فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فيجوز لها لبس الحرير والذهب في غير الصلاة ، وكذلك ترك الجهاد ، ولا يلحق بالدم الخارج منها حكم الدماء الثلاثة ، وهكذا ، ويجب عليها التستّر في الصلاة ، والاجتناب عن لبس الذهب والحرير فيها ، بناء على كون الشكّ في الأجزاء والشرائط من قبيل الشكّ في المكلّف به. واختاره صاحب الفصول ، بناء على قصر وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة على ما اتّحد نوع الشبهة ، وإلّا فاختار الوجه الأوّل.

ورابعها : التفصيل بحسب الخطابات الشرعيّة ، بأنّ كلّ خطاب يختصّ بالرجال أو النساء لا يجري حكمه على الخنثى ، وكلّ خطاب ورد معلّقا على عموم المكلّفين ثمّ استثني منه خصوص الرجل أو المرأة دخلت الخنثى في المستثنى منه ، وذلك مثل قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) حيث استثنيت المرأة من وجوب الجمعة. ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من بدّل دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فاقتلوه» حيث استثنيت منه المرأة أيضا ، لأنّها تحبس وتستتاب. وحينئذ يحكم بوجوب الجمعة على الخنثى ، وتقتل أيضا لو ارتدّت. وهذا الوجه مسموع من صاحب الجواهر. ولكنّه مبنيّ إمّا على كون الخنثى طبيعة ثالثة ، وإمّا على العمل بالعمومات في الشبهات المصداقيّة. وكلاهما خلاف التحقيق.

وخامسها : الرجوع إلى القرعة.

وسادسها : ما اختاره المصنّف رحمه‌الله. وهو أحسن الوجوه. وحاصله : ملاحظة الاصول والقواعد في الخنثى بحسب الموارد والمقامات. ولا بأس بتوضيح الكلام في الفروع التي أشار إليها المصنّف رحمه‌الله ، مع الإشارة إلى جملة من الفروع التي لم يذكرها ، فنقول : أمّا نظرها إلى غيرها فمقتضى القاعدة عدم جوازه كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. ولكن ظاهره ابتناء ذلك على حرمة نظر المرأة إلى الرجل كحرمة نظره إليها. وليس كذلك ، لأنّا لو قلنا بجواز نظرها إليه لكان الأمر أيضا كذلك ، لعلم الخنثى إجمالا بتوجّه أحد الخطابين إليها ، من حرمة نظر الرجل إلى المرأة ، و

٢٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

من وجوب التستّر على المرأة ، وقد تقدّم في مخالفة الخطاب الإجمالي المردّد بين خطابين كونه كالخطاب التفصيلي في حرمة المخالفة مطلقا.

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله قد عدل عن مقتضى القاعدة تارة بإبداء المانع مع تسليم المقتضي من لزوم العسر والمشقّة ، واخرى بذكر ما يوهن المقتضى ، من كون رجوع الخطابين إلى خطاب واحد مفيدا في حرمة المخالفة القطعيّة لا في وجوب الموافقة القطعيّة. والأوّل واضح. وأمّا الثاني فالوجه فيه أنّ الخطاب الثالث المأخوذ من الخطابين ليس ممّا له تأصّل ، بل هو منتزع منهما ، ولا ريب أنّ المدار عند العقلاء في باب الإطاعة والمخالفة على الخطابات الأصليّة دون الانتزاعيّة ، فمثل هذا الخطاب لا يترتّب عليه حكم الخطاب الأصلي المفصّل. فالمقام من قبيل دوران الأمر بين الخطابين ، وحينئذ يمكن أن يقال بكفاية ذلك في إثبات أصل التكليف في الجملة لا في إثبات الموافقة القطعيّة. ووجه الفرق أنّ الخنثى حيث تعلم بتوجّه خطاب إليها ـ لاندراجها تحت عنوان الرجل أو المرأة يقينا ، على ما هو الفرض من عدم كونها طبيعة ثالثة ـ يحرم عليها المخالفة للتكليف المعلوم إجمالا توجّهه إليها ، لكونها عصيانا لله تعالى ، بخلاف الموافقة القطعيّة ، إذ ليس في تركه إلّا احتمال المخالفة ، ولا بأس به ، لكون المخالفة الاحتماليّة لأحد الخطابين فصاعدا في الشرع فوق حدّ الإحصاء ، إذ أكثر الموضوعات الخارجيّة يعلم إجمالا بكون بعضها نجسا أو غصبا ، ومع ذلك لا يقول أحد بوجوب الاجتناب عن جميعها.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وتوجّه النظر إليه جليّ ، لتوقّفه على منع المقدّمة العلميّة ، وهو باطل عند المصنّف رحمه‌الله. وعدم وجوب الاجتناب عن الشبهات الموضوعيّة إنّما هو لعدم العلم بتوجّه خطاب إليه ، لخروج أكثرها من محلّ الابتلاء ، وإلّا فعدم وجوب الاحتياط مع فرض العلم بتوجّه أحد الخطابين ممنوع.

وبالجملة ، إنّ الفرق بين الخطاب المفصّل والمردّد بين خطابين ضعيف ، مضافا إلى ما عرفت في الحاشية السابقة من كون مناط حرمة مخالفة الخطاب المردّد

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

هنا لزوم مخالفة العلم التفصيلي ، لا مخالفة أحد الخطابين المعلوم توجّهه إجمالا إلى المكلّف. والظاهر أنّ ما ذكر من الفرق إنّما ذكره المصنّف رحمه‌الله في مقام الدقّة وإبداء الاحتمال لا في مقام الاختيار ، وعمدة اعتماده إنّما هي على الوجه الأوّل من لزوم العسر والمشقّة. وأمّا لبس ما يختصّ بأحد الفريقين فهو كما أفاده المصنّف رحمه‌الله في حكم النظر.

