فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

وظاهر شيخنا ـ الشهيد الثاني ـ في تمهيد القواعد استلزام القول بالتخطئة لعدم الإجزاء ، قال قدس‌سره : من فروع مسألة التصويب (١٨١) والتخطئة ، لزوم الإعادة للصلاة بظنّ القبلة وعدمه (٥) ،

______________________________________________________

وجوه جعل الطرق الظنّية من نفي كون ذلك تصويبا. مع أنّ توجّه النظر فيما استشكل واضح ، لأنّا إذا قلنا بوجود المصلحة في تطبيق العمل على مؤدّى الأمارة كما هو مقتضى الوجه الثالث ، لا بحدوثها في الفعل بقيام الأمارة كما هو مقتضى الوجه الثاني ، يكون الحكم الواقعي حينئذ باقيا على حاله كما أوضحناه سابقا وسيصرّح به. واختلاف القول بالإجزاء وعدمه إنّما هو باختلاف المصلحة الموجودة في العمل بالأمارة ، لأنّا إن قلنا بكون هذه المصلحة متداركة لما يفوت من مصلحة الواقع بالعمل بالأمارة مطلقا ، سواء انكشفت مخالفته للواقع بعد أم لا ، فلازمه القول بالإجزاء. وإن قلنا بكونها متداركة لمقدار ما يفوت منها بالعمل بالأمارة المخالفة ، فلازمه القول بعدم الإجزاء. لكنّ الفرض على كلّ تقدير بقاء الحكم الواقعي بحاله كما هو مقتضى الوجه الثالث ، وهو مخالف للقول بالتصويب ، بل مناقض له. نعم تنتفي ، الثمرة بينه وبين القول بالإجزاء ويمكن حمل المصنّف رحمه‌الله أيضا على ذلك ، فتدبّر.

١٨١. الظاهر أنّ المراد كون القول بعدم الإجزاء لازما مساويا للقول بالتخطئة ، والقول بالإجزاء لازما مساويا للقول بالتصويب ، كما يشهد به ظاهر التفريع ، فيكون ذلك بمثابة الإشكال على القول بالإجزاء من القائلين بالتخطئة ، وعلى القول بعدمه من القائلين بالتصويب ، إن وجد قول بذلك. والوجه في الملازمة الاولى هو اقتضاء بقاء الحكم الواقعي للإعادة مع انكشاف الخلاف ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «قلت : وأمّا رجوع الوجه الثالث ...». وفي الثانية يظهر ممّا قدّمناه في الحاشية السابقة.

٢٦١

وإن كان تمثيله لذلك بالموضوعات محلّ نظر (١٨٢).

فعلم من ذلك : أنّ ما ذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملا على مصلحة تتدارك مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب ، ممنوع ؛ لأنّ فعل الجمعة قد لا يستلزم إلّا ترك الظهر في بعض أجزاء وقته ، فالعمل على الأمارة معناه : الإذن في الدخول فيها على قصد الوجوب ، والدخول في التطوّع بعد فعلها.

نعم ، يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة تتدارك مفسدة فعل التطوّع في وقت الفريضة لو شمله دليل الفريضة الواقعيّة المأذون في تركها ظاهرا ؛ وإلّا كان جواز التطوّع في تلك الحال حكما واقعيّا لا ظاهريّا. وأمّا قولك : إنّه مع تدارك المفسدة بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب ، فممنوع أيضا : إذ قد يترتّب على وجوبه واقعا حكم شرعيّ وإن تدارك مفسدة تركه بمصلحة فعل آخر ، كوجوب قضائه إذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا.

وبالجملة : فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على حكم شرعيّ حال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على الموضوع الخارجي ، كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّ الأمر بالعمل في الموضوعات لا يوجب جعل نفس الموضوع ، وإنّما يوجب جعل أحكامه ، فيترتّب عليه الحكم ما دامت الأمارة قائمة عليه ، فإذا فقدت الأمارة وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ، ترتّب عليه في المستقبل جميع أحكام عدم ذلك الموضوع من أوّل الأمر ، فكذلك حال الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم.

وحاصل الكلام : ثبوت الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة حكما واقعيّا والحكم بتحقّقه واقعا عند قيام الأمارة ، وبين الحكم واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالأمارة ، كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي قامت عليه الأمارة.

______________________________________________________

١٨٢. لاختصاص محلّ نزاعهم في مسألة التخطئة والتصويب بالأحكام الكلّية ، بمعنى اتّفاقهم على التخطئة في الموضوعات. نعم ، ربّما حكي عن بعض أواخر المتأخّرين القول بالتصويب فيها.

٢٦٢

وأمّا قولك : إنّ مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدّى الأمارة إلى التصويب الباطل ، نظرا إلى خلوّ الحكم الواقعي حينئذ عن المصلحة الملزمة التي تكون في فوتها المفسدة ، ففيه : منع كون هذا تصويبا ؛ كيف والمصوّبة يمنعون وجود حكم الله في الواقع ، فلا يعقل عندهم إيجاب العمل بما جعل طريقا إليه والتعبّد بترتيب آثاره في الظاهر ، بل التحقيق عدّ مثل هذا من وجوه الردّ على المصوّبة.

وأمّا ما ذكر من أنّ الحكم الواقعي إذا كان مفسدة مخالفته متداركة بمصلحة العمل (*) على طبق الأمارة ، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة ، وإلّا ثبت انتفاء الحكم في الواقع ، وبعبارة اخرى : إذا فرضنا الشيء في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه ، فإن لم يحرّم ذلك الفعل لم يجب العمل بالأمارة ، وإن حرّم فإن بقي الوجوب لزم اجتماع الحكمين المتضادّين ، وإن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعي ، ففيه : أنّ المراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقائه ، هو الحكم المتعيّن (**) المتعلّق بالعباد الذي يحكي عنه الأمارة ويتعلّق به العلم أو الظنّ وامر السفراء بتبليغه ، وإن لم يلزم امتثاله فعلا في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه ، إلّا أنّه يكفي في كونه حكمه (***) الواقعي : أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو جاهلا مقصّرا ، والرخصة في تركه عقلا كما في الجاهل القاصر أو شرعا كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه. وممّا ذكرنا يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة : فإنّها من هذا القسم الثالث.

