فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

١
٢

٣
٤

٥
٦

المقصد الاوّل في القطع

٧
٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطّاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين الى يوم الدين.

______________________________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله العلّى العالي ذي المجد والإفضال والجلال ، ثمّ الصّلاة والسّلام السّامي على النّبيّ المصطفى التّهامي وآله الأئمّة الأطهار ما اختلف الليل مع النّهار.

أمّا بعد فيقول المذنب الجاني قليل البضاعة كثير الإضاعة ، موسى بن جعفر بن أحمد التّبريزي ومسهم الله في رضوانه وغمسهم في بحار غفرانه وأسكنهم بحبوحة جنانه ، إنّي لما عثرت على الأثر المأثور من فاتحة صحائف الأكوان وخاتمة أوراق الإمكان ، مشكاة مسالك الإيمان سيّدنا ونبيّنا سيّد الإنس والجانّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه قال : «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها ، علم تكون تلك الورقة سترا فيما بينه وبين النّار وأعطاه الله بكلّ حرف مكتوب عليها مدينة في الجنّة أوسع من الدّنيا سبع مرّات» كنت أكرّر لفظه تارة وأمعن النّظر في معناه أخرى وأتمنى أن يوفّقني الله سبحانه للفوز بهذه النّعمة العظمى والموهبة الكبرى ؛ لأن أكون من سكّان هذه المدائن الرّائقة والقصور الشّاهقة والمتنزّهين في بساتينها وحدائقها مع حورها وغلمانها ، مملئا حجري من ثمارها ، معلّما رأسي من جلّنارها.

وكثيرا ما كان يخطر ببالي ويسنح بخيالي أن أعمل كتابا في الفقه أو الأصولين ، لعظم نفعها في النّشأتين ومع ذلك كنت متردّدا في نظم تحقيق المطالب

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

في سلك المتون ، أو تعليق حواش عليها تليق أن نكتب بالنّبر على العيون ، فأجلت فرسان نظري في صحائف الكتب والمصنّفات والشّروح والمؤلّفات إلى أن وقفت على رسائل شيخ المشايخ ، ممهّد قواعد الدّين ، ومحرّر ضوابط الشّرع المبين ، ومهذّب القوانين المحكمة ، ومبيّن الإشارات المبهمة ، ومصباح مناهج شرائع الإسلام ، ومشكاة مسالك غاية المرام ، كاشف اللّثام عن غاية المراد ، كاشف الغطاء عن نهاية الإرشاد ، كاشف الأسرار والرّموز عن مدارك الأحكام ، كاشف الالتباس من دلائل الحلال والحرام بكلمات كافية كعوالي اللّئالي ، وحجج وافية كالدّرر والغرر الغوالي ، أعني نتيجة العلماء الرّاسخين وصفوة الفقهاء المحقّقين ، قطب رحى الفضائل ، مفتاح كنوز الدّلائل ، عين الإنسان ، إنسان العين مرتضى المصطفى ، مصطفى المرتضى شيخنا وأستاذنا المرتضى الأنصاري ، أفاض الله على تربته الشّريفة شآبيب رحمته ورضوانه وأسكنه بحبوحة فراديس جنانه ؛ فإذن هي كنز مقفّل الأبواب لا يهتدي طالبه إلى سبيله ، وبحر ذخّار موّاج لا يصل راكب سفنه إلى ساحله ومعضلة دهماء لا يهتدي لها طريق ولا يهدى إلى ضوئها السّاري ، فأردت أن أشرح معضلاتها ببيانات شافية وأبيّن مبهماتها بعبارات كافية وأنبّه على لطائف نكات قد كنّى عنها بعبارات لائقة ، وأستخرج رموز أو دقائق قد أخفاها بكنايات وإيهامات رائقة ، وأضيف إليها ما أخذته من أفواه الرّجال الرّاسخين أو تنبهت عليه عند المناظرة مع الباحثين وما اقتطفته من الثّمار في رياض تحقيقات الماضين وما اقتبسته من أنوار آثار آل طه ويس ، إذ كم من مزايا في الخبايا وكم من خفايا في الزّوايا من أرومة المطالب وجرثومة المقاصد ، قد تركها الأوائل واختلسها الأواخر ونظموها بسلك السّطور نظم الفرائد على القلائد وزيّنوا بها صحائف التّحقيق كالوشاح على الخرائد.

