في ثبوت الحكم (٣) فيفرض وجودها في القضيّة المتيقّنة ، إذ لا يقين بالحكم بدونها (٤) ، ثم ترتفع فيحصل الشك في بقاء الحكم ، وفي كلّ من هذين الوجهين لا وحدة بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة (٥).

__________________

(١) اي امّا بان تكون خصوصيّة ما (كتغيّر الماء باحد اوصاف النجاسة) دخيلة يقينا في حدوث الحكم (كالنجاسة) ويشك في إناطة بقاء الحكم بالنجاسة ببقاء خصوصيّة التغير ، بحيث انه إذا ارتفعت خصوصيّة التغيّر (ونقا الماء) يشك حينئذ في بقاء النجاسة.

(٢) كلمة «بقاء» غير موجودة في النسخة الاصلية واثباتها اولى.

(٣) بالنجاسة ، وذلك كما لو دخل كافر في ماء قليل وشككنا في تنجس هذا الماء ، ثمّ خرج هذا الكافر من الماء فيحصل شك في بقاء نجاسة الماء.

(٤) اي اذ لا يقين بالنجاسة مع عدم دخول الكافر في الماء القليل.

(٥) امّا في الفرض الاوّل فالتغاير واضح اذ أن مفاد القضيّة الاولى هكذا «كان الماء المتغيّر نجسا» ومفاد القضيّة الثانية هكذا «هل نفس هذا الماء الذي زال تغيّره ونقا باق على النجاسة؟» والتغاير بين موضوعيهما واضح.

وامّا في الفرض الثاني فلارتفاع الخصوصيّة المشكوكة الدخل من اوّل الامر والمفروضة الوجود في القضيّة المتيقّنة ، فيتغيّر موضوعا القضيّتين أيضا.

١٠١

كما أنّا حين نأخذ بالصياغة الاولى (١) لهذا الركن نلاحظ ان موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما أخذ مفروض الوجود في مقام جعله ، والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكمية ، لأنّ الشك في بقاء الحكم ينشأ من الشك في انحفاظ تمام الخصوصيّات المفروضة الوجود في مقام جعله (*).

__________________

(١) التي طرحها الشيخ الأعظم الانصاري (قدس‌سره) ، وبيان مراده انّا حين ناخذ بهذه الصيغة التي يشترط في جريان الاستصحاب فيها «احراز بقاء الموضوع» نلاحظ ان موضوع الحكم الذي هو المرأة التي كانت حائضا مثلا كان حكمه حرمة المقاربة ، ثم بعد نقائها يشك في بقاء هذه الحرمة ، هذا الشك ينشأ من الشك في بقاء موضوع الحرمة.

__________________

(*) في الحقيقة لا فرق بين الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية من ناحية اشتراط وحدة القضيّتين موضوعا ومحمولا على ما اوضحنا ذلك قبل قليل ، فانّ من يطالع ما ذكره الشيخ الاعظم الانصاري [قدس‌سره] في الرسائل الجديدة ص ٤٠٦ يعلم انّه يشترط وحدة الموضوع في القضيتين ، إذ انهما لو تغايرا في القضيتين فالموضوع الثاني ((جديد)) بحسب تعبيره ، بل هذا امر بديهي حتّى عند العوام فضلا عن العلماء ، إذ ان الشك ان كان في بقاء طهارة الثوب الاحمر فكيف نستصحب الطهارة في الثوب الابيض؟!

والذي اوقع صاحب الكفاية وغيره في سوء فهم مراد الشيخ الانصاري هو جمع صورتي الاستصحاب في الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية في كلام واحد وبعض الكلمات الموهمة لما فهمه صاحب الكفاية بحيث قد لا يفهم الشخص مراده إلّا بالاستعانة بكلامه الآخر ، وخلاصة مراده انه لو انقلب الكلب مثلا إلى ملح والماء إلى بول فقد انقلبت ماهية الموضوع السابق إلى موضوع جديد ، فلم يبق الموضوع السابق فلا استصحاب ، فعلينا ـ على مبنى الشيخ الانصاري ـ ان نحرز بقاء الصورة الكلبية والصورة المائية لكي يمكن الاستصحاب بالتقريب الذي ذكرناه قبل صفحات ، اذن.

١٠٢

ولاجل حلّ المشكلة المذكورة نقدّم مثالا من الاعراض الخارجية فنقول : انّ الحرارة لها معروض وهو الجسم وعلّة وهي النار او الشمس ، والحرارة تتعدّد بتعدد الجسم المعروض لها ، فحرارة الخشب غير حرارة الماء (١) ولا تتعدّد بتعدد الاسباب والحيثيات التعليلية ، فإذا كانت حرارة

__________________

(١) مراده (قدس‌سره) في هذا الحلّ ان يشبّه الاحكام في عالم الجعل بالحرارة في عالم المادّيات ، فكما انّ الحرارة إذا استمرّت في نفس الجوهر ولو بسبب آخر كانت امتدادا للحرارة السابقة ، بخلاف ما إذا انتقلت الحرارة إلى جوهر آخر فانّها حينئذ تكون حرارة اخرى ، وذلك لانّ العرض قائم بالجوهر ، فإذا كانت الجواهر متعدّدة ومتغايرة وجودا فسوف تكون وجودات اعراضها متغايرة بالبديهة وإن اتّحدت مفهوما ، فكذلك الامر في الاحكام فان كانت الحيثية تعليلية. اي إن كانت دخالة الخصوصيّة في الحكم حدوثا لا بقاء. فانّ الحكم اللاحق يكون حينئذ امتدادا للسابق لوحدة موضوع الحكم حينئذ ، وأمّا إذا كانت هذه الحيثية تقييديّة. اي انّ الخصوصيّة العارضة كانت مقوّمة لملاك الحكم. فالموضوعان حينئذ متغايران بالبداهة ، فلا يصحّ الاستصحاب.

