فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

شرعيّا كما في الشبهة المحصورة الوجوبيّة أو التحريميّة ؛ وإلّا لم يتحقّق (٥١) احتمال المعصية وإن تحقّق احتمال المخالفة للحكم الواقعي كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها.

ثمّ إنّ الأقسام الستّة كلّها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمّة من حيث خبث ذاته وجرأته وسوء سريرته ، وإنّما الكلام في تحقّق العصيان بالفعل المتحقّق (٥٢) في ضمنه التجرّي. وعليك بالتأمّل (٥٣) في كلّ من الأقسام. قال الشهيد قدس‌سره في القواعد : لا يؤثّر نيّة المعصية عقابا ولا ذمّا ما لم يتلبّس بها ، وهو ما (*) ثبت في الأخبار العفو عنه (٢٤).

ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية ، فظهر خلافها ، ففي تأثير هذه النيّة نظر : من أنّها لمّا لم تصادف

______________________________________________________

٥١. للائتمان حينئذ عن احتمال المعصية واستحقاق العقاب بالاصول.

٥٢. سواء في ذلك مجرّد النيّة ، أو هي مع بعض مقدّمات الفعل ، أو نفس الفعل كما يظهر من ملاحظة الأقسام.

٥٣. قد ظهر حكم القسم الأوّل من قوله : «وأمّا لو كان التجرّي على المعصية بسبب القصد ...» وكذلك حكم القسم الثاني من الجمع بين الأخبار. وقد ذكرنا أيضا ثمّة ما عندنا. والمصنّف رحمه‌الله حيث لم يظهر منه اختيار شيء من وجهي الجمع بين الأخبار ، وكان ظاهره ترجيح أخبار العفو مطلقا ، فكان هذا القسم أيضا عنده في حكم القسم الأوّل في الدخول تحت أخبار العفو. وأمّا الأقسام الأربعة الباقية فقد ظهر حكم الأوّل منها بالصراحة من تحقيقه المتقدّم ، وحكم الثلاثة الباقية بالأولويّة. هذا إذا قلنا بكون مراده من الاعتقاد في القسم الثالث هو الاعتقاد الجزمي. وأمّا إذا قلنا بكونه أعمّ منه ومن الظنّ المعتبر ـ كما أسلفناه ـ فيظهر حكم صورة الظنّ أيضا ممّا أسلفناه عند شرح كلام صاحب الفصول المفصّل في المسألة.

__________________

(*) في بعض النسخ : ممّا.

١٠١

المعصية صارت كنيّة مجرّدة ، وهو غير مؤاخذ بها. ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي.

وقد ذكر بعض الأصحاب (٢٥) : أنّه لو شرب المباح تشبّها بشرب المسكر فعل حراما ، ولعلّه ليس (٥٤) لمجرّد النيّة (٥٥) بل بانضمام فعل الجوارح ، ويتصوّر محلّ النظر (٥٦) في صور : منها : ما لو وجد امرأة في منزل غيره ، فظنّها أجنبيّة فأصابها ، فبان أنّها زوجته أو أمته. ومنها : ما لو وطئ زوجته بظنّ أنّها حائض ، فبانت طاهرة. ومنها : ما لو هجم على طعام بيد غيره فأكله ، فتبيّن أنّه ملكه. ومنها : ما لو ذبح شاة بظنّها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه. ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّ أنّها معصومة ، فبانت مهدورة. وقد قال بعض العامّة : نحكم بفسق المتعاطي ذلك ؛ لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة ما لم يتب عقابا متوسّطا بين الصغيرة والكبيرة. وكلاهما تحكّم وتخرّص على الغيب (٢٦) ، انتهى.

______________________________________________________

٥٤. فليس بينه وبين ما ذكره من العفو عن نيّة المعصية منافاة.

٥٥. يعني نيّة التشبّه. وحرمة هذه النيّة بضميمة فعل التشبّه إنّما هي لأجل ما دلّ على أنّ من تشبّه بقوم فهو منهم ، وما دلّ على حرمة الإسلام ونحو ذلك.

٥٦. لا يذهب عليك أنّ في تكثير صور محلّ النزاع إشارة إلى أقسام المحرّمات من الأعراض والأموال والنفوس. فالاوليان مثالان للأوّل ، ولكن إحداهما من قبيل ما كانت حرمته ذاتيّة ، والاخرى من قبيل ما كانت حرمته عرضيّة. والثالثة والرابعة مثالان للثاني ، ولكن إحداهما من قبيل ما كانت فيه منفعة للفاعل ، بخلاف الاخرى. والخامسة مثال للنفوس.

وكيف كان ، ففي جعل ما عدا الصورة الثانية ـ بل هي أيضا ـ من موارد محلّ النظر محلّ نظر ، إذ الظنّ في ما عداها مطابق للاصول والقواعد الشرعيّة ، فمخالفته مخالفة لتلك الاصول والقواعد ، ومخالفتها معصية محضة كما هو ظاهر الفقهاء. فتلك الموارد ليست من موارد التجرّي أصلا ، لاستصحاب عدم تحقّق

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

سبب حلّ الوطي في الصورة الاولى بالنسبة إلى المرأة الخاصّة التي ظنّها أجنبيّة ، واستصحاب عدم تملّكه المال الذي بيد الغير ـ مضافا إلى قاعدة كون اليد أمارة الملك شرعا لذيها ـ في الثالثة ، واستصحاب عدم ملكه للشاة التي ظنّها لغيره ـ لعدم جواز التصرف في الأموال إلّا بعد العلم بتملّكه لها أو بجواز التصرّف فيها ـ في الرابعة ، واستصحاب عصمة النفس إلى أن يعلم خلافها في الخامسة.

