تفسير البغوي - ج ٤

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٤

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٧

مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها إلى نسائه (١).

(قالَ) ، أي قال داود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ، أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه ، فإن قيل كيف قال لقد ظلمك ولم يكن سمع قول صاحبه؟ ـ قيل معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك ، وقيل : قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) ، الشركاء ، (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، يظلم بعضهم بعضا ، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، فإنهم لا يظلمون أحدا. (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ، أي قليل هم و «ما» صلة يعني الصالحين الذين لا يظلمون قليل ، قالوا : فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء ، فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه ، وذلك قوله : (وَظَنَّ داوُدُ) ، أيقن وعلم ، (أَنَّما فَتَنَّاهُ) ، إنما ابتليناه.

وقال السدي بإسناده : إن أحدهما لما قال : (إِنَّ هذا أَخِي) الآية قال داود للآخر : ما تقول؟ فقال : إن لي تسعا وتسعين نعجة ولأخي نعجة واحدة وأنا أريد أن آخذها منه فأكمل نعاجي مائة ، قال وهو كاره : إذا لا ندعك وإن رمت ذلك ضربت منك هذا وهذا ، وهذا يعني طرف الأنف وأصله والجبهة ، فقال : يا داود أنت أحق بذلك حيث لم يكن لأوريا إلّا امرأة واحدة ، ولك تسع وتسعون امرأة ، فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته ، فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه (٢).

وقال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة : إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالا له ، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه ، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك ، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله.

وقيل : كان ذنب داود أن أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها ، فلما غاب في غزاته خطبها داود فتزوجت منه لجلالته ، فاغتم (٣) لذلك أوريا فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امرأة.

[١٨٠٥] أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي قال : ومما يصدق ما ذكرنا عن المتقدمين ما أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أن المعافى بن زكريا القاضي ببغداد أخبره عن محمد بن جرير الطبري ، قال : حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي أنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر عن يزيد الرقاشي

__________________

[١٨٠٥] ـ موضوع. إسناده ضعيف جدا ، ابن لهيعة ضعيف الحديث ، وشيخه أبو صخر فيه ضعف ، ويزيد واه ، روى مناكير كثيرة ، وهذا أنكرها.

ـ ابن وهب هو عبد الله ، ابن لهيعة هو عبد الله أيضا ، أبو صخر هو حميد بن زياد.

ـ يزيد هو ابن أبان.

ـ وهو في «تفسير الطبري» ٢٩٨٥٩ عن يونس بهذا الإسناد.

ـ وهو حديث موضوع بلا ريب ، بل هو من الإسرائيليات ، وانظر «تفسير الشوكاني» ٢١٣٧ بتخريجي.

(١) هو من الإسرائيليات.

(٢) هو كسابقه.

(٣) في المطبوع «فاغتنم» والمثبت عن المخطوط.

٦١

عن أنس بن مالك رضي الله عنه سمعه يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن داود النبي حين نظر إلى المرأة فاهتم فقطع (١) على بني إسرائيل فأوصى صاحب البعث ، فقال : إذا حضر العدو فقرّب فلانا بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به وبمن قدم بين يدي التابوت ، لم (٢) يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ، ونزل الملكان يقصان عليه قصته ففطن داود فسجد ومكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه. وهو يقول في سجوده : ربّ زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب ، ربّ إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده ، فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال : يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به ، فقال داود : إن الرب قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة ، فقال : يا رب دمي الذي عند داود ، فقال جبريل : ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن ، قال : نعم فعرج جبريل وسجد داود ، فمكث ما شاء الله ثم نزل جبريل ، فقال : سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه ، فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة ، فيقول له هب لي دمك الذي عند داود فيقول : هو لك يا رب ، فيقول : فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا عنه».

وروي عن ابن عباس وعن كعب الأحبار ووهب بن منبه قالوا جميعا : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه فتحولا في صورتيهما فعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه ، وعلم داود أنه إنما عنيا به فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلّا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة ، ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب ، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عزوجل ، ويسأله التوبة ، وكان من دعائه في سجوده : سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء ، سبحان خالق النور ، سبحان الحائل بين القلوب ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خلقتني وكان من سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء ، فيقال هذا داود الخاطئ ، سبحان خالق النور إلهي بأي عين انظر إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي ، سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أقوم (٣) أمامك وأقوم بين يديك [يوم القيامة] يوم تزل (٤) أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النور إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلّا من عند سيده ، سبحان خالق النور إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك ، سبحان خالق النور إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق سوط جهنم ، سبحان خالق النور إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب ، سبحان خالق النور إلهي أنت (٥) تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري ، سبحان خالق النور إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواي ، سبحان خالق النور إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني ، سبحان خالق النور إلهي قد فررت (٦) إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ، ولا تخزني

__________________

(١) في المطبوع «فهمّ أن يجمع» والمثبت عن «ط» والمخطوط.

(٢) في المطبوع «فلم» والمثبت عن المخطوط و «تفسير الطبري».

(٣) في المطبوع «أمشي» والمثبت عن المخطوط.

(٤) في المخطوط (ب) «تزول».

(٥) في المطبوع «قد» والمثبت عن المخطوط.

(٦) هذه الروايات مصدرها كتب الأقدمين.

٦٢

يوم الدين ، سبحان خالق النور.

قال مجاهد : مكث أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه وغطى رأسه ، فنودي : يا داود أجائع فتطعم؟ أم (١) ظمآن فتسقى؟ أو عار فتكسى؟ فأجيب في غير ما طلب.

قال : فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر جوفه ، ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة (٢).