والحاصل : أنّ المراد بالحكم الواقعي هو مدلولات الخطابات الواقعيّة الغير المقيّدة بعلم المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها ، ولها آثار عقليّة وشرعيّة تترتّب عليها عند العلم بها أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع ، نعم هذه ليست أحكاما فعليّة بمجرّد وجودها الواقعي. وتلخّص

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «العمل» ، الفعل.

(**) في بعض النسخ زيادة : المنزل.

(***) في بعض النسخ : بدل «حكمه» ، الحكم.

٢٦٣

من جميع ما ذكرنا : أنّ ما ذكره ابن قبة ـ من استحالة التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغير العلميّة ـ ممنوع على إطلاقه ، وإنّما يقبح (*) إذا ورد التعبّد على بعض الوجوه ، كما تقدّم تفصيل ذلك.

ثمّ إنّه ربّما ينسب إلى بعض (٦) : إيجاب التعبّد بخبر الواحد أو مطلق الأمارة على الله تعالى ، بمعنى قبح تركه منه ، في مقابل قول ابن قبة. فإن أراد به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكّن من العلم ببقاء التكليف ، فحسن. وإن أراد وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد ، فممنوع ؛ إذ جعل الطريق بعد انسداد باب العلم إنّما يجب عليه إذا لم يكن هناك طريق عقلي وهو الظنّ ، إلّا أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصيّة. وإن أراد حكم صورة الانفتاح : فإن أراد به وجوب التعبّد العيني فهو غلط ؛ لجواز تحصيل العلم معه قطعا. وإن أراد وجوب التعبّد به تخييرا ، فهو ممّا لا يدركه العقل ؛ إذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالأمارة ، اللهمّ إلّا أن يكون في تحصيل العلم حرج يلزم في العقل رفع إيجابه بنصب أمارة هي أقرب من غيرها إلى الواقع أو أصحّ في نظر الشارع من غيره في مقام البدليّة عن الواقع ، وإلّا فيكفي إمضائه للعمل بمطلق الظنّ كصورة الانسداد.

المقام الثاني :

ثمّ إذا تبيّن عدم استحالة تعبّد الشارع بغير العلم ، وعدم القبح فيه ولا في تركه ، فيقع الكلام في المقام الثاني في وقوع التعبّد به في الأحكام الشرعيّة مطلقا أو في الجملة.

وقبل الخوض في ذلك ، لا بدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل (١٨٣) عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقا أو في الجملة ،

______________________________________________________

١٨٣. لفظ المعوّل هنا مصدر ميميّ ، وإن كان اسم مفعول كان الأولى أن يقول : هو المعوّل عليه وليعلم أنّه لا أثر لتأسيس هذا الأصل في أمثال هذا الزمان

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «يقبح» ، يصحّ.

٢٦٤

فنقول : التعبّد بالظّن الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل ، محرّم بالأدلّة الأربعة. ويكفي من الكتاب قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ (١٨٤) أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٧) ، دلّ على أنّ ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع ، فهو افتراء.

______________________________________________________

بناء على انسداد باب العلم فيه ، لتعيّن العمل فيه بالظنّ لا محالة. نعم ، يظهر أثره في مواضع :

منها : صورة انفتاح باب العلم في أغلب الأحكام الشرعيّة ، إذ يجوز حينئذ في الموارد القليلة التي انسدّ فيها باب العلم بناء العمل بالظنّ على تأسيس هذا الأصل.

ومنها : ما لو شكّ في انفتاح باب العلم شرعا وعدمه ، كأمثال هذا الزمان ، بناء على احتمال حجّية طائفة من الأخبار وافية بالفقه ، لعدم استقلال العقل حينئذ بوجوب العمل بالظنّ ، بل يبنى على تأسيس هذا الأصل.

ومنها : ما لو ثبت انسداد باب العلم في مورد من الموارد التي وقع الكلام فيها في جواز العمل بالظنّ ، لأنّ موارده ستّة ، أحدها : الفروع. الثاني : اصول الفقه.

الثالث : الاصول الاعتقاديّة. الرابع : الموضوعات المستنبطة. الخامس : الموضوعات الصرفة. السادس : المسائل المشتبهة المرددة بين كونها من الاصول والفروع ، كمباحث الاجتهاد والتقليد ونحوها. فإذا ثبت الانسداد في الفقه يبنى التعدّي إلى غيره على تأسيس هذا الأصل. ثمّ إنّ للعمل بالظنّ أقساما وأصالة الحرمة إنّما تتأتّى في بعضها كما سنشير إليه.

١٨٤. الآية واردة في ذمّ اليهود وتوبيخهم. وتقريب الدلالة : أنّ الظاهر من قوله : (أَذِنَ لَكُمْ) هو الإذن الفعلي الموقوف على وصول البيان. والمراد بالافتراء حينئذ بقرينة المقابلة نسبة الحكم إلى الله تعالى من دون إذن وبيان منه تعالى فيه ، سواء كان مأذونا فيه في الواقع أم لا ، وسواء كان المكلّف ظانّا بذلك أم لا ، عالما بعدمه أم شاكّا فيه أم معتقدا به ، مع عدم ثبوته في الواقع مع التقصير. فالآية دالّة على حرمة الجميع ، لورودها في مقام الذمّ والتوبيخ.

٢٦٥

ومن السنّة : قوله عليه‌السلام في عداد القضاة (١٨٥) من أهل النار : «ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم (٨)». ومن الإجماع : ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله : من

______________________________________________________

وبهذا التقرير يندفع ما ربّما يورد على الاستدلال بها ، من كون ظاهرها حرمة ما لم يرد فيه إذن في الواقع ، لأنّ المراد بالافتراء بقرينة المقابلة نسبة ما لم يرد فيه إذن في الواقع ، كما هو مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة ، فتصير الآية أخصّ من المدّعى ، إذ المقصود حرمة نسبة المظنون إلى الشارع والتديّن به ، سواء طابق الواقع أم لا. ووجه الاندفاع واضح.

