فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الإجمال لأجل ظهور العامّ ؛ ولذا لو قال المولى : أكرم العلماء ، ثمّ ورد قول آخر من المولى : إنّه لا تكرم زيدا واشترك زيد بين عالم وجاهل ، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال ، بل يرفعون الإجمال بواسطة العموم ، فيحكمون بإرادة زيد الجاهل من النهي.

______________________________________________________

حصول الشكّ في عوده إلى ما عدا الأخيرة. ومنها : المجاز المشهور ، بناء على حصول الشكّ في كون الشهرة قرينة صارفة له عن الحقيقة. ومنها : الضمير العائد إلى بعض مدلول العامّ ، بناء على الشكّ في كونه مخصّصا للعامّ ، ودوران الأمر بينه وبين الإضمار. ومنها : الأمر الواقع عقيب توهّم الحظر على القول بالتوقّف. ومنها : لفظان أحدهما مبيّن والآخر مجمل ، يصلح الأوّل بيانا للثاني ، والثاني مورثا للإجمال في الأوّل ، إلى غير ذلك.

والحقّ وفاقا للمفصل والمصنّف رحمه‌الله التفصيل بين ما اقترنت بالخطاب فيه حال أو مقال كالشهرة ونحوها ممّا لا ينفكّ عن الخطاب مطلقا أو غالبا ، وبين ما انفصل عنه ، بالحكم بالإجمال في الأوّل ، والحمل على الحقيقة في الثاني. والفاصل بينهما هو العرف ، لبنائهم على أصالة الحقيقة في الثاني دون الأوّل ، سواء قلنا باعتبار الظواهر من باب الظنّ شخصا أم نوعا أو من باب التعبّد العقلائي.

ومن هنا يظهر فساد ما قدّمناه في بعض الحواشي السابقة عن صاحب المفاتيح ، من نسبة القول باعتبار الظواهر من باب الظنّ الشخصي إلى المحقّق الخونساري ، من جهة عدم حكمه بأصالة الحقيقة فيما عدا الأخير من العمومات التي تعقّبها مخصّص صالح للعود إلى الأخير والجميع.

ووجه الفساد : كون ذلك أعمّ من المدّعى ، إذ نحن مع قولنا باعتبار الظواهر من باب التعبّد أو الظنّ النوعي لا نحكم بأصالة الحقيقة وإرادة العموم فيما عدا الأخير ، لأجل ما عرفت من صيرورة اللفظ مجملا بعد اقترانه بما يشكّ في صلاحيّته للقرينة ، لعدم حصول الظنّ النوعي حينئذ أو عدم ثبوت تعبّد العقلاء به. نعم ، قد ذهب جماعة هنا إلى إعمال الأصل والحكم بإرادة العموم فيما عدا الأخير ،

٤٠١

وبإزاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف (٢٦٣) ، وهو أنّ احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة ، فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل بأصالة الحقيقة ، ومثّل له بما إذا ورد في السّنة المتواترة عامّ ، وورد فيها أيضا خطاب مجمل (٢٦٤) يوجب الإجمال في ذلك العامّ ولا يوجب الظنّ بالواقع. قال : فلا دليل على لزوم العمل بالأصل تعبّدا. ثمّ قال : ولا يمكن دعوى الإجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّدا ، فإنّ أكثر المحقّقين توقّفوا فيما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح (٥٥) ، انتهى. ووجه ضعفه يظهر ممّا ذكر ؛ فإنّ التوقّف في ظاهر خطاب لأجل إجمال (*) خطاب آخر ـ لكونه (٢٦٥) معارضا ـ ممّا لم يعهد من أحد من العلماء ، بل لا يبعد ما تقدّم من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبيّن في الخطاب الآخر.

______________________________________________________

كصاحب المعالم وغيره. لكنّ الحقّ ما عرفت من التفصيل بين المتّصل والمنفصل.

٢٦٣. حاصله التفصيل في الأمر الموجود الذي يشكّ في كونه قرينة بين المعتبر منه وغيره ، بالقول بالإجمال في الأوّل دون الثاني ، سواء كان متّصلا أو منفصلا. وهو في الحقيقة تفصيل في بعض شقوق التفصيل المتقدّم. وحاصل ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله تسليم الإجمال في المتّصل مطلقا ، ومنعه في غيره كذلك.

٢٦٤. مثل : لا تكرم زيدا في المثال المتقدّم.

٢٦٥. اللام صلة متعلّقة بقوله : «إجمال».

تنبيه : هل يجب الفحص عن القرينة في العمل بأصالة الحقيقة أم لا؟ وليعلم أنّ الكلام في المقام إنّما هو فيما لم يحصل العلم الإجمالي بوجودها ، إمّا بأن يفرض الكلام بالنسبة إلى من انفتح عنده باب العلم بالأحكام غالبا كالسيّد وأمثاله ، وإمّا بأن يفرض بالنسبة إلى من غفل عن العلم الإجمالي في المقام ، وإلّا فلا إشكال في وجوب الفحص في الجملة على ما سنشير إليه. وما يظهر من جماعة من عدم

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «إجمال» ، احتمال.

٤٠٢

وأمّا قياس ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح ، فعلم فساده ممّا ذكرنا في التفصيل المتقدّم من أنّ الكلام المكتنف بما يصلح أن يكون صارفا قد اعتمد عليه المتكلّم في إرادة خلاف الحقيقة لا يعدّ من الظواهر بل من المجملات ، وكذلك المتعقّب بلفظ يصلح للصارفيّة كالعامّ المتعقّب بالضمير وشبهه ممّا تقدّم.

______________________________________________________

وجوب الفحص عن المخصّص حتّى مع العلم الإجمالي به ممّا لا يصغى إليه ، كما قرّرناه في محلّه. وربّما يظهر من حجّة من منع من وجوب الفحص عن المخصّص عدم وجوب الفحص عن القرينة في المقام ، بل ربّما يظهر منها كونه اتّفاقيّا حيث استدلّ عليه بأنّه لو وجب الفحص عن المخصّص لوجب طلب المجاز في التمسّك بالحقيقة ، ولا يجب ذلك في الحقيقة اتّفاقا.

