فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

محمولة على نفس الموضوعات الواقعيّة دون المعلومة ، مثل قوله عليه‌السلام : «الكلب نجس» وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وهكذا ، فلو كانت النجاسة الواقعيّة مأخوذا في موضوعها العلم فلا بدّ من حمل النجاسة في هذه الأدلّة الخاصّة أيضا على الموضوعات المعلومة دون الواقعيّة.

ويمكن كشف الالتباس عن اليقين المعتبر في باب الاستصحاب بملاحظة رواية زرارة التي استدلّوا بها على اعتباره ، وهي ما رواه عن الباقر عليه‌السلام قال : «قلت : الرجل ينام ـ إلى أن قال ـ قلت : فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به؟ قال : لا حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فهو على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولكنّه ينقضه بيقين آخر» فإنّ قوله «فإن حرّك ...» ظاهر في السؤال من ناقض نفس الوضوء المتيقّن سابقا لا بوصف كونه متيقّنا ، فإنّه سؤال عن صورة الشكّ في عروض الناقض اليقيني لنفس الوضوء الواقعي. وظاهر الجواب أيضا هو الحكم ببقاء نفس الوضوء ما لم يحصل اليقين بوجود الناقض. فهذا قرينة على كون المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام «فهو على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ» هو اليقين الذي يكون طريقا محضا ، لا ما يعمّه وما كان جزءا من الموضوع مع أنّ اشتراطهم بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب كاف في عدم شمول اليقين السابق لما كان جزءا من الموضوع ، لارتفاع الموضوع حينئذ يقينا بالشكّ.

وبالجملة ، لا بدّ في إزالة الشبهة من ملاحظة الأدلّة ، فربّما تنكشف الحال ويتبيّن كون محلّ الشبهة من خصوص أحد الأقسام ، وربّما يتميّز عن بعض الأقسام وتبقى الشبهة في بعض ، فلا بدّ من التأمّل التامّ وعدم الذهول عن نكات الكلام ، فإنّ المقام من مزالّ الأقدام ، والله الهادي إلى نهاية المرام.

وإلى هذا الوجه أشار المصنّف بقوله : «فإن ظهر منه أو من الخارج اعتباره

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

على وجه الطريقيّة للموضوع ...». وقال في الحاشية عند قوله «وبعض الاصول العمليّة مقامه في العمل ...» : «ويظهر ذلك إمّا من الدليل ، أو بحكم العقل بكون العلم طريقا محضا ، وإمّا من وجود الأدلّة الأخر على كون الحكم المنوط بالعلم ظاهرا متعلّقا فيها على نفس المعلوم كما في غالب الموارد» انتهى.

ولكنّي لا أجد وجها معقولا لحكم العقل ـ ولو في بعض من الموارد المشتبهة ـ بكون العلم معتبرا من باب الطريقيّة المحضة. أمّا في العقليّات فقد تقدّم أنّ العلم في جميعها جزء من موضوع الحكم العقلي. وأمّا في الشرعيّات فلا مسرح لحكم العقل فيها بذلك ، إلّا بعد ثبوت كون الحكم معلّقا بنفس المعلوم لا بوصف كونه معلوما ، ولكن على هذا الوجه يلغو قوله «وإمّا من وجود الأدلّة ...». اللهمّ إلّا أن يقال في العقليّات : إنّ معروض حكم العقل بعد العلم بموضوعه هو ذات الموضوع لا بوصف كونها معلومة ، وإن توقّف حكمه على العلم بها ، فتدبّر فإنّه لا يخلو من دقّة.

وثالثها : الرجوع إلى مقتضيات الاصول العمليّة مع فرض عدم المرجع من الاصول اللفظيّة. واعلم أنّ شيئا من أقسام العلم ليس موافقا للاصول على وجه كلّي حتّى يؤخذ به في مقام العمل ، بل هي مختلفة بحسب اختلاف جريان الاصول في خصوصيّات المقامات ، فربّما يكون العلم الطريقي موافقا للأصل ، وربّما يكون العلم المأخوذ جزءا من الموضوع موافقا له. وذلك أنّه إذا فرض دوران العلم بين كونه معتبرا من باب الطريقيّة المحضة ، وكونه جزءا من الموضوع على سبيل الكشف ، فقد تقدّم أنّ الثمرة تظهر بينهما في الإجزاء على الثاني وعدمه على الأوّل إذا ظهر الخلاف بعد الفراغ من العمل. فمع فرض دوران الأمر بينهما إذا أتى المكلّف بالمكلّف به على طبق علمه ثمّ ظهرت مخالفته للواقع يحكم بعدم إجزاء عمله ، إذ الحكم بالإجزاء يحتاج إلى الدليل ، فيكون اعتبار العلم هنا من باب الطريقيّة المحضة موافقا للأصل.

٤٢

قيام الأمارات الشرعيّة وبعض الاصول العمليّة مقامه في العمل ، بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة ؛ فإنّه تابع لدليل الحكم ، فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقيّة للموضوع (١٣) كالامثلة المتقدّمة ، قامت الأمارات وبعض الاصول مقامه.

______________________________________________________

وأمّا إذا دار الأمر بين كون اعتبار العلم من باب الطريقيّة المحضة ، أو جزءا من الموضوع من باب الكشف ، وبين كونه جزءا من الموضوع من باب الصفة الخاصّة ، فقد تقدّم أنّ الثمرة بينهما تظهر في قيام الأمارات وبعض الاصول مقامه على الأوّل دون الثاني. فإذا شكّ في جواز بناء الشهادة على اليد أو غيرها من الأمارات لأجل الشكّ في كون العلم المأخوذ فيها من باب الطريقيّة أو الصفة الخاصّة ، فأصالة عدم وجوب إقامة الشهادة حينئذ وعدم حرمة كتمانها توافق اعتبار العلم المأخوذ فيها من باب الصفة الخاصّة. وهكذا يلاحظ جريان الاصول في سائر الموارد.

والحاصل : أنّ الأثر الزائد المرتّب على أحد محتملات المقام ينفى بالأصل الجاري فيه. وإنّما لم يشر المصنّف رحمه‌الله إلى هذا الوجه مع سبق الإشارة الإجماليّة في كلامه إلى الوجهين الأوّلين كما عرفت ، لأنّ هذا الوجه في الحقيقة ليس مشخّصا لأحد أطراف الشبهة ، بل هو مبيّن لحكم الشاكّ في الموضوع المشكوك فيه كما لا يخفى.

