فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الموضوعيّة دون الطريقيّة ـ كما في الشهادة والفتوى ـ لا يبقى وجه لعدم اعتباره في حقّ القاطع ، إذ لا إشكال في أنّه إذا حصل القطع للشاهد أو المفتي من الأسباب غير المتعارفة كان معتبرا في حقّهما ، وإن لم يجز للغير قبول شهادة مثل هذا الشاهد وتقليد مثل هذا المفتي ، ولذا لا يجوز للأوّل التصرف في المال الذي قطع بكونه لزيد ، وللثاني تقليد غيره. فإذا تعيّن إرادة الاحتمال الثاني فقد ذكر المصنّف فيه وجوها ثلاثة ، أقربها إلى الإرادة هو الأوّل. وفيه أيضا وجوه أخر :

أحدها : ـ وهو ما فهمه صاحب الفصول من كلامه كما ستعرفه ـ أن يريد بقوله : «فيلغو اعتبارهما في حقّه» وجوب رجوعه إلى المتعارف ، بمعنى أنّ القطّاع إذا قطع بشيء من سبب ، فإن كان السبب من الأسباب المورثة للقطع للمتعارف من الناس إذا حصلت عندهم على النحو الذي حصلت عنده يعمل حينئذ بقطعه. وإن كان من الأسباب التي تورث الظنّ للمتعارف منهم يبنى على حكم الظنّ. وإن كان ممّا لا يورث شيئا منهما يعمل بحكم الشاكّ ممّا تقتضيه الاصول والقواعد. وكذلك لو لم يكن هنا متعارف ، بأن كان ممّا يورث القطع لبعضهم والظنّ لآخر والشكّ لثالث.

وثانيها : أن يريد إلغاء القطع وملاحظة السبب في نفسه ، بأن يفرض نفسه جاهلا ثمّ يلاحظ السبب في حدّ ذاته ، فإن كان ممّا يفيد القطع في نفسه أو الظنّ أو لا يفيد شيئا منهما يعمل بمقتضاه. والفرق بينه وبين سابقه واضح بالتأمّل.

وثالثها : أن يريد الجمع بين مقتضى قطعه ومقتضى الاصول والقواعد المقرّرة للشاك. ولعلّ الوجه الأوّل أقرب من الوجوه التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله.

وكيف كان ، فعلى تقدير إرادة أحد هذه الوجوه يرد عليه ما أورده المصنّف رحمه‌الله على الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرها للاحتمال الثاني ، إذ لا يعقل تكليف القاطع بخلاف قطعه إلّا برفع اليد عن الواقع المقطوع به ، وإلّا يؤدّي إلى التناقض ، مضافا إلى ما يرد على الثالث من لزوم الجمع أحيانا بين الضدّين أو

١٤١

أقول : أمّا عدم اعتبار ظنّ من خرج عن العادة في ظنّه ؛ فلأنّ أدلّة اعتبار الظنّ (٨١) في مقام يعتبر فيه مختصّة بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول الظنّ منها لمتعارف الناس لو وجدت تلك الأسباب عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ، فالحاصل من غيرها يساوي الشكّ في الحكم.

وأمّا قطع من خرج قطعه عن العادة : فإن اريد بعدم اعتباره ، عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها ـ كقبول شهادته وفتواه ونحو ذلك ـ فهو حقّ ؛ لأنّ أدلّة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا ، لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشكّ إرادة غير هذا القسم.

وإن اريد (*) عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها من حيث الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع : فإن اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ (٨٢) ، فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ وغير العالم لا تجري في حقّه ؛ وكيف يحكم على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دلّ على عدم الوجوب عند عدم العلم ، وعلى القاطع بأنّه صلّى ثلاثا بالبناء على أنه (٨٣) صلّى أربعا؟! ونحو ذلك.

______________________________________________________

النقيضين في مقام العمل ، كما إذا قطع بحرمة شيء وكان مقتضى الاصول والقواعد وجوبه.

٨١. لا فرق فيه بين كون المراد من الظنّ هو المأخوذ من باب الموضوعيّة وبين المأخوذ من باب الطريقيّة على وجوهها الثلاثة ، ولذا لم يردّد الأمر فيه بين هذه الوجوه.

٨٢. بأن يكون مقصوده من لغويّة قطع القطّاع وجوب رجوعه إلى الأحكام المقرّرة للشاكّ.

٨٣. متعلّق بقوله «يحكم» أي : كيف يحكم على القاطع بأنّه صلّى ثلاثا بالبناء.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : به.

١٤٢

وإن اريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه وتنزيله إلى الشكّ أو تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه (٨٤) ولو بأن يقال له : إن الله سبحانه لا يريد منك الواقع ـ لو فرض عدم تفطّنه لقطعه بأنّ الله يريد الواقع منه ومن كلّ أحد ـ فهو حق ، لكنّه يدخل في باب الإرشاد ، ولا يختصّ بالقطّاع بل بكلّ من قطع بما يقطع (٨٥) بخطئه فيه من الأحكام الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة المتعلّقة بحفظ النفوس والأعراض ، بل الأموال في الجملة (٨٦). وأمّا فيما عدا ذلك ممّا يتعلّق بحقوق الله سبحانه (٨٧) ، فلا دليل على وجوب الردع في القطّاع ، كما لا دليل عليه في غيره. ولو بني على وجوب ذلك في حقوق الله سبحانه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى ـ لم يفرّق أيضا بين القطّاع وغيره.

وإن اريد بذلك أنّه بعد انكشاف الواقع (٨٨)

______________________________________________________

٨٤. المراد ارتداعه عن العمل بقطعه.

٨٥. الفعل الأوّل مبنيّ للفاعل والثاني للمفعول. وفي قوله «بخطئه فيه» تنبيه على اختصاص لغويّة قطع القطّاع ـ بمعنى وجوب ردعه عنه من باب الإرشاد بأحد الوجهين اللذين ذكرهما ـ بصورة العلم بالمخالفة ، إذ لا وجه له مع العلم بالموافقة أو الشكّ فيها.

٨٦. قيد للأموال. والمقصود منه الاحتراز عن المحقّرات. ويحتمل كونه قيدا لوجوب الردع في الأموال. والمقصود منه حينئذ الاحتراز عن وجوبه لغير الحاكم الشرعيّ. والخلاف واقع في المقامين ، فليطلب من الفقه.