وقال المحقق القمّي رحمه‌الله في مقام الجواب عن هذه الحجّة : «إنّا لا نتفحّص في العامّ عن المخصّص لاحتمال أن يكون المراد معناه المجازي ، بل لأنّ وجود دليل خاصّ يرفع أحكام بعض أفراد العامّ محتمل أو مظنون ، وإن آل ذلك إلى حصول التجوّز في العامّ بعد ظهوره ، فتداخل البحثين لا يوجب كون كلّ منهما مقصودا بالذات» انتهى. وهو كما ترى صريح في وجوب الفحص عن المخصّص في العمل بالحقيقة في العامّ ، لكن لا من حيث كونه قرينة ، بل من حيث كونه معارضا لحكم بعض أفراد العامّ.

والتحقيق : عدم وجوب الفحص عن القرينة ، ولا المعارض في العمل بالحقيقة بعد ما تقدّم سابقا من كون أصالة الحقيقة معتبرة من باب الظنون الخاصّة ، لعدم الدليل عليه بعد بناء العرف على العمل بالحقيقة من دون اعتبار الفحص لأجل احتمال وجود القرينة أو المعارض. نعم ، لو حصل العلم إجمالا بوجود القرينة أو المعارض يجب الفحص حينئذ مقدارا يرتفع به العلم الإجمالي. والفحص حينئذ ليس من جهة العمل بالحقيقة ، بل لصيرورة الظاهر مجملا بسبب العلم الإجمالي ، فلا

٤٠٣

وأمّا القسم الثاني : وهو الظنّ الذي يعمل لتشخيص (٢٦٦)

______________________________________________________

حقيقة حينئذ حتّى يجب الفحص ، بل الفحص حينئذ لرفع الإجمال الطارئ لا للعمل بالظاهر.

وكيف كان ، فمع العلم الإجمالي إذا تفحّص مقدارا يرتفع به العلم الإجمالي لا يجب الفحص بعده مقدارا يحصل به الظنّ بعدم القرينة أو المعارض أو اليأس عنهما ، كما هو ظاهر جماعة بل صريحهم في إيجاب الفحص عن المخصّص في العمل بالعامّ ، بل لا معنى لذلك بعد اعتبارهم للظواهر من باب الظنّ الخاصّ إذ اعتبارهم الظنّ بالعدم أو اليأس عن المعارض مثلا إنّما يناسب القول باعتبارها من باب الظنّ المطلق الذي يلزمه اعتبارها من باب الظنّ الشخصي ، إذ مع فرض القول بها من باب الظنّ الخاصّ لا وجه لذلك أصلا. والعجب ممّن اعتبر الفحص بمقدار لا يلزم منه تعطيل الأحكام ، لأنّ ذلك تحديد للظهور العرفي بدليل شرعيّ أو عقلي ، وهو واضح البطلان.

٢٦٦. توضيح المقام أنّه لا إشكال في اعتبار الظنّ الحاصل بالمراد بعد العلم بالوضع أو القرينة الظنّية الدلالة ، ومرجعه إلى اعتبار الظواهر بعد القطع بالظهور الناشئ من العلم بالوضع أو وجود القرينة الظنّية الدلالة. والكلام إنّما هو في اعتبار الظنّ بالظهور الناشئ من الظنّ بالوضع أو بوجود القرينة المعتبرة ، بأن يشخّص بالظنّ أنّ الوقوع عقيب الحظر قرينة معتبرة عند العرف. وأمّا إنّ علم بكونه قرينة عندهم فهو خارج ممّا نحن فيه ، وإن كانت دلالته حينئذ ظنّية أيضا.

وعلى المقام بحث ، وهو أنّ نزاعهم في اعتبار الظنّ بالأوضاع وعدمه مختصّ بالظنّ الحاصل بأوضاع موادّ الألفاظ ، لإجماعهم ـ كما صرّح به صاحب الفصول في بعض كلماته على ما هو ببالي ـ على عدم حجّية الظنّ بأوضاع الهيئات وإن كان حاصلا من قول أهل اللغة. والسرّ فيه ثبوت طريق العلم بأوضاع الهيئات ، لعدم اختلاف معانيها باختلاف اللغات ، فيمكن معرفتها بالرجوع إلى العرف و

٤٠٤

الظواهر كتشخيص أنّ اللفظ المفرد الفلاني كلفظ «الصعيد» أو صيغة «افعل» أو أنّ المركّب الفلاني كالجملة الشرطيّة ، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلاني ، وأنّ الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر ـ بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر ـ في مجرّد رفع الحظر دون الإلزام. والظنّ الحاصل هنا يرجع إلى الظنّ بالوضع اللغوي أو الانفهام العرفي ، والأوفق بالقواعد عدم حجّية الظنّ هنا ؛ لأنّ الثابت المتيقّن هي حجّية الظواهر ، وأمّا حجّية الظنّ في أنّ هذا ظاهر فلا دليل عليه عدا وجوه ذكروها (٢٦٧) في إثبات جزئي من جزئيّات (٢٦٨)

______________________________________________________

ملاحظة مرادفها من سائر اللغات ، بخلاف موادّ الألفاظ. وفي حكم الهيئات ما يمكن معرفة وضعه بالرجوع إلى العرف من الموادّ ، مثل لفظ الواو والفاء ونحوهما من الحروف. ولذا ترى الاصوليّين قد عنونوا الكلام في إثبات أوضاع الهيئات وجملة من الحروف من دون تعرّض لسائر الموادّ. ولكنّ الإنصاف أنّ ذلك في الحروف محلّ نظر بل منع. ومن هنا لعلّه قد طوى الكشح عن ذكر معاني الحروف أواخر المتأخّرين في كتبهم الاصوليّة.

وكيف كان ، فالظاهر تحقّق إجماعهم على عدم اعتبار الظنّ بالأوضاع في الهيئات. ومن هنا يظهر أنّ تمثيل المصنّف رحمه‌الله للمقام بصيغة افعل والجملة الشرطية خارج من محلّ النزاع ، ولعلّه لم يعتدّ بالإجماع المذكور ، لعدم تحقّقه عنده.