وبما ان النظر في عالم الجعل واعتبار خصوصيّة ما مقوّمة واخرى غير مقوّمة من شئون المشرّع الحكيم ولا طريق لنا إلى ذلك إلّا ألسنة الادلّة ، فان عرفنا الامر في الواقع عملنا على اساسه وإلّا فلا يجري الاستصحاب في عالم الجعل لاحتمال كون الخصوصيّة الزائلة (كالتغير بصفات النجاسة) مقوّمة لموضوع الحكم ، (ولعلّ) هذا هو السرّ في قوله الآتي «غير ان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا يجري بلحاظ

__________________

الشيخ الانصاري يشترط وحدة موضوع الحكم في القضيتين ، فلا فرق من هذه الناحية بينه وبين صاحب الكفاية.

١٠٣

الماء مستندة إلى النار حدوثا وإلى الشمس بقاء لا تعتبر حرارتين متغايرتين ، بل هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء ، ونفس الشيء نقوله عن الحكم كالنجاسة مثلا ، فانّ لها معروضا وهو الجسم وعلّة وهي التغير بالنسبة إلى نجاسة الماء مثلا ، والضابط في تعدّدها (١) تعدّد معروضها لا تعدّد الحيثيات التعليلية ، فالخصوصية الزائلة التي سبّب زوالها الشكّ في بقاء الحكم إن كانت على فرض دخالتها بمثابة العلّة والشرط فلا يضرّ زوالها بوحدة الحكم ولا تستوجب دخالتها ـ كحيثية تعليلية ـ مباينة الحكم بقاء للحكم حدوثا كما هو الحال في الحرارة ايضا ، وامّا إذا كانت الخصوصيّة الزائلة مقوّمة لمعروض الحكم كخصوصيّة البوليّة الزائلة عند تحوّل البول بخارا فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها ، وعليه فكلّما كانت الخصوصيّة غير المحفوظة من الموضوع او من القضيّة المتيقّنة حيثية تعليلية فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثا وبقاء ، ومعه يجري الاستصحاب .. وكلما كانت الخصوصية مقوّمة للمعروض كان انتفاؤها موجبا لتعذر جريان الاستصحاب ، لأنّ المشكوك حينئذ مباين للمتيقن.

__________________

عالم الجعل» ، اي أنّه مع عدم وجود دليل يوضّح لنا كيفية الجعل كأن كان الدليل لبّيا كالاجماع والسيرة ونحوهما يحكم العقل بعدم جريان الاستصحاب.

ولكن رغم ذلك لا مشكلة في البين لجريان الاستصحاب في مرحلة المجعول.

(١) اي تعدد الاعراض الخارجية كالنجاسة.

١٠٤

ومن هنا يبرز السؤال التالي : كيف نستطيع ان نميّز بين الحيثيّة التعليلية والحيثيّة التقييدية المقوّمة لمعروض الحكم؟

فقد يقال بانّ مرجع ذلك هو «الدليل الشرعي» ، لأن اخذ الحيثية في الحكم ونحو هذا الاخذ تحت سلطان الشارع ، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك ، فإذا ورد بلسان «الماء إذا تغيّر تنجّس» فهمنا ان التغير اتّخذ حيثيّة تعليليّة (١) ... وإذا ورد بلسان «الماء المتغيّر متنجس» فهمنا ان التغير حيثيّة تقييدية ، وعلى وزان ذلك «قلّد العالم» او «قلّده إن كان عالما» وهكذا.

والصحيح : انّ اخذ الحيثيّة في الحكم بيد الشارع وكذلك نحو اخذها في عالم الجعل ، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معيّنة كمفهوم الماء والتغيّر والنجاسة ، فبامكانه ان يجعل التغيّر قيدا للماء وبامكانه ان يجعله شرطا في ثبوت النجاسة تبعا لكيفية تنظيمه لهذه القضايا (٢) في عالم

__________________

(١) وذلك لانّ موضوع الحكم ح هو الماء ، فان زال تغيّره فمن الطبيعي ان تستصحب نجاسته وامّا في مثال «الماء المتغيّر متنجس» فالموضوع هو «الماء المتغيّر» ، فإذا زال التغيّر فقد تغيّر الموضوع لمقوّمية التغير لهذا الموضوع ، ولذلك لا يجري الاستصحاب.

(وكذلك) الامر في «قلّد العالم» و «قلّده ان كان عالما» فان حيثية العلم في الاولى تقييدية بحيث ان ارتفع عنه العلم فلا يجوز تقليده ، وفي الثانية تعليلية بمعنى ان اتصافه ولو ابتداء بالعلم يجوّز لنا تقليده حتى ولو ارتفع عنه العلم

(٢) في النسخة الاصلية قال بدل «القضايا» «المفاهيم» وما اثبتناه اولى.