وأمّا حكم ستارتها في الصلاة فهو كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، لعلمها إجمالا بوجوب التستّر عليها أو الاجتناب عن لبس الحرير. فالقول بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط لا ينافي القول بالاحتياط هنا كما هو واضح.

وأمّا حكم الجهر والإخفات اللذين دار الأمر فيهما بين المحذورين في العبادة ، فإن قلنا بكون الإخفات في مواضع الجهر ـ كالعشاءين والصبح ـ رخصة على المرأة ، فقد حكم المصنّف رحمه‌الله حينئذ بتعيّن الجهر عليها. ولكنّه مبنيّ على وجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، كما لو دار الأمر بين عتق رقبة مؤمنة وبين عتق مطلق الرقبة ، وهو خلاف ما اختاره المصنّف رحمه‌الله في تلك المسألة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مسألة الجهر والإخفات إذا لوحظت في نفسها مع فرض كون الإخفات رخصة للمرأة فالأمر كما ذكر. وأمّا إذا لوحظت وظائف الرجل ووظائف المرأة في الصلاة مع القطع بتوجّه التكليف إلى الخنثى بالقيام بإحدى الوظيفتين ، فلا ريب في وجوب الاحتياط حينئذ ، للعلم إجمالا بوجوب الجهر والتستّر في الصلاة ، فيجب الإتيان بكلّ منهما من باب المقدّمة ، لخروج المسألة حينئذ من كونها من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير. ومن هنا يظهر وجوب ستر البدن عن غير المحارم في غير حال الصلاة أيضا ، للعلم إجمالا بوجوبه أو حرمة لبس الحرير مثلا ، وإن كان الشكّ في كلّ منهما شكّا في التكليف.

وإن قلنا بكونه عزيمة فالتخيير إن قام الإجماع على عدم وجوب تكرير

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاة كما يتراءى من العبارة. ولكن هذا مع فرض عدم جواز تكرير الفاتحة والسورة من دون تكرير الصلاة ، إمّا لاستلزامه للقران أو الزيادة في الصلاة ، وإلّا فيتعيّن تكريرهما أو تكرير أصل الصلاة. لا يقال : هذا ينافي ما اختاره المصنّف رحمه‌الله من التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين ، كوجوب فعل وحرمة آخر.

لأنّا نقول : هذا فيما كان الوجوب والحرمة المحتملان ذاتيّين ، والحرمة المحتملة في المقام تشريعيّة ، وهي لا تنافي الاحتياط كما لا يخفى. وبالجملة ، إنّ مقتضى القاعدة هنا هو الاحتياط وإن قلنا بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط. وربّما يظهر من صاحب الفصول القول بالتخيير مطلقا ، سواء قلنا بكون الإخفات على المرأة رخصة أو عزيمة. وهو المراد من القائل في قول المصنّف رحمه‌الله : «وقد يقال ...».

وتوضيح المقام : أنّ المحقّق القمّي قد ادّعى التدافع بين كلامي الشهيد في الذكرى ، حيث حكم على الخنثى بوجوب ستر الرأس في الصلاة والتجنّب عن لبس الحرير فيها ، وصار إلى التخيير في مسألة الجهر والإخفات. وأورد عليه صاحب الفصول بكون التخيير في مسألة الجهر والإخفات بالدليل لا لأجل القاعدة ، وذلك لأنّه بعد الحكم بوجوب الاحتياط على الخنثى في الأحكام المختصّة بالرجال والنساء قال : «وينبغي أن يستثنى من الحكم الأوّل ـ يعني :

الاحتياط في الأحكام المذكورة ـ كلّ حكم يعذر فيه الجاهل ، كالجهر والإخفات في مواضعهما ، فلا يجب عليه الاحتياط في ذلك ، بل يتخيّر عند عدم سماع الأجانب بينهما ، لجهله بالحكم ، فيقطع بالبراءة بدون الاحتياط. وهذا هو السرّ في إلزام الشهيد رحمه‌الله له في الذكرى بوجوب الاحتياط في مسألة الستر ولبس الحرير ، ومصيره إلى التخيير في مسألة الجهر والإخفات. فلا تدافع بين الحكمين أصلا كما زعمه الفاضل المعاصر في كلامه» انتهى كلامه ، رفع في الخلد مقامه.

وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله أوّلا : بأنّ النصّ إنّما دلّ على معذوريّة الجاهل الغافل

٢٢٤

فمقتضى القاعدة احترازها عن غيرها مطلقا ؛ للعلم الإجمالي بحرمة نظرها إلى إحدى الطائفتين ، فتجتنب عنهما مقدّمة.

وقد يتوهم أنّ ذلك من باب الخطاب الإجمالي ؛ لأنّ الذكور مخاطبون بالغضّ عن الإناث وبالعكس ، والخنثى شاكّ في دخوله في أحد الخطابين. والتحقيق هو الأوّل ؛ لأنّه علم تفصيلا بتكليفه بالغضّ عن إحدى الطائفتين ، ومع العلم التفصيلي لا عبرة بإجمال الخطاب ، كما تقدّم في الدخول والإدخال في المسجد لواجدي المني.

