فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

التي لم يعهد الاعتماد فيها على خبر الواحد في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام والصحابة. ولا ممّا يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ، مع أنّ هذا لا يمنع من التعويل على نقل العارف به ؛ لما ذكر.

ويدلّ عليه مع ذلك ما دلّ على حجّية خبر الثقة العدل بقول مطلق. وما اقتضى كفاية الظنّ فيما لا غنى عن معرفته ولا طريق إليه غيره غالبا ؛ إذ من المعلوم شدّة الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين وآراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتّى لا محيص عنها كمعرفة المجمع عليه والمشهور والشاذّ من الأخبار والأقوال ، والموافق للعامّة أو أكثرهم والمخالف لهم والثقة والأوثق والأورع والأفقه ، وكمعرفة اللغات وشواهدها المنثورة والمنظومة ، وقواعد العربيّة التي عليها يبتني استنباط المطالب الشرعيّة وفهم معاني الأقارير والوصايا وسائر العقود والايقاعات المشتبهة وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل. ولا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك غالبا سوى النقل الغير الموجب للعلم ، والرجوع إلى الكتب المصحّحة ظاهرا وسائر الأمارات الظنّية ، فيلزم جواز العمل بها والتعويل عليها فيما ذكر ، فيكون خبر الواحد الثقة حجّة معتمدا عليها فيما نحن فيه ، ولا سيّما إذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام والأجلّاء الكرام كما هو الغالب ، بل هو أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ؛ ولذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتّى (٣٥٣) بما لم يتسامح فيها ، كما لا يخفى.

الثالثة : حصول استكشاف (٣٥٤) الحجّة المعتبرة من ذلك السبب. ووجهه أنّ السبب المنقول بعد حجّيته كالمحصّل فيما يستكشف (٣٥٥) منه والاعتماد عليه وقبوله وإن كان من الأدلّة الظنّية باعتبار ظنّية أصله ؛ ولذا كانت النتيجة في الشكل

______________________________________________________

٣٥٣. مثل عدم اشتراط الضبط في الناقل ، وكونه مزكّى بعدل أو عدلين ، ونحو ذلك ممّا اشترطوه في قبول خبر الواحد ، فتأمّل.

٣٥٤. هذه المقدّمة بمنزلة النتيجة للمقدّمتين الأوليين.

٣٥٥. فيه ـ مضافا إلى ما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله ـ نظر من وجهين :

٤٨١

الأوّل تابعة في الضروريّة والنظريّة والعلميّة والظنّية وغيرها لأخسّ مقدمتيه مع بداهة إنتاجه.

______________________________________________________

أحدهما : أنّه يمكن منع حصول الاستكشاف بالمحصّل فضلا عن المنقول ، لأنّ العلماء الذين نقلت فتاواهم إلينا إن علم من حالهم أنّهم لا يعملون إلّا بما وصل إليهم من الأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام على سبيل العلم أو الوثوق ، ولا يعتمدون إلّا على المناطق (*) دون الدلالات الضعيفة والاستلزامات الموهونة ، كالصدوق وأمثاله ، فاتّفاق هؤلاء يستلزم عادة موافقة ما اتّفقوا عليه لما صدر عن الإمام عليه‌السلام لا محالة. والمعلوم من حال العلماء خلاف ذلك ، لاختلاف مشاربهم في العمل بالأخبار والعمل بالدلالات والاستلزامات ، ومعه لا تمكن دعوى الملازمة العاديّة بين رضا المعصوم عليه‌السلام وما اتّفقوا عليه ، كيف لا ولو نقل إلينا مستند فتواهم ربّما ناقشنا فيه أو منعناه. نعم ، لا نمنع حصول العلم بالموافقة لبعض الأشخاص في بعض الأحيان من باب الاتّفاق ، لكنّه غير مجد في دعوى الملازمة العاديّة.

يؤيّد ما ذكرناه أنّه قد تستقرّ الفتوى على حكم ثمّ على خلافه ، مثل حكمهم إلى زمان المحقّق الثاني بأنّ بيع المعاطاة إنّما يفيد مجرّد الإباحة ، خلافا للمفيد حيث حكم بلزومه ، وإذا وصلت النوبة إلى المحقّق الثاني حكم بإفادته للملك المتزلزل ، واستقرّت الفتوى بعده على ذلك. وكذلك المعروف قبل الشهيد الثاني هو تنجّس البئر بالملاقاة ، واستقرّت الفتوى بعده على خلافه.

وثانيهما : مع تسليم الملازمة العاديّة بين اتّفاق الكلّ ورضا المعصوم عليه‌السلام ، أنّ نقل السبب ليس كاشفا حقيقيّا ، إذ غايته حصول الظنّ به برضا المعصوم عليه‌السلام بسبب الظنّ بصدق الناقل ، ولا دليل على اعتبار الأمر المنكشف بكاشف شأني ، وذلك لأنّ اعتبار خبر العدل إنّما هو بجعل الشارع ، وتنزيل المحتمل أو المظنون منزلة الواقع ، لأنّا إذا قلنا باعتبار مفهوم آية النبأ فمقتضاه عدم وجوب التبيّن عن خبر

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة : ولعلّه تصحيف : المناط.

٤٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

العدل ، وتنزيل ما أخبر به منزلة الواقع بإلغاء احتمال الخلاف فيه ، ومعنى تنزيلات الشارع هو ترتيب الآثار الشرعيّة المرتّبة على الواقع على الأمر المنزّل منزلته ، ولكن لا يلزم منه أن يرتّب عليه ما كان مرتّبا على الواقع من الآثار العقليّة أو العادّية ، لعدم قابليّتها للجعل. فإذا قال الشارع : الطواف في البيت صلاة ، فمقتضاه ترتيب ما كان مرتّبا على الصلاة من الآثار الشرعيّة ـ كعدم جواز الدخول فيها من دون طهارة ، أو نحو ذلك ـ على الطواف أيضا ، دون الآثار العقليّة أو العادية ، كانهدار الطعام بسبب الحركة الحاصلة بها ، لما عرفت من عدم قابليّتها للجعل. ومن هنا يظهر أنّ الآثار الشرعيّة المرتّبة على الواقع بواسطة أمر عقلي أو عادي لا تترتّب أيضا على الأمر المنزّل منزلة الواقع ، إذ الحكم بثبوت ذلك فرع ثبوت موضوعه غير الثابت بتنزيل الشارع.