١٠٥

الجعل ، غير (* ١) ان استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية لا يجري بلحاظ عالم الجعل بل بلحاظ عالم المجعول ، فينظر الى الحكم بما هو صفة للامر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء كما تقدّم ، وعليه فالمعروض محدّد واقعا ، وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه لا يتبع في دخوله وخروجه نحو اخذه في عالم الجعل بل مدى قابليته للاتصاف بالحكم خارجا (١) ، فالتغير مثلا لا يتصف بالنجاسة والقذارة في الخارج ، بل الذي يوصف بذلك ذات الماء ، والتغير سبب الاتصاف ، والتقليد واخذ الفتوى يكون من العالم بما هو عالم او من علمه بحسب الحقيقة ، فالتغير حيثية تعليلية ولو اخذت تقييدية جعلا ودليلا ، والعلم حيثية تقييدية لوجوب التقليد ولو اخذ شرطا وعلّة جعلا ودليلا (* ٢).

__________________

(١) اي ان الخصوصيات الداخلة في المعروض انما تتبع في دخولها في الموضوع كمقوّمة له (كمقوّمية العلم للعالم الذي يجوز تقليده) وفي خروجها عنه (كالتغير) مدى قابليّتها للاتصاف بالحكم خارجا ، فان قبلت الاتصاف به كما في العلم (إذ ان العلم هو خصوصيّة مقوّمة لملاك جواز التقليد وهو ـ اي العلم ـ المتّصف بهذا الحكم حقيقة) كانت الخصوصية مقوّمة وإلّا فلا ..

__________________

(* ١) كان الاولى ان يقول [قدس‌سره] بدل هذه الجملة هكذا ((فان علمنا كيفية الجعل لم يمكن الاستصحاب إن كانت الحيثية تقييدية ، لتغاير الموضوعين حينئذ ، ويجري إن كانت تعليلية ، لبقاء وحدة الموضوع ، وعليه فان لم يتّضح لنا نظر الشارع لا يمكن الاستصحاب عقلا ، وعلى ايّ حال لا مشكلة في البين لجريان الاستصحاب في مرحلة المجعول ، فينظر الى ...)) إلى آخر كلامه [قدس‌سره].

(* ٢) ما ذكره السيد المصنّف هنا من هذين المثالين وادّعائه معرفة الحيثية التعليلية منهما

١٠٦

وهنا نواجه سؤالا آخر وهو : ان المعروض واقعا بأيّ نظر

__________________

والتقييدية فهو ـ مع الكلام في اصل وجود حيثيّة تعليلية غير مقوّمة في عالم الجعل ـ لا ينفعه في تصحيح الاستصحاب وذلك لما ذكرناه في تعليقتنا المطوّلة على مبحث الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني ، ولذلك تراه [قدس‌سره] يعترف بعدم صحّة جريان الاستصحاب في مرحلة الجعل ، وانتقاله إلى مرحلة المجعول.

ولكي يصحّح الاستصحاب في الشبهات الحكمية ادّعى رحمه‌الله وجود حيثيات تعليلية في عالم الجعل ، ومراده من الحيثيات التعليلية هو انّه بمجرد حدوث الحيض يحرم المسّ حتّى تغتسل مثلا ، ومن التقييدية هي بقاء حرمة المسّ طالما كانت حائضا فقط ، فإذا خرجت من هذه الحالة فانه يجوز ح مسّها ولو لم تغتسل ، وعليه فاذا شككنا في مرحلة المجعول بارتفاع حرمة مسّ المرأة التي نقت ولم تغتسل مثلا فاننا نحتمل كون ((الحيض)) خصوصيّة تعليلية في حرمة مسّها واقعا فنستصحب الحرمة في مرحلة المجعول.

(وهذا) كلام عجيب من جهتين :

الاولى : ما ذكرناه سابقا من كون الشك ناشئا من عالم الجعل ، فيلزم عقلا ان نعالج هذا الشك في المرحلة التي نشأ منها ، لا في مرحلة المجعول الناتجة والمعلولة لمرحلة الجعل ، كما أنّه إذا طرأت نجاسة مثلا على ماء مسبوق بالكريّة فانه لا يصح عقلائيا ان نستصحب طهارة الماء كما قد يتصوّر البعض ، وانما الذي يستصحب هو بقاء وجود مقدار الكرّ في هذا الماء الذي هو سبب لاعتصام الماء وبقائه على الطهارة ، وهذا امر واضح عند العقلاء.

والثانية : بما انّ السيد المصنف [قدس‌سره] اعترف بعدم صحة جريان الاستصحاب في مرحلة الجعل فهذا يستلزم القول بعدم صحّة جريانه في مرحلة المجعول ايضا ، وذلك لأنّ المجعول ما هو إلّا الجعل مع فعليّة شرائطه ، فإذا لم نستطع على اثبات نفس الجعل [وهو حرمة مسّها بعد نقائها] فكيف نتصوّر استصحاب المجعول؟!