مع أنّه يمكن إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد ، وهو تحريم نظر كلّ إنسان إلى كلّ بالغ لا يماثله في الذكورية والانوثيّة عدا من يحرم نكاحه.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الكفّ عن النظر إلى ما عدا المحارم مشقّة عظيمة ، فلا يجب الاحتياط فيه ، بل العسر فيه أولى من الشبهة الغير المحصورة. أو يقال : إنّ رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعيّة ، لا في وجوب الموافقة القطعيّة ، فافهم. وهكذا حكم لباس الخنثى ؛ حيث إنّه يعلم إجمالا بحرمة واحد من مختصّات الرجال كالمنطقة والعمامة أو مختصّات النساء عليه ، فيجتنب عنهما. وأمّا حكم ستارته في الصلاة : فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه.

______________________________________________________

دون تخيير الملتفت الشاكّ من أوّل الأمر كما في ما نحن فيه.

وثانيا : بأنّ مورد النصّ هو الجاهل بالحكم دون الموضوع ، والفرض هنا علم الخنثى بتكليف كلّ من الرجل والمرأة ، وجهلها إنّما هو في اندراجها تحت أحد العنوانين مع العلم بعدم خروجها منهما.

وأمّا إثبات التخيير فيما نحن فيه بما دلّ على تخيّر ناسي فريضة من الفرائض الخمسة ، ففيه : ـ مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، وإلى اختصاصه بالناسي ـ أنّ الجهل فيه إنّما هو بالمكلّف به ، وفيما نحن فيه باندراج المكلّف تحت أحد العنوانين بالخصوص ، ولا دليل على التعدّي. فالجمع بين كلامي الشهيد بما ذكر ضعيف ، كضعف ما تقدّم عن المحقّق القمّي رحمه‌الله من دعوى التدافع بينهما. ويظهر وجهه من ملاحظة ما بيّنّاه في توضيح ما اختار المصنّف رحمه‌الله.

٢٢٥

وأمّا حكم الجهر والإخفات : فإن قلنا بكون الإخفات في العشاءين والصبح رخصة للمرأة جهر الخنثى بهما. وإن قلنا إنّه عزيمة لها فالتخيير إن قام الإجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقّها. وقد يقال بالتخيير مطلقا (٣٧) ؛ من جهة ما ورد من أنّ الجاهل في الجهر والإخفات معذور (٣٨).

وفيه ـ مضافا إلى أنّ النّص إنّما دلّ على معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى لزوم الإعادة لو خالف الواقع ، وأين هذا من تخيير الجاهل من أوّل الأمر بينهما؟ بل الجاهل لو جهر أو أخفت متردّدا بطلت صلاته ؛ إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم أو العالم ـ : أنّ الظاهر من الجهل في الأخبار غير هذا الجهل.

وأمّا تخيير قاضي الفريضة المنسيّة من (*) الخمس في ثلاثية ورباعيّة وثنائيّة ؛ فإنّما هو بعد ورود النّص بالاكتفاء بالثلاث (٣٩) ، المستلزم لإلغاء الجهر والإخفات بالنسبة إليه ، فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا. وأمّا معاملة الغير معها ، فقد يقال بجواز نظر كلّ من الرجل والمرأة إليها ؛ لكونها شبهة في الموضوع ، والأصل الإباحة (٤٠).

______________________________________________________

وأمّا حكم الإرث فيحكم باستحقاقها حصّة الأنثى ، لأصالة عدم استحقاق الزائد ، وأصالة عدم الذكوريّة.

لا يقال : إنّ أصالة عدم كونها مذكّرا معارضة بأصالة عدم كونها مؤنّثا. لأنّا نقول : إنّ المقصود من إجراء أصالة عدم الذكوريّة ليس إثبات أنوثيّتها حتّى تعارض بمثلها ، بل المقصود منه نفي استحقاق الزائد ، لكونه مرتّبا على عنوان الذكوريّة ، وبعد نفيه يحكم بالأقلّ ، لكونه متيقّنا لا لأجل الأصل. وأصالة عدم الأنوثيّة لا يترتّب عليها أثر شرعيّ حتّى ينافي أصالة عدم الذكورية في نفي الزائد ، ومن المقرّر ـ كما سيجيء في محلّه ـ عدم جريان الأصل الذي لا يترتّب عليه أثر شرعيّ ، فأصالة عدم الذكوريّة تكون جارية من دون معارضة شيء أصلا.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «من» ، عن.

٢٢٦

وفيه : أنّ عموم وجوب الغضّ (١٤٥) على المؤمنات إلّا عن نسائهنّ أو الرجال المذكورين في الآية (٤١) يدلّ على وجوب الغضّ عن الخنثى ؛ ولذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين إليها كتحريم نظرها إليهما (٤٢) ، بل ادّعى سبطه الاتفاق على ذلك (٤٣) ، فتأمّل جدّا.

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا إنّما هو في غير النكاح. وأمّا التناكح ، فيحرم بينه وبين غيره قطعا ، فلا يجوز له تزويج امرأة ؛ لأصالة عدم ذكوريّته (١٤٦) ـ بمعنى عدم ترتّب

______________________________________________________

١٤٥. لا يذهب عليك أنّ هذا مبنيّ على تحكيم العمومات في الشبهات المصداقيّة ، حيث إنّ الآية بعمومها قد دلّت على وجوب الغضّ على المؤمنات إلّا من النساء والرجال المذكورين في الآية ، والخنثى ـ على ما هو الفرض من عدم كونها طبيعة ثالثة ـ مردّدة بين دخولها تحت المستثنى أو المستثنى منه ، والتمسّك بالعموم مع اشتباه المخصّص ضعيف عند المصنّف كما صرّح به في بعض المسائل الآتية. وقد نبّه على كون التمسّك بالعموم في مسألة الخنثى مبيّنا على ما ذكر في تنبيهات الشبهة المحصورة.