قال وهب : إن داود أتاه نداء : إني قد غفرت لك ، قال : يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا؟ قال : اذهب إلى قبر أوريا فناده ، فأنا أسمعه نداءك فتحلل منه ، قال : فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ، ثم نادى يا أوريا ، فقال : لبيك من هذا الذي قطع علي (٣) لذتي وأيقظني؟ قال : أنا داود ، قال : ما جاء بك يا نبي الله؟ قال : [جئت](٤) أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك ، قال : وما كان منك إليّ؟ قال : عرضتك للقتل ، قال : قد عرضتني للجنة فأنت في حل ، فأوحى الله إليه : يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالعنت (٥) ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته ، قال : فرجع إليه فناداه فأجابه فقال من هذا الذي قطع عليّ (٦) لذتي؟ قال : أنا داود ، قال : يا نبي الله أليس قد عفوت عنك؟ قال : نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها ، قال : فسكت فلم يجبه ودعاه فلم يجبه وعاوده فلم يجبه ، فقام [عند](٧) قبره وجعل يحثو التراب على رأسه ، ثم نادى الويل لداود ثم الويل لداود ثم الويل الطويل لداود ، سبحان خالق النور ، والويل لداود [ثم الويل له](٨) إذا نصب الميزان (٩) بالقسط ، سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل لداود (١٠) حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم ، سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل له (١١) حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار ، سبحان خالق النور ، فأتاه نداء من السماء : يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك ، قال : يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني؟ قال : يا داود أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه ، فأقول له : رضيت عن عبدي داود؟ فيقول : يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول : هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي ، قال : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي (١٢). فذلك قوله : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً) ، أي ساجدا ، عبّر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء ، قال الحسين بن الفضل : سألني عبد الله بن طاهر عن قوله : (وَخَرَّ راكِعاً) هل يقال للراكع خر؟ قلت : لا ومعناه فخر (١٣) بعد ما كان راكعا أي : سجد (١٤). (وَأَنابَ) ، أي رجع وتاب.

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) ، يعني ذلك الذنب ، (وَإِنَّ لَهُ) ، بعد المغفرة ، (عِنْدَنا) ، يوم القيامة ، (لَزُلْفى) ، لقربة ومكانة ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) ، أي حسن مرجع ومنقلب. وقال وهب بن منبه : إن داود لما تاب الله

__________________

(١) في المطبوع «أو» والمثبت عن المخطوط.

(٢) هذه الآثار من الإسرائيليات.

(٣) في المطبوع «عني» والمثبت عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) في المطبوع «بالغيب» والمثبت عن المخطوط ، و «ط».

(٦) في المطبوع «عني».

(٧) في المطبوع «عن» والمثبت عن المخطوط.

(٨) زيادة عن المخطوط.

(٩) في المخطوط «نصبت الموازين».

(١٠) في المخطوط «لداود».

(١١) في المطبوع «له».

(١٢) لو لم يذكر المصنف هذه الآثار لكان أولى ، وقد أطال في ذلك رحمه‌الله؟!

(١٣) في المطبوع «خر» والمثبت عن «ط» والمخطوط.

(١٤) في المطبوع «ساجدا» والمثبت عن «ط» والمخطوط.

٦٣

عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا ، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام : يوم للقضاء في (١) بني إسرائيل ويوم لنسائه ويوم يسبّح في الفيافي والجبال والسواحل ، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب ، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ، فيساعدونه على ذلك ، فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه الشجر والرمال والطير والوحوش (٢) حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي (٣) معه الجبال والحجارة والدواب والطير ، حتى تسيل من بكائهم الأودية ، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء والسباع ، فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه أن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده ، فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط له ثلاث فرش مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون (٤) في تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه ، ويرفع الرهبان معه (٥) أصواتهم فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش من دموعه ، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب ، فيجيء ابنه سليمان فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ، ثم يمسح بها وجهه ، ويقول : يا رب اغفر لي ما ترى ، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله (٦).

قال وهب : ما رفع داود رأسه حتى قال له الملك أول أمرك ذنب (٧) وآخره مغفرة ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماء إلّا مزجه بدموعه ، ولا يأكل طعاما إلّا بله بدموعه.

[١٨٠٦] وذكر الأوزاعي مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مثل عيني داود كقربتين (٨) تنطفان ماء ، ولقد خدت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض».

قال وهب : لما تاب الله على داود قال : يا رب غفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة؟ قال : فوسم الله خطيئته في يده اليمنى فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلّا بكى إذا رآها ، وما قام (٩) خطيبا في الناس إلّا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا وسم خطيئته ، وكان يبدأ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه.

وقال قتادة عن الحسن : كان داود بعد الخطيئة لا يجالس إلّا الخاطئين ، يقول : تعالوا إلى داود الخاطئ فلا يشرب شرابا إلّا مزجه بدموع عينيه وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة (١٠) فلا يزال يبكي عليه حتى يبتل بدموع عينيه ، وكان يذر عليه الملح [والتراب](١١) والرماد فيأكل ويقول هذا أكل

__________________

[١٨٠٦] ـ باطل. أخرجه ابن أبي الدنيا في «الرقة والبكاء» ٣٤٠ قال : حدثني إسحاق ، قال حدثني صاحب لنا ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وهذا إسناد ساقط ، وله علتان : فهو معضل ، وفيه من لم يسم ، والأشبه أنه من الإسرائيليات.

(١) في المطبوع «بين» والمثبت عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «الوحش» والمثبت عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «يبكي» والمثبت عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «فيجلس» والمثبت عن المخطوط و «ط».

(٥) في المطبوع «مع» والمثبت عن المخطوط و «ط».

(٦) هذا الأثر وأشباهه من ترّهات الإسرائيليين وأساطيرهم.

(٧) في المطبوع «تب» والمثبت عن «ط» والمخطوط.

(٨) في المخطوط «كعريش».

(٩) في المطبوع «كان» والمثبت عن المخطوط و «ط».

(١٠) في المخطوط «قصعته».

(١١) زيادة عن المخطوط.

٦٤

الخاطئين.

قال : وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر ، فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله وقام الليل كله.

وقال ثابت : كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله فلا يشدها إلّا الأسر ، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت.

وفي القصة : أن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي إلى قراءته.

فروي أنها قالت : يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك (١).

[١٨٠٧] وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا سليمان بن حرب وأبو النعمان قالا ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سجدة ص ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد فيها.

[١٨٠٨] وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن عبد الله ثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال : سألت ابن عباس من أين سجدت؟ قال : أوما تقرأ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ، إلى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٨٤ ـ ٩٠] ، وكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

[١٨٠٧] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو النعمان هو محمد بن الفضل ، أيوب هو ابن أبي تميمة ، عكرمة هو أبو عبد الله مولى ابن عباس.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ١٠٦٩ عن سليمان بن حرب وأبي النعمان بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الترمذي ٥٧٧ والبغوي في «شرح السنة» ٧٦٧ من طريق ابن أبي عمر عن سفيان عن أيوب به.

ـ وأخرجه ابن خزيمة ٥٥٠ والطحاوي في «المشكل» ٢٨٠٤ من طريقين عن أيوب به.