٢٦٧. هذه الوجوه على ما يظهر من طيّ كلماته أربعة ، أحدها : الإجماع قولا وعملا. الثاني : بناء العقلاء على العمل بقول اللغويّين ، بل بقول كلّ ذي صنعة مبارز في صنعته وبارع في فنّه. الثالث : مسيس الحاجة إلى اعتباره ، وإلّا لانسدّ باب الاستنباط عن الأدلّة اللفظيّة. الرابع : انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة المستلزم لاعتبار قول اللغويّين ، بتقريب ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وهنا وجه خامس ، وهو تقرير الأئمّة عليهم‌السلام للعمل بما في كتب اللغة كما سنشير إليه.

٢٦٨. اعلم أنّ ما يحصل منه الظنّ بالأوضاع امور يختلف الظنّ الحاصل منها

٤٠٥

هذه المسألة ، وهي حجّية قول اللغويّين في الأوضاع ، فإنّ المشهور كونه من الظنون الخاصّة التي ثبتت حجّيتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة وإن كانت الحكمة في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها ؛ فإنّ الظاهر أنّ حكمة اعتبار أكثر الظنون الخاصّة ـ كأصالة الحقيقة المتقدّم ذكرها وغيرها ـ انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات.

والمراد بالظنّ المطلق (٢٦٩) ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم بخصوص الأحكام الشرعيّة ، وبالظنّ الخاصّ ما ثبت اعتباره ، لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظنّ بعد تعذّر العلم.

وكيف كان : فاستدلّوا على اعتبار قول اللغويّين باتّفاق

______________________________________________________

باختلافها قوّة وضعفا. منها : قول أهل اللغة ، سيّما إذا كان من المعروفين بالضبط وكثرة التّتبع ، مثل الخليل والأصمعي وابن سكيت والجوهري. ومنها : اشتهار المعنى بين الفقهاء. ومنها : قول الفقيه ، بأن يفسّر لفظا بمعنى. ومنها : سائر الأسباب المفيدة للظنّ من دون اختصاص بسبب دون آخر ممّا لم يقطع بعدم اعتباره ، كالقياس على ما ذكره صاحب المعالم من عدم عمل العاملين بالقياس به في إثبات الأوضاع. وهذه امور مفيدة للظنّ ، متدرّجة في الاعتبار قوّة وضعفا ، وأقواها أوّلها.

٢٦٩. فيه نظر ، لأنّ الظاهر أنّ المناط في الفرق بينهما أنّ الظنّ المطلق كلّ ظنّ كان اعتباره بهذا الوصف العنواني من دون خصوصيّة لسبب فيه ، سواء كان المثبت له هو دليل الانسداد المعروف أو غيره ، إذ لو فرض انعقاد إجماع أو ورود خبر قطعي على اعتبار الظنّ مطلقا من أيّ سبب حصل كان هذا مطلقا ، كما يشعر بما ذكرناه وصفه بالإطلاق. والظنّ الخاصّ كلّ ظنّ اعتبره الشارع باعتبار عنوان خاصّ من جهة الأسباب أو غيرها ، سواء كان المثبت له دليل الانسداد أم غيره. ولذا ترى صاحب المعالم أنّه مع عدم عمله إلّا بالخبر الصحيح الأعلى قد استدلّ عليه بدليل الانسداد. وهذا وإن كان فاسدا في نفسه ، إلّا أنّه يدلّ على

٤٠٦

العلماء (٢٧٠) بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ، ولم ينكر ذلك أحد على أحد ، وقد حكي عن السيّد رحمه‌الله في بعض كلماته : دعوى الإجماع على ذلك ، بل ظاهر كلامه المحكيّ اتّفاق المسلمين.

قال الفاضل السبزواري فيما حكي عنه في هذا المقام ، ما هذا لفظه : صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ، ممّا اتفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان ، انتهى.

______________________________________________________

عدم كون المناط في تسمية الظنّ الخاصّ بهذا الاسم هو كون دليله غير دليل الانسداد. لكن عذر المصنّف رحمه‌الله فيما ذكره واضح ، لأنّ دليل الانسداد لمّا كان مقتضاه بحسب الواقع اعتبار الظنّ مطلقا ، وكان مقتضى غيره من الأدلّة اعتبار صنف خاصّ من الظنون ، فسامح في جعل المناط في الفرق بينهما ما ذكره ، والأمر فيه سهل.

٢٧٠. ممّن ادّعى الاتّفاق في المقام هو العلّامة الطباطبائي ، قال في شرح الوافية : «ويدلّ على حصول الظنّ وحجّيته معا إطباق علماء الأمصار في جميع الأعصار على الحجّية والاعتبار من دون توقّف وإنكار ، فإنّ المفسّرين والمحدّثين والعلماء والاصوليّين والفقهاء والأدباء على كثرتهم واختلاف علومهم وفنونهم لم يزالوا في وضع اللغات وتعيين معاني الألفاظ يتمسّكون بأقوال اللغويّين ويعتمدون عليها ، ويراجعون الكتب المدوّنة في اللغة ، قد جرت بذلك عادتهم ، واستمرّت طريقتهم ، حتّى إنّهم في مقام التخاصم والنزاع في اللغة إذا استند أحدهم إلى نصّ لغوي موافق لمقالته التزم به خصمه أو عارضه ببعض آخر يقابله ، ولم يقل : هذا خبر واحد وهو لا يفيد الظنّ ، وعلى تقدير إفادته فلا عبرة به ، إذ الحجّة هو القطع دون غيره ، ولو لا أنّ حصول المظنّة واعتبارها معا من الامور المقرّرة المعلومة لديهم ـ بل الضرورية عندهم ـ لما أمسكوا عن النكير».

إلى أن قال : «وناهيك في ذلك اعتناء الأكابر والأماثل بجمع اللغة وضبطها

٤٠٧

وفيه : أنّ المتيقّن من هذا الاتّفاق (٢٧١) هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو

______________________________________________________

وتدوينها وحفظها ، حتّى صنّفوا فيها الكتب المشهورة والمؤلّفات المعروفة ، وما فعلوا ذلك إلّا لتكون الكتب المؤلّفة مرجعا لمن بعدهم من العلماء ، ومنهلا لمن يأتي من الفضلاء والأدباء ، ليأخذوا منها ويصدروا عنها». إلى أن قال : «مع أنّ تدوين اللغة بعد تحصيل المائة الثانية من الهجرة في زمان الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ، وقد شاع غاية الشيوع في المائة الثالثة ، ولم ينقل عن الأئمّة ولا غيرهم من التابعين إنكار ذلك أصلا ، بل ورد عنهم ما يقتضي الحثّ على تعلّم اللغة والمعرفة بوجوه اللفظ ، كما يظهر لمن تتّبع الأخبار» انتهى.