ثمّ إنّي بعد ما ذكرت ذلك وقفت على حاشية للمصنّف رحمه‌الله قد تعرّض فيها لدفع الإشكال المذكور ، وهي ما كتبه على قوله «فتأمّل جدّا» حيث قال : «وجهه أنّ الشكّ في مصداق المخصّص المذكور ، فلا يجوز التمسّك بالعموم. ويمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه من قبيل تعلّق غرض الشارع بعدم وقوع الفعل في الخارج ولو بين شخصين ، فترخيص كلّ منهما للمخالطة مع الأجنبيّ مخالف لغرضه المقصود من عدم مخالطة الأجنبيّ مع الأجنبيّة. ولا يرد النقض بترخيص الشارع ذلك في الشبهة البدويّة ، فإنّ ما نحن فيه من قبيل ترخيص الشارع لرجلين في تزويج كلّ منهما لأحد المرأتين اللتين علم إجمالا أنّهما أختان لأحد الرجلين» انتهى ، فتأمّل.

١٤٦. قد يشكل التمسّك بالأصل بعدم الحالة السابقة ، إلّا باعتبار سلب الموضوع غير المعتبر في استصحاب عدم عنوانه الطارئ عليه ، مضافا إلى معارضته بمثله ، لفرض العلم بكون الخنثى مذكّرا أو مؤنّثا ، بناء على ما هو الفرض من عدم

٢٢٧

أثر الذكوريّة من جهة النكاح ووجوب حفظ الفرج إلّا عن الزوجة وملك اليمين ـ ولا التزوّج (*) برجل ؛ لأصالة عدم كونه امرأة ، كما صرّح به الشهيد (٤٤) ، لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا أو زوجة (٤٥) ، فافهم. هذا تمام الكلام في اعتبار العلم.

______________________________________________________

كونها طبيعة ثالثة.

ويمكن دفع الأوّل بأنّ المقصود من استصحاب عدم الذكوريّة والأنوثيّة هو أصالة عدم سببيّة العقد في حقّ الخنثى ، وعدم كونه مؤثّرا في ترتّب الآثار المرتّبة على تقدير إحراز الذكوريّة والأنوثيّة. وكذا أصالة بقاء الأحكام الثابتة قبل العقد للخنثى. ولذا فسّره بقوله : «بمعنى عدم ترتّب أثر ...». والثاني بما تقدّم في المخالفة الالتزاميّة من عدم كون مخالفة العلم الإجمالي مانعا من جريان الأصل ما لم يؤدّ إلى المخالفة العمليّة ، والمقام ليس كذلك ، إذ غاية ما يلزم هنا هي المخالفة الالتزاميّة دون العمليّة ، لكون كلّ من الأصلين موافقا للاحتياط.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا حكم كلّ معاملة يترتّب الحكم فيها على عنوان الذكوريّة والأنوثيّة ، مثل أنّ الشارع قد جعل ملك الرجل للإناث المحرّمات ـ كالعمّة والخالة والأخت ـ سببا للانعتاق ، فلو ملكت الخنثى إحداهنّ يحكم بعدم الانعتاق استصحابا له ، وبعدم تأثير الملك فيه.

هذا آخر ما أوردناه تعليقة في حجّية القطع على رسائل شيخنا العلّامة الأستاذ الشيخ المرتضى الأنصاري أعلى الله (**) في الخلد مقامه. الحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا. وقد وقع الفراغ في الثامن والعشرين من شهر شوّال المكرّم ، من شهور السنة الثامنة والسبعين بعد ألف ومأتين ، بيد مصنّفه الجاني الفاني موسى بن جعفر عفا الله عن جرائمهما بحقّ محمد وآله الطاهرين.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «التزوّج» ، التزويج.

(**) الظاهر أنّ هذه الجملة سهو من الناسخ ، مع العلم بأنّ وفاة الشيخ الأعظم قدس‌سره عام ١٢٨١ ، فكيف يجتمع هذا مع فراغ المؤلّف من التعليقة عام ١٢٧٨؟!

٢٢٨

المصادر

(١) الفوائد المدنيّة : ص ١٢٩ ـ ١٣١.

(٢) شرح التهذيب (مخلوط) : ص ٤٧.

(٣) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ١٢٦ ـ ١٣٣.

(٤) الوسائل ج ١٨ : ص ٤٧ ، الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(٥) الوسائل ج ١٨ : ص ٢٥ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

(٦) الوسائل ج ١٨ : ص ٥١ الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

(٧) الكافي ج ١ : ص ١٦ و ١١ ، الحديث ١٢ و ٣ من كتاب العقل والجهل.

(٨) بحار الأنوار ج ١ : ص ١٣٧ ، الحديث ٤.

(٩) شرح الوافية (مخطوط) : ص ٢١٥.

(١٠) كمال الدين : ص ٣٢٤ ، الحديث ٩.

(١١) الوسائل ج ١٢ : ص ٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢.

(١٢) الوسائل ج ١٩ : ص ٢٦٨ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث ١.

(١٣) بحار الأنوار ج ٥ : ص ١١٠ ، الحديث ٣٥ ، وج ٣ : ص ٢٧٥ باب النهي عن التفكّر في ذات الله والخوض في مسائل التوحيد.

(١٤) بحار الأنوار ج ٢ : ص ١٢٥ ، الحديث ٢.