وجمعت ممّا خطر ببالي بالتّوفيق السّبحاني طرائفه وممّا أفاضه نفخات التّأييد الرّحماني ظرائفه وممّا عثرت عليه في الكتب عجائبه وممّا استفدته من مذاكرة الأساطين

١٠

اعلم أنّ أنّ المكلّف إذا التفت (١) إلى حكم شرعيّ ، فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه (٢) أو القطع أو الظنّ. فإن حصل له الشكّ ، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة

______________________________________________________

رشائق وعلقتها على رسائل شيخنا الأستاذ العلّامة ، أفاض الله سبحانه على تربته رحمته ورضوانه حواشي كأنّهنّ الياقوت والمرجان والصّور الحسان ، وسمّيتها ب «أوثق الوسائل في شرح الرسائل» وهو حسبي ونعم الوكيل.

١. فإن قلت : إنّ التقييد بالشرط مستدرك ، إذ المكلّف لا بدّ أن يكون ملتفتا وإلّا لم يكن مكلّفا ، لقبح تكليف غير الملتفت.

قلت : إنّ المراد بالمكلّف هنا هو المكلّف الواقعي مع قطع النظر عن كونه ملتفتا وعدمه ، لأنّ الالتفات شرط لتنجّز التكليف لا لتعلّق التكليف الواقعي في الجملة ، فيرجع الحاصل إلى أنّ من جمع الشرائط العامّة ـ من البلوغ والقدرة والعقل ـ إذا التفت إلى حكم شرعيّ إلى آخر ما ذكره. ومقابله من لم يجمعها ، فيخرج منه التفات الصبيّ والمجنون والعاجز ، لعدم ترتّب أثر شرعا وعقلا على التفات هؤلاء.

ويحتمل أن يريد به المكلّف العالم بالأحكام إجمالا الجاهل بتفاصيلها. فيكون المراد بالحكم الذي هو متعلّق الالتفات هي الأحكام الخاصّة من وجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر أو نحوهما.

ويحتمل أن يكون الشرط واردا لبيان الموضوع ، لما عرفت من كون الالتفات شرطا لتنجّز التكليف ، فيكون مأخوذا في موضوعه.

٢. لم يتعرّض في التقسيم للوهم ، لتعيّن إلغائه. ووجهه واضح. ثمّ إنّ الظاهر من العبارة أنّ المراد بالشكّ هو الشكّ بمعنى تساوي الطرفين مقابل الظنّ الفعلي. وحينئذ يقع الإشكال في جعل الأقسام الثلاثة موضوعا لمقاصد الكتاب ، لوضوح أنّ الموضوع في المقصد الثاني ليس خصوص الظنّ الفعلي ، بل الظنّ النوعي أو الأعمّ منهما. وكذا الموضوع في المقصد الثالث ليس الشكّ بمعنى تساوي الطرفين ، بل

١١

الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى ب «الاصول العمليّة» (٣)

______________________________________________________

الأعمّ منه ومن الظنّ غير المعتبر. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الموضوع في المقصد الثاني هو الظنّ الفعلي ، ولكنّ النوعي داخل في هذا المقصد حكما لا موضوعا ، وكذلك الموضوع في المقصد الثالث هو الشكّ بمعنى تساوي الطرفين ، ولكنّ الظنّ غير المعتبر داخل فيه حكما أيضا لا موضوعا ، فتأمّل ، فأنّه لا يخلو عن تكلّف ، لأنّ عمدة الكلام في المقصد الثاني في الظنّ النوعي كما لا يخفى.

٣. صريح العبارة أنّ القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل منحصرة في الاصول العمليّة الأربعة. وليس كذلك ، لأنّ للشاكّ اصولا أخر كثيرة الدوران بينهم ، مثل أنّ عدم الدليل دليل العدم ، والبناء على الأخفّ عند دوران الأمر بينه وبين غيره ، وأصالة الإباحة ، والاصول اللفظيّة وغير ذلك. ولكن يمكن دفع ذلك بأنّ هذه الاصول بين ما هو غير معتبر وما هو راجع إلى أحد الأربعة. وتفصيل القول في ذلك مقرّر في محلّ آخر. وأمّا على القول باعتبارها من باب الظنّ ـ كما هو ظاهر الأكثر ، حتّى أصالة الإباحة ـ فهي داخلة في الأدلّة الاجتهاديّة.