١٣. المراد من الموضوع هنا متعلّق العلم ، سمّاه بذلك ـ مع عدم كونه موضوعا للحكم ، لفرض كونه محمولا عليه مع العلم لا عليه خاصّة ـ مسامحة وتسمية للجزء باسم الكلّ ، أو نظرا إلى كون العلم في الموارد التي أخذ جزءا من موضوع الحكم الواقعي في ظاهر الأدلّة شرطا في تحقّقه لا جزءا من موضوعه. ولا يبعد كون العلم المعتبر في الحكم العقلي من قبيل ذلك ، وإن أسلفنا كونه جزءا من موضوع الحكم العقلي. فحينئذ يصحّ وصف متعلّق العلم بكونه موضوعا ، نظرا

٤٣

وإن ظهر من دليل الحكم اعتبار القطع (*) في الموضوع من حيث كونها صفة خاصة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره ، كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والاوليين من الرباعيّة ؛ فإنّ غيره ـ كالظنّ بأحد الطرفين أو أصالة عدم الزائد ـ لا يقوم مقامه إلّا بدليل خاصّ خارجي غير أدلّة حجّية مطلق الظنّ في الصلاة وأصالة عدم الأكثر.

ومن هذا الباب عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البيّنة أو اليد ـ على قول ـ وإن جاز تعويل الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا ؛ لأنّ العلم بالمشهود به مأخوذ في مقام العمل على وجه الطريقيّة بخلاف مقام أداء الشهادة ، إلّا أن يثبت من الخارج أنّ كلّ ما يجوز العمل به من الطرق الشرعيّة يجوز الاستناد إليه في الشهادة ؛ كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد (٤).

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لو نذر أحد أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم ما دام متيقّنا بحياة ولده ، فأنّه لا يجب التصدّق عند الشكّ في الحياة لأجل استصحاب الحياة ، بخلاف ما لو علّق النذر بنفس الحياة ، فإنّه يكفي في الوجوب الاستصحاب.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا (١٤)

______________________________________________________

إلى كون العلم شرطا خارجا عنه ، ووصف المجموع منه ومن العلم بكونه موضوعا نظرا إلى أنّ الشرط وإن كان خارجا إلّا أن تقيّده داخل. وكيف كان ، فلا منافاة بين وصف متعلّق العلم هنا بكونه موضوعا ، وبين جعل المقسم هو العلم المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة ، فلا تغفل.

١٤. مجمل الكلام في ذلك أنّه لا إشكال في كون الظنّ جزءا من موضوع الحكم الظاهري ، فيصحّ وقوعه وسطا لإثبات الأحكام الظاهريّة ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في أوّل المقصد. وأمّا بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة فهل هو طريق منجعل بحكم العقل كالقطع حيث كان معتبرا من باب الطريقيّة المحضة ، أو طريق

__________________

(*) في بعض النسخ : صفة القطع.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مجعول من قبل الشارع؟ ولا ريب في كونه من قبيل الثاني بالنسبة إلى الظنون الخاصّة ، فإنّ اعتبارها بجعل الشارع لا محالة.

وأمّا بالنسبة إلى الظنون المطلقة ، فإن قلنا في تقرير مقدّمات الانسداد بكون نتيجتها هي اعتبار الظنون المطلقة من باب الكشف كما سيجيء ، فلا ريب في كونها في المقام في حكم الظنون الخاصّة في كون طريقيّتها بالنسبة إلى الواقع بجعل الشارع. وإن قلنا بكون نتيجتها من باب الحكومة دون الكشف ، فتكون تلك الظنون المطلقة حينئذ طرقا منجعلة إلى الواقع بحكم العقل كالقطع. ولكن مع ذلك فرق بينها وبين القطع المأخوذ من باب الطريقيّة ، فإنّ القطع طريق إلى الواقع مطلقا ، بمعنى أنّه بعد حصوله لا توقّف ولا تعليق في حكم العقل بالأخذ به ، بخلاف الظنّ المطلق بعد الانسداد ، فإنّه بمجرّد العلم ببقاء التكليف بالأحكام الواقعيّة وانسداد طرق العلم إليها ، لا يحكم العقل بلزوم الأخذ به إلّا بعد عدم ثبوت جعل الشارع في حال الانسداد طريقا تعبّديا للمكلّف ، من العمل بأصالة البراءة أو القرعة أو غيرهما ، بل ولو كان ذلك هو العمل بالموهومات ، فإنّه بعد حكم الشارع بذلك لا تبقى للعقل حكومة في العمل بالظنّ. ولعلّ نفي هذه الاحتمالات مفروغ عنه في كلماتهم ، ولذا ترى أنّ صاحب المعالم اقتصر في تقرير دليل الانسداد على دعوى انسداد باب العلم ، ونفي كون ظواهر الكتاب وأصالة البراءة معتبرتين من باب الظنون الخاصّة. ولو لا ما ذكرناه لم يستقلّ العقل بمجرّد ما ذكره على حجّية الظنّ ، فلا بدّ في إثباتها من نفي احتمال جميع ذلك كما سيأتي في محلّه. ومن هنا كان الظنّ المطلق في زمن الانسداد بمنزلة الأصل ، فهو دليل حيث لا دليل على خلافه من الظنون الخاصّة المعلومة الحال.

وبالجملة ، إنّ حكم العقل بجواز العمل بالظنّ في صورة الانسداد معلّق على ما ذكر ، بخلاف حكمه بالعمل بالقطع إذا كان اعتباره من باب الطريقيّة المحضة ، فإنّه لا تعليق فيه أصلا ، بل لا يجوز للشارع الحكم بالعمل بخلاف القطع وإلّا لزم

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

التناقض كما أسلفناه ، وإن زعم صاحب الفصول خلافه كما سيجيء في محلّه.