وأمّا الصورة الثانية فحيث لا دليل على اعتبار الظنّ بالحيض شرعا ، فاستصحاب بقاء الطهر المثبت لجواز الوطي جار ما لم يعلم الخلاف. ولكنّها ليست من موارد التجرّي ، لفرض مطابقة العمل بالأصل. نعم ، لو حصل الظنّ بقولها جرى هنا أيضا ما ذكرناه في غيرها. هذا كلّه بناء على كون مخالفة الطرق الظاهريّة معصية محضة كما هو ظاهر المشهور. وأمّا بناء على جريان التجرّي بالنسبة إليها أيضا ـ كما اختاره صاحب الفصول على ما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه ـ فمع عدم جريانه بالنسبة إلى الصورة الثانية ـ بناء على ما قدّمناه ـ قد تقدّم ثمّة ما فيه.

هذا إن أراد من الظنّ الاعتقاد الراجح المحتمل للخلاف. وإن أراد منه الاعتقاد الجزمي ـ كما ربّما يدّعى استعماله فيه ـ ففي جريان التجرّي فيما عدا الصورة الثانية نظر ، من أنّ الظنّ في مورد الأمارة إذا كان حجّة فالقطع أولى بالحجّية ، فإذا اعتبرت البيّنة مع إفادتها الظنّ فمع إفادتها القطع أولى بالاعتبار ، مع أنّ مخالفة القطع في مورد الأمارة مستلزمة لمخالفة الأمارة أيضا ، فتكون صورة القطع كصورة الظنّ في عدم جريان التجرّي فيها. ومن أنّه مع القطع يلغى اعتبار الأمارة ، ويكون مدار الموافقة والمخالفة عليه ، سيّما مع ارتفاع موضوع الاصول العمليّة في صورة القطع ، فمخالفة القطع حينئذ يجري عليها حكم التجرّي.

تنبيه : اعلم أنّه قد ظهر ممّا قدّمناه في تضاعيف الحواشي السابقة ابتناء عدم حرمة التجرّي على عدم استحقاق المتجرّي للعقاب من جهته ولا من جهة الفعل المتجرّى به ، وإن استحقّ الذمّ من حيث كشف الفعل المتجرّى به عن خبث

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

السريرة. أمّا الأوّل فلما أشار إليه المصنّف قدس‌سره سابقا من أنّ المكلّف إنّما يستحقّ العقاب بأفعاله الاختياريّة دون صفاته الثابتة عليه. وأمّا الثّاني فلعدم قبح في الفعل أصلا كما تقدّم أيضا.

ولكن هذا إذا لم نقل باستحقاق العقاب بمجرّد نيّة المعصية ، وإلّا فلو قلنا بذلك لأجل الأخبار الواردة في المقام فلا بدّ من القول به فيما أتى بما اعتقد حرمته مع عدم حرمته في الواقع ، كما هو العمدة في محلّ الكلام ، لعدم انفكاكه عن قصد المعصية لا محالة ، وقد تقدّم اتّفاق كلمة الأصحاب بل الأخبار أيضا ـ حتّى الدالّ منها على العفو ـ على تحقّق الاستحقاق. فحينئذ إن رجّحنا الأخبار الدالّة على المؤاخذة فلا بدّ من التزامها فيما نحن فيه ولو لأجل النيّة المتحقّقة في ضمن الفعل المتجرّى به ، بل القصد في الحقيقة مدار الثواب والعقاب ، فإنّه روح العمل وحياته. وإن رجّحنا أخبار العفو يتّجه التزام عدم ترتّب العقاب على الفعل المتجرّى به ، لا من جهته ولا من جهة النيّة المتحقّقة في ضمنه. وإن جمعنا بين الأخبار بأحد الوجهين اللذين أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله ، فلا بدّ من التزام العقاب فيما نحن فيه ، لاختصاص مورد العفو حينئذ إمّا بصورة رجوع المتجرّي عن النيّة المجرّدة بنفسه ، أو بصورة الاكتفاء بمجرّد النيّة مطلقا.

لا يقال : إنّ مورد الأخبار نيّة المعصية الواقعيّة دون المعتقدة. لأنّا نقول : إنّ المتجرّي فيما نحن فيه أيضا ناو للمعصية الواقعيّة وإن لم يصادف اعتقاده للواقع ، وليس في الأخبار ما يدلّ على اشتراط إصابة الواقع على تقدير الإتيان بالمنويّ. ولما ذكرناه قد يورد على المصنّف رحمه‌الله بأنّ قوله بعدم عقاب المتجرّي أصلا لا يجتمع مع جمعه بين الأخبار بأحد الوجهين المذكورين. لكنّك خبير بأنّه ليس في كلام المصنّف دلالة على اختيار أحدهما ، بل ظاهره ترجيح أخبار العفو كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد يتمسّك لحرمة التجرّي فيما إذا أتى بما اعتقد حرمته مع عدم حرمته في الواقع ـ مضافا إلى ما عرفت ـ بأدلّة حرمة الإعانة على الإثم بناء على شمولها

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لحرمة إعانة المتجرّي ، بتقريب أنّ الإعانة وإن كانت ظاهرة في إيجاد بعض مقدّمات فعل الغير فلا تشمل ما نحن فيه ، إلّا أن أدلّة حرمة الإعانة إذا شملت إيجاد بعض مقدّمات فعل الغير الذي اعتقد حرمته مع عدم حرمته في الواقع ، فشمولها لما نحن فيه من إعانة نفسه على ما اعتقد حرمته بطريق أولى.