نعم ، يبقى الإشكال بالنسبة إلى القواعد المعتبرة في موضوع الشكّ ، مثل قاعدة الطهارة ونحوها ، بل سائر القواعد المختصّة بالموضوعات الخارجيّة المشتبهة ، مثل قاعدة القرعة وأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ، بناء على كون المراد من الحكم الشرعيّ في المقام أعمّ من الكلّي والجزئي. اللهمّ إلّا أن يقال باعتبار هذه القواعد أيضا من باب الظنّ النوعي ، فتدخل في الأدلّة. إلّا أنّ دعوى ذلك بالنسبة إلى الجميع مشكلة بل ممنوعة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من الاصول العمليّة الأربعة التي وقع الكلام فيها في مباحث المقصد الثالث هي الاصول الجارية في نفس الأحكام الكلّية ، وأنّ البحث عن جريانها في الموضوعات استطرادي ، لكون الأوّل داخلا في الاصول والثاني في الفروع كما يظهر من المصنّف في أوائل مبحث الاستصحاب.

١٢

وهي منحصرة في أربعة (٤)

______________________________________________________

ثمّ إنّ مجمل الكلام في ضابط الأدلّة والاصول أنّ ما اعتبره الشارع ـ سواء كان من باب التأسيس أو الإمضاء والتقرير ـ إمّا أن يكون اعتباره في نفس الأحكام الكلّية ، أو في الموضوعات الخارجيّة ، أو في الأعمّ منهما. وعلى التقادير ؛ إمّا أن يكون اعتباره من باب الكشف والإصابة ، سواء كان له جهة كشف عند العرف واعتبره الشارع من هذه الجهة ، أم لا ولكن علم من دليل اعتباره أنّ الشارع إنّما اعتبره من حيث الكشف والإصابة ، فيكون كشفه حينئذ تعبّديا ، وإمّا أن يكون اعتباره من باب التعبّد من دون اعتبار جهة كشف فيه ، سواء كانت له جهة كشف عند العقلاء أم لا. فما اعتبره الشارع في الأحكام الكلّية من حيث الكشف يسمّى دليلا ، وربّما يوصف بالاجتهادي ، وفي الموضوعات يسمّى أمارة ؛ وما اعتبره من باب التعبّد المحض لبيان كيفيّة عمل الجاهل والشاكّ في الأحكام يسمّى أصلا عمليّا ، وربّما يسمّى بالدليل الفقاهتي ، وفي لسان بعض آخر بالدليل الفقهائي ، وهو الأنسب ، وفي الموضوعات أصلا عمليّا.

٤. هذا الحصر كما صرّح به في أوّل المقصد الثالث عقلي. ولا ينتقض بالقول بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، وفي الشبهة غير المحصورة ، والمحصورة التي خرج أحد طرفيه عن محلّ الابتلاء ، نظرا إلى كون الشكّ فيها في المكلّف به دون التكليف ، لأنّ من قال بالبراءة فيها أرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في نفس التكليف كما سيجيء في محلّه.

نعم ، ينتقض الحصر بموارد العلم الإجمالي بالتكليف إذا لم تكن مخالفته مستلزمة للمخالفة القطعيّة العمليّة ، كما لو دار الأمر بين وجوب فعل وحرمته ، على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله في هذا المقصد من عدم كون المخالفة الالتزاميّة القطعيّة مانعة من جريان أصالة البراءة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ هذا الحصر بالنسبة إلى مذاق

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المشهور حيث قالوا في مثله بالتخيير. وحينئذ لا يقدح في الحصر عدم استقامته أيضا بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة ، بناء على كونها مجعولة ، نظرا إلى عدم جريان البراءة والتخيير فيها ، فإنّها عند المشهور ـ وواقفهم المصنّف ـ منتزعة من الأحكام الطلبيّة وإن نسب خلافه أيضا إليهم ، كما سيجيء في مسألة الاستصحاب. ولكن يخدش فيه قول المصنّف رحمه‌الله : «وما ذكرنا هو المختار في مجاري الاصول الأربعة».