ويمكن تقريب الاستدلال بوجه آخر ، بأن يقال : نفس التديّن بالظنّ وجعله من الطرق الشرعيّة ممّا لم يصل فيه إذن من الشارع ، فيكون إسناد الحكم إليه اعتمادا على الظنّ افتراء محرّما. والفرق بين التقريرين : أنّ الحرمة على الأوّل تنشأ من عدم وصول الإذن في الحكم المظنون المتعبّد به المنسوب إليه سبحانه. وعلى الثاني من عدم وصول الإذن في نفس التعبّد بالظنّ ، والاستناد إليه في نسبة المظنون إلى الشارع. ولعلّ الأقرب إلى عبارة المصنّف رحمه‌الله هو الثاني ، إذ الظاهر أنّ مراده بكون إسناد الحكم المظنون إلى الشارع افتراء كونه كذلك لأجل عدم وصول إذن في الاعتماد فيه على الظنّ ، لا لأجل عدم وصول إذن في المسند إليه سبحانه ، ولكنّ المنساق من الآية هو الأوّل.

ومن الآيات أيضا قوله جلّ وعلا ردّا على اليهود : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) لأنّه قد دلّ على عدم جواز القول بما لم يوح ، والمظنون لم يعلم كونه ممّا أوحي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون ممنوعا من القول به. وقد ذكر بعض مشايخنا أنّ بعضهم قد جمع في رسالة مفردة مأتي آية وخمسمائة حديث في حرمة العمل بالظنّ.

١٨٥. في القاموس : «عداده في بني فلان : أن يعدّ منهم في الديوان» فتدبّر. والرواية رواها محمّد بن خالد مرفوعا إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «القضاة أربعة ، ثلاثة

٢٦٦

كون عدم الجواز بديهيّا عند العوامّ فضلا عن العلماء (٩). ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان جاهلا مع التقصير. نعم ، قد يتوهّم متوهّم : أنّ الاحتياط من هذا القبيل. وهو غلط واضح ؛ إذ فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه ، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه ، وشتّان ما بينهما ؛ لأنّ العقل يستقلّ بقبح الأوّل وحسن الثاني.

______________________________________________________

في النار وواحد في الجنّة. رجل قضى بجور وهو يعلم ، فهو في النار ورجل قضى بجور وهو لا يعلم أنّه قضى بجور ، فهو في النار. ورجل قضى بحقّ وهو لا يعلم ، فهو في النار. ورجل قضى بحقّ وهو يعلم ، فهو في الجنّة». وقال عليه‌السلام : «الحكم حكمان : حكم الله عزوجل ، وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم الله حكم حكم الجاهليّة». وفي النبويّ : «القضاة ثلاثة ، واحد في الجنّة واثنان في النار فالذي في الجنّة رجل عرف الحقّ وقضى به. واللذان في النار رجل عرف الحقّ فجار في الحكم ، ورجل قضى للناس على جهل» لظهورها في عدم كفاية مطابقة العمل للواقع في الفرار من النار ، بل لا بدّ فيه من العلم. وتتمّ الدلالة بعدم القول بالفصل بين القضاء والفتوى. وقوله عليه‌السلام : «ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» وكذا قوله : «ورجل قضى للناس على جهل» وإن شملا الجاهل القاصر أيضا ، إلّا أنّه لا بدّ من تخصيصهما ـ كسائر الآيات والأخبار المستدلّ بها على المقام ـ بالجاهل المقصّر.

وقال عليه‌السلام فيما رواه في الكافي : «إنّ أدنى الشرك أن تقول للنواة حصاة وللحصاة نواة ، فتدين به». ووجه الدلالة : أنّ الحكم بكون النواة حصاة وبالعكس كناية عن أدنى القول بما يخالف الواقع ، وقد جعل التديّن به بمثابة الشرك. ولا ريب أنّ المظنون لم يعلم كونه من الحقّ الثابت المتلقّى من الشارع ، فتكون نسبته إليه والتديّن به مع المخالفة للواقع حراما ، وكذا مع الموافقة له ، لعدم الفصل.

٢٦٧

والحاصل : أنّ المحرّم (١٨٦) هو العمل بغير العلم متعبّدا به ومتديّنا به.

______________________________________________________

١٨٦. اعلم أنّ العمل بالظنّ ـ على ما يظهر من كلامه ـ على وجوه ، أحدها : أن يعمل به على وجه التعبّد والتديّن به. وثانيها : أن يعمل به لرجاء مطابقته بالواقع. وثالثها : أن يعمل به ـ بمعنى جعل الأفعال على طبقه ـ من دون تديّن به ، ولا بعنوان احتمال المطابقة للواقع ، بل من باب عدم المبالاة بالأحكام والاقتراح والتشهّي فيها. وهذه الأقسام مختلفة في الحكم.

أمّا الأوّل فهو حرام مطلقا. وهو مورد للأدلّة الأربعة التي أقامها لحرمة العمل بالظنّ ، لعدم شمولها للقسمين الآخرين كما هو ظاهر كلامه أيضا. ووجهه واضح ، إذ غايتها إثبات حرمة التشريع ، وهو غير متحقّق في الآخرين ، لاختصاصه بصورة التديّن.

فإن قلت : كيف تدّعي اختصاص مؤدّاها بإثبات حرمة التشريع؟ وهو ـ على ما ذكروه ـ عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه بقصد أنّه منه ، ولا ريب أنّ القصد إلى إدخال ما ليس منه فيه لا يتحقّق إلّا بعد العلم بعدم كونه منه ، والفرض عدم العلم بعدم كون المظنون منه ، كيف لا وهو لا يجتمع مع الظنّ بكونه منه ، ولا أقلّ من اعتبار عدم مطابقة المظنون بالواقع في صدق عنوان التشريع ، وإلّا فلا يصدق قولهم «ما ليس من الدين» لكون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة دون المعلومة أو المظنونة. ولا ريب أنّ الظانّ كما تحتمل مخالفة عمله للواقع ، كذلك تحتمل مطابقة به ، ومع الشكّ يحكم بجوازه ، لأصالة البراءة ، فيكون مقتضى الأصل جواز العمل بالظنّ.