وحينئذ نقول : إنّ الثقة إذا أخبر باتّفاق الكلّ على حكم الذي هو كاشف عادة عن رضا المعصوم عليه‌السلام ، فمعنى اعتباره ترتيب الأثر الشرعيّ ـ وهو الحكم الشرعيّ المرتّب على السبب الواقعي ـ على هذا السبب المنقول ، والفرض أنّ ترتّبه عليه إنّما هو بواسطة لازمه العادّي ، وهو رضا المعصوم عليه‌السلام ، فتنزيل السبب المنقول منزلة الواقع لا يثبت ترتّب الحكم الشرعيّ عليه.

هذا ، ولكن يدفع هذا الإيراد أنّ رضا المعصوم عليه‌السلام إذا فرض كونه لازما عاديا لاتّفاق الكلّ ، فالإخبار عن اتّفاق الكلّ إخبار عن لازمه العادّي أيضا عند العرف ، فما دلّ على اعتبار خبر الثقة وتنزيله منزلة الواقع دلّ على اعتبار لازمه أيضا ، وتنزيله كذلك ، وإذا فرض كون اللازم العادّي موردا للتنزيل الشرعيّ يترتّب على هذا اللازم العادّي المنقول ما كان مترتّبا على اللازم العادّي الواقعي.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت إن تمّ إنّما يدلّ على اعتبار الإجماع المنقول باعتبار نقل الأمر المنكشف دون السبب الكاشف ، والمحقّق التستري لا يقول بذلك ، لأنّه إنّما يقول باعتباره باعتبار نقل السبب دون الأمر المنكشف.

٤٨٣

فينبغي حينئذ (٣٥٦) أن يراعى حال الناقل حين نقله من جهة ضبطه وتورّعه في النقل وبضاعته في العلم ومبلغ نظره ووقوفه على الكتب والأقوال واستقصائه لما تشتّت منها ووصوله إلى وقائعها ؛ فإنّ أحوال العلماء مختلف فيها اختلافا فاحشا. وكذلك حال الكتب المنقول فيها الإجماع ، فربّ كتاب لغير متتبع موضوع على مزيد التتبّع والتدقيق ، وربّ كتاب لمتتبّع موضوع على المسامحة وقلّة التحقيق. ومثله الحال في آحاد (٣٥٧) المسائل ؛ فإنّها تختلف أيضا في ذلك. وكذا حال لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب وخفائها ، وحال ما يدلّ عليه من جهة

______________________________________________________

قلت : إنّ نزاعه مع من قال باعتباره باعتبار نقل المنكشف صغروي ، لأنّه إنّما يمنع اعتبار الإجماعات المنقولة في كلمات العلماء باعتبار نقل المنكشف بدعوى ابتنائها على الحدس في الكشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام ، من دون ملازمة عادية بينه وبين ما تتّبعه الناقل من فتاوى العلماء ، نظرا إلى تعذّر استقصاء تتبّع فتاواهم في زمان الغيبة بحيث تحصل الملازمة العادّية بين الفتاوى المتتبّع فيها ورضا المعصوم عليه‌السلام ، لتشتّتهم في الأرض وعدم معرفتهم بأشخاصهم وعدم وصول كتب كثير منهم إلينا كما أشرنا إليه آنفا ، وإلّا فلو فرض حصول التّتبع كذلك فهو لا يمنع اعتبار الإجماع المنقول باعتبار نقل المنكشف أيضا.

فإن قلت : إن صحّ ما ذكرت اتّجه عدم حجّيته باعتبار نقل السبب أيضا ، لفرض عدم إمكان حصول العلم بالسبب العادي في زمن الغيبة ، فكلّ ما هو ظاهر في نقل السبب العادّي من ألفاظ الإجماع لا بدّ من صرفه إلى ما لا ينافي ما ذكرنا.

قلت : نعم إلّا أنّه راجع إلى الإيراد الأوّل الذي قدّمناه ، وهو وارد على المحقّق المذكور.

٣٥٦. يعني حين تمهيد المقدّمات ، وهو تفريع على ما ذكره فيها.

٣٥٧. لاختلاف الحال باختلافها من حيث كون المسألة من الفروع الجديدة أو القديمة المعنونة في كتب الأصحاب ، إذ تبعد دعوى الإجماع في الاولى ، بخلاف الثانية.

٤٨٤

متعلّقه (٣٥٨) وزمان نقله (٣٥٩) ؛ لاختلاف الحكم (٣٦٠) بذلك ، كما هو ظاهر. ويراعى أيضا وقوع دعوى الإجماع في مقام ذكر الأقوال أو الاحتجاج ؛ فإنّ بينهما تفاوتا (٣٦١) من بعض الجهات ، وربّما كان الأوّل الأولى بالاعتماد بناء على اعتبار السبب كما لا يخفى. وإذا وقع التباس فيما يقتضيه ويتناوله كلام الناقل بعد ملاحظة ما ذكر ، اخذ بما هو المتيقّن أو الظاهر.

ثمّ ليلحظ مع ذلك ما يمكن معرفته من الأقوال على وجه العلم واليقين ؛ إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال دون المعلوم على التفصيل ، مع أنّه لو كان المنقول معلوما لما اكتفي به في الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل فيه ، فكيف إذا لم يكن كذلك؟ ويلحظ أيضا سائر ما له تعلّق في الاستكشاف بحسب ما يعتمد عليه من تلك الأسباب ـ كما هو مقتضى الاجتهاد ـ سواء كان من الامور المعلومة أو المظنونة ، ومن الأقوال المتقدّمة على النقل أو المتأخّرة أو المقارنة.

وربّما يستغني المتتبّع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الإجماع ؛ لاستظهاره عدم مزيّة عليه في التّتبع والنظر ، وربّما كان الأمر بالعكس وأنّه إن تفرّد بشيء كان نادرا لا يعتدّ به. فعليه أن يستفرغ وسعه ويتبع نظره وتتّبعه ، سواء تأخّر عن الناقل أم عاصره ، وسواء أدّى فكره إلى الموافقة له أو المخالفة ، كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلّة وغيرها ممّا تعلّق بالمسألة ، فليس الإجماع إلّا كأحدها.

فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنّة وصول الناقل إلى ما لم يصل هو إليه من جهة السبب ، أو احتمال ذلك ، فيعتمد عليه في هذا خاصّة بحسب ما استظهر من

______________________________________________________

٣٥٨. مثل قولهم : أجمع أصحابنا أو علمائنا أو علماء الإسلام أو نحو ذلك.

٣٥٩. مثل نقله في أوائل اجتهاده وتتبّعه أو بعد كمال اطّلاعه على الأقوال والآراء.

٣٦٠. من حيث الدلالة على السبب والاستكشاف به عن رضا المعصوم عليه‌السلام.

٣٦١. قد تقدّم وجه التفاوت.

٤٨٥

حاله ونقله وزمانه ، ويصلح كلامه مؤيّدا فيما عداه (٣٦٢) مع الموافقة لكشفه عن توافق النسخ وتقويته للنظر. فإذا لوحظ جميع ما ذكر وعرف الموافق والمخالف إن وجد ، فليفرض المظنون منه كالمعلوم ؛ لثبوت حجّيته بالدليل العلمي ولو بوسائط (٣٦٣). ثمّ لينظر : فإن حصل من ذلك استكشاف معتبر كان حجّة ظنّية ، حيث كان متوقّفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب أو كان المنكشف غير الدليل القاطع ، وإلّا فلا.

وإذا تعدّد ناقل الإجماع أو النقل ، فإن توافق الجميع لوحظ كلّ ما علم على ما فصّل واخذ بالحاصل ، وإن تخالف لوحظ جميع ما ذكر واخذ فيما اختلف فيه النقل بالأرجح بحسب حال الناقل وزمانه ووجود المعاضد وعدمه وقلّته وكثرته ثمّ ليعمل بما هو المحصّل ، ويحكم على تقدير حجّيته بأنّه دليل ظنى واحد وإن توافق النقل وتعدّد الناقل.

وليس ما ذكرناه مختصّا بنقل الإجماع المتضمّن لنقل الأقوال إجمالا ، بل يجري في نقلها تفصيلا أيضا ، وكذا في نقل سائر الأشياء (٣٦٤) التي يبتني عليها معرفة الأحكام. والحكم فيما إذا وجد المنقول موافقا لما وجد أو مخالفا مشترك بين الجميع ، كما هو ظاهر.

وقد اتّضح بما بيّناه : وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب : من عدم الاستدلال بالاجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستقلال غالبا ، وردّه بعدم الثبوت أو بوجدان الخلاف ونحوهما ، فإنّه المتّجه على ما قلنا ، ولا سيّما فيما شاع فيه النزاع والجدال أو عرفت فيه الأقوال أو كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم

______________________________________________________

٣٦٢. حال من قوله «يعتمد».

٣٦٣. أي : ولو كان النقل بوسائط ، أو كان انتهاء الدليل إلى العلم بوسائط ، مثل الاحتجاج على حجّية الإجماع المنقول بأخبار الآحاد ، كما تقدّم في المقدّمة الثانية.

٣٦٤. مثل نقل الشهرة وعدم الخلاف.

٤٨٦

فيها دعوى الإجماع ؛ لقلّة المتعرّض (*) لها إلّا على بعض الوجوه (٣٦٥) التي لا يعتدّ بها أو كان الناقل ممّن لا يعتدّ بنقله ؛ لمعاصرته أو قصور باعه أو غيرهما ممّا يأتي بيانه ، فالاحتياج إليه مختصّ بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء ونادر من النقلة الأفاضل (٣٤) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

لكنّك خبير بأنّ هذه الفائدة للإجماع المنقول كالمعدومة ؛ لأنّ القدر الثابت (٣٦٦) من الاتّفاق بإخبار الناقل المستند إلى حسّه ليس ممّا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه‌السلام ، وإن كان هذا الاتّفاق لو ثبت لنا أمكن أن يحصل العلم بصدور مضمونه ، لكن ليس علّة تامّة لذلك ، بل هو نظير إخبار عدد معيّن في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم وقد لا يوجب. وليس أيضا ممّا يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتّى بالنسبة إلينا ؛ لأنّ استناد كلّ بعض منهم إلى ما لا نراه دليلا ليس أمرا مخالفا للعادة. ألا ترى أنّه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به ؛ لقصور سنده أو لكونه من الآحاد عنده أو لقصور دلالته أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها عليه بضرب من الترجيح ، فإذا ترجّح في نظر المجتهد المتأخّر أخبار الطهارة فلا يضرّه اتّفاق القدماء على النجاسة المستند إلى الامور المختلفة المذكورة.

______________________________________________________

٣٦٥. مثل الوجوه المتقدّمة لتوجيه إجماعات الفاضلين والشهيدين.

٣٦٦. توضيحه : أنّ اتّفاق الكلّ وإن كان ملازما عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام ، إلّا أنّه يتعذّر في زمان الغيبة اطّلاع الناقل عليه على سبيل الحسّ ، بأن كان الاطّلاع على فتاواهم بالسماع منهم أو وجدانها في كتبهم ، لتشتّتهم في مشارق الأرض ومغاربها ، وعدم المعرفة بأشخاصهم ومصنّفاتهم ، إذ ليس كلّ عالم بمصنّف ، ولا كلّ مصنّف بمعروف ، ولا كلّ معروف تعرف فتواه ، إذا أكثر كتب

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المتعرّض» ، التعرّض.

٤٨٧

وبالجملة : فالإنصاف ـ بعد التأمّل وترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع كما هو متعارف محصّلي (٣٦٧) عصرنا ـ أنّ اتّفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه‌السلام كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة أو من جهات شتّى.