١٠٧

نشخّصه هل بالنظر الدقيق العقلي او بالنظر العرفي (١)؟ مثلا إذا اردنا في الشبهة الحكمية ان نستصحب اعتصام الكر بعد زوال جزء يسير منه فيما إذا احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء .. فكيف نشخّص معروض الاعتصام؟

فاننا إذا اخذنا بالنظر الدقيق العقلي وجدنا ان المعروض غير محرز بقاء ، لأنّ الجزء اليسير الذي زال من الماء يشكّل جزء من المعروض بهذا النظر ، وإذا اخذنا بالنظر العرفي وجدنا انّ المعروض لا يزال باقيا ببقاء معظم الماء ، لأنّ العرف يرى انه نفس الماء السابق ، والشيء نفسه نواجهه عند استصحاب الكرّية بعد زوال الجزء اليسير من الماء في الشبهة الموضوعيّة.

والجواب : ان المتّبع هو النظر العرفي ، لأنّ دليل الاستصحاب خطاب عرفي منزّل على الانظار العرفية ، فالاستصحاب يتبع صدق النقض عرفا (٢) ، وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض عرفا.

__________________

(١) ذكر هذا المطلب في عدّة كتب منها الرسائل الجديدة ص ٤٠٧ ، والمصباح ج ٣ ص ٢٣٥ عند قوله «وتحصّل مما ذكرنا ...» وتقريرات السيد الهاشمي ج ٦ ص ١٢٠.

(٢) أي بما ان الامام عليه‌السلام قال «لا تنقض اليقين بالشك» فحيث يصدق النقض ـ وذلك عند ما تتّحد القضيّتان موضوعا ومحمولا في نظر العرف ـ يستصحب ، فالاستصحاب يتبع صدق النقض عرفا ، وانما يصدق النقض حيث تتّحد القضيتان موضوعا ومحمولا بنظر العرف.

١٠٨

د ـ الأثر العملي :

والركن الرابع من اركان الاستصحاب وجود الاثر العملي (١) المصحّح لجريانه ، وهذا الركن يمكن بيانه بإحدى الصيغ التالية :

الاولى (٢) : ان الاستصحاب يتقوّم بلزوم انتهاء التعبّد فيه إلى أثر عملي ، إذ لو لم يترتّب ايّ اثر عملي على التعبد الاستصحابي كان لغوا ، وقرينة الحكمة تصرف إطلاق دليل الاستصحاب (٣) عن مثل ذلك.

وصياغة الركن بهذه الصيغة تجعله بغير حاجة الى ايّ استدلال سوى ما ذكرنا ، وتسمح حينئذ بجريان الاستصحاب حتّى فيما إذا لم يكن المستصحب اثرا شرعيا او ذا اثر شرعي او قابلا للتنجيز والتعذير بوجه من

__________________

(١) ذكر السيد الشهيد (قدس‌سره) هذا البحث في التقريرات ج ٦ ص ٣٠٠. (وعلى اي حال) فالمراد من الاثر العملي هو ما يترتّب على الاحكام التكليفية الخمسة. عند تماميّة شرائطها. والوظائف العملية المنجّزة من حكم العقل بالتنجيز لها ، وعند عدم تمامية شرائطها. والتي منها العلم. من حكم العقل او الشرع بالتعذير عنها. ولك ان تسمّي الاثر العملي «بالحكم الشرعي المنجّز او المعذّر» ، اي المنجّز عقلا بالعلم بالحكم الشرعي وفعلية شرائطه ، والمعذّر عقلا لعدم العلم بالحكم الشرعي او لعدم فعلية شرائطه ، (فلا تتوهّم) ان الاثر العملي هو الاحكام التكليفية ، فانها ليست محرّكة ان لم تكن منجّزة على المكلّف او معذّرة له.

(٢) هذه الصيغة هي للمحقق النائيني رحمه‌الله راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٦ ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٣) اي تصرف اطلاق قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» عن حالة عدم وجود اثر عملي.

١٠٩

الوجوه ، على شرط ان يكون لنفس التعبد الاستصحابي به اثر يخرجه عن اللغوية ، كما إذا اخذ القطع بموضوع خارجي لا حكم له تمام الموضوع لحكم شرعي وقلنا بأنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي (١)

__________________

(١) المأخوذ بنحو الطريقية لا الصفتية.

وللتذكير بهذه الاصطلاحات ولا سيّما ان فهم هذه الفكرة يتوقف على فهم هذه الاصطلاحات فنقول اوّلا :

انّ القطع في حالة القطع الطريقي يكون النظر فيه إلى لمقطوع به ، وليس القطع الطريقي إلّا مرآة للمقطوع به ، ولا قيمة لهذا القطع إلّا في اثبات المقطوع به في الواقع.

مثال الطريقية قوله تعالى (كتب عليكم القصاص فى القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) وقوله تعالى (الزّانية والزّانى فاجلدوا كلّ وحد مّنهما مائة جلدة) فحكم على القاتل الواقعي بالقتل وعلى الزاني الواقعي بالجلد ، ولم يقل تعالى : كتب عليكم القصاص فيمن علمتم انهم قتلة او زناة ، ممّا يعني انّه. لو لا حجية العلم الذاتية والبيّنة ونحوهما. لا يجوز قتل إلّا القاتل والزاني الواقعيين ، ولا يكتفى ح بالبينات ولا الاستصحاب ونحوهما إلّا ان يثبت حصول الواقعة واقعا.