وكيف كان ، فإذا قلنا بنتيجة دليل الانسداد من باب الحكومة فهل يصحّ وقوع الظنّ المطلق حينئذ وسطا في إثبات أحكام متعلّقه أم لا؟ ففيه وجهان مبنيّان على تقرير حكومة العقل في اعتبار مطلق الظنّ ، فإن قلنا بعد إثبات مقدّمات دليل الانسداد بأنّ العقل يحكم بكون الظنّ حجّة شرعيّة ، وأنّه يثاب على موافقته ويعاقب على مخالفته ، كما هو ظاهر القائلين بالظنون المطلقة ، حيث يحكمون بالإجزاء مع ظهور مخالفة الظنّ للواقع ، كما هو غير خفي على المتتبّع في كلماتهم في الفقه ، فإنّه لا معنى للحكم بالإجزاء على الوجه الآتي.

وعليه أيضا يبتني ما أورده المحقّق القمّي رحمه‌الله على الفاضل التوني رحمه‌الله ، فإنّ الفاضل المذكور قد ذكر في مسألة الحسن والقبح «أنّه يشكل التعلّق بهذه الطريقة ـ يعني : طريقة إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها ـ في إثبات الأحكام الشرعيّة الغير المنصوصة ، لكنّ الظاهر أنّه لا يكاد يوجد شيء على هذه الطريقة إلّا وهو منصوص من الشارع ، وفائدة هذا الخلاف نادرة» انتهى.

والمحقّق المذكور بعد أن منع استقلال العقل على سبيل القطع بالإباحة في الأشياء المشتملة على المنفعة الخالية عن أمارة المضرّة بعد بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبسط الشريعة قال : «نعم ، يمكن أن يقال : لمّا كان العمل بظنّ المجتهد ممّا يستقلّ به العقل بعنوان القطع ، لانسداد باب العلم وانحصار المناص في الظنّ ، وذلك من جزئيّاته ، فمن هذه الجهة يصير من جملة ما يستقلّ به العقل. ومن ذلك ظهر أنّ ما يقال : إنّ التكلّم في هذا القسم من الأدلّة العقليّة قليل الجدوى ، لعدم انفكاك ما استقلّ به العقل من الدليل الشرعيّ عليه ، كما يلاحظ في قبح الظلم وحسن العدل ووجوب ردّ الوديعة وغير ذلك ، لا وجه له ، فإنّ العمل بظنّ المجتهد من أعظم ثمرات هذا الأصل ، وأيّ فائدة أعظم من ذلك؟» انتهى.

ووجه الابتناء أنّه لا وقع لهذا الإيراد على الوجه الآتي كما سنشير إليه.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فحينئذ يصحّ وقوع الظنّ وسطا لإثبات أحكام متعلّقه في مقام الظاهر ، إذ بعد فرض كون الظنّ حجّة شرعيّة ، ومحلّا للثواب والعقاب ، ومثبتا لأحكام متعلّقه في مقام الظاهر ، فلا محذور في وقوعه وسطا لإثبات ذلك كسائر الحجج والأمارات الشرعيّة ، وإن قلنا بعد تقرير مقدّمات الانسداد بأنّ العقل حينئذ إنّما يحكم باتّباع الظنّ لكونه طريقا إلى الواقع مع انحصار امتثال الواقع في الإتيان به.

وبالجملة ، إذا قلنا بأنّ حكم العقل بالعمل بالظنّ حين الانسداد ليس إلّا من حيث رجحان الوصول إلى الواقع ، وليس في العمل به عند العقل إلّا مصلحة الطريقيّة المحضة ، فليست فائدة الظنّ حينئذ إلّا مجرّد تنجّز الحكم الواقعي الذي تعلّق به الظنّ ، ولا يحدث الظنّ حينئذ حكما ظاهريّا في طول الواقع ، ولا يترتّب على موافقته حينئذ على تقدير موافقته للواقع إلّا ما يترتّب على امتثال الأمر الواقعي ، وعلى تقدير تخلّفه عن الواقع إلّا ثواب الانقياد ، ولا على مخالفته على تقدير الموافقة إلّا ما يترتّب على مخالفة الواقع ، وعلى تقدير تخلّفه إلّا ما يترتّب على التجرّي.

وبالجملة ، ليس هنا إلّا حكم واحد ، وهو الحكم الواقعي ، وهو مدار الثواب والعقاب ، ومناط الإجزاء وعدمه على تقدير ظهور المخالفة وعدمه. وهذا هو التحقيق في نتيجة دليل الانسداد كما سيجيء في محلّه. وعليه لا يرد ما أورده المحقّق القمّي على الفاضل التوني بما تقدّم ، إذ ليس اعتباره حينئذ شرعيّا حتّى يعدّ ذلك نقضا على الفاضل المذكور ويقال : إنّه ممّا استقلّ به العقل مع عدم ورود نصّ عليه من الشرع. ولزيادة توضيح الكلام في المقام محلّ آخر.

وكيف كان ، فعلى التقرير المذكور لا يصحّ وقوع الظنّ وسطا ، لما قدّمناه في عدم صحّة وقوع القطع الطريقي وسطا من لزوم تقدّم الشيء على نفسه ولزوم التصويب الباطل ، لما عرفت من عدم تعدّد الحكم هنا حتّى يكون أحدهما متعلّقا للظنّ والآخر ثابتا بالظنّ الواقع وسطا ، بخلافه على الوجه المتقدّم كما عرفت.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه صحّة وقوع الظنّ وسطا في زمن الانفتاح ، وكذا في

٤٧

من كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقيّة واخرى على وجه الموضوعيّة (١٥)

______________________________________________________

زمن الانسداد بناء على تقرير نتيجة الانسداد من باب الكشف ، وكذا على تقريرها من باب الحكومة على أحد وجهيه دون الآخر.

وأمّا حكم المصنّف قدس‌سره بكون الظنّ بقول مطلق طريقا مجعولا ، وبصحّة وقوعه وسطا كذلك لإثبات أحكام متعلّقه ، فهو مبنيّ على ما اختاره من القول بالظنون الخاصّة ، وإلّا فلو أراد كونه كذلك مطلقا ـ سواء قلنا بالظنون الخاصّة أو المطلقة ، كما هو ظاهر إطلاق كلامه ـ فهو على إطلاقه ممنوع كما عرفت ، كيف لا ومذهبه في دليل الانسداد تقريره على وجه الحكومة على الوجه الأخير كما لا يخفى.