ولكنّه ضعيف ، إذ ظاهر الآية حرمة الإعانة على الإثم الواقعي دون الاعتقادي. وظاهر الفقهاء أيضا ذلك. وقد تقدّم أيضا ضعف دلالة الأخبار الدالّة على ترتّب العقاب على نيّة المعصية ، فتبقى الأخبار الدالّة على العفو حينئذ سليمة عن المعارض.

وممّا ذكرناه يظهر ضعف الاستدلال أيضا على المقام بحرمة الإعانة من باب تنقيح المناط كما نقله المصنّف رحمه‌الله. وهو واضح. ثمّ إنّه يمكن التفصيل في المسألة بين ما لو ثبت التكليف في الواقع وحصل التجرّي في كيفيّة امتثاله ، كما لو ظنّ ضيق الوقت فأخّر الصلاة فتبيّن بقاء الوقت ، أو ارتكب بعض أطراف الشبهة المحصورة ، ثمّ ظهر عدم مصادفته للحرام الواقعي المشتبه ، فإنّ التكليف بالظهرين في الأوّل وبالاجتناب عن النجس المشتبه بين امور محصورة ثابت في الواقع ، إلّا أنّ التجرّي بمخالفة المظنون أو المحتمل وقع في طريق امتثاله. وبين ما لو كان طريق ثبوت التكليف هو القطع غير المصادف للواقع ، كما لو اعتقد الخلّ خمرا فشربه أو اعتقد وجوب فعل مباح فتركه ، وذلك بأن يقال في الأوّل : إنّ القطع وكذلك الظنّ مع فقده في مسألة ظنّ ضيق الوقت طريق شرعيّ يعدّ العبد مع مخالفتهما عاصيا محضا وإن لم يصادف قطعه أو ظنّه للواقع ، لبناء العقلاء على ذلك.

وكذلك الاحتياط في موارد الشبهة المحصورة مأمور به شرعا توجب مخالفته العقاب وإن لم يحصل القطع بمخالفة الواقع. وفي الثاني : إنّ اعتبار القطع فيه عندهم ليس إلّا لمجرّد الطريقيّة إلى الواقع ، فيجري فيه حكم التجرّي عند عدم مصادفة الواقع.

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبما ذكرناه يمكن الجمع بين ما حكاه المصنّف قدس‌سره عن قواعد الشهيد من تنظّره في حرمة التجرّي ، وبين ما حكاه عنه سيّدنا الأستاذ دام ظلّه من حكمه بترتّب العقاب على التأخير في مسألة ظنّ ضيق الوقت ، بل قد تقدّم سابقا دعوى جماعة من العامّة والخاصّة في الفروع والاصول الإجماع عليه. ولكنّ الأقرب كون الأمر الناشئ من ظنّ الضيق إرشاديّا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، وكذلك في الشبهة المحصورة ، اللهمّ إلّا أن يلتزم بحرمة التجرّي.

ثمّ إنّه على تقدير عدم حرمة التجرّي يمكن الالتزام بترتّب الثواب على الإتيان بما اعتقد وجوبه وهو غير واجب في الواقع ، أو استحبابه وهو غير مستحب كذلك ، لفحوى أخبار التسامح ، فإنّ الشارع إذا رتّب الثواب على الإتيان بفعل محتمل المحبوبيّة في الواقع ، فترتيبه على متيقّن المحبوبيّة أولى.

١٠٦

المصادر

(١) منتهي الأصول ج ٤ : ص ١٠٧ ، كشف اللثام ج ٣ : ص ١٠٩.

(٢) الزبدة : ص ٤١.

(٣) تذكرة الفقهاء ج ٢ : ص ٣٩١.

(٤) مفاتيح الاصول : ص ٣٠٨.

(٥) ذخيرة المعاد : ص ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٦) الوسائل ج ١١ : ص ١٦ ، الباب ٥ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ١.

(٧) كنز العمّال ج ٦ : ص ٧ ، الحديث ١٤٥٩٧.

(٨) الفصول : ص ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٩) الفصول : ص ٨٧.

(١٠) الوسائل ج ١ : ص ٣٦ ـ ٤٠ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٦ و...

(١١) الوسائل ج ١ : ص ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٣.

(١٢) الوسائل ج ١ : ص ٣٤ ، الباب ٥ من ابواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٥.

(١٣) الوسائل ج ١ : ص ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٤.

(١٤) الوسائل ج ١١ : ص ١١٣ ، الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ١.

(١٥) الوسائل ج ١٢ : ص ١٦٥ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ و ٥.

(١٦) الوسائل ج ١٩ : ص ٩ ، الباب ٢ من أبواب القصاص في النفس ، الحديث ٣ و ٥.

(١٧) نهج البلاغة : الحكمة ١٥٤.

(١٨) آل عمران (٣) : ١٨٣.

(١٩) الكافي ج ٢ : ص ٤٠٩ ، الحديث ١.

(٢٠) النور (٢٤) : ١٩.

(٢١) البقرة (٢) : ٢٨٤.

(٢٢) الوسائل ج ١١ : ص ٤١٠ الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديثان ٤ و ٥.

(٢٣) القصص (٢٨) : ٨٣.

(٢٤) الوسائل ج ١ : ص ٣٥ ، الباب ٦ من ابواب مقدّمات العبادات ، الاحاديث ٦ ، ٨ و...

(٢٥) الكافي في الفقه : ص ٢٧٩.