ومثال الموضوعيّة قوله تعالى : (والّذين يبتغون الكتب ممّا ملكت أيمنكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) مما كان في موضوع الحكم شرط العلم ، وهنا حالتان :

فتارة يكون المراد من العلم العلم بما هو علم وجداني تكويني ، ويسمّى بالعلم الصفتي ، اي العلم المتصف بصفة العلم ولا يقوم مقامه شيء من الامارات والاصول كالاستصحاب لانّها لا تحقق العلم الوجداني التكويني

١١٠

بدعوى ان المجعول فيه الطريقية ، فانّ بالامكان حينئذ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وان لم يكن للمستصحب اثر وهذا معنى إمكان قيامه مقام القطع الموضوعي (١) ـ دون الطريقي ـ في بعض الموارد.

__________________

وتارة يكون المراد منه العلم الطريقي والمرآتي والكاشف عن ثبوت متعلّقه ، وامثلته كلّ او جلّ العلم الوارد في موضوعات الاحكام ، من قبيل كل الاصول العملية نحو رفع عن امتّي ما لا يعلمون ، وحتّى يتبيّن لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ... الخ ، ويسمّى بالقطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية ، وهذا العلم المراد منه ثبوت متعلّقه ولو حصل بايّ حجّة شرعية كخبر الثقة ونحوه.

وبعد هذا نقول : بناء على هذه الصيغة الاولى لو قال المولى : إن علمت بوجود زيد في البيت فلا تترك البيت ، واستظهرنا ارادة الطريقية من هذا العلم المأخوذ في موضوع هذا الحكم ، فيكون المعنى حينئذ : إن ثبت لديك وجود زيد في البيت فلا تتركه ، فان علمنا سابقا بوجوده فانّ لنا ان نستصحب بقاءه فيتحقّق ح موضوع الحكم السابق ويتنجّز ح التكليف ، وهذا معنى امكان قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقيّة دون الصفتيّة(*).

(١) الماخوذ على نحو الطريقية ـ دون القطع الطريقي ـ ..

__________________

(*) الحقّ عدم وجود فرق واختلاف جوهري بين قولي المولى ((الخمر حرام)) ، و ((اذا علمت بخمرية مائع فهو حرام)) وذلك لما اثبتناه في محلّه من ان المراد من العلم المذكور في موضوعات الاحكام هو العلم الطريقي الكاشف عن متعلّقه لا اكثر ، فكأن المولى قال ـ في الصيغة الثانية ـ ((الخمر حرام)) ، وانما قد يذكر العلم احيانا في موضوعات الاحكام للارشاد إلى اشتراطه في تنجيز الاحكام.

١١١

الصيغة الثانية : ان الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ، ولا يكفي مجرد ترتب الاثر على نفس التعبد الاستصحابي (١) ، ولا فرق في قابليّة المستصحب للمنجزيّة والمعذّرية بين ان تكون (٢) باعتباره حكما شرعيا ، او عدم حكم شرعي ، او موضوعا لحكم ، او دخيلا في متعلّق الحكم كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب مثلا اثباتا ونفيا.

ومدرك هذه الصيغة التي هي اضيق من الصيغة السابقة استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب ، لأنّ مفاده النهي عن نقض اليقين

__________________

(١) لعلك لاحظت انّ الفرق بين الصيغة الاولى والثانية هو انّ اصحاب الصيغة الاولى يشترطون في الاستصحاب ان يكون له اثر شرعي كما في قولنا استصحب إن كان للاستصحاب اثر عملي ، بمعنى انّ هذا الاستصحاب ينقّح موضوع حكم شرعي كما في المثال السابق ، وامّا اصحاب الصيغة الثانية ـ كالسيد الماتن (قدس‌سره) ـ فهم يقولون استصحب ان كان لنفس المستصحب اثر شرعي.

(٢) اي بين ان تكون هذه القابلية باعتبار المستصحب حكما شرعيا كوجوب الصلاة ، او عدم حكم شرعي كالترخيص في حكم واقعي مجهول ، او موضوعا لحكم كطهارة الماء (فانّها موضوع لجواز شربه) ، او دخيلا في متعلّق الحكم كطهارة اللباس الدخيلة في الصلاة. وقوله رحمه‌الله «كالاستصحابات الجارية ...» ناظر الى القسم الاخير وهو الشرط الدخيل في متعلّق الحكم ، فانّه لا شك في صحّة جريان استصحاب عدم طروء النجاسة على الثوب.

(٣) لانّه بمجرد طروء احتمال عروض رافع للحالة السابقة يزول يقيننا ببقاء الحالة السابقة ، فالمراد من النهي عن نقض اليقين ح هو لزوم البناء

١١٢

بالشك ، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي لانّه واقع لا محالة (١) ولا معنى للنهي عنه ، وانما هو النقض العملي (٢) ، وفرض النقض العملي لليقين هو فرض ان اليقين ـ بحسب طبعه ـ له اقتضاء عملي لينقض عملا ، والاقتضاء العملي لليقين انما يكون بلحاظ كاشفيّته ، وهذا يفترض ان يكون اليقين متعلقا بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يشمله إطلاق دليل الاستصحاب.