قلت : أمّا دعوى اشتراط العلم في تحقّق موضوع التشريع فهي ممنوعة ، كيف والعلم بعدم كون المدخل من الدين لا يجتمع مع الحكم والإذعان بكونه منه كما حكي عن جمال المحقّقين ، إذ الشرع ليس إلّا أحكاما مخصوصة ، فمن يعلم أنّ الحكم الفلان ليس ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يحكم بأنّه من جملة ما جاء به؟

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا دعوى اشتراط مطابقة العمل بالواقع فهي كسابقتها أيضا في المنع ، لأنّ المستفاد من قوله سبحانه : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أنّ المناط في تحقّق التشريع الذي سمّاه الله تعالى افتراء مجرّد عدم وصول الإذن منه تعالى ، سواء طابق العمل بالواقع أم خالفه. ويظهر تقريب الدلالة فيه ممّا قدّمناه في بعض الحواشي السابقة. بل الظاهر المستفاد من لفظ التشريع عرفا أيضا هو مجرّد إدخال ما لم يظهر كونه من الدين فيه بعنوان كونه منه ، بحيث يزعم الجاهل بحقيقة الأمر كونه منه. ويمكن إرجاع الحدّ أيضا إلى هذا المعنى ولو بأدنى تصرّف وتوجيه ، لأنّ الدين عبارة عن أحكام مخصوصة جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الأحكام إنّما تعدّ دينا للمكلّف بعد ثبوتها بطرق معتبرة ، لوضوح عدم كفاية وجودها الواقعي في ذلك.

وأمّا الثاني فلا إشكال في جوازه ، بل ولا في حسنه ، ولكن بشرطين :

أحدهما : عدم معارضته بالاحتياط من جهة اخرى ، كصلاة الحائض في أيّام الاستظهار ، بناء على حرمة صلاتها ذاتا لا تشريعا ، لأنّ الإتيان بها في أيّام الاستظهار برجاء وجوبها في الواقع مناف لاحتمال حرمتها الذاتيّة ، فلا إشكال في عدم حسن الفعل حينئذ. وأما حرمته فهي تابعة للواقع. نعم ، لو قلنا بحرمة التجرّي كان الفعل حراما مطلقا.

وثانيهما : عدم مخالفته لمقتضى دليل آخر ، كما مثّل له المصنّف رحمه‌الله. ولا إشكال في حرمة الفعل حينئذ لأجل مخالفة الدليل.

وأمّا الثالث فلا ريب في تحقّق موضوعه فيما لا يعتبر فيه قصد القربة كالمعاملات ، لاقتحام أكثر الناس من التجّار وغيرهم فيها ، وإنشائهم للنقل والانتقال من دون أخذ أحكامها من العارفين بها ، بل وكذلك فيما يعتبر فيه قصد القربة أيضا كالعبادات ، إذ العوام كثيرا ما يدخلون فيها ويقصدون بها القربة مع جهلهم بكثير من أحكامها وأجزائها وشرائطها ، وهو واضح لمن تتّبع طريقة

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الجهّال والمسامحين في الأحكام. والأدلّة التي أقامها المصنّف رحمه‌الله لحرمة العمل بالظنّ لا تتأتّى هنا ، لاختصاصها بالقسم الأوّل.

نعم ، إن قلنا بكون تعلّم الأحكام واجبا نفسيّا كما ذهب إليه جماعة ، فلا إشكال حينئذ في حرمة ترك التعلّم والاشتغال بالعمل على طبق الظنّ ، إلّا أن يقال : إنّ غاية ذلك حرمة ترك التعلّم دون نفس الفعل كما هو المطلوب. وإن لم نقل بوجوبه النفسي ولكن قلنا بحرمة التجرّي ، فلا إشكال حينئذ في حرمة نفس الفعل ، إلّا أنّ القولين كليهما ضعيفان.

والتحقيق كما أفاده المصنّف رحمه‌الله كون حرمة الفعل تابعة لمخالفة الواقع ، فإذا عمل بالظنّ على الوجه المذكور فلا يحكم بحرمة الفعل ما لم ينكشف الواقع ، وإن انكشف وظهرت مطابقته به فلا حرمة فيه ، بل ربّما يستحق الثواب أيضا كما في العبادات ، بل المعاملات أيضا إذا قصد بها الامتثال والإطاعة ، وإلّا فيحكم بحرمته واقعا. والكاشف إمّا هو العلم بسؤال الإمام عليه‌السلام مثلا بعد العمل بالظنّ ، وإمّا هي الأمارات والاصول التي قام القاطع على اعتبارها وإن كان ذلك هو التقليد لأهله.

وإن اختلف الواقع والطريق ، بأن وجد العمل مطابقا للواقع ومخالفا للطريق أو بالعكس ، ففيه وجهان مبنيّان على أنّ الطرق الشرعيّة مجعولة في حقّ العالم والجاهل مع التقصير ، أو في حقّ العالم خاصّة ، بأن كان العلم بوجود الطريق مأخوذا في جواز العمل به. فعلى الأوّل يكون المدار على مطابقة الطريق ومخالفته. وعلى الثاني على مطابقة الواقع ومخالفته. وظاهر المشهور هو الأوّل ، حيث حكموا ببطلان عمل الجاهل غير العامل بالطرق الشرعيّة مطلقا ، ولعلّه لإطلاق الأدلّة الدالّة على اعتبارها. والأقرب هو الثاني ، لكون اعتبار الطرق من باب الكشف عن الواقع ، فمع انكشاف مطابقة العمل بالواقع لا يعتدّ بمخالفته للطرق. هذا على ظاهر المشهور من كون الأحكام الظاهريّة مجعولة ، وإلّا فعلى احتمال كون اعتبار

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الطرق الظاهريّة من باب إمضاء الشارع لما هو المقرّر عند العقلاء ، فالأمر أوضح. وثمرة جعل الطرق ـ مع فرض كون المدار على مطابقة الواقع ومخالفته ـ تظهر في كون العمل بها عذرا للمكلّف عند مخالفة عمله للواقع ، لا في اتّصاف الأفعال بأحد الأحكام الخمسة مع مطابقتها بمؤدّياتها لها ومخالفتها لها.

وبالجملة ، إنّ هنا أقساما قد ظهرت أحكامها بما ذكرناه ، أحدها : مطابقة العمل بالواقع والطريق. وثانيها : مخالفته لهما. وثالثها : مخالفته لأحدهما خاصّة.