______________________________________________________

العلماء ـ حتّى مثل الصدوق والشيخ والعلّامة ـ ليس بموجود الآن ، فغاية ما يمكن إسناده إلى اطّلاع الناقل على سبيل الحسّ هو فتاوى المعروفين بالفتوى ، وهي غير ملازمة عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام ، ولا لدليل معتبر كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، فغاية الأمر أن يتحدّس بفتاوى المعروفين عن فتوى الجميع ، فيدّعى الإجماع الظاهر في اتّفاق الكلّ. لكن هذا النقل حينئذ لا يكون حجّة بالنسبة إلى إثبات اتّفاق الكلّ ، لفرض ثبوته عند الناقل بالحدس ، فلا يكون إخباره عنه حجّة بالفرض ، وإلّا كان نقل الإجماع باعتبار نقل المنكشف حجّة ، وهو خلاف فرض المحقّق التستري من عدم اعتباره باعتبار نقل المنكشف.

٣٦٧. لا يذهب عليك أنّ أمثال هذه الكلمات لا تناسب مثل المصنّف رحمه‌الله المتزهّد في الدنيا والمتورّع في جميع أفعاله وأقواله ، لأنّها لا تخلو عن نوع اغتياب للعلماء الذين جعل الله أقدامهم موضوعة على أجنحة ملائكة السماء. قال المصنّف رحمه‌الله في مكاسبه في مستثنيات الغيبة : «ومنها القدح في مقالة باطلة ، وإن دلّ على نقصان قائلها ، إذا توقّف حفظ الحقّ وإضاعة الباطل عليه. وأمّا ما وقع من بعض العلماء بالنسبة إلى من تقدّم عليه منهم من الجهر بالسوء من القول فلم يعرف له وجه ، مع شيوعه بينهم من قديم الأيّام» انتهى. ولعمري إنّ هذا ممّا يقضى منه العجب ، لأنّه مع هذا الإشكال الوارد على الطعن على العلماء ، والاعتراض عليهم بالتخطئة وسوء الفهم ، كيف جرت عادتهم على ذلك في الأعصار والأصقاع؟!

وقال المحدّث البحراني بعد نقل شطر من الاعتراضات الواقعة بين المحقّق الكركي والشيخ إبراهيم القطيفي : «لكن هذه طريقة قد جرى عليها جملة من

٤٨٨

فلم يبق في المقام إلّا أن يحصّل المجتهد أمارات أخر من أقوال باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك ، فيحصل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه ـ الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا (*) ـ القطع في مرحلة الظاهر (٣٦٨) باللازم ، وهو قول الإمام عليه‌السلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه‌السلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل ، لكنّه أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الأقوال والمحصّل من الأمارات ملزوما عاديا لقول الإمام عليه‌السلام أو وجود الدليل المعتبر ، وإلّا فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل بأدلة حجّية خبر الواحد ، كما عرفت سابقا.

______________________________________________________

العلماء من تخطئة بعضهم بعضا في المسائل ، وربّما انجرّ إلى التجهيل والطعن في العدالة ، كما وقفت عليه في رسالة للشيخ علي بن الشيخ محمّد بن حسن صاحب حاشية اللمعة في الردّ على المولى محمّد باقر الخراساني صاحب الكفاية والطعن فيه بما يستقبح نقله ، وما وقع لشيخنا المفيد والسيّد المرتضى في الردّ على الصدوق في مسألة جواز السهو على المعصوم عليه‌السلام من الطعن الموجب للتجهيل ، وما وقع للمحقّق والعلّامة في الردّ على ابن إدريس والتعريض به ونسبته إلى الجهل ونحو ذلك ، سامحنا الله وإيّاهم بعفوه وغفرانه» انتهى.

٣٦٨. ربّما يشكل ذلك بأنّ الإجماع المنقول إذا لم يكن ملازما عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام ، فلا أثر لضمّ ما حصّله المنقول إليه في الكشف عن قوله.

وتوضيحه : أنّ معنى اعتباره شرعا تنزيله منزلة الواقع في ترتيب ما يترتّب على الواقع عليه من الآثار الشرعيّة. وقد يتوّهم عدم إفادة هذا التنزيل لثبوت الحكم الذي وقع عليه الإجماع مطلقا ، وإن كان الاتفاق المحكم بلفظ الإجماع ملازما عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام نظيرا إلى انّ تنزيل الاتفاق المحكى منزلة المحصّل منه إنّما يفيد ترتيب الآثار الشرعيّة المرتّبة على الاتّفاق المحصّل من دون واسطة

__________________

(*) لم ترد في بعض النسخ : تعبّدا.

٤٨٩

ومن ذلك ظهر : أنّ ما ذكره هذا البعض ليس تفصيلا في مسألة حجّية الإجماع المنقول ، ولا قولا بحجّيته في الجملة من حيث إنّه إجماع منقول (٣٦٩) ، وإنّما يرجع محصّله إلى أنّ الحاكي للإجماع (*) يصدّق فيما يخبره عن حسّ ، فإن فرض كون ما يخبره عن حسّه ملازما ـ بنفسه أو بضميمة أمارات أخر ـ لصدور الحكم الواقعي أو

______________________________________________________

عقلي أو عادي ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «كالمحصّل فيما يستكشف منه» إلى آخر ما ذكره ، والفرض أنّ الحكم الواقعي الذي وقع عليه الإجماع إنّما يترتّب على الاتّفاق المذكور بواسطة كشفه عن رضا المعصوم عليه‌السلام ، وهو أمر عادي ، فالحكم المذكور لا يترتّب على اعتبار الاتّفاق المحكيّ.

لكنّا قد قدّمنا هناك أنّا حيث فرضنا ملازمة الاتّفاق المذكور عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام ، فالإخبار عنه إخبار عن رضاه بالالتزام ، فما دلّ على اعتباره وتنزيله منزلة الواقع دلّ بالالتزام على اعتبار لازمه وتنزيله أيضا منزلة الواقع ، ومقتضى التنزيل الشرعيّ في اللازم هو ترتيب الحكم الواقعي على هذا اللازم المخبر به بالالتزام.

ولكنّك خبير بأنّ هذا الوجه إنّما يتمّ فيما كانت موافقة قول الإمام عليه‌السلام فيه من لوازم الاتّفاق المحكيّ ، وهو خلاف الفرض ، ولزومه للاتّفاق المحكيّ مع ما حصّله المنقول إليه غير مفيد في المقام ، لأنّ إخبار الناقل للاتّفاق إنّما يكون إخبارا عن لوازمه أيضا إذا كان اللازم لازما لما أخبر به ، لا له مع ما حصّله المنقول إليه ، لعدم كونه لازما لما أخبر به حينئذ.