١٥. لا إشكال في كبرى القسمين ، وإنّما الإشكال في صغريات القسم الثاني ، فإنّه لم يوجد في الشرعيّات مورد يطمأنّ بكون الظنّ فيه جزءا من موضوع الحكم الواقعي ، سواء اعتبر بالنسبة إلى متعلّقه من باب الكشف أو الصفة الخاصّة.

نعم ، قد وجد بعض الموارد الذي يحتمل فيه ذلك ، منها مسألة التيمّم ، فإنّه لو تفحّص عن الماء ولم يجده فظنّ بعدم وجوده فصلّى متيمّما بناء على القول بكفاية الظنّ في ذلك ثمّ وجد الماء في رحله ، فوجوب الإعادة حينئذ وعدمه مبنيّان على كون اعتبار هذا الظنّ من باب الطريقيّة المحضة أو جزءا من موضوع الحكم.

وتوضيح ذلك : أنّ جواز التيمّم قد علّق على عدم وجدان الماء في قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فإن كان عدم الوجدان كناية عن عدم التمكّن من استعمال الماء ولو لعذر مع وجود الماء حتّى يشمل سائر مسوّغات التيمّم أيضا ـ كما زعمه بعضهم ـ فلا ترتبط هذه المسألة بمحلّ الكلام.

وإن قلنا ببقائه على حقيقته من عدم الوصول إلى الماء ، فحينئذ إن قلنا بعدم صدق الوجدان إلّا مع اليأس عن وجوده ، سواء حصل اليأس بعد الفحص عن المقدّر الشرعيّ أو حصل العلم ابتداء بعدمه في المقدّر الشرعيّ ، فلا يكون لذلك

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

دخل فيما نحن بصدده أيضا. وإن قلنا بصدقه مع اليأس والظنّ بعدمه ، سواء حصلا ابتداء أو بعد الفحص كما حكي عن بعض ، فحينئذ إن قلنا بأنّ الموضوع لجواز التيمّم في الواقع هو عنوان عدم الوجدان الصادق بأحد الأمرين ، فإذا تيمّم بعد القطع بالعدم أو الظنّ به فصلّى ثمّ وجد الماء في رحله لا تجب الإعادة ، لامتثال المأمور به الواقعي ، لفرض كون جواز التيمّم محمولا في الواقع على القطع بالعدم أو الظنّ به ، وقد حصلا بالفرض ، فلا مقتضى للإعادة. وإن قلنا بأنّ الموضوع هو عدم الوجود في الواقع في المقدّر الذي يجب الفحص عنه شرعا ، وأنّ القطع بالعدم أو الظنّ به معتبر من باب الطريقيّة إلى الموضوع الواقعي ، تجب الإعادة حينئذ في الفرض المذكور بناء على عدم إفادة الأوامر الظاهريّة للإجزاء مع ظهور الخلاف.

وتظهر الثمرة بين الوجهين أيضا في قيام الأمارات مقام القطع والظنّ على الثاني دون الأوّل ، فإذا قامت البيّنة على عدم الماء في أحد الجوانب أو أكثر أو مطلقا فلا يجب الفحص عن ذاك الجانب أو مطلقا على الثاني دون الأوّل.

ومنها : الظنّ بالقبلة ، فإنّه إذا كانت صحّة الصلاة محمولة في الواقع على عنوان الظنّ بها من حيث كونه صفة خاصّة لم تقم سائر الأمارات مقامه ، ولا تجب الإعادة مع ظهور الخلاف ، بخلاف ما لو كان معتبرا من باب الكشف ، بأن كانت صحّة الصلاة محمولة على القبلة المظنونة من حيث كشف الظنّ عنها ، فحينئذ يصحّ قيام البيّنة ونحوها مقامه ، ولكن لا تجب الإعادة مع ظهور الخلاف.

نعم ، لو اعتبر من حيث الكشف عن الواقع ، بأن كانت صحّة الصلاة في الواقع محمولة على الاستقبال الواقعي ، وكان الظنّ معتبرا من حيث الكشف عن القبلة الواقعيّة من دون أخذ الظنّ في موضوع الصحّة أصلا ، فحينئذ ينعكس الأمر ، فيصحّ قيام الأمارات مقامه ، وتجب الإعادة مع ظهور الخلاف.

ويشكل الأمر حينئذ لو حصل الظنّ بجهة ، وقامت البيّنة على كون القبلة جهة اخرى ، ففي ترجيح أحدهما على الآخر إشكال. ولذا حكم بعضهم بالأخذ

٤٩

جار في الظنّ أيضا ؛ فإنّه وإن فارق العلم في كيفيّة الطريقيّة حيث إنّ العلم طريق بنفسه ، والظنّ المعتبر طريق بجعل الشارع بمعنى كونه وسطا في ترتّب أحكام متعلّقه كما أشرنا إليه سابقا ، إلّا أنّه (*) أيضا قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه يقوم مقامه

______________________________________________________

بالاحتياط حينئذ بالصلاة إلى الجهتين. ولكنّ الأقوى ترجيح ما قامت عليه البيّنة ، فإنّ اعتبار الشارع للظنّ في باب القبلة إنّما هو مع عدم التمكّن من تحصيل العلم بالقبلة وفي مقام التحيّر ، والبيّنة علم شرعا ، فيكون دليلها حاكما على الدليل الدالّ على اعتبار الظنّ ، نظير تعارض الظنّ الخاصّ والظنّ المطلق عند الانسداد.

ومنها : الظنّ في أفعال الصلاة وركعاتها. وتظهر الحال فيه من ملاحظة سابقه. وقد وقع الخلاف في قيام البيّنة مقام الظنّ في الفروع المذكورة ، وهو يعطي الخلاف في كون اعتباره من باب الوصف أو الطريقيّة ، وإن كان الأقرب على تقدير اعتبار الظنّ فيها هو الثاني ، ولتفصيل الكلام فيها محلّ آخر ، وإن فرض الشكّ في جهة اعتبار الظنّ فيها يرجع إلى مقتضى الاصول كما قدّمناه في القطع.