وأقول : أمّا ما ادعاه من الإجماع فيظهر منعه ممّا أجاب به المصنّف رحمه‌الله ، وسنشير إلى زيادة توضيح لذلك. وأمّا ما ادّعاه من تقرير الأئمّة عليهم‌السلام ، فيرد عليه منع وجود خبر يدلّ على تقريرهم عليهم‌السلام للعمل بقول أهل اللغة. ومجرّد عدم نقل إنكارهم لا يدلّ على رضاهم بذلك ، بل القطع بعدمه أيضا لا يدلّ عليه ، لاحتمال التقيّة والخوف. وأمّا الحثّ على تعلّمها فهو أيضا لا يدلّ على جواز الاكتفاء فيها بالظنّ ، إذ لعلّه لأجل تحصيل العلم.

٢٧١. توضيحه : أنّ محلّ الكلام في المقام هو جواز العمل بقول اللغوي غير المفيد للعلم في الأحكام الإلزاميّة غير الموافقة للقواعد الشرعيّة. والعامل بأقوال أهل اللّغة إمّا هم الأدباء المتحلّين بالعلوم الأدبيّة ، فاهتمامهم بضبط اللغات وعنايتهم في حفظها وتدوينها واستمرار عادتهم على الرجوع إلى كتب اللغة وإن كان ثابتا ، إلّا أنّ ذلك لمسيس حاجتهم إلى ذلك في نظم الأشعار وجمع الخطب والرسائل وحلّ الألغاز ومشكلات الألفاظ في محافل الرؤساء والسلاطين ، لأنّهم كانوا يدخلون عليهم ويتردّدون إليهم بالمدح والتوصيف بالأشعار والخطب ، ويصلون بذلك إلى الصلات الكثيرة والعطايا الجزيلة ، ويطلبون به الجاه عندهم والتقرب

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إليهم ، وكانوا ربّما ينازعون في مجالسهم في معاني الأشعار والخطب ، ويخطّئ بعضهم بعضا ، فيحتاجون إلى مراجعة كتب اللغة وضبطها ، وقصّة سيبويه والكسائي مشهورة. قيل : إنّ العرب أرشوا في موافقة الكسائي ، أو إنّهم علموا مكانه عند الرشيد. وكان هذا عمدة السبب في تدوين كتب اللغة ، بل وسائر علوم الأدب أيضا. وهذا حال الأدباء ، لا دخل لها فيما نحن فيه.

وأمّا العلماء الأعلام فلم يظهر منهم أيضا الرجوع إلى كتب آحاد أهل اللغة واعتمادهم عليها في إثبات الأحكام الإلزاميّة المخالفة للاصول والقواعد ، بحيث يحصل منهم الإجماع على ذلك ، لأنّ إجماعهم في الجملة وإن كان مسلّما ، إلّا أنّ عملهم يحتمل أن يكون مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحوهما كما اعتبروها في سائر المقامات ، ويحتمل أن يكون في موارد حصول العلم بمجرّد ذكر لغوي أو أزيد ، أو مع انضمام سائر القرائن الخارجة أيضا ، أو في مقام لا يتعلّق بالتكليف ، كتفسير الخطب والآيات والأخبار الواردة في القصص والحكايات ، أو يتعلّق به لكن في موارد يتسامح فيها كالسنن والمكروهات ، أو في مورد ثبت التكليف فيه بالواقع بالدليل اللفظي مع إجمال المراد منه وعدم إمكان الاحتياط فيه. وبالجملة ، إنّ الإجماع المدّعى في المقام عملي ، فلا بدّ فيه من الاقتصار على المتيقّن من مورد عملهم ، وهو غير مفيد للمدّعى.

ومنه يظهر ضعف ما نقله عن المحقّق السبزواري من بناء العقلاء على اعتبار قول كلّ ذي فنّ بارع في فنّه وكلّ ذي صنعة مبارز في صنعته ، لأنّ هذا أيضا إجماع تقييدي لا اعتداد به ، مع إجمال جهة عملهم بقول أهل الخبرة بحسب الموارد ، لأنّ عمل العلماء بقول الطبيب إنّما هو لدفع الضرر المظنون في مخالفته ، وهو ممّا استقلّ به العقل ، وعدم عملهم بقول غيره في الطبّ مع فرض إفادته للظنّ إنّما هو لكون الظنّ الحاصل من قول غيره كالوهم عند العقلاء ، والعقل بعد ملاحظة بناء العقلاء على عدم الاعتداد به يرجع فيه عن عموم حكمه بوجوب دفع الضرر

٤٠٩

ذلك (٢٧٢) لا مطلقا ؛ ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال ، بل وبعضهم على اعتبار التعدّد ، والظاهر اتّفاقهم على اشتراط التعدّد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها.

هذا ، مع أنّه لا يعرف الحقيقة عن المجاز بمجرّد قول اللغوي كما اعترف به المستدلّ في بعض كلماته ، فلا ينفع في تشخيص الظواهر.

فالإنصاف : أنّ الرجوع إلى أهل اللغة مع عدم اجتماع شروط الشهادة : إمّا في مقامات يحصل العلم فيها بالمستعمل فيه من مجرّد ذكر لغوي واحد أو أزيد له على وجه يعلم كونه من المسلّمات عند أهل اللغة ، كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهيّة من

______________________________________________________

المظنون. نعم ، ربّما يحتاطون حينئذ بالرجوع إلى الأطبّاء ، لأنّ قولهم إمّا يؤكّد هذا الظنّ بالموافقة أو يزيله بالمخالفة.

ومن هذا الباب رجوع المقلّد إلى المجتهد في الأحكام الشرعية في وجه ، لأنّ ذلك أيضا لأجل دفع الضرر المظنون. والظنّ الحاصل للمقلّد من الأدلّة هنا أيضا كالوهم ، لغاية بعده عن إدراك الأحكام الشرعيّة. وعملهم بقول علماء الرجال إمّا من باب الشهادة ، كما يظهر من جماعة كالأردبيلي وصاحبي المدارك والمعالم ، حيث اعتبروا فيه العدد والعدالة ، وإمّا من باب الرواية ، وهو المعروف فيما بينهم ، وإمّا من باب الظنون الاجتهاديّة كما يظهر من الوحيد البهبهاني. واعتبارهم لقول المقوّم في قيم المتلفات وأروش الجنايات إنّما هو من باب الشهادة ، ولذا اعتبروا فيه العدد والعدالة.