[١٨٠٨] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري.

ـ محمد بن عبد الله ، قال الكلاباذي وابن طاهر : هو الذهلي نسب إلى جده ، وقال غيرهما : يحتمل أن يكون محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي فإنه من هذه الطبقة ، قاله الحافظ في «فتح الباري» ٨ / ٥٤٤ فالله أعلم. العوام هو ابن حوشب ، مجاهد هو ابن جبر.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٨٠٧ عن محمد بن عبد الله بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٣٤٢١ و ٤٨٠٦ وابن خزيمة ٥٥٢ وابن حبان ٢٧٦٦ من طرق عن العوام بن حوشب به.

ـ وأخرجه البخاري ٤٦٣٢ من طريق سليمان الأحول عن مجاهد به مختصرا.

ـ وأخرجه النسائي ٢ / ١٥٩ والدار قطني ١ / ٤٠٧ من طريقين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في «ص» وقال : سجدها داود توبة ، وتسجدها شكرا».

(١) في المخطوط «قراءتك».

٦٥

[١٨٠٩] أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي (١) ثنا أبو عيسى الترمذي ثنا قتيبة [ثنا](٢) محمد بن يزيد بن خنيس ثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا رسول الله إنّي رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت فسجدت الشجرة بسجودي ، فسمعتها [وهي] تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع (٣) عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود».

قال الحسن : قال ابن جريج : قال لي جدك : قال ابن عباس : فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجدة ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة.

قوله عزوجل : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) تدبر أمور العباد بأمرنا ، (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) ، بالعدل ، (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) ، أي بأن تركوا الإيمان بيوم الحساب. وقال الزجاج : بتركهم العمل لذلك اليوم. وقال عكرمة والسدي : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا ، أي تركوا القضاء بالعدل.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨))

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) ، قال ابن عباس : لا لثواب ولا لعقاب. (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء ، وأنه لا بعث ولا حساب. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) ، قال مقاتل : قال كفار قريش

__________________

[١٨٠٩] ـ إسناده ضعيف ؛ مداره على الحسن بن محمد بن عبيد الله ، وهو مجهول ، قال العقيلي : لا يتابع على حديثه ، ولا يعرف إلّا به ، وقال الذهبي في «الميزان» : فيه جهالة ، ما روى عنه سوى ابن خنيس ، وقال في «المغني» غير معروف ، وقال في «الكشاف» : غير حجة. وضعف الترمذي حديثه بقوله : غريب.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٧٢ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «سنن الترمذي» ٥٧٩ و ٣٤٢٤ عن قتيبة بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه ابن ماجه ١٠٥٣ والحاكم ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠ وابن حبان ٢٧٦٨ والعقيلي في «الضعفاء» ١ / ٢٤٣ والمزي في «تهذيب الكمال» ٦ / ٣١٤ وابن كثير في «التفسير» ٤ / ٣٩ من طريق محمد بن يزيد بن خنيس به.

ـ وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه ، وهذا توهين منه للحديث حيث استغربه ، ولم يصححه ، وهو كما قال ، وضعفه أيضا شعيب الأرناءوط في «الإحسان» ٦ / ٤٧٤ في حين أورده الألباني في «الصحيحة» ٢٧١٠.

(١) في المطبوع «المحوبي» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة».

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) في المطبوع «وحط» والمثبت عن المخطوط ، و «شرح السنة».

٦٦

للمؤمنين : إنا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون (١) ، فنزلت هذه الآية : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ، أي المؤمنين كالكفار. وقيل : أراد بالمتقين أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا نجعل ذلك.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢))

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) ، أي هذا الكتاب أنزلناه إليك ، (مُبارَكٌ) ، كثير خيره ونفعه ، (لِيَدَّبَّرُوا) ، أي ليتدبروا ، (آياتِهِ) ، وليتفكروا فيها ، وقرأ أبو جعفر لتدبروا بتاء واحدة وتخفيف الدال ، قال الحسن : تدبر آياته اتباعه ، (وَلِيَتَذَكَّرَ) ، ليتعظ ، (أُولُوا الْأَلْبابِ).

قوله عزوجل : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٣١).

قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين ، فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل : ورث من أبيه داود ألف فرس. وقال عوف عن الحسن : بلغني أنها كانت خيلا أخرجت (٢) من البحر لها أجنحة.

قالوا : فصلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرضت عليه تسعمائة فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك [هيبة له](٣) فاغتم لذلك هيبة لله ، فقال : ردّوها عليّ فردوها عليه ، فأقبل يضرب سوقها وأعناقها (٤) بالسيف تقربا إلى الله عزوجل وطلبا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعته ، وكان ذلك مباحا له وإن كان حراما علينا كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام وبقي منها مائة فرس ، فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل يقال من نسل تلك المائة.

قال الحسن : فلما عقر الخيل أبدله الله خيرا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء ، وقال إبراهيم التيمي : كانت عشرين فرسا. وعن عكرمة : كانت عشرين ألف فرس ، لها أجنحة.

قال الله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٣١) ، والصافنات هي الخيل القائمة على ثلاث قوائم وأقامت واحدة على طرف الحافر من يد أو رجل ، يقال : صفن الفرس يصفن صفونا إذا قام على ثلاث قوائم ، وقلب أحد حوافره.

وقيل : الصافن في اللغة القائم.

[١٨١٠] وجاء (٥) في الحديث : «من سرّه أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار». أي قياما ،

__________________

[١٨١٠] ـ لا أصل له بلفظ «صفونا» وإنما هو من تصرف بعض الرواة أو أهل اللغة. وهو عند أبي داود ٥٢٢٩ ، والترمذي ٥٧٥٦ وأحمد ٤ / ٩١ ـ ٩٤ من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ : «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما ، فليتبوّأ مقعده من النار» هذا هو الصحيح الوارد في هذا المتن.

ـ وإسناده جيد ، وصححه المنذري في «الترغيب» ٣ / ٤٣١.

ـ وفي الباب من حديث أبي أمامة أخرجه أبو داود ٥٢٣٠ ، وأحمد ٥ / ٢٥٣ وحسنه المنذري في «ترغيبه» ٣ / ٤٣١.

(١) في المخطوط (أ) «ما لا تعطون» ، والمثبت عن «ط» والمخطوط (ب)

(٢) في المخطوط «خرجت» والمعنى واحد.