٨٧. كمن قطع بكون مائع ماء فأراد شربه وهو خمر في الواقع.

٨٨. يعني أنّه إن اريد بعدم اعتبار قطع القطّاع أنّه بعد تبيّن مخالفة قطعه للواقع لا يجزي ما أتى به على طبقه عن الواقع فهو حقّ في الجملة ، لأنّ تكليفه حين العمل إن كان مجرّد الواقع من دون مدخليّة للاعتقاد في ثبوت الحكم ، فالمأتيّ به على طبق الاعتقاد المخالف للواقع لا يجزي عن الواقع ، إلّا أنّ تخصيص الحكم حينئذ

١٤٣

لا يجزي ما أتى به على طبق قطعه فهو أيضا حقّ في الجملة ؛ لأنّ المكلّف إن كان تكليفه حين العمل مجرّد الواقع من دون مدخليّة للاعتقاد ، فالمأتيّ به المخالف للواقع لا يجزي عن الواقع ، سواء القطّاع وغيره. وإن كان للاعتقاد مدخل فيه ـ كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلة ـ فإنّ قضيّة هذا كفاية القطع المتعارف ، لا قطع القطّاع ، فيجب عليه الإعادة وإن لم تجب على غيره.

______________________________________________________

بالقطّاع لا وجه له ، إذ القطّاع وغيره سواء فيه. وإن كان للاعتقاد مدخل في ثبوت الحكم ، كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونه قبله ، فحينئذ يصحّ تخصيص الحكم بالقطّاع ، وذلك أنّهم قد ذكروا أنّ المصلّي إذا صلّى إلى جهة معتقدا بكونها قبلة ثمّ تبيّن خلاف ما اعتقده لم يعد ما وقع من صلاته بين المشرق والمغرب ، فغير القطّاع وإن لم يجب عليه الإعادة حينئذ إلّا أنّ القطّاع يجب عليه الإعادة.

ولا يذهب عليك أنّ صورة مدخليّة الاعتقاد وإن كانت خارجة من محلّ الكلام ، إذ الكلام إنّما هو في بيان شقوق صورة اعتبار قطع القطّاع من باب الطريقيّة دون الموضوعيّة ، إلّا أنّ ذكرها إنّما هو لمجرّد تتميم موارد عدم إجزاء عمل قطع القطّاع مع انكشاف الواقع. وإنّما قيّد حقيّة ما ذكره بقوله : «في الجملة» احترازا عن صورة مدخليّة الاعتقاد في ثبوت الحكم كما عرفت.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا حقّق المصنّف رحمه‌الله به المقام أنّ الكلام في حكم القطّاع يقع في مقامات :

أحدها : حكمه من حيث عمله بقطعه.

وثانيها : معاملة الغير معه من حيث ردعه عن قطعه وتنبيهه على خطأه في قطعه من باب الإرشاد ، سواء تعلّق قطعه بحقوق الله تعالى أم بحقوق الناس. وعلى الثاني بالنفوس أو الأعراض أو الأموال أو غيرها.

وثالثها : حكم عمله مع انكشاف مخالفة قطعه للواقع من حيث الصحّة و

١٤٤

ثمّ إنّ بعض المعاصرين (١٦) (٨٩)

______________________________________________________

الفساد في المعاملات ، ووجوب الإعادة والقضاء أو عدمهما في العبادات ، وقد ظهر أحكام الجميع ممّا ذكره في المقام ، فتدبّر.

٨٩. المراد من بعض المعاصرين هو صاحب الفصول. ولا بأس بأن نذكر كلامه ثمّ نعقّبه بما يناسب المقام ، فنقول : إنّه قدس‌سره قد قرّر محلّ النزاع في مسألة الملازمة بين حكم العقل والشرع في مقامين :

أحدهما ـ وهو المعروف ـ : أنّ العقل إذا أدرك جهات الفعل من حسن أو قبح وحكم بوجوبه أو حرمته أو غير ذلك ، فهل يكشف ذلك عن حكمه الشرعيّ ، ويستلزم أن يكون قد حكم الشارع أيضا على حسبه ومقتضاه من وجوب أو حرمة أو غير ذلك ، أو لا يستلزم؟ وعدم الاستلزام أيضا إمّا بتجويز حكم الشارع بخلاف ما حكم به العقل ، أو بتجويز خلوّ الواقعة في الواقع عن الحكم رأسا ، بأن لا يحكم الشارع فيها بشيء.

وثانيهما : أنّ العقل إذا أدرك الحكم الشرعيّ وجزم به ، فهل يجوز لنا اتّباعه ، ويثبت بذلك الحكم في حقّنا أو لا؟ وقال : وهذا النزاع إنّما يتصوّر إذا لم يقطع العقل بالحكم الفعلي ، بل قطع بالحكم في الجملة ، بأن احتمل عنده اشتراط فعليّته باستفادته من طريق النقل. وأمّا لو قطع بالتكليف الفعلي بأنّ ما أدركه مطلقا غير متوقّف على دلالة سمعيّة عليه ، فالشكّ في ثبوته غير معقول.

ثمّ اختار في المقام الأوّل عدم الملازمة عقلا بين حسن الفعل وقبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه. وقال : وإنّما الملازمة بين حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه. وبعد دعوى كون جهة الفعل من جهات التكليف ، فقد يقتضي حسن الفعل أو قبحه حسن التكليف به أو بتركه ، وقد لا يقتضي لمعارضة جهة اخرى في التكليف ، قال : هذا إذا اريد بالملازمة الواقعيّة منها ، ولو اريد بها الملازمة ولو بحسب الظاهر فالظاهر ثبوتها. وفي المقام الثاني ثبوت الملازمة

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في الظاهر ، وعدم ما يدلّ على عدمها في الواقع.

ثمّ بعد إقامة الأدلّة على مختاره في المقامين ذكر من جملة أدلّة المنكرين للملازمة قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً.) وبعد ما نقل عن المحقّق القمّي رحمه‌الله ما أجاب به عنه من أنّ الآية ـ على تقدير تسليم دلالتها على ما ذكروه ـ ظنّية ، وهي لا تصلح لمعارضة ما ذكرناه من الدليل القطعي ، فلا بدّ من تأويلها وصرفها عن ظاهرها ، ونقل عنه وجوه التأويل ، قال : «وهذا الجواب غير مستقيم على إطلاقه ، وذلك لأنّ استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعيّ ـ واقعيّا كان أو ظاهريّا ـ مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعيّ عنده من جواز تعويله عليه ، ولهذا يصحّ عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده : لا تعوّل في معرفة أوامري وتكاليفي على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر في ذلك على ما يصل منّي إليك بطريق المشافهة أو المراسلة أو نحو ذلك.