وبالجملة ، إنّ جهة عملهم في أمثال هذه الموارد مختلفة أو مجهولة. نعم ، الخبرة معتبر عندهم ، وبمجرّد ذلك لا يمكن إثبات حجّية قول أهل اللغة. نعم ، لو كان عملهم بقول أهل الخبرة من حيث خبرتهم ، بأن كانت الخبرة علّة تامّة لعملهم ، تمّ ذلك ، وإذ ليس فليس.

٢٧٢. مثل كون الإخبار مستندا إلى الحسّ دون الحدس والاجتهاد.

٤١٠

إرسال جماعة لها إرسال المسلّمات ، وإمّا في مقامات يتسامح فيها ؛ لعدم التكليف الشرعيّ بتحصيل العلم بالمعنى اللغوي ، كما إذا اريد تفسير خطبة أو رواية لا تتعلّق بتكليف شرعيّ. وإمّا في مقام (٢٧٣) انسدّ فيه طريق العلم ولا بدّ من العمل ، فيعمل بالظنّ بالحكم الشرعيّ المستند بقول أهل اللغة.

ولا يتوّهم : أنّ طرح قول اللغوي الغير المفيد للعلم في ألفاظ الكتاب والسنّة مستلزم لانسداد طريق الاستنباط في غالب الأحكام. لاندفاع ذلك : بأنّ أكثر موادّ اللغات (٢٧٤) إلّا ما شذّ وندر كلفظ «الصعيد» ونحوه معلوم من العرف واللغة ، كما لا يخفى. والمتّبع في الهيئات هي القواعد العربيّة المستفادة من الاستقراء القطعي واتّفاق أهل العربية أو التبادر بضميمة (٢٧٥) أصالة عدم القرينة ، فإنّه قد يثبت به الوضع الأصلي الموجود في الحقائق ، كما في صيغة «افعل» أو الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة ؛ ومن هنا يتمسّكون (٥٦) ـ في إثبات مفهوم الوصف ـ بفهم أبي عبيدة في حديث : «ليّ الواجد» ، ونحوه غيره من موارد الاستشهاد بفهم أهل اللسان. وقد يثبت به الوضع بالمعنى الأعمّ الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن المقاميّة ، كما يدّعى أنّ الأمر عقيب الحظر بنفسه ـ مجرّدا عن القرينة ـ يتبادر منه مجرّد رفع الحظر دون

______________________________________________________

٢٧٣. مع اشتراط عدم إمكان الاحتياط ، وإلّا فلا دليل على جواز العمل بالظنّ حينئذ ، كما أشرنا إليه سابقا.

٢٧٤. يؤيّده أنّ بيان الأحكام الشرعيّة إنّما ورد على حسب أفهام أواسط الناس ، لعدم تعلّق غرض الأئمّة عليهم‌السلام في ذلك بإيراد الكلام على سبيل الإعجاز ، لتمسّ حاجتهم إلى إيراد الألفاظ المشكلة على حسب ما يقتضيه المقام ، ليحتاج في فهم معانيها إلى كتب اللغة ، ويقتصر فيه على ما يحصل منها من الظنّ ، فمعاني أكثر الألفاظ المستعملة في بيان الأحكام الشرعيّة معلومة لا محالة ، على نحو ما قرّبه المصنّف رحمه‌الله.

٢٧٥. ظاهره اعتبار التبادر الإطلاقي في إثبات الأوضاع ، وهو خلاف ما حقّقناه في محلّه.

٤١١

الإيجاب والإلزام. واحتمال كونه لأجل قرينة خاصّة يدفع بالأصل ، فيثبت به كونه (٢٧٦) لأجل القرينة العامّة وهي الوقوع في مقام رفع الحظر ، فيثبت بذلك ظهور ثانوي لصيغة «افعل» بواسطة القرينة الكلّية. وبالجملة : فالحاجة إلى قول اللغوي الذي لا يحصل العلم بقوله ـ لقلّة مواردها (٢٧٧) ـ لا تصلح سببا للحكم باعتباره لأجل الحاجة.

نعم ، سيجيء أنّ كلّ من (٢٧٨) عمل بالظنّ في مطلق الأحكام الشرعيّة الفرعيّة يلزمه العمل بالظنّ بالحكم الناشئ من الظنّ بقول اللغوي ، لكنه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات ، بل العبرة عنده بانسداد باب العلم في معظم الأحكام ؛ فإنّه يوجب الرجوع إلى الظنّ بالحكم الحاصل من الظنّ باللغة وإن فرض انفتاح باب العلم فيما عدا هذا المورد من اللغات ، وسيتّضح هذا زيادة على هذا إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

٢٧٦. هذا مبنيّ على القول باعتبار الاصول المثبتة ، كما أنّ القول باعتبار التبادر الإطلاقي لإثبات الأوضاع مبنيّ عليه.

٢٧٧. دعوى قلّة مواردها بحيث لا يلزم من العمل بالاصول والقواعد فيها محذور في غاية الإشكال ، بل تمكن دعوى فساده ، كما هو واضح على المطلّع على الفقه.

٢٧٨. يرد عليه أوّلا : منع اقتضاء انسداد باب العلم في الأحكام جواز الاكتفاء بمطلق الظنّ في الأوضاع مع فرض الانفتاح فيها ، إذ الوصول إلى الواقع مطلوب شرعا وعقلا ، فحكم العقل بالاكتفاء بالطرق الظنّية في نفس الأحكام لا يستلزم حكمه بجواز الاكتفاء بظنّ يستلزم هذا الظنّ. ولذا ترى أنّ القائلين بالظنون المطلقة في نفس الأحكام قد عملوا بالظواهر من باب الظنون الخاصّة ، سوى ما يتراءى من المحقّق القمّي رحمه‌الله حيث عمل بالظواهر من باب الظنون المطلقة أيضا.

