فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

الاجماع المنقول

٤٢١
٤٢٢

ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل : الإجماع المنقول بخبر الواحد (٢٨٠) ، عند كثير ممّن يقول باعتبار الخبر بالخصوص ؛ نظرا إلى أنّه من أفراده فيشمله أدلّته. والمقصود من ذكره هنا (٢٨١) ـ مقدّما على بيان الحال في الأخبار ـ هو التعرّض للملازمة بين حجّية الخبر وحجّيته ، فنقول : إنّ ظاهر أكثر القائلين باعتباره بالخصوص أنّ الدليل عليه هو الدليل على حجّية خبر العادل ، فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند ؛ لأنّ مدّعي الإجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة. ويدخل الإجماع ما يدخل الخبر من الأقسام (٢٨٢)

______________________________________________________

٢٨٠. اعلم أنّ الإجماع إمّا محصّل أو منقول. والمحصّل إمّا قطعيّ أو ظنّي. والمنقول إمّا منقول بالتواتر أو بالآحاد. وما عدا الأخير خارج من محلّ الكلام. والمراد بالمنقول بالتواتر أن يكون عدد المدّعين للإجماع وكذا الطبقات اللاحقة بالغين حدّ التواتر. وقد جعل المصنّف رحمه‌الله ذلك عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بالإجماع من قبيل المحصّل ، فلاحظ وتدبّر. ثمّ إنّي قد بسطت ذيل الكلام في هذه المسألة في كتابنا المسمّى بغاية المأمول ، فمن أراد الوقوف على حقيقة الحال فليراجع هناك ، لأنّا لا نورد هنا إلّا ما دعت الضرورة إلى بيانه.

٢٨١. لا يخفى أنّ الأولى تقديم الكلام في حجّية خبر الواحد على الكلام في الإجماع المنقول ، لأنّ الفرض ابتناء حجّية الثاني على بيان مقدار دلالة أدلّة الأوّل.

٢٨٢. من كونه صحيحا أو موثّقا أو حسنا أو ضعيفا ، أو كونه آحادا أو مستفيضا أو متواترا أو مسندا أو مرسلا ، أو غير ذلك من أقسام الخبر. والوجه في

٤٢٣

ويلحقه ما يلحقه من الأحكام (٢٨٣).

______________________________________________________

الكلّ واضح. نعم ، قد يقال بعدم تأتّي قسم المضمر والمقطوع ، وقد يسمّى بالمنقطع ، وهو الموقوف على الصحابي ومن بحكمه ، وكذا الموقوف ، وهو ما روي عن صاحب المعصوم من غير أن يسنده إلى المعصوم عليه‌السلام في الإجماع المنقول ، لأنّ الثلاثة المذكورة قد اعتبر فيها احتمال كون الرواية عن غير المعصوم مع قطع النظر عن القرائن الخارجة ، بخلاف الإجماع المنقول ، لأنّه نصّ في الدلالة على قول الإمام عليه‌السلام أو رضاه ، سواء كان السند مقطوعا أو مرفوعا أو كان المدّعي له مكنيّا عنه بالضمير. اللهمّ إلّا أن يدعى عروض هذه الأحوال بالنسبة إلى المدّعي بأن يراد بالمضمر ما كنّي فيه عن المدّعي بالضمير ، وبالمقطوع والمرفوع ما أضيفت دعوى الإجماع فيه إلى غير المدّعي ، بأن علم أنّ المدّعي غير من أضيفت إليه وإن لم يعرف المدّعي بشخصه أو اسمه.

٢٨٣. من أحكام التعادل والترجيح ، وتخصيص العامّ منه بخاصّه ، وجواز تخصيص الكتاب به وعدمه ، ونحو ذلك. وفي إطلاق هذا الحكم نظر ، لأنّ حمل العامّ على الخاصّ الصادرين عن متكلّم واحد ، أو متكلّمين في حكم متكلّم واحد ، إنّما هو من جهة أنّ حمل كلّ منهما على ظاهره موجب لإرادة المتنافيين ، وهو خلاف الحكمة ، فتعيّن حمل العامّ على الخاصّ ، لقوّة دلالة الخاصّ. وهذا الوجه غير جار في إجماعين عامّ وخاصّ مع اختلاف مدّعيهما ، لأنّ المدّعي للإجماع على العموم يدّعي العلم برضا الإمام عليه‌السلام به ، والمدّعي له على الخصوص يدّعي العلم برضاه به ، ولا يجري حكم متكلّم واحد عليهما ، لعدم تنافي إرادة أحدهما للعموم بحسب اعتقاده والآخر للخصوص كذلك ، إذ مدّعي العموم ربّما يكون مخطئا في دعواه ، بخلاف اللفظين المسموعين عن الإمام عليه‌السلام ، لأنّ حكمه بالعموم إنّما هو مع كون حكم الخصوص في النظر ، وكونه معصوما من الخطأ.