وحينئذ يتّضح عدم استقامة الحصر على ما اختاره المصنّف في مسألة البراءة عند دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، من عدم الحكم فيه بشيء من وجوب الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ، ولا الإباحة الواقعيّة ولا الظاهريّة ، حيث حكم ثمّة بوجوب التوقّف وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع ، وقال : «ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل ، نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب» انتهى. ووجهه : عدم شمول التقسيم لحكم مثل هذا الشكّ ، لفرض عدم كونه موردا لشيء من الاصول الأربعة. وممّا أشار إليه من التنظير يظهر عدم اختصاص النقض بما لا يمكن الاحتياط فيه كما لا يخفى. اللهمّ إلّا أن يمنع اختصاص مؤدّى قاعدة البراءة بما يفيد الإباحة الظاهريّة ، بل هو كذلك عند المصنّف ، فإنّ مؤدّاها ليس إلّا مجرّد نفي العقاب في محتمل الحرمة أو الوجوب ، لا إثبات الإباحة الظاهريّة أيضا ، ولذا لا يجري في محتمل الاستحباب والكراهة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الحدّ ينتقض أيضا بما يظهر منه في هذا المقصد عند بيان أقسام العلم الإجمالي ، من عدم جواز المخالفة القطعيّة فيما لو دار الأمر بين وجوب فعل وحرمة آخر ، كما إذا فرض العلم إجمالا بأنّ شرب التتن حرام أو دعاء رؤية الهلال واجب ، فإنّ المصنّف وإن لم يصرّح هنا بوجوب الاحتياط إلّا أنّ ذلك معلوم من

١٤

لأنّ الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا. وعلى الثاني : فإمّا أن يمكن الاحتياط أم لا ، وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى أصالة البراءة ، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.

وبعبارة اخرى : الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا ، فالأوّل مجرى أصالة البراءة ، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا ، فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط ، و

______________________________________________________

مذهبه في نظائر المقام ، مع كون الشكّ في مثل ذلك في التكليف دون المكلّف به ، بناء على ما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في أوّل المقصد الثالث ، من أنّ المراد من الشكّ في التكليف هو الشكّ في النوع الخاصّ من الإلزام وإن علم جنسه ، ومثّل لذلك بالتكليف المردّد بين الوجوب والحرمة.

نعم ، لا ينتقض الحصر بالحكم بالتخيير في موارد تكافؤ النصّين ، سواء أمكن الاحتياط فيها ـ مثل ما لو دار الأمر بين فيه الوجوب وغير الحرمة أو بين الحرمة وغير الوجوب ـ أم لا ، فإنّ الحكم بالتخيير فيها للنصّ ، وإلّا فمقتضى القاعدة هو الحكم بإجمال النصّين والرجوع إلى مقتضى الأصل الموافق لأحدهما ، بناء على ما هو التحقيق من كون اعتبار ظواهر الأدلّة من باب الطريقيّة دون السببيّة المحضة. وبعبارة اخرى : أنّ المقصود في المقام حصر الاصول الأوّلية في الأربعة لا ما يعمّ الاصول الثانويّة أيضا.

ثمّ إنّ حاصل ما يستفاد ممّا ذكره من الحصر والتقسيم أنّ الشكّ إن لوحظت فيه الحالة السابقة فهو مجرى الاستصحاب ، سواء كان الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، وعلى الثاني أمكن فيه الاحتياط أم لا. وإن لم تلاحظ فيه الحالة السابقة ، فإن كان الشكّ في التكليف فهو مجرى البراءة ، سواء أمكن الاحتياط فيه

١٥

الثاني مجرى قاعدة التخيير. وما ذكرنا هو المختار في مجاري الاصول الأربعة ، وقد وقع الخلاف فيها ، وتمام الكلام في كلّ واحد موكول إلى محلّه.

فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الأوّل في القطع ، والثاني في الظنّ ، والثالث في الشكّ (*).