وثانيا : أنّ التمسّك بهذا الدليل خروج من موضوع الكلام في المقام ، لأنّ الكلام إنّما هو في إخراج قول اللغوي من تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ من حيث كونه قول لغوي ، وعلى تقدير تسليم انسداد باب العلم بالأحكام تنقلب

٤١٢

هذا ، ولكنّ الإنصاف (٢٧٩):

______________________________________________________

أصالة الحرمة إلى أصالة الجواز ، فلا يبقى مجال لدعوى خروج قول اللغوي من تحت الأصل أصلا.

٢٧٩. كان المصنّف رحمه‌الله قبل الدورة الأخيرة من مباحثته التي لم تتمّ له وأدركه هادم اللذات في أثنائها مقوّيا لعدم حجّية قول اللغوي ، وعدل عنه في الدورة الأخيرة ، فأضاف قوله : «هذا ولكنّ الإنصاف ...» إلى المتن. ولكنّك خبير بأنّ ما أنصفه هنا غير مجد بعد ما اعترف به آنفا من عدم إمكان تمييز حقائق الألفاظ عن مجازاتها بقول اللغويّين. مع أنّ الأكثريّة التي ادّعاها ـ مع اعترافه بعدم لزوم محذور في التوقّف والعمل بالقواعد والاصول في موارد الحاجة التي ذكرها ـ غير مغنية من شيء. مضافا إلى أنّ القول باعتبار قول اللغوي لأجل كثرة موارد الاشتباه يقتضي اعتباره من باب الظنون المطلقة لأجل دليل الانسداد ، وهو خلاف المطلوب كما أشرنا إليه في الحاشية السابقة. مع أن الاستناد ثانيا إلى الاتّفاقات المستفيضة يقتضي اعتباره من باب الظنون الخاصّة ، فالتنافي بين الدليلين واضح. مضافا إلى أنّ الاستناد إليها مع ما سبق منه من القدح فيها ممّا لا وجه له. ولعلّه إلى بعض ما ذكرناه أو جميعه أشار بالأمر بالتأمّل.

تنبيهات : الأوّل : إنّا إذا قلنا بعدم اعتبار قول اللغوي ثبت عدم اعتبار غيره من الأسباب المورثة للظنّ ممّا أشرنا إليه في بعض الحواشي السابقة بطريق أولى. نعم ، يستثنى حينئذ أصلان في إثبات الأوضاع ، أحدهما : أصالة عدم النقل عند الشكّ في طروء وضع جديد للفظ بحيث يكون منقولا إلى المعنى الجديد. والآخر : أصالة عدم الاشتراك عند عروض الشكّ فيه ، إذ لم يخالف أحد من العلماء فيهما ، فيخرجان من تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ.

الثاني : إنّا إذا قلنا باعتبار أقوال أهل اللغة ، فإذا تعارضت اللغات فقال العلّامة الطباطبائي في شرح الوافية : «فالواجب طلب المرجّح والعمل بالراجح. ويحصل

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الترجيح بالعدالة ، وكثرة التّتبع لكلام العرب ، والممارسة لفنون الأدب ، وغلبة الضبط ، وقلّة الخلط بين الحقيقة والمجاز كما اتّفق لكثير من المتأخّرين ، وقرب العهد من العرب العرباء ، وكون الناقل عربيّا وإن غلب عليه اللحن والتغيير ، فإن حفظ الأصل هيّن على التكميل ، وغير ذلك ممّا يوجب قوّة الظنّ. فإن تساويا فالأقرب وجوب تقديم الإثبات على النفي ، والبناء على الأعمّ مطلقا أو من وجه ، كما في لفظي الصعيد والغناء ، فإن أهل اللغة اختلفوا في أنّ الصعيد وجه الأرض مطلقا أو خصوص التراب ، وفي الغناء أنّه الصوت المطرب أو ترجيع الصوت. فنقول : الصعيد وجه الأرض مطلقا ، والغناء الصوت الذي فيه ترجيع أو طرب ، وذلك لأنّ ما يدّعيه النافي ، شهادة على النفي ومرجعها إلى عدم الوجدان بعد الفحص ، وعدم الوجدان لا يقتضي عدم الوجود ، وقد ادّعاه المثبت فيصدّق. وربّما يقال : إنّ الواجب في صورة التعارض الأخذ بما اتّفق فيه القولان وترك ما اختلفا فيه ، لأنّ اللغة توقيفيّة ، والتعارض يوجب التساقط ، فلا يحصل التوقيف. وفيه : أنّه قد حصل بقول المثبت ، وقول النافي لا يصلح للمعارضة كما عرفت» انتهى كلامه زيد إكرامه.

وهو حقّ لا يعتريه ريب. ومقتضاه الحكم بالاشتراك اللفظي مع التباين الكلّي. ومنه يظهر السرّ في عدم الحكم بالتخيير مع التعارض بخلاف متعارضات الأخبار ، لأنّ التخيير فرع التعارض وقد فرضنا عدمه في اللغات ، لأنّ مرجع قولي أهل اللغة مع تعارضهما إلى دعوى أحدهما وجدان أحد المعنيين وعدم وجدان الآخر لا نفيه ، وكذا الآخر. ومع تسليم نفي كلّ منهما لما يدّعيه الآخر لا دليل على اعتبار هذا النفي ، لأنّ ما دلّ على اعتبار قول أهل اللغة إنّما دلّ عليه في الإثبات دون النفي. ومن هنا يظهر أنّ المتّجه هو الحكم بالاشتراك مطلقا حتّى مع التصريح بالنفي. هذا بخلاف تعارض الأخبار ، لأنّ كلّا من المخبرين فيه ناف لما يخبر به الآخر ، وما دلّ على اعتبار خبر العدل مثلا قد دلّ على اعتباره مطلقا.

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مع أنّ التخيير في متعارضات الأخبار ثابت بالأخبار المستفيضة ، بخلاف متعارضات اللغة ، لأنّه لا يخلو : إمّا أن نقول باعتبار اللغة من باب الطريقيّة أو من باب الموضوعيّة والسببية. ومقتضى القاعدة في التعارض على الثاني وإن كان هو التخيير ، إلّا أنّ القول باعتبارها من باب الموضوعيّة في غاية البعد. ومقتضاها على الأوّل هو التساقط والرجوع إلى مقتضى القواعد والاصول.