٣٦٩. بمعنى القول باعتباره تعبّدا وإن لم يكن ملازما بنفسه أو بالضميمة لصدور الحكم الواقعي ، بل هو قول بالحجّية في الجملة من حيث الاندراج في قبول خبر الثقة في الامور الحسيّة.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : انّما.

٤٩٠

مدلول الدليل المعتبر عند الكلّ ، كانت حكايته حجّة ؛ لعموم أدلّة حجّية الخبر في المحسوسات ، وإلّا فلا ، وهذا يقول به كلّ من يقول بحجّية الخبر (*) في الجملة ، وقد اعترف بجريانه في نقل الشهرة وفتاوى آحاد العلماء.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول ، وأنّ نقل التواتر في خبر لا يثبت حجّيته ولو قلنا بحجّية خبر الواحد ؛ لأنّ التواتر صفة في الخبر (٣٧٠) تحصل بإخبار جماعة تفيد العلم للسامع ، ويختلف عدده باختلاف خصوصيّات المقامات ، وليس كلّ تواتر ثبت لشخص ممّا يستلزم في نفس الأمر عادة تحقّق المخبر به ، فإذا

______________________________________________________

٣٧٠. فيه نظر ، لأنّ المتواتر عند الأكثر خبر جماعة يفيد بنفسه القطع بصدقه مع اعتبار كون الجماعة في الكثرة بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب. واحترزوا بنفسه عن خبر جماعة يفيد القطع بالقرائن الزائدة على ما ينفكّ الخبر عنه عادة من الامور الخارجة. وباعتبار الكثرة عمّا لو أفاد القطع بملاحظة خصوصيّات الخبر ، من جهة المخبر والسامع والمخبر به ، مثل كون المخبر موسوما بالصدق ، والسامع خاليا ذهنه عن الشبهة ، والمخبر به قريب الوقوع ، مع عدم بلوغ المخبرين في الكثرة إلى ما أشرنا إليه. ولذا عرّفه المحقّق القمّي رحمه‌الله بأنّه خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادة ، وإن كانت للوازم الخبر مدخليّة في إفادة هذه الكثرة العلم. ولا ريب أنّ المتواتر بهذا المعنى لا ينفكّ عادة عن وقوع المخبر به ، فيكون نقل التواتر كنقل الاتّفاق الذي يلازم عادة موافقة قول الإمام عليه‌السلام ، فإذا أخبر بالتواتر فقد أخبر بإخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع بالملازمة العاديّة. وحينئذ يصحّ القول بحجّية نقل التواتر باعتبار كلّ من المنكشف والكاشف ، لفرض كونه ـ كما عرفت في الاصطلاح ـ عبارة عن إخبار جماعة يستلزم موافقة الواقع عادة. ومن هنا يظهر أنّه لا فرق بين قول الحلّي بتواتر حديث «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا» وبين

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الواحد.

٤٩١

أخبر بالتواتر فقد أخبر بإخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع ، وقبول هذا الخبر لا يجدي شيئا ؛ لأنّ المفروض أنّ تحقّق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار الجماعة الثابت بخبر العادل. نعم ، لو أخبر بإخبار جماعة يستلزم عادة تحقّق المخبر به ، بأن يكون حصول العلم بالمخبر به لازم الحصول لإخبار الجماعة ـ كأن أخبر مثلا بإخبار ألف عادل أو أزيد بموت زيد وحضور جنازته ـ كان اللازم من قبول خبره الحكم بتحقّق الملزوم وهو إخبار الجماعة ، فيثبت اللازم وهو تحقّق موت زيد ، إلّا أنّ لازم من يعتمد على الإجماع المنقول ـ وإن كان إخبار الناقل مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادئ المحسوسة المستلزمة للمخبر به ـ هو القول بحجّية التواتر المنقول.

______________________________________________________

نقله ذلك عن الآحاد بعدد يبلغ حدّ التواتر.

ثمّ إنّا مع تسليم مقالة المصنّف رحمه‌الله من عدم الملازمة بين حجّية خبر الواحد وحجّية نقل التواتر ، نظرا إلى أنّ ما دلّ على اعتبار خبر الواحد إنّما دلّ على اعتباره فيما كان علم المخبر بالمخبر به مستندا إلى الحسّ أو المبادي المحسوسة التي تستلزمه عادة ، دون الحدس ، وعلم مدّعي التواتر بوقوع المخبر به مستند إلى الحدس لا إلى أحد الأمرين ، على نحو ما قرّره نظير نقل الاتّفاق الذي لا يستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه‌السلام ، نقول : إنّ بين نقل التواتر ونقل الاتّفاق المذكور فرقا من جهة اخرى ، وهو أنّ نقل الاتّفاق نقل لأداء المتّفقين على الحكم المتّفق عليه ، ونقل تواتر خبر نقل لإخبار جماعة عن الإمام عليه‌السلام أو عن الوسائط بينه وبينهم ، مع دعوى حصول العلم للناقل في المقامين من اجتماع فتاواهم أو أخبارهم ، فإذا قلنا بعدم دلالة ما دلّ على اعتبار خبر الواحد على حجّية إخبار المخبر عن علمه المستند إلى الحدس ، فهو لا ينفي حجّية إخباره عن علمه بإخبار الجماعة.

وبعبارة اخرى : أنّ نقل الإجماع يتضمّن الإخبار بأمرين : أحدهما : علمه بفتاوى العلماء ، والآخر : علمه بموافقة ما اتّفقوا عليه لقول الإمام عليه‌السلام ، وما دلّ على حجّية خبر الواحد لا يدلّ على حجّية شيء منهما. أمّا الأوّل فلعدم ترتّب أثر

٤٩٢

لكن ليعلم أنّ معنى قبول نقل التواتر مثل الإخبار بتواتر موت زيد مثلا ، يتصوّر على وجهين : الأوّل : الحكم بثبوت الخبر المدّعى تواتره أعني موت زيد ، نظير حجّية الإجماع المنقول بالنسبة إلى المسألة المدّعى عليها الإجماع ، وهذا هو الذي ذكرنا أنّه يشترط في قبول خبر الواحد فيه كون ما أخبر به مستلزما عادة لوقوع متعلّقه.