ومن هذا الباب ما أفتى به بعض المحقّقين من أنّ القطّاع الذي يكثر قطعه من الأمارات التي لا توجب القطع عادة يرجع إلى المتعارف ، ولا يعوّل على قطعه الخارج منه ، فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا علم القطّاع أو احتمل أن تكون حجّية قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ، فيرجع إلى ما ذكرناه من اشتراط حجّية القطع بعدم المنع. لكنّ العقل قد يستقلّ في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعيّ لمنافاته لحكمة فعليّة قطعيّة ، وقد لا يستقلّ بذلك ، لكن حينئذ يستقلّ بحجّية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع. والاحتجاج بالآية على تقدير دلالتها إنّما يقتضي منع حجّية القسم الثاني. والجواب المذكور إنّما يقتضي منع دلالتها على القسم الأوّل» انتهى كلامه رفع مقامه.

وحاصل مقصوده من قوله : «ومن هذا الباب ...» أنّ ما أفتى به بعض المحقّقين من عدم جواز تعويل القطّاع على قطعه ووجوب رجوعه إلى المتعارف مبنيّ على ما ذكره من جواز التعليق في حكم العقل ، وذلك أنّه إذا كان القطع

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعارف قابلا للتعليق ، ولم يمنع العقل من اشتراطه بعدم ثبوت مانع شرعيّ كما أوضحه بالمثال ، فالعقل في القطع المتعارف وإن كان حاكما باعتباره في الظاهر ما لم يثبت المانع ، إلّا أنّه في القطع غير المتعارف إذا احتمل المانع يقف عن الحكم باعتباره ولو في الظاهر ، لكونه أنزل مرتبة من المتعارف ، فإذا حكم باعتباره في الظاهر يقف في غيره لا محالة.

وأمّا إذا قلنا بعدم قابليّة حكم العقل للتعليق أصلا ، وأنّه إذا قطع بشيء يحكم به جزما بحسب الواقع ، وأنّه لا يحتمل خلاف ما حكم به أصلا ، فلا معنى إذن لوقوفه في حكم قطع القطّاع ، لفرض عدم قابليّة حكمه للتعليق فضلا عن وقوفه عن الحكم إذا قطع بشيء.

وممّا ذكرناه يظهر وجه ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من جعل ما ذكره صاحب الفصول من اشتراط حجّية القطع المتعارف بعدم منع الشارع عنه ، وأنّ العقل حين احتماله يحكم باعتباره في الظاهر ما لم يثبت المانع ، توجيها لكلام كاشف الغطاء ، فإنّ مقصوده من توجيه صاحب الفصول كلامه بما ذكره هو ما ذكرناه من كون مبنى كلامه على ما ذكره ، فلا يتوهّم حينئذ أنّ مقتضى ما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه هو حجّية القطع ظاهرا ما لم يثبت المانع ، فكيف يكون ما ذكره توجيها لعدم اعتبار قطع القطّاع؟

ومن التأمّل في كلام صاحب الفصول يظهر أيضا أنّ ما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه من المثال إنّما هو تمثيل لتقريب قابليّة حكم العقل للتعليق ، ولا دخل له في مسألة قطع القطّاع. ونقل المصنّف رحمه‌الله له في المقام لكونه تمثيلا لما بنى عليه عدم حجّية قطع القطّاع. ومقصوده أيضا بيان فساد مبنى التوجيه ، وذلك أنّه إذا حصل القطع بكون المائع الخارجي خمرا ، فحينئذ إذا لم نقل باعتبار هذا القطع ، وقلنا بعدم وجوب الاجتناب عنه ، فهذا لا يجتمع مع علمنا بكونه خمرا واجب الاجتناب عنه في الواقع إلّا برفع اليد عن حكم الخمر الواقعي ، وإلّا فلزوم التناقض بين قوله :

١٤٧

وجّه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع ـ بعد تقييده بما إذا علم القطّاع أو احتمل أن يكون حجّية قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ـ بأنّه يشترط في حجّية القطع عدم منع الشارع عنه وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع ، إلّا أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجّية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع. وأنت خبير بأنّه يكفي في فساد ذلك عدم تصوّر القطع بشيء وعدم ترتيب آثار ذلك الشيء عليه مع فرض كون الآثار آثارا له. والعجب أنّ المعاصر مثّل لذلك بما إذا قال المولى لعبده : لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة أو المراسلة. وفساده يظهر ممّا سبق من أوّل المسألة إلى هنا.

______________________________________________________

الخمر حرام ، وبين قوله : لا تعمل بمقتضى قطعك ، واضح لا يعتريه شكّ أصلا. وهكذا الكلام في غيره من الموضوعات ، ونحوه الكلام في الأحكام الكلّية أيضا ، فإنّه إذا قطعنا بقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، فهو لا يجتمع مع قوله : لا تعمل في أوامري وتكاليفي بما تقطع به من قبل عقلك ، واقتصر فيها بما وصل إليك من طريق السمع ، إلّا بالتزام تقييد التكاليف الواقعيّة بوصولها بطريق سمعي ، وإلّا فلزوم التناقض فيها أيضا واضح.

وأمّا ما ذكره من المثال فهو كما ذكره المصنّف رحمه‌الله واضح الفساد ، يظهر وجهه ممّا قدّمناه. نعم ، يصحّ منع المولى عبده من العمل بقطعه في مثل المثال بوجوه لا دخل لها فيما نحن فيه ، وذلك أنّ قول المولى لعبده : لا تعوّل في أوامري ، إمّا أن يقول له ذلك قبل حصول القطع له أو بعده.