٤٢٤

والذي يقوى في النظر هو عدم الملازمة بين حجّية الخبر وحجّية الإجماع المنقول ، وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين (٢٨٤):

______________________________________________________

٢٨٤. وجه الحاجة إلى الأمرين أنّه قد تدعى الملازمة بين حجّية الإجماع المنقول وخبر الواحد ، نظرا إلى كون كلّ منهما نقلا لقول المعصوم عليه‌السلام ، فيدلّ على حجّية الأوّل ما يدلّ على حجّية الثاني. فبيّن في الأمر الأوّل أنّ خبر الواحد إخبار عن قول المعصوم عليه‌السلام عن حسّ ، والإجماع المنقول إخبار عنه عن حدس ، وأدلّة أخبار الآحاد إنّما تدلّ على حجّية الأوّل دون الثاني.

وقد تدّعى الملازمة بينهما مع تسليم عدم دلالة أدلّة أخبار الآحاد على حجّية الإخبار عن حدس في الجملة ، نظرا إلى أنّ التحدّس عن اللازم بالملزوم على وجهين ، أحدهما : أن تكون الملازمة بينهما ضروريّة أو عاديّة. وثانيهما : أن تكون اتّفاقيّة. واستلزام اتّفاق فتاوى العلماء أو جماعة منهم لقول الإمام عليه‌السلام قد يكون من قبيل الأوّل ، كاتّفاق فتاوى جميع علماء الأعصار ، وقد يكون من قبيل الثاني ، كما إذا اتّفق حصول العلم بقول الإمام عليه‌السلام من اتّفاق جماعة. وأدلّة أخبار الآحاد إنّما لا تشمل اللوازم الحدسيّة إذا كانت الملازمة اتّفاقيّة ، وإلّا فلا ريب في شمولها لما كانت الملازمة فيه ضروريّة أو عاديّة. ولذا يعدّ الإخبار عن قتل مائة أو قتل أبطال شجعان في قضايا متعدّدة إخبارا عن شجاعة القاتل ، وكذا عن بذل أموال جزيلة في وقايع متكرّرة إخبارا عن سخاوة الباذل ، وهكذا. فأشار في الأمر الثاني إلى أنّ الإجماع في الاصطلاح اتّفاق علماء عصر من الأعصار على أمر ديني ، ولا ريب أنّ ملازمة اتّفاق علماء عصر لموافقة قول الإمام عليه‌السلام مع قطع النظر عن موافقة السابقين واللاحقين ومخالفتهم أو مع ملاحظة مخالفتهم سيّما مع قلّة العلماء المتّفقين في عصر ليست ضروريّة ولا عاديّة ، فلا تشمله أدلّة أخبار الآحاد.

وبعبارة اخرى : أنّ حاصل الأمر الأوّل هو منع الملازمة بين حجّية الخبر والإجماع المنقول باعتبار نقل المنكشف ، وهو قول الإمام عليه‌السلام. وحاصل الأمر الثاني

٤٢٥

الأوّل : أنّ الأدلّة الخاصّة التي أقاموها على حجّية خبر العادل لا تدلّ إلّا على حجّية الإخبار (٢٨٥) عن حسّ ؛

______________________________________________________

هو منع الملازمة بينهما باعتبار نقل السبب الكاشف ، وهو فتاوى المجمعين.

ثمّ إنّ ابتناء الاستكشاف عن قول المعصوم عليه‌السلام باتّفاق العلماء على الحدس واضح ، لأنّ دعوى الإجماع تارة تنشأ من اتّفاق جماعة مجهولي النسب يعلم إجمالا بكون أحدهم الإمام عليه‌السلام. واخرى من اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام من علماء العصر ، فيتحدّس بذلك عن موافقة قول الإمام عليه‌السلام لأقوالهم ، لأنّه رئيسهم ، فلا يصدرون إلّا عن رأيه. وثالثة من اتّفاق من وصل إلينا فتواه من العلماء الماضين. ورابعة من قاعدة اللطف فيما لم يظهر فيه خلاف. وما عدا الأوّل مبنيّ على الحدس ، وهو ممّا نعلم بانتفائه في زمان الغيبة. وقد ذيّلنا الكلام في ذلك في غاية المأمول ، فمن أراد الوقوف على حقيقة الحال فليراجع هناك.

٢٨٥. اعلم أنّ الإخبار إمّا عن الواقع ، أو عن طريقه. وعلى التقديرين إمّا عن نفس الواقع والطريق ، أو عن العلم بهما ، أو الظنّ بهما. وعلى التقادير إمّا أن يكون الواقع وكذا الطريق حسّيين أو حدسيّين. والإخبار عن الواقع الحسّي مثل : مات زيد. وعن طريقه كذلك مثل : سمعت قائلا يقول : مات زيد. وعن الواقع الحدسي مثل : العالم حادث. وعن طريقه كذلك مثل قول القائل : أجمع العلماء على كذا مع التحدّس له عن إخبار جماعة على ما سيأتي. وعن العلم أو الظنّ بالواقع أو طريقه الحسّيين مثل : علمت أو ظننت أنّ زيدا مات ، أو علمت أو ظننت أنّ قائلا يقول كذلك. وعن العلم أو الظنّ بالواقع أو طريقه الحدسيّين مثل : علمت أو ظننت أنّ العالم حادث ، أو علمت أو ظننت أنّ العلماء أجمعوا على كذا مع التحدّس له كما مرّ.