المقصد الأوّل في القطع (**)

______________________________________________________

كما في الشبهات البدويّة ، أم لا كما لو دار الأمر بين وجوب فعل وحرمته ، بناء على ما عرفت من معنى الشكّ في التكليف. ومن هنا يندفع النقض الذي أوردناه على الحصر من صورة دوران الأمر بين وجوب فعل وحرمته ، فإنّ هذه الصورة على ما عرفت من موارد الشكّ في التكليف وإن لم يمكن الاحتياط فيها ، إذ كلّ مورد لا يمكن فيه الاحتياط ليس من موارد التخيير ، بل ذلك مع فرض كون الشكّ في المكلّف به. وإن كان الشكّ في المكلّف به ، فإن لم يمكن فيه الاحتياط فهو مورد للتخيير ، وإلّا فمورد للاحتياط.

فتلخّص ممّا ذكرناه أنّ للاستصحاب شرطا واحدا ، وهو ملاحظة الحالة السابقة فيه. وللبراءة شرطين ، وهما : عدم ملاحظة الحالة السابقة فيها ، وكون الشكّ فيها في التكليف. وللتخيير شروطا ثلاثة ، أحدها : عدم ملاحظة الحالة السابقة فيه. وثانيها : كون الشكّ فيه في المكلّف به. وثالثها : عدم إمكان الاحتياط فيه. وللاحتياط أيضا شروطا ثلاثة ، أحدها : عدم ملاحظة الحالة السابقة فيه. وثانيها : كون الشكّ فيه في المكلّف به. وثالثها : إمكان الاحتياط فيه. وهذه الشروط شروط لتمييز موارد الاصول إجمالا ، وإلّا فلها شروط أخر مقرّرة في محلّها. ومن ملاحظة جميع ما قدّمناه يظهر عدم ورود نقض على الحصر أصلا إلّا بما لو دار الأمر فيه بين وجوب فعل وحرمة آخر. ولكنّ الأمر فيه سهل ، حيث

__________________

(*) كذا في بعض النسخ :«والثالث في الاصول العمليّة المذكورة التي هي المرجع عند الشكّ».

(**) في بعض النسخ : أمّا الكلام في المقصد الأوّل.

١٦

فنقول : لا إشكال في وجوب متابعة القطع (٥) والعمل عليه ما دام موجودا ؛ لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا (*).

ومن هنا يعلم :

______________________________________________________

كان المقصود هنا معرفة موارد الاصول في الجملة.

نعم ، يرد عليه أنّ الحصر إن كان استقرائيّا ـ بأن يدّعى أنّ استقراء كلمات الشارع يقضي بانحصار موارد الاصول في الأربعة التي ذكرها ـ فهو خلاف ما صرّح به في أوّل مقصد الثالث كما تقدّم. وإن كان عقليّا يرد عليه منع انحصارها عقلا في الأربعة ، لإمكان أن يعتبر الشارع هنا أصلا خامسا ، بأن يحكم باستصحاب الحالة اللاحقة المتيقّنة إلى السابقة المشكوك فيها ، كما في استصحاب القهقرائي. وأصلا سادسا ، بأن يعتبر في الاستصحاب أربع حالات ، بأن يقول : إذا تيقّنت بشيء ثمّ شككت فيه ثمّ تيقّنت به وشككت ، لا تنقض اليقين الأوّل بالشكّ الثاني وهكذا ، إذ لا ريب في عدم انحصار صور الإمكان في الأربعة التي ذكرها.

٥. بمعنى لزوم اتّباعه عند العقل ، وعدم جواز تركه ، لا الوجوب الشرعيّ الذي يثاب على إطاعته ويعاقب على مخالفته ، لعدم كون القطع قابلا لجعل الشارع ليكون موردا لهما ، بل هما مرتّبان على متابعة نفس الحكم المقطوع به ومخالفته.