(٢٦) القواعد والفوائد ج ١ : ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

١٠٧
١٠٨

الثاني

أنك قد عرفت أنّه لا فرق فيما يكون العلم فيه كاشفا محضا بين أسباب العلم ، وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريّين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة القطعيّة الغير الضروريّة ؛ لكثرة وقوع الاشتباه (٥٧) والغلط فيها ، فلا يمكن الركون إلى شيء منها.

فإن أرادوا عدم جواز (٥٨)

______________________________________________________

٥٧. لهم دليل آخر أيضا ، وهو الأخبار. وسيشير المصنّف إليها بعد نقل كلماتهم على طريق السؤال ، فالأولى التعرّض لما يتعلّق بها ثمّة.

٥٨. ولا يذهب عليك أنّ في كلماتهم احتمالين آخرين لم يتعرّض لهما المصنّف قدس‌سره ، أحدهما : أن يريدوا بعدم جواز الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة غير الضروريّة ، وانحصار الدليل في السماع عن الصادقين عليهما‌السلام ، عدم حصول القطع من غيرهما ، نظرا إلى أنّ الحاصل من غيرهما هو الظنّ المشتبه بالقطع عند المدّعي ، فيرجع إلى النزاع حينئذ إلى الصغرى.

ويؤيّده ما ذكره المحدّث الأمين الأسترآبادي في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل في غير الضروريّات الدينيّة في السماع عن الصادقين عليهما‌السلام حيث قال : «الدليل الأوّل : عدم ظهور دلالة قطعيّة وإذن في جواز التمسّك في نظريّات

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الدين بغير كلام العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، ولا ريب في جواز التمسّك بكلامهم ، فتعيّن ذلك ، والأدلّة المذكورة في كتب العامّة وكتب متأخّري الخاصّة على جواز التمسّك بغير كلامهم مدخولة ، وأجوبتها واضحة ممّا مهّدناه ونقلناه ، لا نطيل الكلام بذكرها» انتهى.

ووجه التأييد : أنّ مراده لو كان مطالبة الدليل القطعي على الاعتماد على القطع فهو ممّا تضحك منه الثكلى ، إذ الدليل حينئذ ليس بأوضح من المدلول ، سيّما وإنّ الأدلّة التي ادّعى كونها مدخولة كلّها ظنيّة عنده ، اللهمّ إلّا أن يريد بالدلالة القطعيّة ما ينتهي إلى البديهة أو كان بديهيّا.

وأوضح ممّا ذكر ما ذكره من الدليل الرابع حيث قال : «إنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها» انتهى.

واستدلّ خامسا بأنّه «قد تواترت الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام بأنّ مراده تعالى من قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ومن نظائرها من الآيات الشريفة أنّه يجب سؤالهم عليهم‌السلام في كلّ ما لا نعلم» انتهى ، لأنّ مقتضاه عدم وجوب سؤالهم فيما علمناه مطلقا وإن كان علمنا حاصلا من المقدّمات العقليّة. وهو كالصريح في كون مراده من ضروريّات الدين في عنوان كلامه مطلق القطع.

وبالجملة ، فالمظنون من ملاحظة كلماته هنا وفي غير المقام إرادته نفي العمل بالظنّيات ، وإن استفاد المصنّف رحمه‌الله من كلامه الذي نقله خلاف ما استفدناه. نعم ، ما ذكرناه لا يتأتّى في كلام المحدّث الجزائري والمحدّث البحراني كما لا يخفى.

وثانيهما : أن يريدوا تقيّد الأحكام الواقعيّة أو تنجّزها بالبلوغ بطريق السماع عن الصادقين عليهما‌السلام بلا واسطة أو معها ، أو بطريق آخر ضروري ، فما يقطع به من غير الطريقين فهو ليس بحكم الله الواقعي أو لا يجب اتّباعه. وسيجيء توضيح ذلك عند شرح السؤال الذي أورده المصنّف منتصرا له بكلام شارح الوافية.

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة ، إنّ الوجوه المحتملة في كلماتهم أربعة ، أظهرها بالنسبة إلى كلام الأمين الأسترآبادي هو الوجه الأوّل من الوجهين اللذين ذكرناهما ، ثمّ الوجه الأوّل من الوجهين اللذين ذكرهما المصنّف. نعم ، الأظهر بالنسبة إلى كلام المحدّث الجزائري هو الوجه الأوّل ممّا ذكره المصنّف.

وكيف كان ، يرد على الوجه الأوّل ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ما أورده المصنّف عليه أوّلا : من عدم معقوليّته ، لاستلزامه التناقض كما أوضحناه في غير موضع. وثانيا : من النقض بأنّه لو أمكن الحكم بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة طابق النعل بالنعل. وحاصله : أنّ القطع لو كان قابلا للمنع الشرعيّ ، بأنّ كان كالظنّ محتاجا إلى إقامة برهان قطعي على جواز العمل به ، لكان القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة أيضا محتاجا إليه ، لكونه من جملة أفراد القطع ، ولا ريب أنّ غاية ما يدلّ عليه قطع آخر مثله ، فحينئذ ننقل الكلام إلى هذا القطع ، وهكذا فيتسلسل.

ومن هنا يظهر أنّ ما يمكن أن يورد على المصنّف رحمه‌الله من أنّ من فرّق بين القطعين يدّعي الدليل القطعي على اعتبار القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة من الأخبار المتواترة وغيرها ، فمجرّد إمكان عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدّمات الشّرعيّة لا يرد نقضا عليه ، غير مجد في دفع ما أورده. اللهمّ إلّا أن يدّعي أنّ اعتبار القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة من ضروريّات الدين ، أو من البديهيّات الأوّلية ، أو ممّا يحكم العقل الفطري السالم من الشبهات باعتباره. والأوّل مستثنى في كلام المحدّث الأسترآبادي ، والثاني في كلام المحدّث الجزائري ، والثالث في كلام المحدّث البحراني.