(١٥) كشف الغطاء : ص ٦٤.

(١٦) الفصول الغرويّة : ص ٣٤٣.

(١٧) الحدائق الناضرة ج ٥ : ص ٤٠١.

(١٨) السرائر ج ١ : ص ١٨٥.

(١٩) المدارك الاحكام ج ٢ : ص ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

(٢٠) الذكري (الطبعة الحجريّة) : ص ٢٥٩ ؛ روض الجنان : ص ٣٩٨.

(٢١) القوانين ج ١ : ص ٤٤٠ ، وج ٢ :

ص ١٤٤.

(٢٢) الغنية : ص ٥٣ ؛ جامع المقاصد ، ج ٢ :

ص ٢١٨.

(٢٣) كتاب الصلاة ج ١ : ص ٢٦٨ ـ ٢٧٠ ؛ كتاب الطهارة ج ٢ : ص ٣٩ ـ ٤٥.

(٢٤) المقاصد العليّة : ص ٣٢ ؛ روض الجنان :

ص ٢٤٨.

(٢٥) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ص ٤٦٣.

(٢٦) المعالم : ص ١٧٩ ؛ القوانين ج ١ : ص ٣٨٣.

(٢٧) عدّة الاصول : ج ٢ : ص ٦٣٧.

(٢٨) أربعين (لعلّامة المجلسي) : ص ٥٨٢.

(٢٩) تذكرة الفقهاء ج ١ : ص ٢٢٤ ؛ نهاية الإحكام ج ١ : ص ١٠١.

(٣٠) الشرائع ج ٢ : ص ١٢١ ؛ جواهر ج ٢٦ : ص ٢٢٥.

(٣١) معارج الاصول : ص ١٣١ ؛ المعالم : ص ١٧٨ ، القوانين ج ١ : ص ٣٧٨.

(٣٢) الفصول الغرويّة : ص ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ؛ مناهج الاصول : ص ٢٠٤.

٢٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

(٣٣) عدّة الاصول ج ٢ : ص ٦٣٧.

(٣٤) عدّة الاصول ج ٢ : ص ٦٣٦ ؛ القوانين ج ٢ ، ص ٣٩.

(٣٥) الفصول الغرويّة : ص ٣٥٦.

(٣٦) نهاية الوصول (مخلوط) : ص ٤٦٠.

(٣٧) الفصول الغرويّة : ص ٣٦٣.

(٣٨) الوسائل ج ٤ : ص ٧٦ ، الباب ٢ من أبواب القراءة ، الحديث ١.

(٣٩) الوسائل ج ٥ : ص ٣٦٤ ، الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات.

(٤٠) الفصول الغرويّة : ص ٣٦٣.

(٤١) النور (٢٤) : ٣١.

(٤٢) جامع المقاصد ج ١٢ : ص ٤٢.

(٤٣) رسالة ضوابط الرضاع (كلمات المحقّقين) :

ص ٤٥.

(٤٤) الدروس الشرعيّة ج ٢ : ص ٣٨٠.

(٤٥) المبسوط ج ٤ : ص ١١٧.

٢٣٠

المقصد الثاني في الظن

٢٣١
٢٣٢

المقصد الثاني في الظن :

والكلام فيه يقع في مقامين : أحدهما : في إمكان التعبّد به عقلا ، والثّاني : في وقوعه عقلا أو شرعا.

أمّا الأوّل ، فاعلم أنّ المعروف هو إمكانه (١٤٧) ، ويظهر من الدليل (١٤٨) المحكيّ (١) عن ابن قبة (١٤٩) في استحالة العمل بخبر الواحد : عموم المنع لمطلق الظنّ ؛ فإنّه استدلّ على مذهبه بوجهين : الأوّل : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعا.

______________________________________________________

١٤٧. بل عن العلّامة دعوى الإجماع عليه ، ولعلّه لم يعتدّ بخلاف ابن قبة ، وهو المخالف في المسألة من قدماء أصحابنا. وحكي أيضا عن جماعة من المخالفين.

١٤٨. يعني : من دليله الثاني.

١٤٩. في الخلاصة : «محمّد بن عبد الرحمن بن قبة ، بالقاف المكسورة والباء المنقّطة ـ تحتها نقطة ـ المفتوحة ، الرازي أبو جعفر ، متكلّم عظيم القدر حسن العقيدة قويّ في الكلام ، كان قديما من المعتزلة وتبصّر وانتقل» انتهى. وقال أبو علي في ترجمته المعروف المتداول على الألسن في ترجمته : «قبّة ضمّ القاف وتشديد الباء». وفي الإيضاح نقل عن ابن معدّ الموسوي كما في الخلاصة. ثمّ قال : «ووجدت في نسخة اخرى بضمّ القاف وتشديد الباء. والذي سمعناه من مشايخنا هو الأوّل».

٢٣٣

الثاني : أنّ العمل (١٥٠)

______________________________________________________

١٥٠. يحتمل أن يريد به الاستحالة الذاتيّة ، بأن يريد أنّ الحلّية والحرمة من الصفات المتضادّة ، فلو جاز التعبّد بالظنّ أدّى إلى اجتماع ضدّين في محلّ واحد. ويحتمل أن يريد به الاستحالة العرضيّة ، بأن أراد أنّه لو جاز التعبّد بالظنّ أدّى ذلك إلى تحليل الحرام وبالعكس ، وهو لغو ومناف للغرض ، وصدوره عن الشارع الحكيم قبيح ، وصدور القبيح عنه محال ، لمنافاته الحكمة.