وهذا البيان يتوقّف على استظهار ارادة النقض العملي من النقض بقرينة تعلّق النهي به ، ولا يتمّ إذا استظهر عرفا إرادة النقض الحقيقي

__________________

عمليا على بقاء الحالة السابقة وعدم الاهتمام باحتمال رفعها ، وهذا يعني انه يقول لنا لا تهتمّوا باحتمال تغيّر الحالة السابقة ، إذن على اي حال سيكون نظر الشارع المقدّس إلى البناء على بقاء الحالة السابقة ، ومن المعلوم ان الشارع المقدّس لا يتعبّدنا بثبوت امر او عدم ثبوته إلّا إذا كان صالحا للتنجيز والتعذير ، كالتعبد بالبناء على طهارة الماء مثلا.

(١) وقد تبنى هذا الرأي في تقريراته راجع مثلا ج ٦ ص ١٢٢ ـ ١٢٤ وص ١٨٤ ـ ١٨٥ وص ٣٠٢ ، وتبنّاه ايضا استاذنا السيد الهاشمي حفظه الله.

(وعلى أيّ حال) فسيدنا الشهيد (قدس‌سره) يريد أن يقول في هذا الدليل : إنّ الشارع المقدّس نهانا عن نقض اليقين بالشك ومعناه ابق على يقينك ، ولا يمكن أن يقول المشرّع الحكيم ابق على يقينك الّا اذا كان ليقينه أثر شرعي عملي وإلّا للغا التعبّد ، وبما أن المراد من اليقين هنا اليقين الطريقي فسيصير المعنى ابق على المستصحب ان كان للمستصحب أثر عملي.

(٢) اي لا يتمّ إذا استظهر عرفا معنى : انك لا يمكن لك شرعا ان تنقض اليقين بالشك.

١١٣

مع حمل النهي على كونه إرشادا إلى عدم امكان ذلك بحسب عالم الاعتبار ، فانّ المولى قد ينهى عن شيء ارشادا إلى عدم القدرة عليه ، كما يقال في «دعي الصلاة ايّام أقرائك» (١) ، غاية الامر انّ الصلاة غير مقدورة (٢) للحائض حقيقة ، والنقض غير مقدور للمكلّف إدّعاء واعتبارا لتعبّد الشارع ببقاء اليقين السابق. وبناء على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقية (٣) ، ولا يلزم في تطبيقه على مورد تصوير النقض العملي والاقتضاء العملي ، غير انّه يكفي لتعين الصيغة الثانية في مقابل الاولى اجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقّن منه (* ١) ، والمتيقّن ما تقرّره الصيغة الثانية (٤).

__________________

(١) بفتح الهمزة الاولى.

(٢) لعدم تحقق بعض شرائط صحّة الصلاة.

(٣) اي بناء على استظهار معنى النهي الارشادي يكون معنى الدليل هكذا : لا يصحّ ان ترفع يدك عن اليقين بالحالة السابقة أي عن الحالة السابقة لبقائها تعبّدا ، ولا يكون معناه : يحرم عليك ان تنقض اليقين بالشك ...

(٤) وقد تبنّى هذا الرأي في التقريرات ج ٦ ص ١٢٣(* ٢).

__________________

(* ١) لا داعي للاخذ بالقدر المتيقّن بعد كوننا مأمورين بالاستصحاب مما يعني ان الاثر العملي يلزم ان يكون مترتبا على نفس الاستصحاب ـ لا على المستصحب ـ حتّى ولو قلنا بان المراد من النهي في أدلّة الاستصحاب هو النهي عن النقض العملي.

(* ٢) (تنبيه) تعبيرنا هنا بالنهي الارشادي او تعابير علمائنا بالاوامر الارشادية لا يعني انها احكام شرعية ، فالاحكام الارشادية ليست احكاما في الحقيقة ، وانما هي مجرّد ارشادات إلى اشتراط متعلق الحكم بالمأمور به كالطهارة للصلاة او ارشاد الى مانعيّته

١١٤

الصيغة الثالثة : انّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب حكما شرعيا او موضوعا لحكم شرعي (١) ، وهذه الصيغة أضيق من كلتا الصيغتين السابقتين ، ومن هنا وقع الاشكال في كيفية جريان الاستصحاب على ضوء هذه الصيغة في متعلّق الامر قيدا وجزء ـ من قبيل استصحاب الطهارة (٢) ـ مع انّ قيد الواجب ليس حكما شرعيا ولا موضوعا يترتب عليه حكم شرعي ، لانّ الوجوب يترتب على موضوعه لا على متعلّقه.

وقد يدفع الاشكال (٣) بانّ ايجاد المتعلّق مسقط للامر فهو موضوع لعدمه فيجري استصحابه لاثبات عدم الامر وسقوطه.

وهذا الدفع بحاجة (٤) من ناحية الى توسعة المقصود من الحكم

__________________

(١) هذه مقالة صاحب الكفاية قالها في التنبيه العاشر من اواخر الاستصحاب.

(٢) أي كطهارة اللباس للصلاة ـ لا كطهارة الماء الموضوع لجواز شربه ـ فطهارة لباس المصلّي ما هي إلّا شرط في الصلاة ، لا انّها حكم شرعي كوجوب الصلاة ولا موضوع لحكم شرعي كطهارة الماء.

(٣) تقريب هذا الدّفع هو ان طهارة لباس المصلي هي موضوع لحكم شرعي ، وذلك لأنّ الاحكام الشرعية هي الاحكام المنجّزة والمعذّرة ، واستصحاب طهارة لباس المصلّي موضوع للمعذّرية.