ثمّ لا يخفى ما في عبارة المصنّف قدس‌سره من المسامحة ، فإنّ مقتضاها أنّ الظنّ المأخوذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه قد يكون مجعولا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه ، فيكون طريقا محضا ، وقد يكون مجعولا على وجه الطريقيّة لحكم آخر ، أعني ما كان الظنّ جزءا من موضوعه ، فيكون طريقا بالنسبة إلى متعلّقه وإلى الحكم المتعلّق به ، وغير خفي أنّه لا يعقل كون الظنّ طريقا بالنسبة إلى الحكم الذي أخذ هذا الظنّ جزءا من موضوعه كما هو مقتضى العبارة. ولكنّ الظاهر أنّ قوله «لحكم متعلّقه ...» ليس متعلّقا بالطريقيّة ، بل بقوله «موضوعا» بتقدير لفظ إثبات ، أي : سواء كان موضوعا على وجه الطريقيّة لإثبات حكم متعلّقه أو لإثبات حكم آخر ، فلا مسامحة إذن كما لا يخفى.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «إلّا أنّه» ، لكنّ الظنّ.

٥٠

سائر الطرق الشرعيّة ، وقد يؤخذ موضوعا (١٧).

______________________________________________________

١٦. لم يعلم وجه (*) الفرق في إطلاق اسم الحجّة على الظنّ المأخوذ جزءا من موضوع الحكم ، وعدم إطلاقه على القطع المأخوذ كذلك ، كما صرّح به سابقا. اللهمّ إلّا أن يكون مجرّد اصطلاح ، ولا مشاحّة فيه ، ولكن قد سبق الإشكال فيه.

١٧. لو قال : وقد يؤخذ موضوعا على وجه الصفة الخاصّة لكان أخصر وأصرح.

تتميم يشتمل على امور :

الأوّل : إنّ المصنّف قد ذكر انقسام كلّ من القطع والظنّ إلى الطريقيّة والموضوعيّة ، وسكت عن جريان القسمين في الشكّ ، وظاهره عدم جريانهما فيه. ولعلّه لما يتراءى في بادي النظر من عدم معقوليّة فرض الطريقيّة في الشكّ ، إذ هو ما تساوى طرفاه ولو بحكم الشرع ، كما في الظنّ غير المعتبر الذي نزّله الشارع منزلته ، ولا بدّ في فرض الطريقيّة من رجحان الوصول إلى ذي الطريق حتّى يكون مرآة إليه ، وهو منتف في الشكّ.

ولكنّ التحقيق خلافه ، لإمكان فرض الطريقيّة فيه أيضا ، ولكن لا بالمعنى المعتبر في القطع والظنّ ، بل بمعنى عدم رفع اليد من الواقع بالمرّة في ترتيب الحكم على الشكّ.

وتوضيح ذلك : أنّ الشارع تارة يجعل الحكم ويرتّبه على الموضوع الواقعي ، ولكن في مقام الشكّ يقنع بالإطاعة الاحتماليّة ، بأن يحكم في مقام الظاهر إمّا بالأخذ بأحد الاحتمالين بالخصوص كما في موارد البراءة والاستصحاب و

__________________

(*). هذه التعليقة مبتنية على نسخة المحشّي قدس‌سره من الفرائد من وجود عبارات زائدة ، من جملتها : قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلّقه سواء كان موضوعا علي وجه الطريقية لحكم متعلّقه أو لحكم آخر يقوم مقامه سائر الطرق الشرعيّة. فيقال : إنّه حجّة (١٦) وقد يؤخذ موضوعا لا علي وجه طريقيّة لحكم متعلّقه أو لحكم آخر ، ولا يطلق عليه الحجة. وهي التي علّق عليها المحشّي قدس‌سره.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

مضاهيهما ، وإمّا بأحدهما لا بعينه كما في موارد التخيير. فالشكّ حينئذ طريق جعلي إلى الواقع ، بمعنى عدم إلغاء الشارع للواقع في مورده ، بل حكمه بالأخذ بأحد الاحتمالين من حيث كون المأخوذ محتملا للواقع ، ويصحّ وقوعه حينئذ وسطا لإثبات الحكم الواقعي في مقام الظاهر ، وليس كالقطع المعتبر من باب الطريقيّة المحضة على ما تقدّم. فيصحّ أن يقال : هذا محتمل الحرمة والإباحة ، وكلّ ما هو كذلك فهو مباح في الظاهر.

واخرى : يجعل الحكم في الواقع ويرتّبه على عنوان الشكّ ، ولكن لا من حيث هو ، بل من حيث كون المكلّف محتملا للواقع ، كما إذا فرض كون البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد ركعات الصلاة مرتّبا على عنوان الشكّ ، لكن لا من حيث هو ، بل من حيث كونه محتملا للأكثر ، فيكون الشكّ حينئذ جزءا من موضوع الحكم الواقعي مع اعتبار كونه طريقا إلى متعلّقه.

وثالثة : يجعل الحكم في الواقع ويرتّبه على عنوان الشكّ من حيث كونه صفة خاصّة كسائر الأوصاف التي لها دخل في الأحكام الواقعيّة ثبوتا وانتفاء. وتظهر الثمرة بين الأقسام في قيام الأمارات وبعض الاصول مقامه ، وفي مسألة الإجزاء ، كما يظهر من ملاحظة ما قدّمناه في القطع.

أمّا المثال للأوّل فكما لو فرض انسداد باب العلم والظنّ غالبا أو دائما إلى الأحكام الواقعيّة ، فإنّه حينئذ يتعيّن التخيير في العمل بطرفي الشكّ ، ضرورة انحصار الطريق فيه ، وعدم كون المكلّفين مهملين حينئذ كالبهائم ، فالعمل بالتخيير حينئذ لمجرّد احتمال المطابقة في مقابل قبح المخالفة القطعيّة. وكذلك حكم الشارع بالبناء على الأكثر عند الشّك في عدد ركعات الصلاة ، فإنّه أيضا لاحتمال كون الأكثر موافقا للواقع ، غاية الأمر أنّ حكمه بالبناء على الأكثر بالخصوص دون الأقلّ ـ كما هو مقتضى الاستصحاب ـ لا بدّ فيه من حكمة ، وهي بقاء الصلاة محفوظة عن خلل الزيادة والنقصان ، فإنّه مع حكمه بالبناء على الأكثر قد أمر بصلاة

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتياط أيضا ، فالبناء على الأكثر إنّما هو لصونها عن احتمال خلل الزيادة ، والأمر بصلاة الاحتياط لصونها عن احتمال خلل النقيصة. ومن هنا قال المرتضى رحمه‌الله على ما حكي عنه : إنّ قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على اليقين» لا ينافي ما دلّ على البناء على الأكثر من الأخبار ، لأنّ البناء على الأكثر مع جبر احتمال النقص بصلاة الاحتياط بناء على اليقين بما يحصل معه صون الصلاة عن الزيادة والنقيصة. ولعلّ الحكمة في حكم الشارع أيضا بالبناء على بقاء الحالة السابقة هي غلبة البقاء. وبالجملة ، لا بدّ في حكمه بالبناء على أحد طرفي الشكّ بالخصوص من حكمة مقتضية وإن لم نعرفها بالخصوص.