ويدلّ عليه امور :

أحدها : أنّه لو لم يكن حجّة بنفسه بالمعنى الذي ذكرناه وكانت حجّيته تعبّدا شرعيّا لتسلسل ، إذ اعتبار كلّ شيء منوط بالعلم ومتوقّف عليه ، فالقطع لو لم يكن حجّة بنفسه فلا بدّ أن يتوقّف على شيء وهكذا فيلزم التسلسل. وهذا أولى ممّا يقال : إنّه لو لم يكن معتبرا لانسدّ باب الاستدلال ، إذ اعتبار كلّ دليل منوط بالعلم ، فإنّ هذا إنّما يستلزم اعتباره في الجملة لا بخصوص المعنى المقصود. ومن هنا يظهر

__________________

(*) في بعض النسخ : ونفيا.

١٧

أنّ إطلاق «الحجّة» (٦)

______________________________________________________

ضعف الاستدلال عليه بمفهوم آية سؤال أهل الذكر كما لا يخفى.

وثانيها : أنّه لو كان اعتباره بجعل الشارع فلا بدّ حينئذ أن يكون القطع قابلا لحكم الشارع نفيا وإثباتا ، فلو كان كذلك لزم التناقض ، فإنّ الشارع إذا قال : الخمر حرام ، فمعناه وجوب الاجتناب عنه ، فإذا قطعنا بمؤدّى خطاب الشارع ولم يكن قطعنا معتبرا شرعا يلزم أن لا يجب علينا الاجتناب عنه مع قطعنا به. ولا يندفع ذلك إلّا بتقييد الأحكام الواقعيّة ، بأن تكون حرمة الخمر مجعولة على تقدير إخبار المعصوم مثلا عنها ، وهو ـ مع أنّه لا دليل عليه ، بل خلاف الفرض ـ خروج عن محلّ النزاع ، إذ لا حكم في الواقع حينئذ قبل إخبار المعصوم حتّى يتعلّق به القطع كما هو محلّ الكلام.

وثالثها : عدم معقوليّة تكليف القاطع بخلاف قطعه ، لعدم احتماله خلاف ما قطع به ، فتكليفه به تكليف بما لا يطاق.

٦. يعني ممّا ذكره من عدم كون القطع كالظنّ في كون اعتباره بجعل الشارع يعلم أنّ إطلاق الحجّة عليه ليس كإطلاقها على سائر الأمارات الشرعيّة كالبيّنة وفتوى المفتي ونحوهما ، بل إطلاق الحجّة عليه من باب المسامحة إطلاقا لاسم السبب على المسبّب. وتوضيح ذلك : أنّ القطع تارة يؤخذ من باب الطريقيّة ، واخرى جزء موضوع من الحكم. والثاني سيجيء الكلام فيه. والكلام هنا إنّما هو في القسم الأوّل ، وهو الذي لا يصحّ إطلاق اسم الحجّة عليه حقيقة. والكلام فيه تارة فيما تعلّق القطع بنفس الحكم ، واخرى بموضوعه.

ولا بدّ قبل الأخذ في بيانهما من تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ الحجّة والدليل على اصطلاح علماء الميزان يرادف القياس. وعرّفوه بأنّه قول مؤلّف من قضايا يلزمه لذاته قول آخر ، أو يكون عند العلم به العلم بقول آخر ، ليدخل العلم

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بالنتيجة على مذهب الأشاعرة القائلين بكون العلم بها من باب إجراء الله عادته على خلق شيء عقيب آخر ، لا لأجل كون العلم بالقول المؤلّف علّة تامّة للعلم بها كما هو مذهب الآخرين ، وعليه مبنى الحدّ الأوّل ، إذ لا علّية ولا ترتّب عندهم بإسقاط قيد العلم.

وعلى اصطلاح الاصوليّين ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري ، أو ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، بإسقاط قيد العلم كما فعله المحقّق البهائي ، ليدخل الدلائل الشرعيّة فيه بأجمعها كما ذكره في الحاشية. وحيث عرّف الدليل على اصطلاح المنطقيّين قال في حاشية اخرى : «فالعالم عند الاصوليّين دليل على إثبات الصانع ، وعند غيرهم العالم حادث وكلّ حادث له صانع ، وظاهر كلام بعض المحقّقين أنّ الاصوليّين لا يطلقون الدليل على القضايا ، بل على المفردات فقط ، ولم نظفر بتصريحهم بذلك ، بل كلامهم عامّ» انتهى.