واحتجّ لابن قبة أيضا بوجوه :

أحدها : ما حكي عن ذريعة السيّد من أنّه لو أمكن التعبّد بخبر الواحد في الأحكام أمكن في نقل القرآن أيضا ، والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.

وثانيها : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الأحكام الفرعيّة جاز في اصول العقائد أيضا ، والتالي باطل إجماعا ، فكذا المقدّم.

وثالثها : ما عن ذريعة السيّد من أنّه لو جاز الاعتبار بخبر الواحد لجاز في الأخبار المتعارضة أيضا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ويرد على الأوّل منع الملازمة ، إذ المقصود من إنزال القرآن صيرورته معجزا لمن أتى به ، فلا بدّ فيه من اقترانه بما يفيد العلم ، ليكون دليلا على نبوّته ، بخلاف الإخبار عن النبيّ في الأحكام الفرعيّة.

وعلى الثاني منع الملازمة أيضا ، إذ الفارق بين المقامين سهولة تحصيل العلم في أمّهات اصول العقائد ، لابتنائها على قواعد عقليّة أو عمليّة قطعيّة ، بل هي امور فطريّة يصل إليها عامّة الناس بفطرتهم التي فطرهم الله عليها ، لو لا كون أكثرهم مسبوقين بالشبهة ، بخلاف الأحكام الفرعيّة التي تقصر العقول الناقصة عن إدراكها ، لكون أكثرها تعبّدية لا سبيل للعقل إليها ، مع أنّ المطلوب في الاصول هو الاعتقاد وفي الفروع هو العمل ، فلو انسدّ باب العلم في بعض مسائل الاصول كتفاصيل المعاد مثلا نمنع ثبوت التكليف فيه ، إذ المطلوب في الاصول الاعتقاديّة ـ كما

٢٣٤

به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ؛ إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيته حراما وبالعكس. وهذا الوجه ـ كما ترى ـ جار في مطلق الظنّ ، بل في مطلق الأمارة الغير العلميّة وإن لم يفد الظنّ.

واستدلّ المشهور على الإمكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال. وفي هذا التقرير نظر ؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

فالأولى أن يقرّر (١٥١)

______________________________________________________

عرفت ـ هو تحصيل الاعتقاد ، ومع تعذّر الاعتقاد العلمي نمنع ثبوت التكليف بالظنّي منه ، بخلاف الأحكام الفرعيّة ، إذ المقصود منها العمل ، فمع تعذّر العلم بها أمكنت دعوى ثبوت التكليف بالعمل بالظنّ في مقام الامتثال ، خروجا من عهدة التكليف الثابت في الواقع بقدر الإمكان.

وعلى الثالث ـ مضافا إلى منع عدم العمل بالمتعارضين مطلقا ، لثبوت التكليف بالعمل بأحدهما من باب التسليم كما ورد عنهم عليهم‌السلام ـ أنّ عدم العمل بهما لوجود المانع ـ وهو المعارض ـ لا يقاس عليه ما خلّي عن معارض مكافئ.

١٥١. لمّا كان ظاهر دليل المشهور دعوى الإمكان الواقعي ، وكان إثباته موقوفا على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وانتفائها في الواقع ، وكانت دعوى ذلك مصادمة للوجدان ، فعدل عنه المصنّف رحمه‌الله وقرّره بما يفيد الإمكان الظاهري. وحاصله : أنّ التعبّد بالظنّ لم تثبت استحالته ، إذ ليس في العقل ما يستحيله ، ومع الشكّ في إمكان شيء وامتناعه يحكم بإمكانه في مرحلة الظاهر ، لبناء العقلاء على الإمكان في مثله.

ولعلّ هذا التقرير مأخوذ من المحكيّ عن ابن سينا من قوله : «كلّما قرع سمعك وشككت في إمكانه وامتناعه نذره في بقعة الإمكان» لأنّ ظاهره أيضا دعوى الإمكان الظاهري في مقام الشكّ. ولعلّ مبناه ما أشرنا إليه من بناء

٢٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

العقلاء. وأنت خبير بأنّه ـ مع بعده عن كلام ابن سينا ، لترفّع الحكماء عن التكلّم في إثبات الأحكام الظاهريّة ، لأنّ مسرح أنظارهم ومشرع أفكارهم بيان الامور الواقعيّة ـ أنّ ثبوت بناء العقلاء على وجه يجدي في المقام لا يخلو من إشكال بل منع.

نعم ، ربّما يتمسّك في المقام بالغلبة ، نظرا إلى كون الممكن أغلب من الممتنع ، لأنّ للأوّل فردين ، أحدهما : الممكن بالمعنى العامّ ، والآخر : الممكن بالمعنى الخاصّ ، بخلاف الممتنع.

وفيه : ـ مضافا إلى عدم وجود جامع بين الممكن والممتنع حتّى تدّعى الغلبة فيه صنفا أو فردا ـ أنّه إن اريد بها الغلبة صنفا ، بأن يدّعى كون الممكن أغلب صنفا من الممتنع ، ففيها منع تحقّق الغلبة بمجرّد وجود صنفين للممكن وصنف واحد للممتنع ، إذ المعتبر فيها كون الأفراد النادرة كالمعدومة في جنب الموجودة. وإن اريد بها الغلبة بحسب الأفراد ، بأن يدّعى كون أفراد الممكن ـ بمعنييه ـ أغلب بالنسبة إلى أفراد الممتنع ، ففيها منع واضح ، لتوقّفه على الإحاطة بأفراد الممتنع بحسب الواقع ، وليس للعقل إليها سبيل ، مع أنّ كلّ ممكن مع عدم بعض أجزائه أو شرائطه تنشعب منه أفراد متكثّرة للممتنع ، إذ لا ريب في امتناع ما يلاحظ مع عدم جزئه أو شرطه ، فتتضاعف أفراد الممتنع أضعاف مضاعف أفراد الممكن.