وأمّا المثال للثاني والثالث فلم نجده ، إذ ليس في الشرعيّات ما يكون الشكّ فيه جزءا من موضوع الحكم الواقعي بحيث تختلف الأحكام الواقعيّة باختلافه ، حتّى إنّ الشكّ في موارد جميع الاصول التعبّدية ـ حتّى قاعدة البراءة ـ من قبيل الأوّل. نعم ، يمكن التمثيل للثاني بالأحكام الظاهريّة ، فإنّ الشكّ جزء من موضوعاتها ، ولذا يصحّ وقوعه وسطا لإثباتها كما أشرنا إليه. والله العالم.

الثاني : إنّ ما قدّمناه سابقا من أنّ القطع إذا اعتبر من باب الطريقيّة لا يصحّ وقوعه وسطا لا ينافي صحّة وقوعه جهة لمقدّمتي القياس أو إحداهما ، إذ يصحّ أن يقال : إنّ هذا خمر يقينا ، وكلّ خمر حرام يقينا. وإلى هذا ينظر محكيّ كلام العلّامة في الجواب عمّا استدلّ به للقائلين بطهارة الخمر ، من أنّ الخمر لا تجب إزالته عن الثوب والبدن بالإجماع ، لوقوع الخلاف فيه ، وكلّ نجس تجب إزالته عن الثوب والبدن بالإجماع ، إذ لا خلاف في وجوب إزالة النجاسة عنهما عند الصلاة ، فينتج أنّ المسكر ليس بنجس. فإنّه قد أجاب عن هذا الدليل المرتّب على قياس الشكل الثاني بأنّ الإجماع المذكور في المقدّمتين أخذ فيهما لا بمعنى واحد ، فإنّه تارة كيفيّة للربط يدلّ على وثاقته خارجا عن طرفي القضية في إحداهما ، واخرى جزء للمحمول ، فلا يتّحد الوسط.

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد أجاب عنه المحقّق الخونساري ، ولا بأس بنقل كلامه بطوله حتّى لا يحرم الناظر البصير والناقد الخبير عن فوائده ، فإنّه بعد أن حكى عن العلّامة ما حكيناه من الجواب أجاب عنه بأنّ ما ذكره لا يحسم مادة الشبهة ، إذ لأحد أن يقول : إنّ الإجماع الذي ذكر أنّه في إحدى المقدّمتين من جهة الحمل وفي الاخرى كيفيّة للربط يدلّ على وثاقته ، لا يخفى أنّه بمنزلة الضرورة التي تقع جهة للقضيّة ، إذ محصّل معناه القطع ، فكأنّه قيل : كلّ نجس يجب إزالته عن الثوب والبدن قطعا. وقد تقرّر أنّ الضرورة التي كانت جهة للقضيّة وكانت القضيّة صادقة ، إذا جعلت جزء المحمول تكون القضيّة أيضا صادقة ، وتكون الجهة أيضا الضرورة. فحينئذ لنا أن نجعل الإجماع بمعنى القطع ـ الذي هو جهة الحمل في قولنا : كلّ نجس تجب إزالته عن الثوب والبدن قطعا ـ جزءا للمحمول ، حتّى تصير القضيّة هكذا : كلّ نجس ضروري وجوب إزالته عن الثوب والبدن بالضرورة ، وهي مع المقدّمة الاخرى ـ أي : أنّ كلّ مسكر ليس بقطعي وجوب إزالته عن الثوب والبدن ـ تنتج : أنّ المسكر ليس بنجس ضرورة ، لأنّ شرائط الإنتاج حاصلة حينئذ ، لاتّحاد الوسط ، وثبت أيضا المقدّمتان جميعا ، وعلى هذا لا ينفع ما ذكره العلّامة.

ثمّ أجاب عن ذلك بأنّ الضرورة التي تقرّر أنّها إذا كانت جهة لقضيّة صادقة إذا جعلت جزءا للمحمول كانت القضيّة أيضا صادقة مع كون جهتها الضرورة ، إنّما هي الضرورة التي من الموادّ الثلاث المقابل للإمكان والامتناع ، لا القطع المراد هنا الذي هو لازم الإجماع ، لأنّه بمعنى الجزم لا الضرورة بالمعنى المذكور. ولا نسلّم أنّ القطع بمعنى الجزم إذا كان جهة للقضية الصادقة تكون القضيّة عند جعله جزءا للمحمول أيضا صادقة مطلقا ، بل يصدق على جهة ولا يصدق على اخرى.

وتفصيل الكلام : أنّ العلم وأنواعه من الجزم والظنّ ومتعلّقاته من الضرورة والاكتساب إذا كان جهة لقضيّة ، مثلا نقول : كلّ أربعة زوج بالضرورة أي : بالبديهة ، لا الضرورة المقابلة للإمكان ، فإذا جعل الضرورة جزءا للمحمول وقيل : كلّ أربعة ضروري الزوجيّة أي : بديهيّتها ، فحينئذ إن اريد أنّ

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

كلّ أربعة يحكم عليها العقل بالزوجيّة ضرورة إذا تصوّر بعنوان مفهوم الأربعة الكلّي ، أي : إذا أدرك هذه القضيّة الكلّية ـ أي : كلّ أربعة زوج ـ يحكم حكما بديهيّا بها بحيث يسري إلى جميع أفراد الأربعة ، فصدقها مسلّم.