فعلى الأوّل يصحّ ذلك ، إمّا بأن يكون مقصوده بذلك بيان تقييد مراداته في الواقع بما وصل إليه بطريق المراسلة أو المشافهة ، فما قطع به ليس بداخل في مراده أصلا. وإمّا بأن يكون المقصود بيان النهي عن الدخول في المقدّمات المحصّلة للقطع ، لكثرة الخطأ في المقدّمات العقليّة ، لا أنّه بعد عصيانه ودخوله وحصول القطع له لا يجوز له التعويل على قطعه ، كالنهي عن الخوض في مسائل الكلام

١٤٨

الرابع :

أنّ المعلوم إجمالا (٩٠)

______________________________________________________

وعن البحث عن مسائل القدر.

وعلى الثاني يصحّ ذلك أيضا ، إمّا بأن يكون المقصود أيضا ما ذكر في الوجه الأوّل. وإمّا بأن يكون المخاطب ممّن لا يتفطّن إلى قطعه ، بأن كان ممّن لو قلت له : لا تعمل بقطعك ، لاعتمد على قولك ، كما ذكره المصنّف قدس‌سره في ردع القطّاع من باب الإرشاد. وإمّا بأن يكون مقصوده بيان خطأه في اعتقاده ، كما في قضيّة أبان مع الصادق عليه‌السلام في دية قطع الأصابع كما نقله المصنّف في التنبيه السابق.

وهذه الوجوه كما ترى خارجة من محلّ الفرض. وبالجملة ، إنّ كلّ ما ذكره المصنّف من أوّل المسألة إلى هنا في عدم تعقّل الفرق في اعتبار القطع بين أسبابه وأفراد القاطع دليل على فساد المثال المذكور كما أشار إليه ، وتصحيحه على أحد الوجوه المذكورة يخرجه ممّا نحن بصدده.

٩٠. الكلام فيما سبق من التنبيهات إنّما كان في بعض أحوال العلم وأحكامه مع قطع النظر عن تفصيله وإجماله ، وحيث كان فيها كفاية لبيان اعتبار العلم التفصيلي خاصّة احتاج هنا إلى التعرّض بحال العلم الإجمالي وأنّه كالتفصيلي أم لا. وقوله «إجمالا» حال من الموصولة ، أي الذي علم في حال كونه مجملا مردّدا بين أمرين فصاعدا. فالإجمال في المعنى صفة للمعلوم دون العلم. والوجه فيه أنّ العلم أمر بسيط ، وهي الصورة الحاصلة في الذهن ، وهي لا تتّصف بالإجمال والتفصيل إلّا باعتبار متعلّقه. ومن هنا يظهر أنّ لفظ «الإجمال» في قوله «العلم الإجمالي» صفة للعلم باعتبار حال متعلّقه لا باعتبار نفسه. ثمّ إنّ تشبيه المعلوم بالإجمال بالمعلوم بالتفصيل في عنوان المسألة ـ الذي هو مقسم للأقسام التي ذكرها ـ لا يخلو من مسامحة ، لكون الكلام في المقام الثاني في كيفيّة امتثال العلم الإجمالي لا في اعتباره.

١٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ، فتوضيح الكلام في الأقسام التي أشار إليها : أنّ الكلام في العلم الإجمالي تارة يقع في اعتباره من حيث إثبات التكليف به ، بمعنى أنّ المكلف الذي فرض فراغ ذمّته من تكليف خاصّ إذا حصل له العلم به إجمالا ، فهل يوجب ذلك اشتغال ذمّته به كالعلم التفصيلي مع قطع النظر عن كيفيّة امتثاله ، أم هو كالمجهول رأسا؟ وبعبارة اخرى أنّ العلم الإجمالي هل يوجب تنجّز التكليف إجمالا مع قطع النظر عن كيفيّة امتثاله في مقابل السلب الكلّي ، أم لا؟ فالمقصود من تشبيهه بالعلم التفصيلي إنّما هو تشبيهه به في الجملة ، لما سيشير إليه من مرتبتي اعتبار العلم الإجمالي ، وهما لا تتأتّيان في العلم التفصيلي ، لوجوب الموافقة القطعيّة فيه لا محالة.

واخرى : يقع في كيفيّة امتثاله مع قطع النظر عن كيفيّة ثبوته ، بمعنى أنّه إذا فرض اعتبار العلم الإجمالي وكونه مثبتا للتكليف وموجبا لاشتغال الذمّة ، مع قطع النظر عن كيفيّة اعتباره كما سنشير إليه ، فهل يكتفى في امتثاله بالموافقة الإجماليّة مع إمكان العلم بالموافقة التفصيليّة أم لا؟ والأولى بدل قوله «فلا يجوز» أن يقال : فلا يجزي.

ثمّ إنّه بعد البناء في المقام الأوّل على اعتبار العلم الإجمالي في مقابل السلب الكلّي ، يقع الكلام في كيفيّة اعتباره ، لما أشار إليه من قوله : «لأنّ اعتبار العلم الاجمالي له مرتبتان». الاولى : حرمة المخالفة القطعيّة ، بأن يكتفى في امتثاله بالموافقة الاحتماليّة التي هي أدنى مرتبتي الامتثال. الثانية : وجوب الموافقة القطعيّة التي هي مقتضى ثبوت تعلّق غرض الشارع بنفس الواقع. وأحال الكلام في المرتبة الثانية إلى مسألة البراءة والاشتغال عند الشكّ في المكلّف به ، وإنّ المقصود هنا هو التكلّم في المرتبة الاولى من المقام الأوّل ، دفعا لتوهّم أنّ عنوان البحث عن العلم الإجمالي هناك يغني عن عنوان البحث عنه هنا. ومقصوده أنّ الغرض الأصلي هناك وهنا هو ما ذكر ، وإن كان قدس‌سره قد عنون البحث في المرتبة الاولى ثمّة أيضا ، إلّا أنّ ذلك منه هناك استطرادي وليس مقصودا بالأصالة.

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ، فقدّم الكلام في المقام الثاني ، لاختصاره وقلّة ما يتعلّق به. والكلام فيه يقع في مقامين ، أحدهما : ما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ، أعني : الواجبات التوصليّة التي يعبّر عنها بالمعاملات بالمعنى الأعمّ. وثانيها : ما يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ، أعني : الواجبات التعبّدية التي يعبّر عنها بالعبادات بالمعنى الأخصّ.