وقد يتمسّك له أيضا بالاستصحاب ، إذ الممتنع يحتاج إلى قدر زائد في رجحان العدم بالغ حدّ اللزوم ، كالواجب في الحاجة إلى القدر الزائد في رجحان الوجود ، والأصل عدم هذا القدر الزائد ، فيثبت به إمكان المشكوك فيه ، لأنّه ما خلا عن الرجحانين.

وفيه : أنّه إن اريد بأصالة عدم الزائد أصالة العدم مطلقا لإثبات العدم الخاصّ في مورد الشكّ ، ففيها أنّها حينئذ مثبتة. وإن اريد بها أصالة الزائد في خصوص مورد الشك ، ففيها أنّها موقوفة على العلم بتساوي الطرفين في مورد الشكّ ، وهو

٢٣٦

هكذا : إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

والجواب عن دليله الأوّل : أنّ الإجماع إنّما (١٥٢) قام على عدم الوقوع لا على الامتناع ، مع أنّ عدم الجواز قياسا على الإخبار عن الله تعالى ـ بعد

______________________________________________________

خلاف الفرض.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه أنّ دعوى أصالة الإمكان في كلّ ما يشكّ في إمكانه وامتناعه خالية عن مستند صحيح. نعم ، لو ادّعي أنّ الأصل في كلّ ما يشكّ في إمكانه وامتناعه هو التوقّف ، بمعنى عدم ترتيب شيء من آثار الإمكان والامتناع ، كانت متّجهة ، لأنّ ذلك قضيّة حكم العقل. ثمّ إنّ المراد بالأولويّة في كلام المصنّف رحمه‌الله وإن كان هو المعنى المراد في آية أولي الأرحام ، إلّا أنّه لم يظهر من المصنّف رحمه‌الله اختيار ما قرّره ، بل العمدة في ذلك ما ذكره في ردّ ثاني دليلي ابن قبة ، فتدبّر.

هذا كلّه في تقرير الدليل على أصالة الإمكان في كلّ ما يشكّ في إمكانه وامتناعه. وقد يستدلّ على الإمكان في خصوص ما نحن فيه تارة بما تقدّم في بعض الحواشي السابقة عن العلّامة من دعوى الإجماع ، واخرى بالوقوع شرعا ، لأنّه أخصّ من الإمكان ، وذلك لوقوع التعبّد بالظنّ شرعا في الموضوعات الصرفة والمستنبطة والأحكام الكلّية. والاولى كالأمارات المعتبرة لتمييز الموضوعات المشتبهة ، كالبيّنة واليد والسوق ونحوها. والثانية كالاصول اللفظيّة الجارية في مقام تعيين المرادات ، كأصالة الحقيقة بعد العلم بالأوضاع ، وفي مقام تعيين الأوضاع عند الشكّ فيها ، كأصالة عدم النقل والاشتراك ، لأنّ هذه اصول معتبرة بإجماع العلماء ، وعليها بناء العرف من لدن آدم إلى يومنا هذا. والثالثة كتقليد الجاهل بالأحكام الشرعيّة العالم بها. وستقف على تتمّة الكلام في ذلك.

١٥٢. يظهر المراد بالإجماع هنا ممّا قدّمناه في مسألة التجرّي ، فراجع.

٢٣٧

تسليمه (*) (١٥٣) ـ إنّما هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة اصولا وفروعا على العمل بخبر الواحد ، لا مثل (**) ما نحن فيه ممّا ثبت أصل الدين وجميع فروعه بالأدلّة القطعيّة ، لكن عرض اختفاؤها (***) من جهة العوارض وإخفاء الظالمين للحقّ.

وأمّا دليله الثاني ، فقد اجيب عنه (٢) تارة : بالنقض بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع أيضا (١٥٤) ؛ لأنّه قد يكون جهلا مركّبا.

______________________________________________________

١٥٣. فيه إشارة إلى عدم تسليم القياس ، لوجود الفارق من وجهين : أحدهما : أنّ دواعي الكذب في الإخبار عن الله تعالى كثيرة ، لكون منصب النبوّة مشتملا على الرّياسة العامّة عن الله سبحانه ، فلا يقبل الإخبار عنه تعالى إلّا بالاقتران بما يفيد القطع بصدقه ، بخلاف التعبّد بالإخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأحكام الفرعيّة ، واختلاف موارد الإخبار ممّا لا مساغ لإنكاره. ولذا ترى العقلاء يقبلون إخبار واحد بموت زيد ، ولا يقبلون إخباره بمشيه على الماء أو عروجه إلى السماء أو نزوله تحت الأرض أو نحو ذلك.

وثانيها : أنّ تحصيل العلم بالنبوّة سهل يسير في حقّ كلّ أحد ، وإلّا لم يقع التكليف به ، بخلاف الأحكام الفرعيّة ، لأنّها على كثرتها وتشتّتها يعسر تحصيل اليقين بجميعها ، والوصول إليها على وجه العلم لجميع المكلّفين ، فلا مانع من تجويز الشارع بملاحظة هذا العسر الغالب التعبّد بخبر الواحد في الأحكام الفرعيّة مطلقا ، حتّى في الموارد التي يتيسّر فيها تحصيل العلم بها ، بأن يكون هذا العسر حكمة في تشريع العمل بخبر الواحد.