ثمّ الظاهر من العمل بالظنّ هو ما كان على وجه الاستناد والتعبّد والتديّن ، لا على أحد الوجهين الآخرين من وجوه العمل به ، كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله أيضا. وقد عرفت حرمة العمل به بهذا الوجه مطلقا ، سواء طابق الواقع أم خالفه ، وحينئذ يصحّ إطلاق القول بحرمة العمل بالظنّ من دون تقييد. وبما ذكرناه يظهر أنّه لو كان العمل بالظنّ على وجه الاستناد والتعبّد مصادفا لمخالفة الواقع تجتمع فيه جهتان للحرمة ، كما في سائر الموارد التي اجتمع فيها عنوانان من عناوين الحرام ، كأكل النجس المغصوب والإفطار بالمحرّم في شهر رمضان. وأشار المصنّف رحمه‌الله أيضا في بعض كلماته.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا قدّمناه كون حرمة العمل بالظنّ تشريعيّة لا ذاتيّة. وربّما يظهر من المحكيّ عن الوحيد البهبهاني وصاحب الرياض كون حرمته من حيث كونه عملا بالظنّ ، استنادا إلى الآيات والأخبار الناهية عن العمل به. وسيأتي في كلام المصنّف رحمه‌الله ما يفسده.

تنبيه : إنّك بعد ما عرفت من كون حرمة العمل بالظنّ بأحد الوجهين من الحرمة التشريعيّة ومخالفة الواقع ، فاعلم أنّ اللازم على المكلّف في مقام العمل عند الشكّ في حجّية الظنّ وعدمها ـ لأجل الشكّ في تحقّق الانسداد الأغلبي وعدمه ـ هو الأخذ بطريق الاحتياط ، لعدم المناص عنه بعد ثبوت التكاليف الواقعيّة ، إمّا لعموم الخطابات الشفاهيّة ، وإمّا للإجماع على المشاركة في التكليف مع المشافهين.

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة يجب الاحتياط وإن كان الظنّ في المسألة موجودا. وطريقه الإتيان بالفعل فيما دار الأمر فيه بين الوجوب وغير الحرمة ، كقراءة دعاء رؤية الهلال المردّدة بين الوجوب والاستحباب. وتركه فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ، كشرب التتن والعمل بالطرف المظنون فيما دار الأمر فيه بين المحذورين من الوجوب والحرمة ، إن كان أحدهما مظنونا ، كما هو الفرض من وجود الظنّ في المقام. وتعيّن العمل بالطرف المظنون حينئذ ليس لأجل وجوب العمل بالظنّ من حيث هو ، لفرض عدم ثبوته ، بل لكون العمل به طريق احتياط في المقام ، لدوران الأمر بين التخيير في العمل بأحد طرفي الشكّ وتعيّن العمل بالظنّ ، لاحتمال وجوبه تعيينا ، فيتعيّن العمل به في مقام الخروج من عهدة التكليف ، فيؤخذ به في مقام الاحتياط.

هذا كلّه فيما يتعلّق بعمل الظانّ نفسه من العبادات والمعاملات. وأمّا ما يتعلّق بعمل غيره ، فاللازم عليه حينئذ هو الكفّ والسكوت ، وعدم التصدّي بشيء من القضاء والإفتاء وإرشاد الغير إلى العمل بالاحتياط في عمله.

فإن قلت : كيف توجب الاحتياط هنا ، والحال أنّ الأحكام غير المعلومة من قبيل الشبهة غير المحصورة التي لا يجب فيها الاحتياط كما قرّر في محلّه؟

قلت : نمنع كونها من قبيلها ، بل هي من قبيل الشبهة المحصورة ، أو اشتباه الكثير في الكثير الملحق بالمحصورة موضوعا أو حكما كما سيأتي في محلّه. مع أنّ المقصود في المقام نفي وجوب العمل بالظنّ في قبال من ادّعاه ، فلا يلزم من العمل بأصالة البراءة وجوب العمل به ، فتأمّل.

فإن قلت : إنّه لا وجه لما قرّرت من وجوب العمل بالاحتياط ، لامتناعه كثيرا ، إمّا بالذات كما في صورة دوران الأمر بين المحذورين من الوجوب والحرمة ، لأنّ الاحتياط ـ وهو الأخذ بالأوثق ـ غير ممكن مع تساوي الاحتمالين. وإمّا بالعرض ، كما فيما دار الأمر فيه بين الوجوب وغير الحرمة في العبادات ، إذ

٢٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المشهور اعتبار قصد الوجه فيها ، ومع احتمال وجوبه لا يمكن الاحتياط ، لتوقّفه على إلغاء قصد الوجه ، وهو مخالف للاحتياط ، بخلاف العمل بالظنّ ، لتيسّر قصد الوجه معه ، فيكون العمل بالظنّ موافقا للاحتياط في الجملة ، سيّما مع ما يظهر من العلماء من حصر الناس في صنفين : مجتهد ومقلّد ، والمحتاط خارج منهما.

قلت : إنّ المتعيّن فيما تعذّر فيه الاحتياط بالذات هو تخيّر المجتهد في عمل نفسه ، لعدم المناص منه في مقام العمل ، والتوقّف في القضاء والإفتاء بالنسبة إلى غيره ، وإن جاز له إرشاده إلى التخيير في عمله. وهذا لا يستلزم الفتوى ، ولذا يجوز للعامي حينئذ في هذه القضيّة تقليد غيره ممّن هو مفضول بالنسبة إليه على القول بوجوب تقليد الأعلم.

وأمّا فيما تعذّر فيه الاحتياط بالعرض ، لاحتمال وجوب قصد الوجه ، ففيه اوّلا : أنّا نقطع بعدم وجوبه في حصول الامتثال كما قرّر في محلّه. ومع الشكّ في وجوبه يرجع إلى أصالة البراءة ، فلا يثبت حينئذ وجوب العمل بالظنّ.

لا يقال : إنّ مرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في كيفيّة الامتثال ، لكون قصد الوجه من شرائط امتثال الأمر دون المأمور به ، ومن المقرّر في محلّه وجوب الاحتياط في مثله.