وممّا ذكرناه يظهر الإشكال في ملاحظة الترجيح في متعارضات اللغات كما عرفته من العلّامة الطباطبائي ، لما عرفت من عدم تحقّق التعارض فيها حقيقة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التعارض مانع من حصول الظنّ بأحد المتعارضين ، وطلب الترجيح إنّما هو لتحصيل الظنّ بما وافقه المرجّح ، فتأمّل.

وحاصل الكلام وفذلكة المقام : أنّ ما ذكروه في تعارض الأخبار من حمل العامّ على الخاصّ ، والحكم بالتساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول والقواعد في مادّة التعارض في وجه ، أو ملاحظة حكم الترجيح في وجه آخر في العامّين من وجه ، والحكم بالتخيير في المتباينين ، غير جار في المقام ، والسرّ فيه يظهر ممّا قدّمناه.

الثالث : اعلم أنّهم قد ذكروا لمعرفة الحقيقة والمجاز علامات ، منها تصريح أهل اللغة. لكن يشكل تمييز ذلك في الأكثر بالرجوع إلى كتب اللغة ، لعدم تصريحهم بذلك فيها في الأكثر. وحينئذ تنتفي فائدة تدوين اللغة وجمعها غالبا ، من حيث معرفة الأوضاع لتثمر في مقام تعيين المرادات ، بالحمل على المعنى الحقيقي مع عدم القرينة وعلى المجازي معها. نعم ، غاية ما يظهر ممّا جمعوه من كتب اللغة استعمالات الألفاظ وإطلاقاتها ، إلّا أنّه لا يترتّب عليه كثير فائدة.

نعم ، قال العلّامة الطباطبائي في شرح الوافية : «واعلم أنّ المجاز كالحقيقة قد يعرف بالضرورة من اللغة ، كالأسد في الشجاع ، واليد في النعمة ، والغيث في النبات ، والأصابع في الأنامل ، وبنصّ أهل اللغة على أنّه مجاز ، كأن يصرّحوا باسمه أو حدّه أو خاصّته. وقد يشكل التمييز بين الحقيقة والمجاز من كتب اللغة ، حيث

٤١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إنّ الأكثرين خلطوا بين المعاني الحقيقيّة والمجازيّة بحيث يصعب الفرق بينهما غالبا ، إذ لم يصرّحوا بالاسم ولا بالحدّ والخاصّة إلّا نادرا. لكنّ الظاهر أنّهم متى قالوا : اسم لكذا أو كذا ، فإنّما يعنون به الحقيقة ، وإذا قالوا : قد يقال لكذا وقد يطلق على كذا أو جاء أو يجيء لكذا ، فإنّما يعنون المجاز. وقد ذكر بعض المحقّقين أنّ أوّل ما يذكرونه في العنوان مقدّما على غيره هو المعنى الحقيقي ، لبعد تقديم المجاز على الحقيقة في الذكر ، وكذا في كون الجميع مجازات ، وهو قريب» انتهى.

وأقول : إنّ ما استقربه ممّا نقله أخيرا عن بعض المحقّقين واضح المنع ، لأنّ مجرّد الاستبعاد لا يفيد شيئا ، وقد حصل منه ظنّ ، فلا دليل على اعتباره إلّا على القول باعتبار مطلق الظنّ في الأوضاع ، لكنّ الكلام في حصول الظنّ بما ذكره.

الرابع : قد صرّح صاحب المعالم بعدم عمل العاملين بالقياس في الأحكام به في اللغات. وقال العلّامة الطباطبائي في شرح الوافية : «اعلم أنّ بعض الناس ذهب إلى أنّ اللغة تثبت بالقياس إذا كان بين الأصل والفرع جامع يصلح للعلّية ، كتسمية النبيذ خمرا إلحاقا له بالعقار ، لمعنى مشترك هو التخمير للعقل. وكذا تسمية اللائط زانيا والنبّاش سارقا ، لجامع الإيلاج المحرّم والأخذ بالخفية» انتهى.

أقول : إنّ للناس في ذلك مذاهب :

أحدها : المنع مطلقا ، كما عن الصيرفي والقاضي في أحد النقلين وابن القطّان وإمام الحرمين والغزالي والآمدي ، بل معظم الشافعيّة والحنفيّة.

وثانيها : الجواز كذلك. وعزاه جماعة إلى أكثر الشافعية ، كالقاضي أبي طيب وابن برهان والسمعاني. ومن القائلين به ابن سريج وابن أبي هريرة وأبو إسحاق الشيرازي والإمام.

وثالثها : أنّه يجوز ولكن لم يقع. حكاه ابن فورك.

ورابعها : ما حكاه السمعاني عن ابن سريج واختاره من جواز ثبوت اللّغة بالقياس في الأسماء اللغويّة دون الشرعيّة.

٤١٦

أنّ مورد الحاجة إلى قول اللغويّين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها وإن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغوي ، كما في مثل ألفاظ «الوطن» و «المفازة» و «التمر» و «الفاكهة» و «الكنز» و «المعدن» و «الغوص» وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصى ، وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها محذورا ، ولعلّ هذا المقدار مع الاتّفاقات المستفيضة كاف في المطلب ، فتأمّل.

______________________________________________________

وخامسها : أنّه تثبت به الحقيقة دون المجاز. قيل : هذا يخرّج من كلام القاضي عبد الوهّاب.

وسادسها : جوازه في غير أسماء الله تعالى.

وأدلّة هذه الأقوال مذكورة في الكتب ، لا يهمّنا نقلها بعد بطلان أصل القياس في مذهبنا.

الخامس : عن يونس وأبي عمر أنّهما قالا : ما وصلنا ممّا قالت العرب إلّا أقلّه. وقال البرماوي شمس الدين محمّد بن عبد الدائم بن موسى الشافعي في الفوائد السنية : «قال الشافعي في الرسالة : لسان العرب أوسع الألسنة ، لا يحيط بجميعه إلّا نبيّ ، ولكنّه لا يذهب منه شيء على عامّتها. والعلم به عند العرب كالعلم بالسّنة عند أهل الفقه ، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء ، وتوجد مجموعة عند جميعهم. ونقل ابن فارس في فقه العربيّة عن بعض الفقهاء أنّه لا يحيط بها نبيّ. قال : وهو كلام خليق أن يكون صحيحا. قال : وما بلغنا عن أحد من الماضين أنّه ادّعى حفظ اللغة ، وما وقع في آخر كتاب الخليل : أنّ هذا آخر كلام العرب ، فالخليل أتقى لله من أن يقول ذلك. وذهب علمائنا أو أكثرهم إلى أنّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ ، فلو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير» انتهى كلام البرماوي.