الثاني : الحكم بثبوت تواتر الخبر المذكور ليترتّب على ذلك الخبر آثار المتواتر وأحكامه الشرعيّة ، كما إذا نذر (٣٧١) أن يحفظ أو يكتب كلّ خبر متواتر ، ثمّ أحكام

______________________________________________________

شرعيّ عليه بعد فرض عدم استلزامه عادة لموافقة قول الإمام عليه‌السلام. وأمّا الثاني فلفرض كونه أمرا حدسيّا لا تشمله أدلّة أخبار الآحاد. ونقل التواتر أيضا يتضمّن الإخبار بأمرين : أحدهما : علمه بإخبار الجماعة عن الإمام عليه‌السلام أو الوسائط بينه وبينهم ، والآخر : علمه بموافقة ما أخبروا به للواقع. ولو سلّم عدم شمول أدلّة خبر الواحد للثاني ، فهو لا يستلزم عدم شمولها للأوّل أيضا ، لفرض كونه أمرا حسيّا ، فيكون نقل التواتر من هذه الجهة كنقل الآحاد في إثبات خبر الجماعة عن الإمام عليه‌السلام أو الوسائط. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مراد المصنّف رحمه‌الله بقوله : «إنّ نقل التواتر في خبر لا يثبت حجّيته» هو عدم إثبات حجّية الخبر من حيث كونه متواترا ، بمعنى عدم إثبات آثار التواتر له ، فقيد الحيثيّة ملحوظ في كلامه.

والأولى أن يقال : إنّ مراده أنّ نقل التواتر في خبر لا يثبت حجّية هذا الخبر ، بمعنى أنّ نقل التواتر فيه لا يصير سببا لثبوت المخبر به شرعا ، وإن قلنا باعتبار خبر الناقل لأجل كونه عادلا ، لأنّ غايته إثبات خبر الجماعة ، وهو بمجرّده لا يثبت المخبر به ، لعدم اشتراط شرائط خبر الواحد في إخبار الجماعة في نقل التواتر ، فمع عدم اجتماعها فيهم لا يكون إخبارهم حجّة ، فإذا فرض عدم الملازمة العادّية بين إخبارهم وثبوت المخبر به فلا يبقى مقتض لقبول نقل التواتر مطلقا ، سواء كان ذلك لأجل كونه نقلا للتواتر أم إخبارا عن جماعة.

٣٧١. هذا يصلح مثالا لكلّ من قوليه «منها» و «منها». ثمّ إنّ هاهنا فروعا يتفرّع على اعتبار الإجماع المنقول أوضحناها في غاية المأمول ، من أراد الوقوف

٤٩٣

التواتر ، منها ما ثبت لما تواتر في الجملة ولو عند غير هذا الشخص ، ومنها ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلى هذا الشخص. ولا ينبغي الاشكال في أنّ مقتضى قبول نقل التواتر العمل به على الوجه الأوّل ، وأوّل وجهي الثاني ، كما لا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص.

ومن هنا يعلم أنّ الحكم بوجوب القراءة في الصلاة إن كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيّا قرأه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا إشكال في جواز الاعتماد على إخبار الشهيد رحمه‌الله بتواتر القراءات الثلاث ، أعني قراءة أبي جعفر وأخويه (*) ، لكن بالشرط المتقدّم ، وهو كون ما أخبر به الشهيد من التواتر ملزوما عادة لتحقّق القرآنيّة. وكذا لا إشكال في الاعتماد من دون شرط إن كان الحكم منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ؛ فإنّه قد ثبت تواتر تلك القراءات عند الشهيد بإخباره. وإن كان الحكم معلّقا على القرآن المتواتر عند القارئ أو مجتهده ، فلا يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات. وإلى أحد الأوّلين نظر حكم المحقّق والشهيد الثانيين (٣٥) بجواز القراءة بتلك القراءات ؛ مستندا إلى أنّ الشهيد والعلّامة قدس‌سرهما قد ادّعيا تواترها وأنّ هذا لا يقصر عن نقل الإجماع. وإلى الثالث نظر صاحب المدارك وشيخه المقدّس الأردبيلي (٣٦) قدس‌سرهما حيث اعترضا على المحقق والشهيد بأنّ هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة. ولا يخلو نظرهما عن نظر ، فتدبّر. والحمد لله وصلّى الله علي محمّد وآله ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

______________________________________________________

عليها فليراجع هناك.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : يعقوب وخلف.

٤٩٤

ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيتها بالخصوص : الشهرة في الفتوى الحاصلة بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف أم لم يعرف الخلاف (٣٧٢) والوفاق من غيرهم. ثمّ إنّ المقصود هنا ليس التعرّض لحكم الشهرة

______________________________________________________

٣٧٢. يمكن الفرق بين الشهرة وعدم الخلاف بأنّ الشهرة هي فتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كانت في مقابلها فتوى غيرهم بخلاف أم لم يعرف الخلاف والوفاق ، وعدم الخلاف عبارة عن اتّفاق من وقفنا على فتواه ، مع عدم العلم بوجود من عدا من وقفنا على فتواه. وبعبارة اخرى : يعتبر في الشهرة إمّا وجود المخالف وإن لم يكن من المعروفين ، وإمّا وجود من لم تعرف موافقته ولا مخالفته للمعروفين بالفتوى ، بخلاف عدم الخلاف ، إذ يعتبر فيه اتّفاق من وقفنا على فتواه من دون خلاف ، ولا العلم بوجود من لا يعرف فتواه بالموافقة أو المخالفة. ومن هنا يفارق الإجماع السكوتي ، لأنّه عبارة عن فتوى جماعة مع سكوت الباقين بعد الاطّلاع على فتاواهم ، بأن لم يظهر منهم الرضا بها ولا إنكارها ، فيفارق عدم الخلاف في اعتبار استيعاب الجميع في الإجماع السكوتي ولو مع اعتبار سكوت بعضهم ، بخلاف عدم الخلاف على ما عرفت.