وإن اريد أنّ كلّ أربعة بأيّ وجه تصوّرت يحكم عليه العقل بالزوجيّة بديهة فممنوع. والسند ظاهر ، إذ الدراهم الأربعة التي هي في كيس زيد مثلا إذا لم نعلمها أنّها أربعة ، وتصوّر بعنوان أنّها في كيس زيد ، لم نحكم عليها بالبديهة أنّها زوج. نعم ، نحكم عليها في ضمن الحكم بكلّ أربعة زوج بالزوجيّة ضرورة ، لأنّ الحكم الضروري الذي في هذه القضيّة إمّا على الأفراد جميعا ومن جملتها هذا الفرد ، وإمّا على المفهوم بحيث يسري إلى جميع الأفراد على الرأيين ، وعلى أيّ حال له تعلّق بجميع الأفراد ، ومرادنا من الحكم هاهنا ليس إلّا ذلك.

والسرّ فيه : أنّ ملاحظة الشيء بالعنوانات المختلفة قد تكون لها أثر في تعلّق علمنا بأحواله وصفاته ، مثلا إذا سمعنا أنّ ابن زيد عالم وجزمنا به ولكن لم نشاهده ولم نعرفه ، فقد يتّفق أن نشاهده ولا نعرف أنّه ابن زيد ، وحينئذ فيجوز أن لا نعلم أنّ هذا الشخص عالم ، بل نشكّ في أنّه عالم أو لا ، بل قد نظنّ أنّه ليس بعالم ، لحصول بعض الأمارات ، مثل أن لا يكون لباسه لباس العلماء. فحينئذ يجوز إذا تصوّرنا أفراد الأربعة بعنوان مفهوم الأربعة نحكم عليه ضرورة بالزوجيّة ، بناء على اللزوم الذي يجده العقل بين مفهوم الأربعة ومفهوم الزوجيّة. ولكن إذا تصوّر بعض أفرادها الواقعيّة وبعنوان آخر ، مثل أنّه في كيس زيد كما ذكرنا ، فحينئذ لا يجب أن يحكم عليه بالزوجيّة ضرورة ، إذ لا لزوم بين مفهوم الكائن في كيس زيد ومفهوم الزوجيّة.

إذا تقرّر هذا فنقول : إذا صدق أنّ كلّ نجس يجب إزالته عن الثوب والبدن بالإجماع ، فسواء قلنا إنّ المراد بالإجماع لازمه ـ أي : القطع ـ أي : كلّ نجس يجب إزالته قطعا ، أو قيل إنّ الإجماع بمعناه الاصطلاحي ، أي : حكم كلّ

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمّة بأنّ كلّ نجس يجب إزالته ، فلمّا كان راجعا إلى العلم وكان جهة القضيّة ، فلو جعل جزءا للمحمول ، فإن اريد بالقضيّة حينئذ أنّ كلّ نجس حكم عليه الأمّة أو حصل القطع في ضمن قضيّة كلّ نجس يجب إزالته فصدقها مسلّم ، لكن نقول حينئذ : أيّ شيء أردتم بالمقدّمة الاخرى ، أي : أنّ المسكر لا يجب إزالته بالإجماع؟ إن أردتم أنّ المسكر لم يحصل الإجماع عليه بالخصوص بوجوب الإزالة فمسلّم ، لكن لا ينتج حينئذ ، لعدم الوسط. وإن أردتم أنّه لم يحصل الإجماع عليه بوجوب إزالته مطلقا ، أي : سواء كان بخصوصه أو في ضمن كلّ نجس تجب إزالته ، فعلى هذا وإن اتّحد الوسط لكن صدقها ممنوع ، والسند ظاهر. وإن اريد بالقضيّة أنّ كلّ نجس [يجب](*) حكم عليه الأمّة بخصوصه أو حصل القطع بأنّه يجب إزالته ، فصدقها ممنوع كما عرفت.

ثمّ قال : وهذه الشبهة نظير ما يقال : إنّ العالم ليس بمتغيّر ، لأنّ العالم ليس بحادث بديهة ، أي : بديهيّ الحدوث ، وهو ظاهر ، وكلّ متغيّر حادث بالضرورة. والجواب الجواب كما علمت مفصّلا.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه إذا كان الإجماع على أنّ كلّ نجس تجب إزالته ، فكان كلّ نجس تجب إزالته بالضرورة أيضا بالمعنى المقابل للإمكان والامتناع ، فتعود الشبهة قطعا.

وأجاب عنه بأنّه حينئذ وإن صدق أنّ كلّ نجس ضروري وجوب إزالته ، لكن لا نسلّم أنّه يصدق أنّ المسكر ليس بضروري وجوب إزالته ، إذ لعلّه كان نجسا في الواقع ، وكان وجوب إزالته ضروريا ، وهو ظاهر. انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

الثالث : إنّ هنا إشكالا أورده سيّدنا العلّامة الأستاذ أدام الله بقائه بقاء السبع الشداد في مجلس درسه على المصنّف قدس‌سره ، وهو أنّه لا إشكال في قيام الأمارات مقام

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة مرموزا عليها : ز ، أي : زائد والظاهر أنّها من زيادات النسّاخ.

٥٦

لحكم. فلا بدّ من ملاحظة دليل ذلك ، ثمّ الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه ، لكن الغالب فيه الأوّل.