السادس : قال البرماوي : «قال ابن الحاجب : إذا خرج بعض العرب عمّا عليه

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الناس واستعمال الفصحاء كان مردودا عند أهل التحقيق ، لأنّ قبولنا إيّاه إنّما هو لغلبة الظنّ بوفق ما وضعه الواضع ، فإذا خالف استعمال الفصحاء غلب على الظنّ النقيض ، فزال الموجب لقبوله» انتهى. وفي إطلاقه تأمّل.

٤١٨

المصادر

(١) معارج الاصول : ص ١٤١.

(٢) الفصول الغرويّة : ص ٢٧١.

(٣) عدّة الاصول ج ١ : ص ١٠٣.

(٤) المعالم : ص ٢٧.

(٥) تمهيد القواعد : ص ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٦) عدّة الاصول ج ١ : ص ٩٨ ؛ الإحكام للآمدي ج ٢ : ص ٦٥.

(٧) يونس (١٠) : ٥٩.

(٨) الوسائل ج ١٨ : ص ١١ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٩) الرسائل الاصوليّة : ص ٢.

(١٠) مفاتيح الاصول : ص ٤٥٢.

(١١) مفاتيح الاصول : ص ٤٥٣ ؛ مناهج الأحكام : ص ٢٥٥.

(١٢) الفوائد المدنيّة : ص ١٧ و ١٢٨ ؛ الفوائد الطوسيّة : ص ١٨٦ ؛ الدرر النجفيّة : ص ١٧١ ؛ منبع الحياة ، ص ٤٨.

(١٣) عوالي اللآلي ج ٤ : ص ١٠٤ ، الحديث ١٥٤.

(١٤) الوسائل ج ١٨ : ص ١٤٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.

(١٥) الوسائل ج ١٨ : ص ١٤٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

(١٦) الوسائل ج ١٨ : ص ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٦.

(١٧) الوسائل ج ١٨ : ص ١٥١ الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٩.

(١٨) الوسائل ج ١٨ : ص ٢٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢.

(١٩) تفسير العياشي ج ١ : ص ١٨ ، الحديث ٦.

(٢٠) مجمع البيان ج ١ : ص ١٣.

(٢١) الوسائل ج ١٨ : ص ٣٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٢٢) الوسائل ج ١٨ : ص ١٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(٢٣) الوسائل ج ١٨ : ص ١٤٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢.

(٢٤) الوسائل ج ١٨ : ص ١٤٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢.

(٢٥) الوسائل ج ١٨ : ص ١٥٣ ، الباب ١٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٢٦) الوسائل ج ١٣ : ص ٢٣٠ ، الباب ٦ من أحكام الوديعة ، الحديث ١ ، الآية من سورة التوبة (٩) : ٦١.

(٢٧) مستدرك الوسائل ، ج ١٣ : ص ٢٢١ ، الباب ٨٠ من أبواب ما يكتسب به :

الحديث ٤ ، الآية من سورة الإسراء (١٧) : ٣٦.

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

(٢٨) الوسائل ج ١٥ : ص ٣٧٠ ، الباب ١٢ من أبواب أقسام الطلاق ، الحديث ١ ، الآية من سورة البقرة (٢) : ٢٣٠.

(٢٩) الوسائل ج ١٥ : ص ٣٦٩ ، الباب ٩ من أبواب أقسام الطلاق ، الحديث ٤ ، الآية من سورة البقرة (٢) : ٢٣٠.

(٣٠) الوسائل ج ١٤ : ص ٤١٠ ، الباب الأوّل من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ، الحديث ٣ ، الآيتان من سورتي المائدة (٥) :

٥ ، البقرة (٢) : ٢٢١.

(٣١) الوسائل ج ١ : ص ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥. الآية من سورة الحج (٢٢) : ٧٨.

(٣٢) مستدرك الوسائل ج ٦ : ٥٣٩ ، الباب ١٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ١.

(٣٣) الوسائل ج ٥ : ص ٥٣١ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٤.

(٣٤) الوسائل ج ٥ : ص ٥٣٨ ، الباب ٢٢ من أبواب الصلاة المسافر ، الحديث ٢ ، الآية من سورة البقرة (٢) : ١٥٨.

(٣٥) الوسائل ج ١٤ : ص ٣٧٧ ، الباب ٣٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ١١ ، الآية من سورة النساء (٤) : ٢٤.

(٣٦) الوسائل ج ١٥ : ص ٣٤١ ، الباب ٤٣ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٢ ، الآية من سورة النحل (١٦) : ٧٥.

(٣٧) الوسائل ج ١٦ : ص ٣٢٤ ، الباب ٤ من أبواب كراهة لحوم الخيل والبغال ، الحديث ٦ ، الآية من سورة الأنعام (٦) : ١٤٥.

(٣٨) آل عمران (٣) : ٧.

(٣٩) مناهج الأحكام : ص ١٥٨.

(٤٠) المائدة (٥) : ١.

(٤١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٤٢) التوبة (٩) : ٢٨.

(٤٣) النساء (٤) : ٤٣ ، المائدة (٥) : ٦.

(٤٤) البقرة (٢) : ٢٢٢.

(٤٥) القوانين ج ١ : ص ٤٠٦ ؛ مفاتيح الاصول : ص ٣٢٢.

(٤٦) البقرة (٢) : ٢٢٣.

(٤٧) القوانين ج ٢ : ص ١٠٩.

(٤٨) القوانين ج ١ : ص ٣٩٨ ـ ٤٠٣.

(٤٩) القوانين ج ٢ : ص ١٠٣.

(٥٠) القوانين ج ٢ : ص ١٠٤.

(٥١) المعالم : ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥٢) الدرر النجفيّة : ص ٣٤.

(٥٣) تمهيد القواعد : ص ٢٧١ ؛ القواعد والفوائد ج ١ : ص ١٣٣.

(٥٤) هداية المسترشدين : ص ٤٠.

(٥٥) مفاتيح الاصول : ص ٣٥ ـ ٣٦.

(٥٦) القوانين : ص ١٧٨ ؛ الفصول الغرويّة :ص ١٥٢

٤٢٠