ثمّ إنّ الأقوال في المسألة أربعة : القول بحجّيتها مطلقا ، اختاره الشهيد في الذكرى ، وحكى عن الفاضل الاستناد إليها في إثبات الحكم في موضع من المختلف. واختاره الخوانساري وولده جمال العلماء ، بل هو ظاهر كلّ من قال

٤٩٥

من حيث الحجّية في الجملة ، بل المقصود إبطال توهّم كونها من الظنون الخاصّة ، وإلّا فالقول بحجّيتها من حيث إفادة المظنّة بناء على دليل الانسداد غير بعيد (٣٧٣).

ثمّ إنّ منشأ توهّم كونها من الظنون الخاصّة أمران : أحدهما ما يظهر من

______________________________________________________

بمقتضى دليل الانسداد في وجه ، كما سنشير إليه في الحاشية الآتية. والقول بعدمها كذلك ، وعزاه في المفاتيح إلى المشهور. ويؤيّده ما قيل من أنّ الشهرة لو ثبتت حجّيتها لزم عدم حجّيتها ، لأنّ المشهور عدم حجّيتها ، فيلزم من وجودها عدمها ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل. والتفصيل بين الشهرات المدّعاة قبل زمان الشيخ وبعده ، بالقول بالحجّية في الاولى ونفيها في الثانية. اختاره صاحب المعالم. والتفصيل بين الشهرة المقترنة بوجود خبر ولو في كتب العامّة وغيرها ، بالقول بالموجب في الاولى دون الثانية. اختاره صاحب الرياض في رسالته المفردة في هذه المسألة ، وحكاه عن الوحيد البهبهاني ، وبه جمع بين القول بحجّية الشهرة وشهرة القول بعدمها ، بتخصيص الأوّل بصورة وجود الخبر والثاني بغيرها.

فإن قلت : مع وجود الخبر تكون الحجّة هو الخبر الموجود دون نفس الشهرة ، لانجبار ضعفه بها حينئذ.

قلت : إنّها إنّما تجبر ضعف السند إذا كان الخبر مستندا للمشهور ، والفرض في المقام عدم العلم بذلك. ثمّ إنّي قد بسطت تحرير الأقوال والأدلّة في المسألة في غاية المأمول ، فمن أراد الوقوف على حقيقة الحال فليراجع هناك.

٣٧٣. فيه نوع إشعار بتردّده فيه. ولعلّ الوجه فيه إمّا أنّ القول بحجّية الشهرة مستلزم لعدم حجّيتها ، لما صرّح به غير واحد من أنّ المشهور عدم حجّيتها ، وهذا هو المعبّر عنه بالظنّ المانع والممنوع ، وسيأتي تحقيق الكلام فيه. وإمّا احتمال اختصاص نتيجة دليل الانسداد باعتبار الظنّ في الاصول دون الفروع. ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى أنّ الحقّ في الأوّل تقديم الظنّ الممنوع منه ، وفي الثاني عموم النتيجة للاصول والفروع.

٤٩٦

بعض (٣٧) (٣٧٤) من أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد تدلّ على حجّيتها بمفهوم الموافقة ؛ لأنّه ربّما يحصل منها الظنّ الأقوى من الحاصل من خبر العادل. وهذا خيال ضعيف تخيّله بعض في بعض رسائله ، ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك حيث وجّه حجّية

______________________________________________________

٣٧٤. قيل : إنّ المراد بهذا البعض هو صاحب الرياض في رسالته المفردة في هذه المسألة. لكنّه إمّا اشتباه أو وقع خلل في النقل من المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ صاحب الرياض لم يتمسّك فيها بمفهوم الموافقة لأدلّة اعتبار أخبار الآحاد ، بل بمفهوم الموافقة للإجماع على جواز استعمال الظنون الرجاليّة في تعديل الرواة وتفسيقهم وتمييز المشتركات ، وكذلك الظنون المستعملة في ترجيح متعارضات الأخبار. وضعّف ما يقال في دفع ما ذكره من أنّ المعتبر في مفهوم الموافقة ثبوت الأصل بخطاب لفظي ، والأمر في المقام ليس كذلك ، بما حاصله أنّ الإجماع عندنا ليس معتبرا من حيث هو ، بل من حيث كشفه عن قول الإمام عليه‌السلام بلفظ معقد الإجماع أو مرادفه. وهو رحمه‌الله وإن لم يعبّر بلفظ مفهوم الموافقة بل بالأولويّة ، إلّا أنّ مقصوده ذلك. ومنه يظهر عدم ورود محذور إثبات القويّ بالضعيف على صاحب الرياض ، لما عرفت من أنّ مقصوده ليس التمسّك بمجرّد الأولويّة الظنّية حتّى يرد عليه ذلك ، بل بمفهوم الموافقة الذي لا يرد عليه ذلك. ومن هنا يظهر ما في قول المصنّف رحمه‌الله : «مع أنّه ما كان استفادة حكم الفرع ...» ، كيف وهو صرّح في كلامه بأنّ ما نحن فيه من قبيل قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) في كون استفادة حكم الفرع من دليل لفظيّ دالّ على حكم الأصل. لا يقال : إنّ ما ذكره المصنّف مبنيّ على أنّ المقيس عليه اعتبار أخبار الآحاد دون الظنون المذكورة. لأنّا نقول : إنّ أدلّة اعتبار خبر الواحد من باب الظنّ الخاصّ إمّا الآيات أو الأخبار أو الإجماع على سبيل منع الخلوّ. ولا وجه لما ذكره على الأوّلين. وكذا على الثالث ، لما أشرنا إليه. وقد نقلنا كلامه على طوله بألفاظه في غاية المأمول ، وبيّنّا ما يرد عليه هنالك.

ثمّ إنّ الفرق بين القياس بطريق أولى والقياس الجليّ والخفيّ والمفهوم الموافق

٤٩٧

الشياع الظنيّ (٣٧٥) بكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين.

ووجه الضعف : أنّ الأولويّة الظنّية (٣٧٦) أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها في حجّيتها؟! مع أنّ الأولويّة ممنوعة رأسا ؛ للظنّ بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّية الأصل ليس مجرّد إفادة الظنّ (٣٧٧). وأضعف من ذلك : تسمية هذه الأولويّة في كلام ذلك البعض مفهوم الموافقة ؛ مع أنّه ما كان استفادة حكم الفرع من الدليل اللفظيّ الدالّ على حكم الأصل ، مثل قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ.) (٣٨)

______________________________________________________

الذي يسمّى بفحوى الخطاب ولحن الخطاب ـ كما صرّح به المحقّق القمّي قدس‌سره ـ مقرّر في محلّه.