(٣) زيادة عن المخطوط (أ) و (ب)

(٤) في المخطوط (ب) «أعقابها».

(٥) في المطبوع «وقال» والمثبت عن «ط» والمخطوط.

٦٧

والجياد الخيار السراع ، واحدها جواد. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد الخيل السوابق.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) ، أي آثرت حب الخير [عن ذكر ربي](١) وأراد بالخير : الخيل ، والعرب تعاقب بين الراء واللام ، فتقول : ختلت الرجل وخترته ، أي : خدعته ، وسميت الخيل خيرا لأنه معقود بنواصيها الخير ، الأجر والمغنم ، قال مقاتل : يعني المال فهي الخيل التي عرضت عليه. (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) ، يعني عن الصلاة وهي صلاة العصر. (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ، أي توارت الشمس بالحجاب أي استترت بما يحجبها عن الأبصار ، يقال : الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة والشمس تغرب من ورائه.

(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤))

(رُدُّوها عَلَيَ) ، أي ردوا الخيل (٢) عليّ فردوها ، (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) ، قال أبو عبيدة : طفق يفعل مثل ما زال يفعل ، والمراد بالمسح القطع ، فجعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل وأكثر المفسرين ، وكان ذلك مباحا له لأن نبي الله لم يكن يقدم على محرم ، ولم يكن يتوب عن ذنب بذنب آخر.

وقال محمد بن إسحاق : لم يعنّفه (٣) الله على عقر الخيل إذ كان ذلك أسفا على ما فاته من فريضة ربّه عزوجل. وقال بعضهم : إنه ذبحها ذبحا وتصدق بلحومها ، وكان الذبح على ذلك الوجه مباحا في شريعته.

وقال قومه : معناه أنه حبسها في سبيل الله وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة. وقال الزهري وابن كيسان : إنه كان يمسح سوقها وأعناقها بيده يكشف الغبار عنها حبا لها وشفقة عليها ، وهذا قول ضعيف ، والمشهور هو الأول.

وحكي عن علي أنه قال في معنى قوله : (رُدُّوها عَلَيَ) يقول سليمان بأمر الله عزوجل للملائكة الموكلين بالشمس (رُدُّوها عَلَيَ) يعني الشمس ، فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها ، وذلك أنه كان يعرض عليه الخيل لجهاد عدو حتى توارت بالحجاب.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) ، اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه.

وكان سبب ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال : سمع سليمان عليه‌السلام بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون (٤) بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيلا لمكانه [في البحر](٥) ، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر ، إنما يركب إليه الريح ، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء. حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس ، فقتل

__________________

ـ وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٩١ عن الحديث المذكور : ولم أجده هكذا ، وفي غريب الحديث لأبي عبيد من حديث البراء رضي الله عنه «كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع رأسه قمنا معه صفونا».

قلت : هو في «الغريب» ١ / ٣٧٩ بدون إسناد.

(١) زيادة عن المخطوط (أ)

(٢) في المطبوع «الجبل» والمثبت عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «يعتقه» والمثبت عن «ط» والمخطوط.

(٤) في المخطوط «صفدون».

(٥) زيادة عن المخطوط (أ)

٦٨

ملكها وسبى ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك ، يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنا وجمالا ، فاصطفاها لنفسه ، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه ، وأحبها حبا لم يحبه شيء من نسائه ، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها ، فشق ذلك على سليمان فقال لها : ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب ، والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت : إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك.

قال سليمان : فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا هو أعظم من سلطانه ، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله ، قالت : إن ذلك كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن ، فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني ، وأن يسليني عن بعض ما أجد في نفسي. فأمر سليمان الشياطين ، فقال : مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلّا أنه لا روح فيه ، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس ، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له كما كانت تصنع به في ملكه ، وتروح كل عشية بمثل ذلك وكان سليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا ، وبلغ ذلك آصف بن برخيا ، وكان صديقا وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته حاضرا كان سليمان أو غائبا ، فأتاه فقال : يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب فقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم ، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم ، فقال : افعل ، فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى ، فأثنى على كل نبي ما فيه فذكر ما فضله الله حتى انتهى إلى سليمان ، فقال : ما أحكمك في صغرك وأورعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك من كل ما تكره في صغرك ، ثم انصرف ، فوجد سليمان عليه‌السلام في نفسه من ذلك حتى ملأه غضبا [وغيظا](١) فلما دخل سليمان داره أرسل إليه.

فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله ، فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم ، فلمّا ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري ، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري؟ فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ فقال : إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة ، فقال : في داري؟ فقال : في دارك ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت ذلك إلّا عن شيء بلغك ، ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم ، وعاقب تلك المرأة وولائدها.

ثم أمر بثياب الظهيرة فأتى بها وهي ثياب لا تغزلها إلّا الأبكار ولا تنسجها إلّا الأبكار ولا تغسلها إلا الأبكار لم تمسسها امرأة قد رأت الدم ، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده فأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائبا إلى الله عزوجل ، حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله تعالى ، وتضرعا إليه يبكي ويدعو ، ويستغفر مما كان في داره.

فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ، ثم رجع إلى داره ، وكانت له أم ولد يقال لها الأمينة ، وكان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر ، وكان لا يمس خاتمه إلّا وهو

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

٦٩

طاهر ، وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوما عندها ، ثم دخل مذهبه فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا ، فقال : خاتمي [يا](١) أمينة فناولته إياه ، فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد غيرت حاله (٢) وهيئته عند كل من رآه.

فقال : يا أمينة خاتمي ، قالت : من أنت؟ قال : أنا سليمان بن داود ، قالت : كذبت فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه ، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته ، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويسبونه ، ويقولون : انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان ، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر ، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها ، فمكث بذلك أربعين صباحا عدة ما كان عبد الوثن في داره.

فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين ، فقال آصف : يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا : نعم ، قال : أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن فهل أنكرتن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته ، فدخل على نسائه ، فقال : ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن أشده ما يدع منا امرأة في دمها ولا يغتسل من الجنابة ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ، ثم خرج على بني إسرائيل فقال : ما في الخاصة أعظم مما في العامة ، فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه ، ثم مرّ بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين ، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه وأعطاه السمكة التي أخذت الخاتم ، فخرج سليمان بسمكتيه ، فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها ، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجدا ، وعكفت عليه الطير والجن وأقبل عليه الناس ، وعرف الذي كان قد دخل عليه لما كان قد أحدث في داره ، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه ، وأمر الشياطين فقال : ائتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته فأتي به وجاءوا له بصخرة فنقرها فأدخله فيها ثم شدّ عليه بأخرى ، ثم أوثقهما بالحديد والرصاص ، ثم أمر به فقذف في البحر. هذا حديث وهب (٣).