(٤) بمعنى انّ هذا الدفع بحاجة من ناحية إلى توسعة المقصود من الحكم

__________________

فيه ، فلو قيل ((تطهّر للصلاة)) عرفنا شرطية الصلاة بالطهارة ، وان قيل ((لا تضحك في الصلاة)) عرفنا مانعيّتها من صحّة الصلاة ، فهي تشبه من هذه الناحية الاحكام الوضعية كالحكم بالطهارة والزوجية ، فانها ايضا ليست احكاما شرعية ، إن هي إلّا موضوعات لها لا أكثر.

١١٥

بجعله شاملا لعدم الحكم ايضا ، وبحاجة من ناحية اخرى إلى التسليم بانّ ايجاد المتعلّق مسقط لنفس الامر لا لفاعليّته [فقط] على ما تقدّم (*).

والاولى في دفع الإشكال رفض هذه الصيغة الثالثة إذ لا دليل عليها سوى أحد أمرين :

الأوّل : ان المستصحب إذا لم يكن حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي كان اجنبيّا عن الشارع ، فلا معنى للتعبّد به شرعا.

والجواب عن ذلك : ان التعبّد الشرعي معقول في كل مورد ينتهى فيه إلى التنجيز والتعذير ، وهذا لا يختصّ بما ذكر (١) فان التعبّد بوقوع

__________________

باعطائه المعنى السابق ، وهو ما يشمل الاحكام المنجّزة والمعذّرة الواقعية منها والظاهرية كالترخيص الظاهري (وهو مراده من عدم الحكم) ، وبحاجة من ناحية اخرى ـ فيما لو قلنا بكون طهارة لباس المصلّي موضوعا لحكم شرعي وهو سقوط وجوب الصلاة ـ إلى التسليم بانّ ايجاد الصلاة مسقط لاصل جعلها لا انّه يسقط فاعليّة الوجوب ومحرّكيّته فقط ، فعلى هذا المبنى تكون طهارة لباس المصلّي موضوعا لحكم شرعي (وهو المعذّرية وسقوط الامر بالصلاة).

(١) اي وانتهاء التعبد إلى التنجيز والتعذير غير منحصر بان يكون

__________________

(*) تقدّم الكلام في هذا الموضوع ، وقلنا ان المواضيع تختلف فمنها ما لا يسقط ملاكها وجعلها وفعليّتها بمجرد فعلها ككل أو جلّ العبادات وانما الذي يسقط بامتثالها فاعليّتها ، ولذلك لو اعاد الانسان صلاته جماعة تصحّ منه ، ومنها ما يسقط ملاكها وجعلها بمجرّد امتثالها وهي الاوامر التي ينتفي ملاكها بامتثالها كالامر باطعام الفقراء ، فان اشباعهم يسقط اصل الوجوب لا فقط فاعليته ، [فراجع ابحاث القدرة في الجزء الثالث]

١١٦

الامتثال او عدمه ينتهي إلى ذلك ايضا (١).

والثاني : ان مفاد دليل الاستصحاب هو جعل الحكم المماثل (٢)

__________________

المستصحب حكما شرعيا او موضوعا لحكم شرعي ، فقد يكون. كما قلنا. غير ذلك كأن يكون شرطا في متعلّق حكم كطهارة لباس المصلّي ورغم ذلك يؤدّي إلى التعذير.

(١) أي فاذا كانت حجّتك يا صاحب الكفاية أن يؤدي التعبّد ببقاء المستصحب الى التنجيز والتعذير فهذا لا يستدعي أن تحصر المستصحب بأن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، وانما يصحّ أيضا. بناء على كلامك. أن تقول بالمقالة الثانية أي أن يكون المستصحب كطهارة لباس المصلّي ونحو ذلك ، فانّ التعبّد بصحّة الصلاة يؤدي الى المعذّرية.

(٢) مرّ معنا شرح الحكم المماثل في مسألة «شبهة التضادّ ونقض الغرض» من الجزء الاوّل ، وعلى ايّ حال فهذا القول هو لصاحب الكفاية صرّح به في اوّل التنبيه السابع من الاستصحاب (مسألة الاصل المثبت) ، ومرادهم منه هنا هو ان الاستصحاب انما يستتبع أحكاما ظاهرية تماثل الاحكام السابقة ، لا انّها تنجّز وتعذّر فقط كالامارات ، فان وجب علينا الجلوس في المسجد لساعة مثلا وشككنا في انتهائها فاننا نستصحب عدم انتهائها ، بمعنى أنّ لا تنقض .. يفيدنا وجوب الجلوس الآن مثل الوجوب السابق المتيقن ، وكذا لو علمنا بعدالة زيد ثم شككنا في رفعها فان مفاد لا تنقض .. جعل مثل احكام العدالة السابقة ، فيجوز الائتمام به وقبول شهادته ، وعليه فبما انّ وظيفة الاستصحاب هي جعل احكام ظاهرية تماثل الاحكام السابقة فمن الضروري ان يكون المستصحب حكما شرعيا او موضوعا لحكم شرعي حتى يكون الحكم المماثل حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي.

١١٧

ظاهرا ، فلا بد ان يكون المستصحب حكما شرعيا او موضوعا لحكم شرعي ليمكن جعل الحكم المماثل على طبقه.