لأنّا نقول : إنّ المرجع عند الشكّ في كيفيّة الامتثال إنّما هو الاحتياط فيما كان الشرط المشكوك فيه من القيود العرفيّة للامتثال ، بحيث لا يلزم قبح على الشارع على تقدير عدم بيانه ، وإلّا فلو كان من القيود التعبّدية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها ، فلا فرق بينه وبين شرائط المأمور به في كون المرجع عند الشكّ فيهما هي البراءة ، لاتّحاد المناط فيهما.

وثانيا : أنّ قصد الوجه كما يمكن مع العلم بالوجه وبالعمل بالأمارات الظنّية ، كذلك مع العمل بمقتضى الاصول العمليّة ، فإذا وجب الاحتياط ـ كما هو الفرض في المقام ـ يمكن قصد وجه الفعل المحتاط فيه لذلك.

٢٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : كيف تحكم بوجوب الاحتياط مع أنّ هنا أصلا واردا عليه ، وهو استصحاب وجوب الفحص؟ وتوضيحه : أنّه لا خلاف من القائلين بوجوب العمل بالظنّ وحرمته في وجوب الفحص عن الدليل القطعي مع التمكّن من تحصيله. ومع الشكّ في تمكّنه من تحصيله ، وتردّد الأمر بين جواز العمل بالظنّ وحرمته ـ كما في محل الفرض من الشكّ في تحقّق الانسداد الأغلبي وعدمه ، إذ على تقدير الانسداد يجوز العمل به بلا خلاف ، ومع عدمه يحرم كذلك ـ يمكن استصحاب وجوب الفحص الثابت حال التمكّن من الفحص. فإذا تفحّص ، فإن وصل إلى دليل قطعي فهو ، وإلّا يجب عليه العمل بما ظفر به من الدليل الظنّي ، إذ الفرض وجوب هذا الفحص المؤدّي إلى دليل ظنّي. فإذا وجب هذا الفحص وجب العمل بما يؤدّي إليه أيضا ، إذ وجوب الفحص إنّما هو من باب المقدّمة للعمل ، فلا يعقل وجوب المقدّمة من دون وجوب ذيها.

قلت : إنّ من يجب عليه الفحص لا يخلو من أحوال ثلاث ، الاولى : أن يعلم فقدان الدليل القطعي وعدم إمكان الوصول إليه ولو مع الفحص. الثانية : أن يعلم بوجوده ، بأن يعلم بوصوله إليه لو تفحّص عنه. الثالثة : أن يشكّ في ذلك. وهي أيضا على أقسام. أحدها : أن يعلم بعد الفحص بانتفاء الدليل القطعي قبل الفحص. وثانيها : أن يعلم بعده أنّه كان هنا دليل قطعي ولكن قد فات عنه حين الفحص. وثالثها : أن لا يظهر له بعد الفحص شيء من الأمرين ، بأن بقي على شكّه الحاصل حين الفحص.

ولا مجرى للاستصحاب في شيء من هذه الأقسام أمّا الأوّل والثاني فواضح ، للعلم بعدم وجوبه في الأوّل ، وبوجوبه في الثاني ، مع أنّ الثاني خارج من فرض السؤال. وأمّا الثالث فلحصول العلم بعد الفحص بانتفاء الحالة السابقة ، إذ الفرض كون وجوب الفحص لتحصيل الدليل القطعي ، فإذا فرض فقدانه في الواقع ينتفي وجوبه أيضا ، إذ لا معنى لوجوب المقدّمة مع تعذّر ذيها.

٢٧٤

وأمّا العمل به من دون تعبّد بمقتضاه : فإن كان لرجاء إدراك الواقع ، فهو حسن ما لم يعارضه احتياط آخر ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه ، كما لو ظنّ الوجوب واقتضى الاستصحاب الحرمة ؛ فإنّ الإتيان بالفعل محرّم وإن لم يكن على وجه التعبّد بوجوبه والتديّن به.

وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع : فإن لزم منه طرح أصل دلّ الدليل على وجوب الأخذ به حتّى يعلم خلافه ، كان محرّما أيضا ؛ لأنّ فيه طرحا للأصل الواجب العمل ، كما فيما ذكر من مثال كون الظنّ بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم. وإن لم يلزم منه ذلك جاز العمل ، كما لو ظنّ بوجوب ما تردّد بين الحرمة والوجوب ، فإنّ الالتزام بطرف الوجوب لا على أنّه حكم الله المعيّن جائز ، لكن في تسمية هذا عملا بالظنّ مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط.

______________________________________________________

وأمّا الرابع فلكون الاستصحاب فيه عرضيّا لا عبرة به ، لأنّ الغرض من استصحاب الوجوب هو استصحاب وجوب الفحص الثابت في حال التمكّن من تحصيل القطع لإثبات وجوب الفحص المؤدّي إلى دليل ظنّي ، وهو إثبات لحكم موضوع علم ارتفاعه لموضوع آخر ، نظير استصحاب نجاسة المتولّد من حيوانين أحدهما طاهر والآخر نجس ، كما إذا نزى غنم على كلب فولدت ثالثا ، فباستصحاب النجاسة الحاصلة بملاقاته لأمّة حين الولادة قد حكم بعض الأصحاب بنجاسته الذاتيّة ، مع وضوح تغاير موضوع النجاستين.

وأمّا الخامس فلوجوب الفحص عليه حتّى يئول أمره إلى أحد الأمرين ، فيجري عليه حكمه. ومع عجزه عن استكشاف أحد الأمرين على وجه القطع لا شكّ في عدم خلوّ الواقع عن أحدهما ، لأنّه إمّا أن لا يكون هنا دليل قطعي في الواقع ، أو يكون لكن يفوت عن المكلّف حين الفحص ، وعلى التقديرين قد عرفت عدم جريان الاستصحاب ، إمّا لانتفاء الحالة السابقة ، وإمّا لكون مرجع الاستصحاب إلى انسحاب حكم موضوع علم انتفائه إلى موضوع آخر.