وقال الحسن : ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه.

وقال السدي : كان سبب فتنة (٤) سليمان أنه كان له مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة هي آثر نسائه وآمنهن عنده ، وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته ، فقالت له يوما : إن أخي كان بينه وبين فلان خصومة وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك ، فقال : نعم ، ولم يفعل فابتلي بقوله لزوجته نعم.

فأعطاها خاتمه ودخل المخرج فجاء الشيطان في صورته فأخذه وجلس على مجلس سليمان ، وخرج

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المخطوط «حالته».

(٣) هذا الأثر من إسرائيليات وهب بن منبه ، فقد روى الكثير عن الإسرائيليين ، وأنكر ما فيه إصابة الشيطان لنساء سليمان ، فمثل هذا الباطل لا يحتمل ، ولو لم يذكره المصنف رحمه‌الله لكان أولى.

(٤) في المطبوع «قصة» والمثبت عن المخطوط و «ط».

٧٠

سليمان فسألها خاتمه فقالت : ألم تأخذه؟ قال : لا ، وخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما ، فأنكر الناس حكمه ، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه. فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا ، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا حتى أحدقوا به ونشروا التوراة فقرءوها فطار من بين أيديهم ، حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر ، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت ، وأقبل سليمان حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع قد اشتد جوعه ، فاستطعمه من صيده ، وقال : إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه ، فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه وأعطوه سمكتين مما قد مذر (١) عندهم ، فشق بطونهما وجعل يغسلهما ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما ، فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه ، وحامت عليه الطير فعرف القوم أنه سليمان ، فقاموا يعتذرون مما صنعوا.

فقال : ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم ، هذا أمر كائن لا بد منه ، فلما أتى مملكته أمر جنيا أتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ، وأمر به فألقي في البحر وهو حي كذلك حتى تقوم الساعة.

وفي بعض الروايات : أن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه فأعاده سليمان إلى يده فسقط فأيقن سليمان بالفتنة ، فأتى آصف فقال لسليمان إنك مفتون بذنبك ، والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما ، ففرّ إلى الله تائبا وإني أقوم مقامك وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك ، ففرّ سليمان هاربا إلى ربه وأخذ آصف الخاتم ، فوضعه في إصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال الله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) فأقام آصف في ملكه يسير بسيرته أربعة عشر يوما إلى أن ردّ الله على سليمان ملكه ، فجلس على كرسيه وأعاد الخاتم في يده فثبت.

وروي عن سعيد بن المسيب قال : احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه : احتجبت عن الناس ثلاثة أيام؟ فلم تنظر في أمور عبادي؟ فابتلاه الله عزوجل. وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما روينا.

وقيل : قال سليمان يوما لأطوفن الليلة على نسائي كلهن فتأتي كل واحدة بابن يجاهد في سبيل الله ولم يستثن فجامعهن فما خرج له منهن إلّا شق مولود فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه ، فذلك قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً).

[١٨١١] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا

__________________

[١٨١١] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو اليمان هو الحكم بن نافع ، شعيب هو ابن دينار ، أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان ، الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٨ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٦٦٣٩ عن أبي اليمان بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٣٤٢٤ و ٦٧٢٠ ومسلم ١٦٥٤ ح ٢٥ والنسائي ٧ / ٢٥ والحميدي ١١٧٤ وأبو يعلى ٦٣٤٧ والبيهقي ١٠ / ٤٤ من طرق عن أبي الزناد به.

ـ وأخرجه البخاري ٥٢٤٢ و ٦٧٢٠ ومسلم ١٦٥٤ ح ٢٣ و ٢٤ والنسائي ٧ / ٣١ وأحمد ٢ / ٢٧٥ وأبو يعلى ٦٢٤٤ من

(١) في المطبوع «مما قدر عندهم» والمثبت عن «ط» والمخطوط (ب) وفي المخطوط (أ) «مما صدر عندهم».

٧١

محمد بن إسماعيل ثنا أبو اليمان أنا شعيب ثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال سليمان لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل [إن شاء الله](١) ونسي ، فطاف عليهن [جميعا](٢) فلم تحمل منهن إلّا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل ، وايم الله الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».

وقال طاوس عن أبي هريرة : [قال سليمان](٣) لأطوفنّ الليلة بمائة امرأة ، قال له الملك : قل إن شاء الله ، فلم يقل ونسي. وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني ، فذلك قوله عزوجل : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) ، أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما فلما رجع.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (٣٥) ، قال مقاتل وابن كيسان : لا يكون لأحد من بعدي ، قال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكا لا تسلبنيه في باقي (٤) عمري ، وتعطيه غيري كما استلبته في ما مضى من عمري. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، قيل : سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالة على رسالته ، ومعجزة ، وقيل : سأل ذلك ليكون علما على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد إليه ملكه ، وزاده فيه. وقال مقاتل بن حيان : كان لسليمان ملكا ولكنه أراد بقوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) تسخير الرياح والطير والشياطين ، بدليل ما بعده.

[١٨١٢] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل [حدثنا محمد] بن بشار ثنا محمد بن جعفر (٥) حدثنا شعبة عن محمد بن زياد (٦) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، فرددته خاسئا».

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)

__________________

طريقين عن طاوس عن أبي هريرة به.

ـ وأخرجه البخاري ٧٤٦٩ ومسلم ١٦٥٤ من طريق أيوب عن محمد عن أبي هريرة به.

[١٨١٢] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٤٧ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٣٤٢٣ عن محمد بن بشار بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه النسائي في «التفسير» ٤٦٠ عن محمد بن بشار به.

ـ وأخرجه البخاري ٤٦١ و ١٢١٠ و ٣٢٨٤ و ٤٨٠٨ ومسلم ٥٤١ وأحمد ٢ / ٢٩٨ وابن حبان ٦٤١٩ والبيهقي ٢ / ٢١٩ من طرق عن شعبة به.

ـ وأخرجه ابن حبان ٢٣٤٩ من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «آخر» والمثبت عن المخطوط.

(٥) سقط من المطبوع.