والكلام في المقامين تارة فيما يمكن تحصيل العلم التفصيلي بالموافقة ، واخرى فيما يمكن تحصيل الظنّ الخاصّ خاصّة ، وثالثة فيما يمكن تحصيل الظنّ المطلق كذلك ، بمعنى أنّه مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي بالموافقة أو الظنّ الخاصّ كذلك أو المطلق كذلك ، فهل يكتفى مع ذلك بالموافقة الإجماليّة ، أو يجب تحصيل الموافقة التفصيليّة علما أو ظنّا خاصّا أو مطلقا؟ وإنّه إنّما يكتفى بالموافقة الإجماليّة مع تعذّر الموافقة التفصيليّة مطلقا أو في الجملة.

والكلام في هذه المراتب تارة فيما استلزم الموافقة الإجماليّة لتكرار العمل ، كما لو دار الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة ، واخرى فيما لا يستلزم ذلك ، كما لو كان الشكّ في الأجزاء والشرائط بناء على كون ذلك من موارد الشكّ في المكلّف به. وهذه المراتب مختلفة في القوّة والضعف ، من حيث شبهة جواز الاكتفاء بالموافقة الإجماليّة ، فالاكتفاء بها مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي أقوى شبهة من الاكتفاء بها مع إمكان الظنّ الخاصّ ، وهو أقوى شبهة من الاكتفاء بها مع إمكان الظنّ المطلق ، والاكتفاء بها في هذه المراتب مع استلزامها تكرار العلم أقوى شبهة من الاكتفاء بها مع عدم استلزامها ذلك. فإثبات الجواز فيما هو أقوى من هذه المراتب يثبت الجواز فيما هو أضعف منه بطريق أولى ، ولا عكس.

ثمّ إنّ دوران الأمر بين العلم التفصيلي بالموافقة والعلم الإجمالي بها إنّما هو بحسب الإمكان ، بمعنى أنّه إذا حصل العلم تفصيلا أو إجمالا بالتكليف ، وأمكن تحصيل كلّ من العلم التفصيلي والإجمالي بالامتثال ، فهل يتعيّن الأوّل ، أو يجزي

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني أيضا؟ كما إذا ثبت وجوب إكرام زيد ، وأمكن تحصيل العلم بإكرامه تفصيلا ، وبإكرام شخصين أحدهما زيد. فليس المقصود منه دوران الأمر بينهما في صورة اجتماعهما ، لعدم معقوليّتها ، إذ العلم بأنّ هذا الشخص زيد وأنّه واجب الإكرام لا يجتمع مع العلم الإجمالي بأنّ أحد هذين الشخصين زيد وأنّه واجب الإكرام ، لارتفاع الإجمال بالتفصيل ، بخلاف صورة دوران الأمر بين الظنّ التفصيلي بالموافقة ـ خاصّا كان أو مطلقا ـ وبين العلم الإجمالي ، لإمكان اجتماعهما ، إذ يمكن حصول العلم إجمالا بأنّ أحد هذين الشخصين زيد ، مع الظنّ الحاصل من البيّنة أو غيرها بأنّ أحدهما بالخصوص زيد.

والحاصل : أنّ المقصود من جواز الاجتزاء بالموافقة الإجماليّة في الصورة الاولى جواز ترك تحصيل العلم التفصيلي بها ابتداء ، وفي الصورة الثانية أعمّ من ذلك ، أعني : جواز ترك تحصيل الظنّ التفصيلي ـ خاصّا أو مطلقا ـ بها ، ومن جواز ترك الظنّ الفعلي بها.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّك قد عرفت أنّ الكلام في المقام الثاني أيضا يقع في مقامين ، فتارة في المعاملات بالمعنى الأعمّ ، واخرى في العبادات بالمعنى الأخصّ. والمصنّف رحمه‌الله قد حكم بأنّ مقتضى القاعدة في المقامين جواز الاقتصار في الامتثال على العلم الإجمالي بإتيان المكلّف به ، وأنّ ذلك في المقام الأوّل في غاية الوضوح من دون فرق بين أقسامه. والوجه فيه : أنّ غرض الشارع في الواجبات التوصّلية هو مجرّد مطابقة العمل للواقع ، والفرض حصول هذا الغرض مع الاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيلي بالموافقة ، وكذلك مع ترك الظنّ التفصيلي خاصّا كان أو مطلقا ، بل بطريق أولى كما تقدّم. والشبهات التي يمكن توهّم كونها مانعة من جواز الاحتياط في العبادات ـ كما ستجيء في كلام المصنّف رحمه‌الله ، وسنشير إلى ما يتعلّق بها ـ غير جارية هنا ، ولذا حكم المصنّف رحمه‌الله بكون الأمر هنا في غاية الوضوح.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فإذا علم إجمالا أنّ صيغة النكاح شيء واحد ، وهو إمّا لفظ التزويج متعدّيا إلى المفعول الثاني بنفسه أو بالباء ، وإمّا لفظ النكاح متعدّيا إلى المفعول الثاني أيضا بنفسه أو ب «من» يجوز له الاحتياط بالإتيان بجميع محتملاتها ، وإن تمكّن من تحصيل العلم تفصيلا بما هو المعتبر منها في الواقع. وكذلك الظنّ بقسميه. وكذلك إذا علم بكون أحد الإنائين ماء مطلقا والآخر مضافا ، يجوز له الاحتياط بغسل ثوبه بكلّ منهما بحيث يحصل له القطع بطهارة ثوبه ، وإن تمكّن من غسله بماء آخر مطلق يقينا ، وهكذا. ولا خلاف ولا إشكال في ذلك في المعاملات كما عرفت ، بل فيما لو أتى بعض المحتملات أيضا ثمّ انكشفت مطابقته للواقع على سبيل القطع ، لحصول الغرض حينئذ أيضا. نعم ، ربّما يمكن الحكم بحرمة ترتيب الآثار قبل انكشاف الواقع بناء على حرمة مخالفة الاصول مع مخالفتها للواقع ، وإلّا يجري عليها حكم التجرّي بناء على جريانه في مخالفة الطرق الظاهريّة.

نعم ، قد استشكل بعضهم فيما لو أتى ببعض المحتملات ثمّ انكشفت مطابقته للطرق الظاهريّة ، كما إذا اجتهد بعده فطابق عمله السابق لاجتهاده ، أو قلّد مجتهدا فظهرت مطابقته لرأيه ، استنادا إلى أنّ الطرق الظاهريّة إنّما تصير طرقا في حقّ المجتهد بعد الأخذ بها والبناء على العمل بها ، وكذلك ظنّ المجتهد إنّما يصير طريقا لمقلّده بعد أخذ المقلّد له وبنائه عليه ، والمفروض أنّه حين العمل لم يكن مجتهدا ولا مقلّدا حتّى تجدي مطابقة عمله لأحدهما ، وبعد الاجتهاد أو التقليد قد مضى وقت العمل وخرج من محلّ ابتلائه.