ويرد على الوجه الثاني ممّا ذكره ـ أعني : إرادة عدم جواز الدخول في المقدّمات العقليّة لتحصيل القطع بالمطالب الشرعيّة ، وإن لم يجز النهي عنه بعد حصوله ، كما وقع النهي عن الخوض في مسائل القدر تحذيرا عن الوقوع في موارد

١١١

الركون بعد حصول القطع ، فلا يعقل ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف ؛ ولو أمكن الحكم بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة طابق النعل بالنعل.

وإن أرادوا عدم جواز الخوض في المطالب العقليّة لتحصيل المطالب الشرعيّة ؛ لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ، فلو سلّم ذلك واغمض عن المعارضة بكثرة ما يحصل من الخطأ في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة ، فله وجه ، وحينئذ فلو خاض فيها وحصل القطع بما لا يوافق الحكم الواقعي لم يعذر في ذلك ؛ لتقصيره في مقدّمات التحصيل ، إلّا أنّ الشأن في ثبوت كثرة الخطأ أزيد ممّا يقع في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة.

______________________________________________________

الخطر ـ ما أورده عليه من المعارضة بكثرة وقوع الخطأ في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة. ولذا ترى الفقهاء يختلفون في أكثر المسائل الفقهيّة ، مع استناد كلّهم إلى الأدلّة الشرعيّة ، وربّما يزيد الاختلاف على عشرة أقوال حتّى من الأخباريّين ، كيف لا والأخباريّون لا ينكرون التمسّك بالقواعد الشرعيّة والاصول التعبّدية ، مثل قاعدة اليد ونحوها ، والاستصحاب في الموضوعات ، والبراءة في الشبهات الوجوبيّة ، وهكذا ، ولا ريب في تخلّفها كثيرا عن الواقع. والأدلّة اللفظيّة وإن سلّمنا قطعيّتها بحسب السند إلّا أنّها ظنّية بحسب الدلالة ودعوى قطعيّتها من حيث الدلالة أيضا ـ كما يظهر من الأمين الأسترآبادي ـ ضروريّة البطلان ، ولذا ترى أرباب المذاهب المختلفة كلّ يتمسّك بالآيات القرآنيّة على حقيّة مذهبه ، فلو كانت بحسب الدلالة أيضا قطعيّة لما وقع هذا الاختلاف منهم.

وبالجملة ، أنّه بعد ملاحظة ظنيّة أغلب الأدلّة الشرعيّة ولو بحسب الدلالة ، وتخلّف الاصول والقواعد التعبّدية كثيرا عن الواقع ، ووقوع التعارض كثيرا في الأخبار مع اختلافهم في وجوه الترجيح وكيفيّته وفهم التعارض ، تظهر حقيّة ما ذكره المصنّف من المعارضة.

وأمّا ما ذكره المصنّف رحمه‌الله على تقدير الإغماض عن المعارضة المذكورة بقوله : «فله وجه ...» فمراده بهذا الوجه هو استقلال العقل بقبح تفويت المكلّف باختياره

١١٢

وقد عثرت بعد ما ذكرت هذا على كلام يحكى عن المحدّث الأسترآبادي في فوائده المدنيّة ، قال في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل في غير الضروريّات الدينيّة في السماع عن الصادقين عليهما‌السلام (٥٩) : الدليل التاسع مبنيّ على مقدّمة دقيقة شريفة تفطّنت لها بتوفيق الله تعالى ، وهي : أنّ العلوم النظريّة قسمان :

______________________________________________________

للمصالح الواقعيّة عن نفسه ، إذ كما أنّ تفويت الشارع لها عن المكلّف من دون معارضة مصلحة اخرى أقوى منها أو مساوية لها قبيح على الشارع ، كذلك تفويت المكلّف أيضا لها باختياره. فإذا علم المكلّف أنّ القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة غالب التخلّف عن الواقع بخلاف الحاصل من المقدّمات الشرعيّة ، فقبل حصول القطع يستقلّ العقل بالمنع عن الخوض في المقدّمات العقليّة ، ولكن بعد مخالفة نهيه والدخول فيها وحصول القطع منها لا يعقل المنع عن العمل بهذا القطع وإلّا لزم التناقض كما تقدّم. نعم ، لا يكون معذورا لو خالف قطعه للواقع ، لفرض تقصيره بترك الدخول في المقدّمات الشرعيّة الموصولة إلى الواقع غالبا أو دائما.

ويرد على الوجه الأوّل من الوجهين اللذين ذكرناهما أنّه مكابرة للوجدان ، إذ كثيرا ما يحصل القطع من المقدّمات العقليّة. وهو واضح لا يقبل الإنكار. وعلى الثاني منهما ما سيجيء عند بيان ما يتعلّق بالسؤال الآتي للمصنّف قدس‌سره.

ثمّ إنّ ظاهر كلمات الجماعة التي نقلها المصنّف هو عدم اعتبار القطع الحاصل من غير المقدّمات الشرعيّة فيما يتعلّق بنفس الحكم الشرعيّ الواقعي ، بأن يقطع بأنّ هذا واجب وذاك حرام شرعا. وإن أرادوا نفي الملازمة بين التحسين والتقبيح العقليين وحكم الشرع فضعفه مقرّر في محلّه ، وسيجيء لصاحب الفصول كلام في المقامين. والله العالم.