(٦) في المطبوع «زياد» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة».

٧٢

هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢))

قوله عزوجل : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) ، لينة ليست بعاصفة ، (حَيْثُ أَصابَ) ، حيث أراد ، تقول العرب : أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، تريد أراد الصواب.

(وَالشَّياطِينَ) ، أي سخرنا له الشياطين ، (كُلَّ بَنَّاءٍ) ، يبنون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، (وَغَوَّاصٍ) ، يستخرجون له اللآلئ من البحر ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.

(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨) ، مشدودين في القيود ، أي وسخرنا له آخرين يعني مردة الشياطين سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد.

(هذا عَطاؤُنا) ، أي قلنا له هذا عطاؤنا ، (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) ، المن هو الإحسان إلى من تشيئه ومن لا تشيئه ، معناه : أعط من شئت وأمسك عمن شئت ، (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت. قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلّا عليه تبعة ، إلا سليمان فإنه إن أعطى أجر ، وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين ، يعني : خلّ من شئت منهم وأمسك من شئت في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

قوله عزوجل : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ) ، بمشقة وضر ، قرأ أبو جعفر (بِنُصْبٍ) بضم النون والصاد ، وقرأ يعقوب بفتحهما ، وقرأ الآخرون بضم النون وسكون الصاد ، ومعنى الكل واحد. قال قتادة ومقاتل : بنصب بفتحهما ، وقرأ الآخرون بضم النون وسكون الصاد ، ومعنى الكل واحد. قال قتادة ومقاتل : بنصب في الجسد ، (وَعَذابٍ) ، في المال وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة ابتلائه في سورة الأنبياء عليهم‌السلام.

فلما انقضت مدة بلائه قيل له : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) ، اضرب برجلك الأرض ففعل فنبعت عين ماء ، (هذا مُغْتَسَلٌ) ، فأمره الله أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ، ثم مشى أربعين خطوة فركض الأرض برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذب بارد ، فشرب منه فذهب كل داء كان بباطنه ، فقوله : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ) ، يعني الذي اغتسل منه بارد ، (وَشَرابٌ) أراد الذي شرب منه.

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢))

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) (٤٣) ، وهو ملء الكف من الشجر أو الحشيش ، (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) ، في يمينك وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط فأمره الله أن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغار ويضربها به ضربة واحدة ، (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

٧٣

(وَاذْكُرْ عِبادَنا) ، قرأ ابن كثير عبدنا على التوحيد ، وقرأ الآخرون (عِبادَنا) بالجمع ، (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي) ، قال ابن عباس : أولي القوة في طاعة الله ، (وَالْأَبْصارِ) في المعرفة بالله أي البصائر في الدين ، قال قتادة ومجاهد : أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين.

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) ، اصطفيناهم ، (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [و] قرأ أهل المدينة (بِخالِصَةٍ) مضافا ، وقرأ الآخرون بالتنوين ، فمن أضاف فمعناه : أخلصناهم بذكر (١) الدار الآخرة وأن يعملوا لها ، والذكرى بمعنى الذكر.

قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حبّ الدنيا وذكرها ، وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها.

وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عزوجل.

وقال السدي : أخلصوا بخوف الآخرة.

وقيل : معناه أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة.

قال ابن زيد ومن قرأ بالتنوين : فمعناه بخلة خالصة ، وهي ذكرى الدار ، فيكون ذكرى الدار بدلا عن الخالصة. وقيل : أخلصناهم جعلناهم مخلصين ، بما أخبرنا عنهم من ذكر الآخرة.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ هذا ذِكْرٌ) (٤٨) ، أي هذا الذي تلي (٢) عليكم ذكر وقيل : ذكر أي : شرف وذكر جميل تذكرون به (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ).

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (٥٠) ، أي أبوابها مفتحة لهم.

(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) (٥٢) ، مستويات الأسنان ، بنات ثلاث وثلاثين سنة ، واحدها ترب.

وعن مجاهد قال : متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠))

(هذا ما تُوعَدُونَ) ، قرأ ابن كثير يوعدون بالياء هاهنا وفي ق [٣٢] أي : ما يوعد المتقون ، وافق أبو عمرو هاهنا وقرأ الباقون بالتاء فيهما ، أي قل للمؤمنين : هذا ما توعدون ، (لِيَوْمِ الْحِسابِ) ، أي في يوم الحساب.

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤) ، فناء وانقطاع.

(هذا) أي الأمر هذا (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) ، للكافرين ، (لَشَرَّ مَآبٍ) ، مرجع.

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) ، يدخلونها ، (فَبِئْسَ الْمِهادُ).

(هذا) أي هذا العذاب ، (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) ، قال الفراء : أي هذا حميم وغساق فليذوقوه ، والحميم الماء الحار الذي انتهى حره (وَغَسَّاقٌ) ، قرأ حمزة والكسائي وحفص (وَغَسَّاقٌ) حيث كان

__________________

(١) في المخطوط (ب) «بذكرى» والمثبت عن المطبوع والمخطوط (أ)

(٢) في المطبوع «يتلى» والمثبت عن المخطوط.

٧٤

بالتشديد ، وخففها الآخرون ، فمن شدد جعله اسما على فعال نحو الخباز والطباخ ، ومن خفف جعله اسما على فعال نحو العذاب.

واختلفوا في معنى الغساق ، قال ابن عباس : هو الزمهرير يحرقهم ببرده ، كما تحرقهم النار بحرّها. وقال مقاتل ومجاهد : هو الذي انتهى برده. وقيل : هو المنتن بلغة الترك. وقال قتادة : هو ما يغسق أي ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة ، من قولهم غسقت عينه إذا انصبت ، والغسقان (١) الانصباب.

(وَآخَرُ) ، قرأ أهل البصرة أخر بضم الألف على جمع أخرى ، مثل الكبرى والكبر ، واختاره أبو عبيدة لأنه نعته بالجمع ، فقال : أزواج ، وقرأ الآخرون (٢) بفتح الهمزة مشبعة على الواحد. (مِنْ شَكْلِهِ). مثله أي مثل الحميم والغساق ، (أَزْواجٌ) ، أي أصناف أخر من العذاب.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) ، قال ابن عباس : هذا هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة (٣) : هذا يعني الأتباع فوج جماعة مقتحم معكم النار ، أي داخلوها كما أنتم دخلتموها ، والفوج القطيع من الناس وجمعه أفواج ، والاقتحام الدخول في الشيء رميا بنفسه فيه ، قال الكلبي : إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار خوفا من تلك المقامع ، فقالت القادة : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) ، يعني بالأتباع ، (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) ، أي داخلوها كما صلينا.