ولكنّ الحق خلافه ، إذ الطرق الظاهريّة منزّلة منزلة نفس الواقع في ترتيب أحكام الواقع عليها ، فلا فرق في انكشاف الواقع بين انكشافه بالقطع وانكشافه بالطرق الشرعيّة. وأمّا دعوى انقضاء العمل السابق وخروجه من محلّ الابتلاء ففاسدة ، إذ الغرض من اعتبار مطابقته للطرق الظاهريّة إنّما هو تصحيح ترتيب الآثار الآتية ، وإلّا فما مضى قد مضى. وهذا هو الكلام في المعاملات على

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أقسامها المتقدّمة.

وأمّا العبادات فبيان حكمها يتوقّف على بيان مقدّمة ، وهي أنّ الأحكام العقليّة على قسمين :

قسم : يمكن حكم الشارع بخلافه لو لا المانع الخارجي. ومن هذا القبيل حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة وقبح الظلم وحسن الإحسان ، فإنّ هذه الموضوعات لو لا ما فيها من الجهات المحسّنة والمقبّحة لأمكن حكم الشارع بخلاف مقتضياتها ، فاستحالة حكم الشارع بخلافها إنّما هي بواسطة مقدّمة خارجة ، من استحالة أمره بالقبيح ونهيه عن الحسن ، فاستحالة ذلك عرضيّة غير منافية للإمكان الذاتي. ولذا ترى أنّ غير الشارع ممّن لا يراعي في أوامره ونواهيه المصالح والمفاسد لا يبالي الأمر بما فيه مفسدة للمأمور والنهي عمّا فيه مصلحة له ، فلو ثبت أحيانا أمر الشارع أو نهيه فيما استقلّ العقل به بخلافه فلا بدّ من تخطئة العقل والحكم بعدم إصابته الواقع فيما حكم به.

وقسم آخر يستحيل بالذات حكم الشارع بخلافه. ومن هذا القبيل الصحّة والفساد من أحكام الوضع ، فإنّ مطابقة الفعل للمأمور به وعدمها من الامور الوجدانيّة التي يستحيل عقلا تصرّف الشارع فيهما. ومن هذا القبيل أيضا اعتبار القطع ولزوم متابعته ، بناء على ما تقدّم من أنّ الحكم بخلافه يؤدّي إلى التكليف بالنقيضين ، والتكليف بهما على الحقيقة محال في نفسه. وكذا الإطاعة والمعصية فإنّهما أيضا من الامور غير القابلة لتصرّف الشارع فيها ، فإنّ الأولى هي الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه بقصد أنّه مأمور به وترك المنهيّ عنه كذلك ، والثانية بخلافها. وكذلك حكمهما من الوجوب والحرمة العقليّين ، فإنّهما أيضا غير قابلين لجعل الشارع وتصرّفه فيهما نفيا وإثباتا ، إذ لو كانا مجعولين للشارع لزم التسلسل كما لا يخفى. ولذا قد حملت أوامر الإطاعة ونواهي المعصية على مجرّد الإرشاد ، فما دامت الإطاعة والمعصية متحقّقتين يتبعهما حكمهما ، ولا يجوز

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

للشارع التصرف في موضوعهما ، بأن يحكم فيما هو إطاعة عند العقل بعدم كونه إطاعة ، وفيما هو معصية عقلا بعدم كونه معصية ، ولا في حكمهما ، بأن يحكم بعدم وجوب الإطاعة وبعدم حرمة المعصية. وممّا ذكرناه ظهر وجه ما اشتهر في الألسنة من أنّ طريق الإطاعة والمعصية في التكاليف الشرعيّة موكول إلى العقل ، وملاحظة كيفيّة سلوك العبيد مع الموالي في إطاعة تكاليفهم.

وممّا يؤكّد ما ذكرناه من عدم تصرّف الشارع في موضوع الإطاعة والمعصية وحكمهما ، أنّ مولى حكيما إذا أمر عبده بفعل ، ولم يأمر بإطاعته ولم ينه عن مخالفته ، ولم يبيّن له كيفيّة إطاعته ، لم يكن مقصّرا في بيان التكليف عند العقل والعقلاء. ولو لم يتعرّض العبد لامتثال أمره لا يبقى له مجال للعذر بأنّه لم يأمرني بإطاعته ، أو أنّه لم يبيّن لي كيفيّة إطاعته ، وليس ذلك إلّا لكون كيفيّة الإطاعة ووجوبها ثابتتين عند العقل ، بل لو نهاه المولى عن إطاعته مع عدم نسخه لأمره عدّ ذلك منه قبيحا ومناقضا لما أراده.

وممّا ذكرناه ظهر الوجه أيضا في الفرق بين الشكّ في شرائط امتثال التكاليف الشرعيّة وبين الشكّ في شرائط المأمور به وأجزائه ، حيث إنّ الأوّل مورد لقاعدة الاحتياط والثاني لقاعدة البراءة. ووجه الفرق أنّ مبنى البراءة على قبح التكليف بلا بيان ، وهو لا يتأتّى فيما هو موكول إلى طريقة العقلاء على ما عرفت.

وهذا الذي ذكرناه من كون كيفيّة الإطاعة وحكمها موكولتين إلى العقل وطريقة العقلاء ـ الذي هو مبنى الفرق بين شرائط الامتثال وشرائط المأمور به ـ قد جرينا فيه على مذاق المصنّف ، حيث إنّ ظاهره هنا كون كيفيّة الإطاعة موكولة إلى العرف ، وقد صرّح بالفرق بين الشرائط في أواخر مسألة البراءة عند التعرّض لبطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.