٥٩. لفظ الصادقين إمّا بصيغة الجمع أو بصيغة التثنية ، والحصر فيهما حينئذ إنّما هو بالنظر إلى كون انتشار أغلب الأحكام منهما. والمراد من السماع أعمّ ممّا كان بلا واسطة أو معها. والحصر في السماع إنّما هو باعتبار كون أغلب البيانات

١١٣

قسم ينتهي إلى مادّة (٦٠) هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة (٦١) والحساب (٦٢) وأكثر أبواب المنطق (٦٣) ، وهذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ؛ والسبب في ذلك أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة أو من جهة المادّة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء ؛

______________________________________________________

بالقول ، والمقصود هو الحصر في السنّة الشاملة لكلّ من القول والفعل والتقرير.

والحصر في السنّة إنّما هو لعدم اعتبار الكتاب بنفسه من دون تفسير من الأئمّة عليهم‌السلام. وكذا الإجماع والعقل عندهم.

٦٠. المراد من الموادّ هي الامور المركّبة منها القضايا المنتجة ، مثل تغيّر العالم وحدوثه في قولنا : العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث. والحاصل : أنّ موادّ القضايا البرهانيّة خمس : المشاهدات والتجربيّات والحدسيّات والمتواترات والفطريّات ، وهذه الامور وإن كان يمكن الاشتباه في بعضها إلّا أنّ موادّ العلوم المذكورة قريبة من الاولى ، فلا يقع الاشتباه فيها. والمراد من الصورة ترتيب القضايا على ما هي عليها من الشرائط ، ككون الصغرى موجبة والكبرى كلّية في الشكل الأوّل.

٦١. موضوعه الكمّ المتصل القارّ الذات ، أعني : الجسم التعليمي والسطح والخطّ. ومن مسائله قول المهندسين : كلّ خطّ قام على خطّ فإنّ زاوية جنبيه قائمتان أو متساويتان لهما.

٦٢. موضوعه الكمّ المنفصل ، وهو العدد. ومن مسائله قولهم : إذا ضربت عددا كذا في عدد كذا يحصل كذا. وهكذا قيل : العلوم الرياضيّة هي الباحثة عن أحوال الكميّات المتصلة والمنفصلة ، أعني : الهندسة والحساب. وتسمّى تعليميّة ورياضيّة ، لأنّهم كانوا يبتدئون بها في التعاليم ورياضة النفوس تأنيسا لها باليقينيّات وتبعيدا لها عن الغلط ، فإنّها علوم متّسعة منتظمة قلّما يختلّ الفكر فيها.

٦٣. مثل كون نقيض الموجبة الكلّية سالبة جزئيّة وبالعكس ، وهكذا.

١١٤

لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة (٦٤) والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم ؛ لقرب الموادّ فيها إلى الإحساس. وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ؛ ومن ثمّ وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة وبين علماء الإسلام في اصول الفقه والمسائل الفقهيّة وعلم الكلام وغير ذلك.

والسبب في ذلك أنّ القواعد المنطقيّة إنّما هي عاصمة من الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة ، وليست في المنطق قاعدة بها يعلم أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من الأقسام ، ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك.

ثمّ استظهر ببعض الوجوه تأييدا لما ذكره ، وقال بعد ذلك : فإن قلت : لا فرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ؛ والشاهد على ذلك ما نشاهده من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في اصول الدين وفي الفروع الفقهيّة.

قلت : إنّما نشأ ذلك (٦٥) من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنّية أو القطعيّة.

______________________________________________________

٦٤. بحيث لا يحتاج إلى معرفة تفاصيل مسائل المنطق المقرّرة لأخذ النتائج من مباديها. وقد وقع هنا سقط من قلم المصنّف رحمه‌الله ، فإنّ في كتاب الفوائد قد وقع بعد العبارة المذكورة «ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقيّة ، وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة». وسقط بعد قوله «في كتب المنطق» قوله «كقولهم : الماهيّة لا تتركّب من أمرين متساويين ، وقولهم : نقيضا المتساويين متساويان». وبعد قوله «وغير ذلك» قوله «من غير فيصل». وبعد قوله «والسبب في ذلك» قوله «ما ذكرناه من» وبعد قوله «لا من جهة المادّة» قوله إذ «أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى الأقسام». وقد وقع أيضا تغيير في بعض عبارات المتن غير مخلّ بالمقصود كعدم إخلال ما أشرنا إليه.

٦٥. يظهر فساد هذا الجواب ممّا أسلفناه في بيان ما أورده المصنّف رحمه‌الله من النقض على هؤلاء الجماعة بكثرة وقوع الخطأ في الأدلّة الشرعيّة أيضا ، فراجع.

١١٥

ومن الموضحات لما ذكرناه من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر : أنّ المشّائيين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين ـ وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى (٦٦) ـ والإشراقيين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتصال.

ثمّ قال : إذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم عليهم‌السلام فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم لم نعصم عنه (١) ، انتهى كلامه.