(قالُوا) ، فقال الأتباع للقادة ، (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) ، والمرحب والرحب السعة ، تقول العرب : مرحبا وأهلا وسهلا أي أتيت رحبا وسعة ، وتقول : لا مرحبا بك أي لا رحبت عليك الأرض. (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) ، يقول الأتباع للقادة : أنتم بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتم وسننتموه لنا ، وقيل : أنتم قدمتم هذا العذاب لنا بدعائكم إيانا إلى الكفر ، (فَبِئْسَ الْقَرارُ) ، أي فبئس دار القرار جهنم.

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧))

(قالُوا) ، يعني الأتباع ، (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) ، أي شرعه وسنه لنا ، (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) ، أي ضعّف عليه العذاب في النار. قال ابن مسعود : يعني حيات وأفاعي.

(وَقالُوا) ، يعني صناديد قريش وهم في النار ، (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ) ، في الدنيا ، (مِنَ الْأَشْرارِ) ، يعنون فقراء المؤمنين : عمارا وخبابا وصهيبا وبلالا وسلمان رضي الله عنهم ، ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء ، فقالوا :

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) ، قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي : (مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ) وصل ، ويكسرون الألف عند الابتداء ، وقرأ الآخرون بقطع الألف وفتحها على الاستفهام ، قال أهل المعاني : القراءة الأولى أولى لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخريا فلا يستقيم الاستفهام ، وتكون أم على هذه القراءة بمعنى بل ، ومن فتح الألف قال هو على اللفظ لا على المعنى ليعادل أم في قوله : (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) ، قال الفراء :

__________________

(١) في المخطوط (ب) «الغساق» والمثبت عن «ط» والمخطوط (أ)

(٢) في المخطوط «الباقون» والمعنى واحد.

(٣) في المطبوع «للكفار» والمثبت عن المخطوط.

٧٥

هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب ، (أَمْ زاغَتْ) ، أي مالت ، (عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) ، ومجاز الآية : ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا لم يدخلوا معنا النار؟ أم دخلوها فزاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم حين دخلوا؟ وقيل : أم هم في النار لكن احتجبوا عن أبصارنا؟ وقال ابن كيسان : يعني أم كانوا خيرا منا ولكن نحن لا نعلم ، وكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئا.

(إِنَّ ذلِكَ) ، الذي ذكرت ، (لَحَقٌ) ثم بين فقال ، (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ، أي تخاصم أهل النار في النار لحقّ.

(قُلْ) ، يا محمد لمشركي مكة ، (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) ، مخوف ، (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٦٦).

قوله : (قُلْ) ، يا محمد ، (هُوَ) ، يعني القرآن ، (نَبَأٌ عَظِيمٌ) ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقيل : هو يعني القيامة كقوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٢) [النبأ : ١ ـ ٢].

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥))

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) (٦٨) ، يعني الملائكة ، (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يعني في شأن آدم عليه‌السلام ، حين قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠].

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧٠) ، قال الفراء : إن شئت جعلت (أَنَّما) في موضع رفع أي ما يوحي إلي إلّا الإنذار ، وإن شئت جعلت المعنى : ما يوحى إليّ إلّا أني نذير مبين. وقرأ أبو جعفر : إنما بكسر الألف ، لأن الوحي قول.

[١٨١٣] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو منصور السمعاني ثنا أبو جعفر الرياني ثنا حميد بن زنجويه ثنا هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال مر بنا خالد بن اللجلاج (١)

__________________

[١٨١٣] ـ صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

ـ رجاله ثقات معروفون ، لكن عبد الرحمن بن عائش مختلف في صحبته ، والراجح أنه تابعي ، وقد نفى البخاري صحبته. ويدل عليه كونه رواه بواسطة عن معاذ كما سيأتي ، فالإسناد ضعيف لإرساله ، لكن ورد موصولا ، وله شواهد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٩١٩ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الدارمي ٢ / ١٢٦ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٢١٥ ـ ٢١٦ والحاكم ١ / ٥٢٠ ـ ٥٢١ والآجري في «الشريعة» ١٠٥٥ من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به.

ـ وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

ـ وأخرجه أحمد ٤ / ٦٦ من هذا الوجه عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) في المطبوع «الحلاج» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة».

٧٦

فدعاه مكحول فقال : يا أبا إبراهيم حدثنا حديث عبد الرحمن بن عائش ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرمي يقول : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت : أنت أعلم أي ربّ ، مرتين ، قال فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت ما في السماء والأرض» ، قال : ثم تلا هذه الآية : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥) [الأنعام : ٧٥] ، ثم قال : «فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت : في الكفارات ، قال : وما هن؟ قلت : المشي على الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس في المساجد خلف الصلوات ، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكاره ، قال : ومن يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه ، ومن الدرجات إطعام الطعام وبذل السلام وأن يقوم بالليل والناس نيام ، [ثم](١) قال : قل اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات ، وحبّ المساكين ، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب عليّ وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تعلّموهن فو الذي نفسي بيده إنهن لحق».

قوله عزوجل : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٧١) ، يعني آدم عليه‌السلام.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) ، أتممت خلقه ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) (٧٤) ، ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ، (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) ، المتكبرين استفهام توبيخ وإنكار ، يقول : استكبرت بنفسك حتى أبيت السجود؟ أم كنت من القوم الذين بتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم؟

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ

__________________

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٧٦ ـ ١٧٧ وقال : رجاله ثقات ا ه.

ـ وجهالة الصحابي لا تضر.

ـ وأخرجه الترمذي ٣٢٣٥ والحاكم ١ / ٥٢١ من حديث عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ مرفوعا.

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال : حسن صحيح.

ـ وورد من حديث ابن عباس.

ـ وأخرجه ابن خزيمة ص ٢١٧ الآجري في «الشريعة» ١٠٥٤ عن طريق أيوب عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس ، ورجاله ثقات.

ـ وورد من حديث ثوبان أخرجه البزار ٢١٢٩ وفيه أبو يحيى الراوي عن أبي أسماء الرحبي لا يعرف ، قاله الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٧٨ وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عمرو ، وفيه سعيد بن سنان واه.

ـ وورد من حديث أبي أمامة أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ٧ / ١٧٨ وفيه ليث بن أبي سليم غير قوي.