والذي يقتضيه النظر القاصر أنّ حكم الإطاعة كما تقدّم عقلي غير تابع

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لجعل الشارع ، بل غير قابل له. وأمّا موضوع الإطاعة فهو وإن كان موكولا إلى طريقة العقلاء أيضا كما هو واضح ، ولا يلزم منه قبح على الشارع كما يظهر من ملاحظة ما تقدّم من المثال ، إلّا أنّه قابل للتصرف فيه بازدياد بعض الشرائط والقيود فيه. وذلك أنّ الشارع إذا أمر بالصلاة مثلا فلا ريب أنّ امتثال هذا الأمر يحصل عرفا بالإتيان بها على ما بيّنه الشارع من أجزائها وشرائطها ، ولكن للشارع أن لا يقنع بهذا الامتثال ، بأن يشترط فيه قيدا زائدا كقصد وجه الفعل مثلا كما هو المشهور ، وهو من شرائط الامتثال دون الأمر أو المأمور به ، لتأخّره عن الأمر ، بل هو متفرّع عليه ، فلا يمكن أخذه قيدا له ، وما هو متأخّر عنه لا يعقل قيدا للمأمور به أيضا ، لتقدّم قيود المأمور به على الأمر كما هو واضح ، ولا يلزم منه قبح على الشارع.

فالتحقيق حينئذ هو التفصيل بين شرائط الامتثال ، بأنّ الشرط إن كان ممّا يعتبر في الامتثال عرفا ، بأن كان من الشرائط العرفيّة ، كاشتراط عدم تكرار العمل في الإطاعة الإجماليّة ، لعدم صدقها عرفا مع الاحتياط المحوج إلى تكرار العمل كثيرا ، بحيث يعدّ العبد معه لاعبا بأمر مولاه إذا تمكّن من تحصيل العلم بالإطاعة التفصيليّة ، فالشكّ في اعتبار مثل هذا الشرط مورد لقاعدة الاحتياط ، لفرض كون إحراز مثل هذا الشرط ـ نفيا أو إثباتا ـ موكولا إلى العرف. ولا مسرح لقاعدة البراءة هنا كما أشرنا إليه ، ولا لإطلاق الأوامر ، فإنّه بإطلاق الأمر لا يمكن إحراز كيفيّة امتثاله ، بل حصول امتثاله تابع لصدقه عرفا بالنسبة إلى ما يعتبر فيه عرفا.

وإن كان ممّا يعتبر في الامتثال شرعا ، كقصد الوجه على ما عرفت ، فإنّ اعتباره على تقديره شرعيّ لا عرفي ، لعدم توقّف صدق الامتثال عرفا عليه يقينا ، فمع الشكّ في اشتراط مثل ذلك شرعا في الاعتداد على الامتثال العرفي يمكن نفيه بأصالة البراءة ، إذ لا فرق في القيود التعبّدية بين كونها قيدا للامتثال أو للمأمور به في حكم العقل بقبح التكليف بها بلا بيان.

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : أنّ الشرائط على أقسام ، فبعضها شرط للأمر ، وبعض آخر لامتثاله ، وثالث للمأمور به. والأصل في الأوّل هو الاشتراط في وجه يظهر من المصنّف في بعض مباحث البراءة ، والإطلاق في وجه آخر قوي كما تقرّر في محلّه.

وفي الثاني هو التفصيل بما عرفت. وفي الثالث هو الإطلاق بقول واحد من القائلين بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط.

وإذا تمهّد هذا فنقول : إنّ الكلام في الاقتصار على الموافقة الإجماليّة في العبادات يقع في مقامين :

أحدهما : أن لا يتمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بالموافقة ، ولا الظنّ بها خاصّا كان أو مطلقا. ولا إشكال في كفايتها ، فإنّ ذلك أقصى ما يمكن من إطاعة التكليف المعلوم تفصيلا أو إجمالا. فإذا كان له ثوبان اشتبه طاهرهما بمتنجّسهما يجوز له الصلاة فيهما مكرّرا لها. وكذا لو اشتبهت عليه القبلة في الجهات الأربع أو الثلاث مثلا يجوز له تكرار الصلاة إلى جهات الاشتباه ، وهكذا. خلافا لما حكاه المصنّف رحمه‌الله عن الحلّي في الثوبين المشتبهين ، حيث حكم بوجوب الصلاة حينئذ عريانا. والذي يمكن أن يستدلّ به عليه أمران :

أحدهما : أنّ الواجب عليه صلاة واحدة ، فالاحتياط بتكريرها تشريع. وفيه : ـ مع مخالفته لما يظهر منه من تمسّكه بقاعدة الاحتياط في إثبات الأحكام في كثير من الموارد ـ أنّ الاحتياط مضادّ للتشريع ، فإنّه إدخال ما ليس من الدين أو شكّ في كونه من الدين في الدين بقصد أنّه من الدين ، والاحتياط هو الإتيان بما يحتمل كونه من الدين بداعي احتمال كونه منه تحصيلا للواقع.

وثانيهما : اعتبار نيّة الوجه في العبادات ، فقصد كون المأتيّ به واجبا معتبر في حصول امتثال الأمر بالصلاة ، وهو غير حاصل مع الاحتياط بتكرير الصلاة ، إذ حين العمل يحتمل كون المأتيّ به غير واجب ، لاحتمال كون الواجب ما أتى به

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

سابقا أو يريد الإتيان به لاحقا ، وغاية ما يترتّب على فعله بعد الفراغ منهما هو القطع بحصول الواجب في ضمنهما ، وهو أمر وراء نيّة الوجه حين العمل.

وفيه أوّلا : المنع من اعتبار قصد الوجه ، لحصول الامتثال بدونه عرفا. ولا دليل عليه شرعا إن لم يكن دليل على خلافه كما ستعرفه ، مع أنّ الأصل عدمه بالتقريب الذي تقدّم. فالذي يعتبر في العبادة قصد القربة المتحقّق بالإتيان بها بقصد كونها مطلوبة وراجحة شرعا ، وإن لم يقصد خصوص وجهها من الوجوب أو الاستحباب. ومع التسليم فإنّما يسلّم مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بالموافقة لا في مثل ما نحن فيه.

وثانيا : أنّه (*) قد يقال بإمكان قصد الوجه في المقام ، فإنّه عبارة عن الإتيان بالفعل على طبق ما اقتضاه الدليل من وجوبه أو استحبابه. ولا فرق في ذلك بين الأدلّة الاجتهاديّة والاصول. فحيث اقتضت قاعدة الاحتياط وجوب كلّ من الفعلين فيأتي بهما المكلّف مقارنين بقصد وجوبهما ، فتأمّل.