______________________________________________________

٦٦. اعلم أنّ الحكماء والمتكلّمين قد اختلفوا في حقيقة الجسم التعليمي ، وعرّفوه بالجوهر القابل للأبعاد الثلاثة. وأرادوا بالأبعاد الثلاثة خطوطا ثلاثة متقاطعة على زوايا قوائم. وعرّف المحقّق الطوسي الجوهر بالممكن لا يحلّ أصلا ، أو يحلّ لكن لا في موضوع مقابل العرض. فذهب جمهور المتكلّمين إلى أنّه مركّب من أجزاء لا يتجزّى متناهية. والنظام إلى أنّه مركّب من أجزاء كذلك غير متناهية. وجمهور الحكماء إلى أنّه شيء واحد متّصل وليس بذي مفاصل وأجزاء بالفعل يقبل الانقسام الوهمي والانفكاكي إلى ما لا يتناهى. ووافقهم محمّد الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل ، إلّا أنّه اعتبر التناهي في الانقسامات.

ثمّ اختلف الحكماء ، فذهب أفلاطون ومن تابعة إلى أنّ ذلك الجوهر المتصل قائم بذاته غير حالّ في شيء آخر ، وهو الجسم المطلق. فهو عندهم جوهر بسيط لا تركيب منه بحسب الخارج أصلا ، وقابل لطريان الاتّصال والانفصال عليه مع بقائه في الحالين في ذاته. فهو من حيث هو جوهر ، وذاته يسمّى جسما ، ومن حيث قبوله للصور النوعيّة التي لأنواع الأجسام يسمّى هيولى. وذهب المحقّق الطوسي أيضا إلى هذا المذهب. وذهب أرسطو ومن تابعة إلى أنّ ذلك الجوهر المتّصل حالّ في جوهر آخر يسمّى بالهيولى.

وقال بعضهم : إنّ زبدة ما احتجّوا به على ذلك ـ بعد تجريده عن الزوائد والألفاظ المشتركة والمجازيّة التي توجب صعوبة الفهم وورود الإشكالات ـ أنّ

١١٦

والمستفاد من كلامه : عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون مبادئه قريبة من الإحساس إذا لم يتوافق عليه العقول. وقد استحسن ما ذكره غير واحد ممّن تأخّر عنه ، منهم السيّد المحدّث (٦٧) الجزائري قدس‌سره ـ في أوائل

______________________________________________________

ذلك الجوهر المتّصل في ذاته الذي كان بلا مفصل إذا طرأ عليه الانفصال انعدم وحدث هناك جوهران متّصلان في ذاتهما ، فلا بدّ هناك من شيء آخر مشترك بين المتّصل الأوّل وبين هذين المنفصلين ، ولا بدّ أن يكون ذلك الشّيء باقيا بعينه في الحالتين ، وإلّا لكان تفريق الجسم إلى جسمين إعداما لجسم بالكلّية وإيجادا لجسمين آخرين من كتم العدم ، والضرورة تقضي ببطلانه.

وأجيب عنه بمنع الملازمة ، لأنّ تفريق جسم إلى جسمين إعدام لصفة من صفات الجسم الأوّل بالضرورة ، وهي صفة الاتّصال ، لا أنّه إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين حتّى يتمّ المطلوب. وإلى ذلك أشار المحدّث الأمين الأسترآبادي بما نقله عن المشّائين والإشراقيّين من قضيّة تفريق ماء كوز إلى كوزين.

ثمّ إنّ المشّائين طائفة من الحكماء لم يعتبروا في تحصيل المعارف بالرياضات والتصفية والمكاشفات ، فأخذوا مسلك الاستدلال والوقوف على حقيقة الأشياء بالبرهان. وقيل في وجه تسميتهم : إنّهم كانوا كثيري المشي والتردّد إلى أستاذهم المعلّم الأوّل لأخذ العلوم وتعلّمها ، أو كان بناء المعلّم على التدريس حين مشيه ذهابا إلى الإسكندريّة وإيابا منها. والإشراقيّون طائفة من الحكماء أعرضوا عن طريق الاستدلال ، فاعتبروا في الوقوف على حقيقة الأشياء بالكشف والشهود بمجاهدة النفس وتصفية الباطن.

٦٧. خلاف هذا المحدّث مع المحدّث السابق بعد اعتباره ما اعتبره في موضعين ، أحدهما : اعتبار هذا المحدّث حكم العقل في البديهيّات وإن لم يكن ثبوتها من الشرع ضروريّا ، بل كانت بديهيّة عند العقل. وبالجملة إنّ النسبة بين ما كان

١١٧

شرح التهذيب على ما حكي عنه ـ قال بعد ذكر كلام المحدّث المتقدّم بطوله : وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه. فإن قلت : قد عزلت العقل عن الحكم في الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟ قلت : أمّا البديهيّات فهي له وحده ، وهو الحاكم فيها. وأمّا النظريات فإن وافقه النقل وحكم بحكمه قدّم حكمه على النقل وحده ، وأمّا لو تعارض هو والنقلي فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقل.

قال : وهذا أصل يبتنى عليه مسائل كثيرة ، ثمّ ذكر جملة من المسائل المتفرّعة (٢).

أقول : لا يحضرني شرح التهذيب (٦٨)

______________________________________________________

بديهيّا عند العقل كما استثناه هذا المحدّث ، وما تبت بالضرورة من الشرع كما استثناه المحدّث السابق ، عموم من وجه. وثانيهما : تقديمه الحكم العقلي المعاضد بالنقلي على الحكم النقلي المعارض له.