وللحديث شواهد أخرى ، وإن كانت ضعيفة إلّا أنها تتقوى بمجموعها ، والله أعلم.

الخلاصة : هو حديث حسن صحيح كما قال البخاري ، والله تعالى أعلم.

(١) زيادة عن المخطوط.

٧٧

مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) (٧٦) ، أي من الجنة ، وقيل : من السموات. وقال الحسن وأبو العالية : أي من الخلقة التي أنت فيها. قال الحسين (١) بن الفضل : هذا تأويل صحيح ، لأن إبليس تجبّر وافتخر بالخلقة ، فغيّر الله خلقته فاسود وقبح بعد حسنه. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) ، مطرود.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٨١) ، وهو النفخة الأولى.

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (٨٤) ، قرأ عاصم وحمزة ويعقوب : (فَالْحَقُ) برفع القاف على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : الحق مني ، ونصب الثانية أي : وأنا أقول الحق ، قاله مجاهد ، وقرأ الآخرون بنصبهما ، واختلفوا في وجههما ، قيل : نصب الأول على الإغراء كأنه قال : الزم الحق ، والثاني بإيقاع القول عليه أي أقول الحق. وقيل : الأول قسم أي فبالحق وهو الله عزوجل فانتصب بنزع الخافض ، وهو حرف الصفة ، وانتصاب الثاني بإيقاع القول عليه. وقيل : الثاني تكرار القسم ، أقسم الله بنفسه.

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) (٨٥) ، على تبليغ الرسالة ، (مِنْ أَجْرٍ) ، جعل ، (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ، المتقوّلين القرآن من تلقاء نفسي ، وكل من قال شيئا من تلقاء نفسه فقد تكلّفه.

[١٨١٤] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة ثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم ، قال الله تعالى لنبيه : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٨٦).

قوله : (إِنْ هُوَ) ، ما هو يعني القرآن ، (إِلَّا ذِكْرٌ) ، موعظة ، (لِلْعالَمِينَ) ، للخلق أجمعين.

(وَلَتَعْلَمُنَ) ، أنتم يا كفار مكة ، (نَبَأَهُ) ، خبر صدقه ، (بَعْدَ حِينٍ) ، قال ابن عباس وقتادة : بعد الموت. وقال عكرمة : يعني يوم القيامة. وقال الكلبي : من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا ، ومن مات علمه بعد موته. قال الحسن : ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.

__________________

[١٨١٤] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ قتيبة بن سعيد ، جرير بن عبد الحميد ، الأعمش سليمان بن مهران ، أبو الضحى ، مسلم بن صبيح ، مسروق بن الأجدع.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٨٠٩ عن قتيبة بن سعيد بهذا الإسناد.

ـ وسيأتي في سورة الدخان عند آية : ١٠ إن شاء الله.

(١) في المطبوع «الحسن» والمثبت عن المخطوط و «ط».

٧٨

سورة الزمر

مكية إلّا قوله (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية ، فمدنية ، وهي خمس وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ، أي هذا تنزيل الكتاب. وقيل : تنزيل الكتاب مبتدأ وخبره ، (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ، أي تنزيل الكتاب من الله لا من غيره.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ، قال مقاتل : لم ينزله باطلا لغير شيء ، (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، الطاعة.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ، قال قتادة : شهادة أن لا إله إلّا الله. وقيل : لا يستحق الدين الخالص إلّا الله. وقيل : الدين الخالص من الشرك هو لله. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) ، أي من دون الله ، (أَوْلِياءَ) ، يعني الأصنام ، (ما نَعْبُدُهُمْ) ، أي قالوا ما نعبدهم ، (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، وكذلك قرأ ابن مسعود وابن عباس ، قال قتادة : وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم : من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ، فيقال لهم : فما معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى ، أي قربى ، وهو اسم أقيم في مقام المصدر ، كأنه قال : إلا ليقربونا إلى الله تقريبا ويشفعوا لنا عند الله ، (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، يوم القيامة ، (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، من أمر الدين ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) ، لا يرشد لدينه من كذب ، فقال : إن الآلهة لتشفع. وكفى باتخاذ الآلهة دونه كذبا وكفرا.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى) ، لاختار ، (مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، يعني الملائكة ، كما قال :

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء : ١٧] ، ثم نزّه نفسه فقال : (سُبْحانَهُ) ، تنزيها له عن ذلك وعمّا لا يليق بطهارته ، (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ

٧٩

الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) ، قال قتادة : [يعني](١) يغشي هذا هذا ، كما قال : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤ ، الرعد : ٣] ، وقيل : يدخل أحدهما على الآخر كما قال : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [فاطر : ١٣] ، وقال الحسن والكلبي : ينقص من الليل فيزيد في النهار ، وينقص من النهار فيزيد في الليل ، فما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل ، ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة ، وأصل التكوير اللّف والجمع ، ومنه كوّر العمامة. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، يعني آدم ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ، يعني حواء ، (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) ، معنى الإنزال هاهنا : الإحداث والإنشاء ، كقوله تعالى : (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] ، وقيل : إنه أنزل الماء الذي هو سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس ، وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام. وقيل : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) جعلها لكم نزلا ورزقا. (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ، أصناف ، مرّ تفسيرها في سورة الأنعام. (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ، نطفة ثم علقة ثم مضغة ، كما قال الله تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) [نوح : ١٤] ، (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ، قال ابن عباس : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، (ذلِكُمُ اللهُ) ، أي الذي خلق هذه الأشياء ، (رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، عن طريق الحق بعد هذا البيان.

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ، قال ابن عباس والسدي : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢ ، الإسراء : ٦٥] ، فيكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى ، كقوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] ، يريد بعض العباد ، وأجراه قوم على العموم ، وقالوا : لا يرضى لأحد من عباده الكفر ، ومعنى الآية : لا يرضى لعباده الكفر أن يكفروا به ، ويروى ذلك عن قتادة ، وهو قول السلف ، قالوا : كفر الكافر غير مرضي لله عزوجل ، وإن كان بإرادته ، (وَإِنْ تَشْكُرُوا) ، تؤمنوا بربّكم وتطيعوه ، (يَرْضَهُ لَكُمْ) ، فيثيبكم (٢) عليه ، قرأ أبو عمرو (يَرْضَهُ لَكُمْ) ساكنة الهاء ، ويختلسها أهل المدينة وعاصم وحمزة ، والباقون بالإشباع ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «فيثنيكم» والمثبت عن «ط» والمخطوط.

٨٠