وثالثا : أنّه لا يخلو : إمّا أن نقول بوجوب المقدّمة شرعا ، سيّما في مثل ما نحن فيه من المقدّمات العلميّة التي قد ادّعى بعضهم عدم الخلاف في وجوبها ، وإمّا أن لا نقول به. فإمكان قصد الوجه على الأوّل واضح ، لوجوب كلّ من الفعلين من باب المقدّمة. وعلى الثاني يمكن قصد الوجه الواقعي بمجموع الفعلين أو الأفعال المحصّلة للمأمور به الواقعي ، بأن ينوي بمجموعها الإتيان بالمأمور به الواقعي بقصد وجوبه الواقعي. ولا ريب أنّ الاستدامة من أوّل العمل على هذا القصد مستلزمة لمقارنة المأمور به الواقعي لقصد وجهه ، ولا دليل على اعتباره أزيد من ذلك ، إذ لا دليل على اعتبار معرفة الواجب الواقعي تفصيلا حين العمل ، سيّما في خصوص المقام. ولا فرق فيما ذكرنا بين استلزام الموافقة الإجماليّة لتكرار العمل وعدمه.

__________________

(*) ورد في هامش الطبعة الحجريّة : «قد ذكر المصنّف هذا الوجه في مقدّمات دليل الانسداد عند إبطال وجوب الاحتياط. منه دام ظلّه».

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيهما : أن يتمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بالموافقة كما هو المقصود بالبحث في المقام. والاقتصار على الموافقة الإجماليّة حينئذ إمّا مع الحاجة إلى تكرار العمل أو بدونها. وقد أطلق المصنّف رحمه‌الله أنّ مقتضى القاعدة جواز الاقتصار في الامتثال بالعلم الإجمالي ، لتحقّق الامتثال.

أقول : توضيح ذلك أنّ ما يتوهّم كونه مانعا من حصول الامتثال في المقامين أو في الجملة أحد امور على سبيل منع الخلوّ :

أحدها : ما استظهره المصنّف رحمه‌الله ونقله عن بعضهم ، وقال في أواخر مسألة البراءة : «ببالي أنّه صاحب الحدائق» من ثبوت الاتّفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة ، بل قد استظهر في مقدّمات دليل الانسداد عند إبطال وجوب الاحتياط تحقّق الإجماع على عدم جواز الاحتياط مطلقا مع التمكّن من العلم التفصيلي ، وقال : «كما أشرنا إليه في أوّل الرسالة في مسألة اعتبار العلم الإجمالي وأنّه كالتفصيلي أم لا ، فراجع» انتهى ، فتأمّل. وما نقله عن السيّد الرضي وتقرير أخيه له على ذلك من الإجماع على بطلان صلاة الجاهل بأحكامها. وقال في أواخر مسألة البراءة : «ونقل غير واحد اتّفاق المتكلّمين على وجوب الإتيان بالواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما». ثمّ قال بعد نقل ما عرفت من الشريف الرضي والمرتضى : «بل يمكن أن يجعل هذان الاتّفاقان المحكيّان عن أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ، فضلا عن كونهما منشأ للشكّ الملزم للاحتياط كما ذكرناه» انتهى. ويؤيّده أو يدلّ عليه أيضا ما ادّعاه هنا من السيرة المستمرّة.

وبالجملة ، أنّ مقتضى هذه الإجماعات ـ صريحا في بعضها ، والتزاما في بعض آخر ـ عدم جواز الاحتياط مع التمكّن من الإطاعة التفصيليّة ، سواء كان الاحتياط مستلزما لتكرار العمل أم لا.

وفيه : أنّ الإجماع أو الاتّفاق المحصّل منهما غير حاصل ، والمحكيّ منهما

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس بحجّة ، سيّما في مثل المقام المحتمل ـ بل المظنون ـ كون سند المجمعين إمّا تخيّل عدم حصول الإطاعة عرفا بالموافقة الإجماليّة ، وإمّا زعم اعتبار قصد الوجه ، والأوّل مقطوع العدم ، والثاني قريب منه كما سنشير إليه. ودعوى الإجماع مع كون سند المجمعين هو الأوّل من قبيل دعوى الإجماع في الامور العقليّة ، وقد استوفينا الكلام فيها في مسألة التجرّي ، فلا حاجة إلى الإعادة. وأوهن ممّا تقدّم دعوى استمرار سيرة العلماء على عدم تكرار العبادة مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعيّ ، فإنّها على تقدير تسليمها إجماع عملي محتمل لكون مبنى عملهم على زعم أحد الأمرين المشار إليهما آنفا.

فإن قلت : هب عدم تحقّق الإجماع تحصيلا ، وعدم حجّيته نقلا ، إلّا أنّه لا أقلّ من تحقّق الشهرة ، وهي مع الإجماعات المنقولة مورثة للشكّ في حصول الإطاعة بالموافقة الاحتماليّة لا محالة ، لكشف ذلك كلّه ـ ولو على سبيل الاحتمال ـ إمّا عن عدم تحقّق عنوان الإطاعة بالموافقة الإجماليّة ، وإمّا عن اعتبار قيد زائد في الامتثال ، كقصد الوجه أو العلم به ، وإن تحقّق الامتثال بدونه عرفا ، ومع الشكّ يرجع إلى قاعدة الاحتياط ، لعدم كون المقام من موارد البراءة ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه الذي نقلناه عنه.

قلت : أمّا احتمال عدم حصول عنوان الإطاعة عرفا بالموافقة الإجماليّة فمنفي قطعا ، كما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله في أواخر مسألة البراءة ، وأوضحناه سابقا ، وأتينا لك بمثال لا يبقى لك بملاحظته ارتياب أصلا.

وأمّا احتمال اعتبار قيد زائد شرعيّ في الامتثال ، فملاحظة إطلاقات أدلّة الإطاعة كتابا وسنّة ، وإطلاقات عناوين العبادات وبياناتها ، وسيرة المسلمين وسيرة النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام مع الناس ، تشرف الفقيه على القطع بعدم اعتبار قصد الوجه أو العلم به في امتثال التكاليف التعبّدية ، إذ لو كان لأشير إليه لا محالة. وإلى هذا الوجه أشار المصنّف رحمه‌الله في مقدّمات دليل الانسداد في مقام إبطال وجوب

١٦٠