٦٨. لم يحضرني أيضا شرح التهذيب ، إلّا أنّ المحدّث البحراني قد نقل في مقدّمات الحدائق عنه كلاما في أنواره مشتملا على جملة من الفروع المتفرّعة على هذه المسألة ، فلا بأس بنقله ، فإنّه بعد نقل كلام للمحقّق في اعتبار حكم العقل قال : «وبالجملة ، فكلامهم تصريحا في مواضع وتلويحا في أخر متّفق الدلالة على ما نقلناه ، ولم أر من ردّ ذلك وطعن فيه سوى المحقّق المدقّق السيّد نعمة الله الجزائري طيّب الله مرقده في مواضع من مصنّفاته منها كتاب الأنوار النعمانيّة ، وهو كتاب جليل يشهد بسعة دائرته ، وكثرة اطّلاعه على الأخبار ، وجودة تبحّره في العلوم والآثار ، حيث قال فيه ونعم ما قال ، فإنّه الحقّ الذي لا يعتريه غياهب الإشكال ، إنّ أكثر أصحابنا قد تبعوا المخالفين من أهل الرأي والقياس وأهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول في استدلالاتها ، وطرحوا ما جاءت به الأنبياء حيث لم يأت على وفق عقولهم ، حتّى نقل أنّ عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام لمّا دعا أفلاطون إلى التصديق بما جاء به أجاب بأنّ

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عيسى عليه‌السلام رسول إلى ضعفة العقول ، وأمّا أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلى إرسال الأنبياء.

والحاصل : أنّهم ما اعتمدوا في شيء من امورهم إلّا على العقل ، فتابعهم بعض أصحابنا وإن لم يعترفوا بالمتابعة فقالوا : إنّه إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي أو تأوّلناه بما يرجع إلى العقلي. ومن هنا تراهم في مسائل الاصول يذهبون إلى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقليّة على خلافها ، لوجود ما تخيّلوا أنّه دليل عقلي ، كقولهم بنفي الإحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محلّه من مقدّمات لا تفيد ظنّا فضلا عن العلم ، وسنذكرها إن شاء الله تعالى في أنوار القيامة ، مع وجود الدلائل من الكتاب والسنّة على أنّ الإحباط ـ الذي هو الموازنة بين الأعمال ، وإسقاط المتقابلين وإبقاء الرجحان ـ حقّ لا شكّ فيه ولا ريب يعتريه. ومثل قولهم : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحصل له الإسهاء من الله تعالى في صلاة قطّ ، تعويلا على ما قالوه من أنّه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الأحكام ، مع وجود الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح والحسان والموثّقات والضعاف والمجاهيل على حصول مثل هذا الإسهاء ، وعلّل في تلك الروايات بأنّه رحمة للأمّة لئلّا يعيّر الناس بعضهم بعضا بالسهو. وسنحقّق هذه المسألة في نور من هذا الكتاب. إلى غير ذلك من مسائل الاصول.

وأمّا مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقليّة ، والقول بما أدّت إليه الاستحسانات العقليّة. وإذا عملوا بالدلائل النقليّة يذكرون أوّلا الدلائل العقليّة ثمّ يجعلون دليل النقل مؤيّدا لها ومعاضدا إيّاها ، فيكون المدار والأصل إنّما هو العقل. وهذا منظور فيه ، لأنّا نسألهم عن معنى الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا في الاصولين والفروع ، فنقول : إن أردتم ما كان مقبولا عند عامّة العقول فلا يثبت ولا يبقى لكم دليل عقلي ، وذلك لما تحقّقت أنّ العقول مختلفة في مراتب الإدراك ، وليس لها حدّ نقف عنده ، فمن ثمّ ترى كلّا من اللاحقين يتكلّم على

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

دلائل السابقين وينقضه ، ويأتي بدلائل أخر على ما ذهب إليه. ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامّة العقلاء والأفاضل وإن كان المطلوب متّحدا ، فإنّ جماعة من المحقّقين قد اعترفوا بأنّه لم يتمّ دليل من الدلائل على إثبات الواجب ذلك ، أنّ الدلائل التي ذكروها مبنيّة على إبطال التسلسل ، ولم يتمّ برهان على بطلانه ، فإذا لم يتمّ دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجّهت إلى الاستدلال عليه كافّة الخلائق ، فكيف يتمّ على غيره ممّا توجّهت إليه آحاد المحقّقين؟

وإن كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدلّ به واعتقاده فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ، ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة ، ولا الطعن على من ذهب إلى مذهب يخالف ما نحن عليه ، وذلك أنّ أهل كلّ مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل ، وكانت مقبولة في عقولهم معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل النقل ، وكلاهما لا يصلح للمعارضة لما قلتم ، لأنّ دليل النقل يجب تأويله ، ودليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجّة على غيره ، لأنّ عنده مثله ، ويجب عليه العمل بذلك ، مع أنّ الأصحاب رضي الله عنهم ذهبوا إلى تكفير الفلاسفة ومن يحذوا حذوهم ، وتفسيق أكثر طوائف المسلمين ، وما ذاك إلا لأنّهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ، ولم يعدّوها من دلائل العقل» انتهى كلامه زيد في الخلد إكرامه. ثمّ نقل عن الإمام الرازي كلاما منسوجا بهذا المنوال.

أقول : مواضع التعجّب من كلامه غير خفيّة على ذوي العقول. أمّا أوّلا : فإنّه إن أراد من متابعة أصحابنا لأهل الطبيعة والفلاسفة متابعتهم لهم في مخالفة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وما جاء منهم بالضرورة والبديهة في كلّ زمان ، لمجرّد متابعة عقولهم القاصرة ، كما يشهد به نقل حكاية أفلاطون مع عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ، فهي خطأ بالضرورة من طريقة أصحابنا ، ولا ينسب ذلك إليهم صبيّ فضلا عن لبيب خبير بطريقتهم في الاصولين والفروع. فمع القطع بصدق الأنبياء

١٢٠