والجواب عن ذلك : انّه لا موجب لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب ، بل مفاده النهي عن نقض اليقين بالشك ، إمّا بمعنى النهي عن النقض العملي (١) بداعي تنجيز الحالة السابقة بقاء ، وإمّا بمعنى النهي عن النقض الحقيقي ارشادا إلى بقاء اليقين السابق او بقاء المتيقّن السابق ادّعاء ، وعلى كل حال فلا يلزم ان يكون المستصحب حكما او موضوعا لحكم ، بل ان يكون امرا قابلا للتنجيز والتعذير لكي

__________________

(١) ذكر هذا الجواب في تقريرات السيد الهاشمي ج ٦ أسفل ص ١٨٤ ـ ١٨٥ وص ٣٠٢ عند قوله «... بل ما ذكرناه من ظهور دليل الاستصحاب في النقض العملي ...».

ومراده (قدس‌سره) من هذا الجواب أن يقول انّه لا دليل على فهم جعل حكم ظاهري مماثل للحكم السابق من خلال أدلّة الاستصحاب ، اذ أن الاحتمالات أربعة كما ترى في المتن احداها جعل الحكم المماثل ، بل فهم جعل الحكم المماثل غير صحيح فيبقى ثلاثة احتمالات وهي : (امّا) بمعنى يحرم عليك عمليا نقض الحالة السابقة رغم انتقاض يقينك وجدانا بالشك (وامّا) انك متعبّد بالبقاء على الحالة السابقة بمعنى أن النهي هنا ارشادي بخلاف الاحتمال الاوّل فانه باق على معنى النهي التكليفي ، (واما) بمعنى تنزيل الحالة الفعلية المشكوكة الحكم منزلة الحالة السابقة المعلومة الحكم. فيكون الاستصحاب ح أصلا تنزيليا ، (وعلى أيّ من هذه الاحتمالات الاربعة) لا يلزم أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي.

١١٨

يتعلّق به التعبد على أحد هذه الانحاء (*).

__________________

(*) هنا كلمتان :

الاولى : ان المشرّع الحكيم حينما يتعبّدنا بأمر كالبناء على الحالة السابقة مثلا فانه يلزم ان يكون لنفس تعبّده اثر عملي وهو ـ كما قلنا سابقا ـ التنجيز والتعذير ، مما يعني ان الاثر العملي يلزم ان يترتب على نفس الاستصحاب ، وهو مفاد الصيغة الاولى.

الثانية : في الحقيقة لا يوجد فرق جوهري بين الصيغتين الاولتين.

أمّا ما ادّعاه السيد المصنف من فرق بين الاولى والثانية بانّه على الاولى يجري الاستصحاب حتّى وان ((اخذ القطع بموضوع خارجي لا حكم له تمام الموضوع لحكم شرعي)) ولا يجري هذا الاستصحاب بناء على الصيغة الثانية فهذا غير صحيح ، لأنّه حتّى على الصيغة الثانية يجري الاستصحاب لكون القطع بموضوع خارجي لا حكم له تمام الموضوع لحكم شرعي ، وهذا من ناحية موضوعيته لحكم شرعي يشبه العدالة ، فكما انّ العدالة تستصحب ويترتب عليها احكام شرعيّة فكذلك يمكن استصحاب بقاء زيد في البيت ليترتب الحكم الشرعي المذكور [وقد ذكرنا ان القطع هنا مأخوذ بنحو الطريقية ، فكأن موضوع الحكم هنا هو بقاء زيد ..]. [نعم] اذا اعتقدنا بأن القطع في مثال ((اذا قطعت ببقاء زيد في البيت فلا تترك البيت)) قطع صفتي ـ لا طريقي ـ صحّت التفرقة بين المسلكين ، ولكن بما أنه لا وجود للقطع الصفتي في الشريعة فلا يبقى للفرق بين المسلكين أثر عملي.

وأمّا بالنسبة إلى مقالة صاحب الكفاية فيمكن توجيهها ولو بتكلّف ـ وذلك لعلمنا باجراء الآخوند للاستصحاب في قيود المتعلقات ـ ، بيان توجيه كون طهارة لباس المصلّي ذا اثر شرعي [كما صرّح هو بهذا التعبير] ان المكلّف إذا اجرى استصحاب طهارته فانه سيترتّب عليه فراغ الذمّة ، والحكم بفراغ الذمّة وإن كان حكما عقليا إلّا انّه يصحّ نسبته إلى الشرع ايضا لكون المشرّع الحكيم رئيس العقلاء ، وكذا يمكن توجيه كون طهارة لباس المصلي موضوعا لحكم شرعي بتقريب انّ كل ما وقع بعد اداة الشرط في الحكم الشرعي

١١٩

__________________

يكون ـ ولو تسامحا ـ موضوعا للحكم الشرعي ، وهنا نقول : ((إذا صلّيت بثوب طاهر مع اتمام سائر الشرائط تفرغ ذمتك)) ، بتوجيه ان الحكم بفراغ الذمّة كما قلنا حكم عقلي وشرعي. وعلى ايّ حال فالاختلاف مقصور على الالفاظ ، وامّا عمليا فلا اختلاف بينهم ، فالامر اذن سهل.

١٢٠