٢٧٥

وبالجملة : فالعمل بالظنّ إذا لم يصادف الاحتياط محرّم إذا وقع على وجه التعبّد به والتديّن ، سواء استلزم طرح الأصل أو الدليل الموجود في مقابله أم لا ، وإذا وقع على غير وجه التعبّد به فهو محرّم إذا استلزم طرح ما يقابله من الاصول والأدلّة المعلوم وجوب العمل بها ، هذا.

______________________________________________________

فإن قلت : إنّه يمكن تقرير الاستصحاب بوجه آخر ، وهو أنّك قد عرفت في بعض الحواشي السابقة أنّ جريان أصالة حرمة العمل بالظنّ إنّما هو في موارد ثلاثة ، منها صورة الشكّ في تحقّق الانسداد الأغلبي. وحينئذ نقول : إنّه إذا فرض انسداد باب العلم غالبا في الأحكام الشرعيّة فلا خلاف حتّى من السيّد وأمثاله في وجوب العمل بالظنّ حينئذ ، وادّعى عليه الحلّي الإجماع ، فإذا فرض بعده حصول الشكّ في ارتفاع الانسداد وبقائه لأجل التمكّن من تحصيل بعض كتب الأخبار التي كان تحصيلها متعذّرا قبله ، فاستصحاب جواز العمل بالظنّ الثابت في حال تحقّق الانسداد يثبت جواز العمل بالظنّ حينئذ أيضا ، فلا يتعيّن وجوب العمل بالاحتياط كما هو المدّعى ، فإذا ثبت جوازه في هذه الصورة ثبت في غيرها بعدم القول بالفصل.

قلت : إنّ وجوب العمل بالظنّ في حال الانسداد إنّما هو من باب حكومة العقل كما سيأتي في محلّه ، ولا معنى لاستصحاب الأحكام العقليّة كما سيجيء في محلّه.

نعم ، لو كان اعتباره من باب الكشف عن جعل الشارع أو بالإجماع كان لاستصحاب الوجوب وجه ، مع أنّه يمكن معارضته بقلب الدليل عليه ، لأنّه إن فرض انفتاح باب العلم في أغلب الأحكام ثمّ شكّ في بقاء الانفتاح وارتفاعه لبعض العوارض تستصحب الحرمة الثابتة حال الانفتاح ، فإذا ثبتت الحرمة في هذه الصورة ثبتت في سابقتها ، بل في صورة الانفتاح أيضا حتّى بالنسبة إلى الموارد النادرة التي يتعذّر فيها تحصيل العلم بعدم القول بالفصل.

فإن قلت : كيف تدّعي عدم القول بالفصل والفاصل موجود؟ لأنّك تدعي

٢٧٦

وقد يقرّر الأصل هنا بوجوه أخر (١٨٧):

______________________________________________________

وجوب الاحتياط في المواضع النادرة ، والعبارة المحكيّة عن المرتضى في المعالم صريحة في جواز العمل بأصالة البراءة.

قلت : إنّ العمل بأصالة البراءة في المواضع النادرة ليس عملا بالظنّ ، ومقصودنا نفيه ، فيتحقّق الإجماع المركّب بالنسبة إلى نفيه ، وإن كان بعض المجمعين عاملا بالبراءة وبعض آخر بالاحتياط. هذا خلاصة الكلام في نفي جواز العمل بالظنّ على طريقة الاحتياط.

١٨٧. قد يقرّر الأصل بوجوه أخر أيضا ، منها الاستصحاب ، ويقرّر بوجوه :

أحدها : استصحاب بقاء الأمر في خصوص العبادات المركّبة ، لأنّه إذا ظنّ عدم جزئيّة شيء من العبادة أو شرطيّته وأتى بها من دون هذا المشكوك فيه فالأصل بقاء الأمر بالكلّ ، فيثبت وجوب الإتيان بها مشتملة على المظنون عدم جزئيّته أو شرطيّته.

فإن قلت : إنّ المستصحب لا يخلو إمّا أن يكون هو الأمر المتعلّق بما اشتمل على هذا المشكوك فيه ، أو بما خلا عنه ، أو الأمر الواقعي المردّد في أنظارنا بين الأمرين. والأوّل غير متحقّق الثبوت سابقا. والثاني مع اشتراكه مع سابقه في الضعف أنّه لا معنى له بعد إتيانه بما خلا عن المشكوك فيه. والثالث موقوف على ثبوت التكليف بالأحكام الواقعيّة على ما هي عليه ، وليس كذلك ، لأنّا مكلّفون بمؤدّيات الطرق دون الواقع من حيث هو.

قلت : نفي التكليف بالواقع لا وجه له ، واستصحاب الأمر المردّد مانع منه. هذا ، ويرد عليه :

أوّلا : منع كون ما نحن فيه من موارد الاستصحاب ، لأنّ العلم بالتكليف إجمالا ، والشكّ في الإتيان به على بعض الوجوه التي يشكّ معه في الخروج من

٢٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

عهدة التكليف الواقعي ، علّة تامة في حكم العقل بوجوب الإتيان بما يحصل معه القطع بالخروج من عهدة التكليف ، فلا يبقى حينئذ شكّ حتّى يستصحب الحكم المشكوك فيه إلى زمان الشكّ. وبالجملة ، إنّه لا مجال لاستصحاب الاشتغال في مورد قاعدته ، كما أنّه لا مجرى لاستصحاب البراءة في مورد قاعدتها كما سيأتي في محلّه.

وثانيا : أنّ استصحاب الأمر المردّد فيه لا يثبت كون المأمور به هو المشتمل على المشكوك فيه حتّى يجب الإتيان به ، إلّا على القول بالاصول المثبتة ، وهو ضعيف.

وثانيها : استصحاب بقاء التكليف بمجموع الأحكام التي جاء بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّا قد علمنا بأنّ الله تعالى قد بعث نبيّنا وأوحى إليه أحكاما ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بلّغ هذه الأحكام إلى الحاضرين ، وأنّا مشاركون لهم فيها ، فإذا اكتفينا في امتثالها بالظنّ احتملنا عدم خروجنا من عهدة هذه الأحكام ، فيستصحب بقائها إلى أن يحصل اليقين بالفراغ.

ويرد عليه ما أوردناه أوّلا على سابقه ، فالأولى حينئذ هو التمسّك بقاعدة الاشتغال دون استصحابه.