وغير خفيّ أنّ ما جعله المصنّف الحجّة حقيقة فيه مغاير للاصطلاحين ومباين لهما ، ولعلّه أخذه من إطلاق الحجّة في ألسنة الفقهاء والاصوليّين على الأدلّة الشرعيّة ، وكذا الأمارات الشرعيّة ، فإنّ كونها حجّة إنّما هو باعتبار المعنى الذي ذكره من كونها وسطا يحتجّ به لثبوت الأكبر للأصغر ، وواسطة للقطع بثبوته له ، ولكن لم يظهر منهم كون إطلاق الحجّة بهذا المعنى على وجه الحقيقة ، كيف وإطلاقهم الحجّة على القطع في حدّ إطلاقهم لها على الكتاب والسنّة والإجماع وسائر الأمارات. ولعلّ مراد المصنّف أيضا ليس دعوى الحقيقة ، بل مجرّد بيان أنّ إطلاقهم الحجّة على القطع ليس كإطلاقهم لها على الأمارات المعتبرة.

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّ المراد بالحجّة في باب الأدلّة ما كان وسطا لثبوت أحكام متعلّقه شرعا لا لحكم آخر غير واضح ولا مصرّح به. نعم إنّ الأحكام الشرعيّة لمّا كانت غالبا متعلّقة بذات المعلومات لا يوصف كونها معلومة ، لم يوجد مورد يكون

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

العلم فيه جزء موضوع للحكم ، ليكون الوسط هو الموضوع المعلوم الذي تضمّنه الخطاب المأخوذ منه الكبرى الكلّية حتّى يطلق عليه اسم الحجّة ، وإن وجد ففي غاية الندرة. ولعلّه الوجه في توهّم عدم إطلاقهم الحجّة على ما ذكر فتدبّر.

وكيف كان ، فالوسط الذي يحتجّ به لثبوت الأكبر للأصغر هو الذي يستحقّ إطلاق اسم الحجّة والدليل عليه ، لأنّه الواسطة في الإثبات أو الثبوت ، وإن سلّم عدم استقرار الاصطلاح على ذلك. ولعلّ هذا هو الوجه في إطلاق الحجّة في باب الأدلّة على الأدلّة الشرعيّة وكذا الأمارات الشرعيّة. ولعلّ عدم تعرّض المصنّف لعدم إطلاق الحجّة على القطع على اصطلاح علماء الميزان لوضوحه بعد الإحاطة بما ذكره.

وإذا تمهّد هذا فنقول : أمّا عدم إطلاق اسم الحجّة على القطع فيما تعلّق بنفس الحكم فلما صرّح به المصنّف رحمه‌الله من أنّ الحجّة في باب الأدلّة هي التي تكون وسطا يحتجّ به لثبوت الأكبر للأصغر ، وتكون واسطة للقطع بثبوته له ، فالحجّة حينئذ هو سبب القطع فكيف يكون نفسه؟! وتوضيح ذلك : أنّ الشارع إذا قال : الخمر حرام أو الصلاة واجبة ، فالحكم بالحرمة أو الوجوب ثابت قبل علم المكلّف ، والعلم طار عليه. وحينئذ إن وقع العلم وسطا لإثبات متعلّقه ، فإمّا أن يلتزم بوجوبين ، أحدهما : ما تعلّق به العلم ، والآخر : ما تفرّع على العلم ، كما لو ظنّ الوجوب بأمارة معتبرة ، فإنّه حينئذ يتحقّق وجوبان ، أحدهما : متعلّق الظنّ وهو الوجوب الواقعي ، والآخر : ما تفرّع على الظنّ ، وهو الوجوب الظاهري الثابت بضميمة دليل اعتبار الظنّ. وهذا وإن كان صحيحا ، لصحّة وقوع الوجوب الواقعي المعلوم واسطة في إثبات الوجوب المرتّب على هذا العلم ، إلّا أنّه خلاف الإجماع ، إذ مقتضاه التزام ثوابين على موافقتهما وعقابين على مخالفتهما ، لتنجّز الوجوب الواقعي حينئذ ، إذ الكلام هنا بعد الفراغ من اعتبار القطع بالمعنى المتقدّم

٢٠