______________________________________________________

القطع فيما كان معتبرا من باب الطريقيّة المحضة ، كما أنّه لا إشكال أيضا في عدم قيامها مقامه فيما كان معتبرا من باب الصفة الخاصّة كما قدّمناه سابقا ، وإنّما الإشكال في قيامها مقامه فيما أخذ جزءا من موضوع الحكم الواقعي مع اعتباره من باب الطريقيّة إلى متعلّقه ، فإنّ في قيام الأمارات ـ مثل اليد والبيّنة ونحوهما ـ بعموم أدلّتها مقام هذا العلم في إثبات الأحكام الواقعيّة المترتّبة على العلم إشكالا ، فإنّ معنى جعل الشارع للبيّنة حجّة هو تنزيل ما قامت عليه البيّنة منزلة الواقع في ترتيب الأحكام الواقعيّة المرتّبة على الموضوع الواقعي عليه في مقام الظاهر ، لا جعل البيّنة علما ، لعدم معقوليّته. فإذا قال الشارع : إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم ، فمعناه بدلالة الاقتضاء هو ترتيب آثار التصديق الحقيقي الذي هو فرع العلم بصدق المخبر ، لا الأمر بتصديقه حقيقة ، لعدم معقوليّته كما عرفت. وهكذا الكلام في اليد وغيرها من الأمارات. فإذا كان مقتضى جعل الأمارة تنزيل مدلولها منزلة نفس الواقع في ترتيب الأحكام المرتّبة على الواقع على ما قامت عليه الأمارة ، لا يصحّ قيام الأمارة مقام العلم الذي أخذ جزءا من موضوع الحكم الواقعي ، إذ الفرض حينئذ ترتّب الحكم الواقعي على الواقع المنكشف على سبيل القطع والجزم ، وما يثبته الأمارة هو الحكم الواقعي المرتّب على نفس الموضوع الواقعي ، لا المقيّد بالانكشاف القطعي كما هو موضوع الحكم في محلّ الفرض.

والحاصل : أنّ الأمارة إنّما تثبت نفس الموضوع الواقعي في مقام الظاهر ، لا الموضوع المقيّد المذكور حتّى يرتّب عليه الحكم المأخوذ في موضوعه الكشف القطعي.

فإن قلت : نعم ولكن إذا فرض كون معنى تصديق البيّنة هو فرض ما قامت عليه نفس الواقع ، فلا محالة يكون لمدلول البيّنة حينئذ انكشاف قهري بواسطة قضيّة فرضه نفس الواقع ، فيترتّب عليه حينئذ أيضا ما كان يترتّب على الواقع المنكشف.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

قلت : إنّ الانكشاف المذكور من الامور القهريّة العقليّة اللازمة للقضيّة المذكورة ، والتنزيلات الشرعيّة لا تثبت اللوازم العقليّة حتّى تثبت بواسطتها الاحكام الشرعيّة المرتّبة على هذه اللوازم ، وإلّا لكانت الاصول المثبتة حجّة لا محالة.

وممّا يوضّح ما ذكرناه ـ من عدم إثبات الأمارات المجعولة للأحكام المرتّبة على الواقع بوصف الانكشاف ـ أنّ الاحكام من قبيل الاعراض التي لا قوام لها بدون معروضاتها ، فهي لا تثبت بدون إثبات موضوعاتها ، وقد عرفت أنّ الأمارات لا تثبت صفة الانكشاف ، اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ هذه الصفة لمدلولات الأمارات أيضا شرعيّة ، بأن يدّعى أنّ الأدلّة الدالّة على اعتبار الأمارات متكفّلة لإنشاء أمرين ، أحدهما : تنزيل مدلولاتها منزلة نفس الواقع ، وثانيهما : إنشاء صفة الانكشاف لهذه المدلولات ، فمقتضى هذه الأدلّة كون الأمارات مثبتة لكلّ من الأمرين ، فيترتّب على كلّ منهما حكمه. ولكنّك خبير بأنّ هذين أمران متغايران ، وثانيهما متأخّر رتبة عن الأوّل ، فهما محتاجان إلى إنشاءين مختلفين ، وأدلّة الإنشاء غير قابلة لإرادة هذين الإنشاءين ، وإلّا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. فظهر من ذلك أنّا لو قلنا بكون صفة الانكشاف من الامور الشرعيّة أيضا دون العقليّة لا تثبتها الأمارات ، فمع ذلك كيف يدّعى قيامها مقام العلم الذي أخذ جزءا من موضوع الحكم الواقعي؟

نعم هنا شيء ، وهو أنّه لو قامت البيّنة على أنّ المائع الخارجي بول معلوم مثلا ، أمكن أن يرتّب عليه الحكم المرتّب على البول المعلوم كالنجاسة ، بناء على ترتّبها على الموضوعات المعلومة على ما يراه صاحب الحدائق كما تقدّم ، فإنّه مقتضى تنزيل مدلول البيّنة منزلة نفس الواقع ، فإنّه لا فرق في عموم هذا التنزيل بين إخبار البيّنة عن الواقع وإخباره عن العلم ، فإنّ مقتضى التنزيل فرض كلّ منهما محقّقا في الواقع. ولكن هذا خارج من محلّ الكلام كما لا يخفى ، مع أنّه أيضا لا يخلو عن إشكال ، فإنّ موضوع النجاسة على مذهب صاحب الحدائق هو الموضوع المنكشف لنفس المكلّف دون غيره.

٥٨

وبالجملة ، لا يعقل وجه لصحّة قيام الأمارات مقام العلم في محلّ الفرض. ولو فرض إقامة الشارع بعض الأمارات مقامه في بعض الموارد ، كإقامة اليد مقام علم البيّنة كما في رواية حفص بن غياث المتقدّمة ، فلا بدّ فيه من التزام إعطاء الشارع حكم الواقع المنكشف لنفس الواقع إذا قامت عليه هذه الأمارة المنصوصة ، فلا بدّ حينئذ من الاقتصار على مورد النصّ ، لكونه على خلاف الأصل ، لفرض عدم اقتضاء عموم دليل اعتبار الأمارة ذلك كما عرفت ، بل هو نظير إعطاء حكم الماء للتراب عند فقده.

وهذا غاية توضيح ما أورده سيّدنا الأستاذ أدام الله بقاه من الإشكال في المقام. ولكنّه عندي لا يخلو عن نظر ، فإنّك لو تأمّلت فيما قدّمناه عند بيان الإشكال في قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ على النحو المفروض في المقام ، بناء على اعتباره من باب التعبّد دون الظنّ ، من الفرق بين جعل الأمارات والاصول التعبّدية ، لزالت عنك وسمة الشبهة هنا. نعم ، عمدة الإشكال التي لا يكاد تندفع هو ما قدّمناه في قيام الاستصحاب مقام العلم المذكور. والله العالم بحقائق الامور.

______________________________________________________

المصادر

(١) الحدائق الناضرة ج ٥ : ص ٢٤٩.

(٢) كالأمين الأسترابادي والسيّد المحدّث الجزائري.

(٣) الوسيلة : ص ٢١٨.

(٤) الوسائل ج ١٨ : ص ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٢.

٥٩
٦٠