وثالثها : استصحاب الحالة السابقة في كلّ قضيّة شخصيّة ، إذ القضايا الخارجة التي هي قابلة لتعلّق التكليف بها لا تخلو : إمّا أن لا يعلم انقلاب العدم الأزلي فيها إلى الوجود ، أو يعلم انقلابه فيها. فكلّ ما كان من قبيل الأوّل يستصحب فيه العدم الأزلي وكلّ ما كان من قبيل الثاني يستصحب فيه بقاء الأمر السابق ، فتعين حينئذ إلغاء الظنّ الحاصل بخلافهما ، هذا على المشهور من استصحاب البراءة أو الاشتغال في مورد قاعدتهما. وأمّا على المختار من عدم جريان الاستصحابين فيتمسّك بنفس القاعدتين. وهذا الوجه متّجه.

ورابعها : استصحاب عدم حجّية الظنّ. وستعرف الكلام فيه عند شرح كلام المصنّف.

٢٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : قاعدة البراءة ، بتقريب أنّ المكلّف لا يخلو : إمّا أن يعلم أنّه لو تفحّص لوصل إلى دليل علمي ، وإمّا أن يعلم بعدم وصوله إليه ولو مع الفحص ، وإمّا أن يشكّ فيه. ولا إشكال في وجوب الفحص على الأوّل والثالث. وأمّا على الثاني فلا يخلو : إمّا أن يعلم أنّه لو تفحّص لوصل إلى دليل ظنّي ، أو يعلم بعدم تمكّنه منه ولو مع الفحص ، أو يشكّ فيه. وعلى التقادير لا يخلو : إمّا أن يقوم دليل علمي على وجوب العمل بالظنّ أو على حرمته ، أو لا يقوم دليل على شيء منهما. ولا إشكال في وجوب الفحص فيما علم بتمكّنه من الوصول إلى دليل ظنّي مع قيام دليل علمي على وجوب العمل به ، كما لا إشكال في عدم وجوبه فيما لو علم بعدم تمكّنه من الوصول إليه ، وكذا لو علم بتمكّنه منه أو شكّ فيه لكن قام دليل قاطع بحرمة العمل به. وأمّا فيما عدا هذه الصور فمقتضى أصالة البراءة هو عدم وجوب الفحص ، وإذا لم يجب الفحص حرم العمل بالظنّ ، لأنّ وجوبه من باب المقدّمة ، ولا يعقل عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذيها ، ومع عدم وجوب العمل به ، يحرم العمل به ، إذ كلّ من قال بعدم وجوبه قال بحرمته ، كما أنّ كلّ من قال بجوازه قال بوجوبه.

وما يتوهّم من عدم جريان البراءة في الواجبات الغيريّة ، نظرا إلى أنّ مؤدّاها دفع العقاب ، ولا عقاب على الواجبات الغيريّة كما قرّر في مبحث المقدّمة ، مدفوع بمنع انحصار مؤدّاها فيما يترتّب العقاب على مؤدّاها بالخصوص ، بل هي كما تجري فيما يترتّب العقاب على تركه بنفسه كالواجبات النفسيّة ، كذلك تجري فيما يكون منشأ للعقاب ولو لأجل كون تركه مؤدّيا إلى ترك ما يترتّب العقاب عليه بنفسه ، كما سيأتي في مبحث البراءة عند بيان حكم الشكّ في الأجزاء والشرائط.

ويرد عليه : أنّ المتعيّن في مثل المقام هي ملاحظة الأصل الجاري في خصوص الوقائع التي يراد بالفحص تحصيل العلم أو الظنّ بأحكامها ، فما كانت من هذه الوقائع مسبوقة بعدم التكليف ، بأن لا يعلم بانقلاب العدم الأزلي السابق فيها إلى

٢٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجود ، يتمسّك فيها باستصحاب العدم أو بقاعدة البراءة ، وما كانت منها مسبوقة بوجود التكليف وشكّ في ارتفاعه بالعمل بالظنّ يتمسّك فيها باستصحاب الشغل أو قاعدته. وهذان الأصلان ما كان (*) على أصالة البراءة عن وجوب الفحص.

ومنها : قاعدة الضرر ، لأنّ في العمل بالظنّ احتمال الوقوع في الضرر ، كما إذا ظنّ بعدم وجوب فعل فتركه أو ظنّ بعدم حرمته فأتى به ، مع احتمال وجوبه أو حرمته واقعا. ولا ريب أنّ العقل كما يحكم بوجوب التحرّز عن الضرر المقطوع به والمظنون ، كذلك يحكم بوجوب التحرّز عن الضرر المحتمل. وناهيك في ذلك من حكمه بوجوب النظر إلى معجزة مدّعي النبوّة بمجرّد احتمال صدقه المستلزم مخالفته لمؤاخذته سبحانه على ترك المتابعة له.

ومن هنا ترى حكم جماعة ـ ومنهم الشّيخ ـ بأنّ الأصل في الأشياء هو الحظر لو لا ورود الشرع على الإباحة فيها ، مثل قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً.)

وعن السيّد أبي المكارم ابن زهرة في الغنية : «أنّ العقل يمنع من الإقدام على ما لا يؤمن من كونه مفسدة» انتهى. وعن المحقّق في المعارج : «أنّ الظنّ قد يخطئ ، فلا يعمل به إلّا مع وجود دلالة تدلّ عليه» انتهى. وعن التذكرة : «لا يجوز التعويل على الظنّ مع القدرة على العلم ، لقضاء العقل بقبح سلوك طريق لا يؤمن معه الضرر مع التمكّن عن سلوك طريق متيقّن معه الأمن» انتهى. وعن الوحيد البهبهاني : «أنّ ظنّ الرجل أمر وحكم الله تعالى أمر آخر ، وكونه هو هو أو عوضه يحتاج إلى دليل حتّى يجعل هو إيّاه أو عوضه أيضا ، لأنّ العقل يأبى عن الاتّكال على مجرّد الظنّ في الدماء والفروج والأنساب والأموال» انتهى.

وبالجملة ، إنّ ظاهرهم عدم تجويز العمل بالظنّ مع التمكّن من العلم أو طريق الاحتياط.

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة. والظاهر أنّه تصحيف : حاكمان.

٢٨٠