١٥٤. يرد عليه ـ مضافا إلى ما سيشير إليه ـ أنّ الجهل المركّب إنّما يرد نقضا على المستدلّ إن كان اعتبار العلم من باب جعل الشارع أو إمضائه لما استقلّ

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بعد تسليمه» ، بعد تسليم صحّة الملازمة.

(**) في بعض النسخ : بدل «مثل» ، في.

(***) في بعض النسخ زيادة : في الجملة.

٢٣٨

واخرى : بالحلّ ، بأنّه إن اريد تحريم الحلال (١٥٥) الظاهري أو عكسه فلا نسلّم لزومه ، وإن اريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلّم امتناعه.

______________________________________________________

على اعتباره العقل ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّه بجعل الشارع أو إمضائه يحدث هنا حكم مخالف لما ثبت في الواقع ، وليس كذلك ، لما تقدّم سابقا من كون العلم طريقا عقليّا اضطراريّا منجعلا بنفسه غير قابل للجعل والإمضاء ، وأنّ العمل به إنّما هو لأجل مجرّد انكشاف الواقع على سبيل الجزم.

١٥٥. لا يخفى أنّ محتملات تحريم الحلال في كلام ابن قبة أربعة. أحدها : صيرورة ما هو حلال في الظاهر حراما في الواقع. وثانيها : صيرورة ما هو حلال في الظاهر حراما في الظاهر. وثالثها : صيرورة ما هو حلال في الواقع حراما في الواقع. ورابعها : صيرورة ما هو حلال في الواقع حراما في الظاهر. وممّا ذكرناه يظهر الكلام في محتملات تحليل الحرام.

وحاصل الجواب منع الملازمة على الثلاثة الأوّل ، ومنع بطلان التالي على الرابع. والأوّلان داخلان في صورة الأصل ، بأن أراد بتحريم الحلال الظاهري تحريمه في الظاهر أو الواقع ، والأخيران في صورة العكس. وقوله : «وإن اريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا» كأنّه استثناء في المعنى من منع اللزوم في صورة العكس. وهذا إن أراد بصورة العكس تحريم الحلال الواقعي واقعا أو ظاهرا. وإن أراد بها تحليل الحرام الظاهري واقعا أو ظاهرا لم يكن الثالث مشمولا للعبارة ، بل المشمول لشقّي الترديد حينئذ محتملات خمسة من المحتملات الثمانية المتصوّرة من لزوم تحريم الحلال وتحليل الحرام.

وكيف كان ، لمّا كان منع بطلان التالي في الرابع على إطلاقه ضعيفا ـ لما سيشير إليه من قبح تجويز العمل بالظنّ في صورة الانفتاح على أحد وجهي جعل الطرق الظنّية ـ عدل عن الجواب المذكور إلى ما هو أولى منه.

٢٣٩

والأولى أن يقال : إنّه إن أراد امتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها (١٥٦) باب العلم بالواقع ، فلا يعقل المنع عن العمل به فضلا عن امتناعه ؛ إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع إمّا أن يكون للمكلّف حكم (١٥٧) في تلك

______________________________________________________

١٥٦. بأن يريد امتناع التعبّد بالخبر في صورة الانسداد الأغلبي بالنسبة إلى الموارد التي انسدّ فيها باب العلم وليس المراد احتمال دعوى الاستحالة في خصوص كلّ مسألة انسدّ فيها باب العلم وإن لم يتحقّق هنا انسداد أغلبي كما ربّما يتوهّم من العبارة ، إذ لا دليل حينئذ على إرجاعه إلى العمل بما لا يفيد العلم من الأمارات والاصول ، لإمكان دعوى تعيّن العمل حينئذ بالاحتياط ، إذ المسلّم من عدم وجوبه إنّما هو في صورة الانسداد الأغلبي ، خلافا للمحقّق القمّي قدس‌سره ، كما سيجيء في محلّه إن شاء الله تعالى. وممّا يدلّ على إرادته ما ذكرناه قوله : «بل الظاهر أنّه يدّعي ...» لأنّ المدّعين للانفتاح لا ينكرون الانسداد في بعض الموارد ، وقد صرّح السيّد رحمه‌الله بذلك في بعض كلماته.

١٥٧. فيه تنبيه على أنّ المراد ببقاء التكليف عند تقرير دليل الانسداد ـ بانسداد باب العلم وبقاء التكليف بالضرورة ، كما هو الدائر على الألسنة ـ ليس بقاء التكليف بالأحكام الواقعيّة على ما هي عليها في الواقع ، لاستحالة بقائه كذلك ، لكونه تكليفا بما لا يطاق ، لفرض تعذّر العلم بها ، بل المراد توجّه تكليف إلى المكلّف عند الانسداد في مقابل كونه كالبهائم والمجانين ، وإن دار ذلك بين كونه هو العمل بالمظنونات والمشكوكات والموهومات والعمل بالاصول العمليّة والتقليد والقرعة ونحو ذلك ، ولذا يجب بعد إثبات الانسداد وبقاء التكليف بالمعنى المذكور تمهيد مقدّمة اخرى لإثبات نفي الاحتمالات المذكورة ما عدا العمل بالظنّ. ثمّ إنّ كوننا كالبهائم وإن كان ضروري البطلان ، كما سيجيء عند تقرير دليل الانسداد ، إلّا أنّ المصنّف رحمه‌الله لم يشر إلى بطلانه مماشاة مع الخصم وإلزاما له بما فرّ منه.

٢٤٠