٣٧٥. وقد يسمّى بالاستفاضة ، وهو في الموضوعات بمنزلة الشهرة في الأحكام. وعن الروضة تفسيره بإخبار جماعة بها تأمن النفس من تواطئهم على الكذب ، ويحصل بخبرهم الظنّ المتاخم للعلم. قال : ولا ينحصر في عدد. نعم ، يشترط زيادتهم عن اثنين ليفرق بين العدل وغيره. أقول : لعلّ إفادته للاطمئنان غالبي ، كما صرّح به في الجواهر ، ثمّ قال : «بل لعلّ هذا هو المراد بالعلم في الشرع موضوعا وحكما ، وحينئذ فلا ريب في الاكتفاء به قبل حصول مقتضى الشكّ ، أمّا معه فقد يشكّ فيه» انتهى موضع الحاجة. ووجه تقييده بالظنّي في عبارة المصنّف رحمه‌الله للاحتراز به إمّا عن القطعي منه ، أو عن المفيد للاطمئنان بناء على عدم الإشكال في اعتباره حينئذ ، كما عرفته من الجواهر في الجملة.

٣٧٦. في التعبير عن الفحوى بالأولويّة إشارة إلى منع كون الدليل المذكور من قبيل الفحوى كما سيشير إليه.

٣٧٧. ومع تسليم كون اعتبار الأخبار من باب إفادة الظنّ فالأولويّة إنّما تتمّ بالنسبة إلى الظنون القويّة الحاصلة من الشهرة ، دون المساوية أو الضعيفة الحاصلة منها بالنسبة إلى الحاصل من خبر الواحد ، اللهمّ إلّا أن يتمسّك بعدم القول بالفصل.

٤٩٨

الثاني (٣٧٨) : دلالة مرفوعة زرارة ومقبولة ابن حنظلة على ذلك ، ففي الاولى : «قال زرارة : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل؟ قال : خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر ، قلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ قال : خذ بما يقوله أعدلهما ... الخبر» (٣٩).

بناء على أنّ المراد بالموصول مطلق المشهور رواية كان أو فتوى ، أو أنّ إناطة الحكم بالاشتهار تدلّ على اعتبار الشهرة في نفسها وإن لم تكن في الرواية.

وفي المقبولة بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة ، قال عليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك ـ الذي حكما به ـ المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بين غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.

قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ... إلى آخر الرواية" (٤٠).

بناء على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور ؛ بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله : «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور» ، فيكون في التعليل بقوله :

______________________________________________________

٣٧٨. قد يستدلّ أيضا بالمرسل في ألسنة الفقهاء وإن لم يوجد في الكتب الأربعة : «المرء متعبّد بظنّه». وقد استدلّوا به في أوقات الصلاة وشكوكها. وفيه : ـ مع إرساله ـ منع الدلالة ، لعدم ظهوره في إعطاء القاعدة ، إذ لعلّ المراد بيان وجوب تعبّد المرء بظنّه حيثما ثبت اعتبار ظنّه. وقد يستدلّ أيضا بما استدلّ به العامّة على حجّية الإجماع ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليكم بالسواد الأعظم» و «يد الله على الجماعة» ونحوهما من الأخبار المذكورة في محلّها. ولكن أكثرها ـ مع ضعف دلالته على حجّية الإجماع فضلا عن الشهرة ـ ضعيف السند.

٤٩٩

«فإنّ المجمع عليه ...» دلالة على أنّ المشهور مطلقا ممّا يجب العمل به وإن كان مورد التعليل (٣٧٩) الشهرة في الرواية.

وممّا يؤيّد إرادة الشهرة (٣٨٠) من الإجماع :

______________________________________________________

٣٧٩. لأنّ العبرة بعموم العلّة لا بخصوصيّة المورد ، فلا تكون خصوصيّة المحلّ مخصّصة.

٣٨٠. حاصله : أنّ الأمر هنا دائر بين إرادة الشهرة من الإجماع وعكسها ، ولا سبيل إلى الثاني ، لأنّ مقتضى التعليل نفي الريب عن المجمع عليه مطلقا ، سواء كان الإجماع حاصلا على الرواية أو الفتوى ، مع إثبات الريب على خلافه ، وليس كذلك ، إذ لا ريب في بطلان خلافه لا أنّه ممّا فيه ريب. مضافا إلى أنّ الإجماع بالمعنى المصطلح عليه لم يكن معهودا في زمان صدور الأخبار ، وإلى أنّه لو كان المراد به معناه الاصطلاحي لم يبق وجه لتحيّر السائل بعده ، وسؤاله عن صورة شهرة الروايتين ، وجواب الإمام عليه‌السلام بالأخذ بموافق الكتاب ثمّ بمخالف العامّة مع استوائهما في موافقة الكتاب ، ولا لفرض شهرة الروايتين ، لامتناع انعقاد الإجماع على حكمين متنافيين ، وكذا لما ذكر قبل الشهرة من المرجّحات من الأعدليّة والأوثقيّة والأورعيّة ، لأنّ مقتضاه الأخذ بهذه المرجّحات مطلقا وإن كانت الرواية الاخرى مشهورة.

فإن قلت : إنّ الإجماع الحقيقي على الرواية لا يقتضي بطلان خلافه ، ولذا يصحّ تحقّق الإجماع على رواية المتعارضين.

قلت : إنّ هذا التوهّم إنّما يتمّ لو كان المراد بالإجماع في العلّة هو الإجماع على الرواية خاصّة ، وليس كذلك ، لأنّ مقتضى التعليل نفي الريب عن المجمع عليه مطلقا مع إثباته على خلافه.

فإن قلت : مع تسليم إرادة الشهرة من الإجماع لا وجه لنفي الريب مطلقا عن المجمع عليه بهذا المعنى ، لثبوت الريب في المشهور بلا ريب. قلت : نفي الريب عنه إضافي بالنسبة إلى الشاذّ النادر ، والمراد أنّ الريب الحاصل في الشاذّ النادر غير

٥٠٠