ولا دليل على اعتبار شيء من هذه ـ بمعنى ترتيب آثار الواقع عليه ـ سوى صورتي الإخبار عن الواقع أو طريقه الحسّيين ، لأنّهما المتيقّنان من أدلّة أخبار الآحاد

٤٢٦

لأنّ العمدة من تلك الأدلّة (٢٨٦) هو الاتّفاق الحاصل من عمل القدماء وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، ومعلوم عدم شموله إلّا للرواية المصطلحة. وكذلك الأخبار الواردة في العمل بالروايات. اللهمّ إلّا أن يدّعى : أنّ المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم عليه‌السلام ، ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الإمام عليه‌السلام ؛ ولذا يجوز النقل بالمعنى ، فإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الإمام عليه‌السلام ولو بلفظ آخر ، والمفروض أنّ حكاية الإجماع أيضا حكاية حكم صادر عن المعصوم عليه‌السلام بهذه العبارة التي هي معقد الإجماع أو بعبارة اخرى وجب العمل به. لكن هذا المناط لو ثبت دلّ على حجّية الشهرة بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم بعبارة الفتوى أو بعبارة غيرها ، كما عمل بفتاوى عليّ بن بابويه قدس‌سره ؛ لتنزيل فتواه منزلة روايته ، بل على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الصادر عن الإمام عليه‌السلام ، وسيجيء توضيح الحال إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

كما أفاده المصنّف. وأمّا عدم اعتبار ما عداهما ، فأمّا صورة الإخبار عن الواقع الحدسي فواضح كما بيّنه المصنّف رحمه‌الله. وأمّا صورة الإخبار عن طريق الواقع الحدسي ، فإنّ غاية ما تدلّ عليه أدلة أخبار الآحاد هو تنزيل قول القائل : سمعت كذا ، منزلة المسموع للمخبر ، والفرض أنّها لا تدلّ على اعتبار المسموع الحدسي. نعم ، لو ترتّب أثر شرعيّ على سماع المخبر ترتّب عليه ، إلّا أنّه لا يفيد في ترتيب الآثار الواقعيّة للمسموع.

وأمّا صور الإخبار عن العلم أو الظنّ ، فإنّ غاية ما تدلّ عليه الأدلّة هو تصديق المخبر في إخباره عن علمه أو ظنّه ، والفرض أنّ علم أحد أو ظنّه ليس بحجّة على غيره من المجتهدين. نعم ، لو ترتّب أثر شرعيّ على علمه أو ظنّه ترتّب عليه ، لا آثار ذات المعلوم والمظنون. ثمّ إنّه إن تردّد خبر المخبر عن الواقع بين كون علمه به عن حسّ أو حدس فالأصل هو الحمل على الأوّل ، للغلبة وبناء العقلاء ، فتدبّر.

٢٨٦. ظاهره أنّ العمدة في أدلّة حجّية أخبار الآحاد هو الإجماع العملي. والوجه فيه واضح ، لأنّ ما عداه هو الإجماع القولي ، والآيات ، والأخبار ، و

٤٢٧

وأمّا الآيات : فالعمدة فيها من حيث (٢٨٧) وضوح الدلالة هي آية النبأ ، و

______________________________________________________

العقل. أمّا الأوّل فالحاصل منه غير مفيد ، والمفيد منه غير حاصل ، لأنّ ما تمكن دعوى الإجماع عليه بملاحظة فتاوى العلماء ، أو هي مع ملاحظة الإجماعات المحكيّة ، هي حجّية الخبر في الجملة ، وأمّا صنف خاصّ منه فلا. وأمّا الثاني فلما سيأتي في محلّه من ورود جهات المناقشة ، والاعتراض على دلالة الآيات. وأمّا الثالث فإنّ التمسّك بالأخبار في المقام إنّما يصحّ على تقدير تواترها أو احتفافها بالقرائن القطعيّة ، والأخبار الواردة في المقام إن لوحظ مجموعها فعددها وإن بلغ حدّ التواتر ، إلّا أنّه لا دلالة للجميع على اعتبار صنف خاصّ منها ، وجملة منها وإن دلّت على اعتبار خبر الثقة إلّا أنّها غير متواترة. وأمّا الرابع فلعدم دلالته إلّا على اعتبار الظنّ مطلقا ، لا على اعتبار الخبر أو صنف منه كما هو المدّعى. نعم ، الإجماع الحاصل من عمل القدماء وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام يفيد اعتبار خبر الثقة ، ولذا كان هذا هي العمدة بين الأدلّة.

ثمّ إنّ عدم دلالة الإجماع المذكور على أزيد من اعتبار الخبر المستند إلى الحسّ واضح ، لأنّ المتيقّن من عمل العلماء هو العمل بالأخبار المتداولة المرويّة في الاصول المعتبرة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، وكذا المنساق ممّا دلّ من الأخبار على اعتبار خبر الثقة هو ذلك ، لأنّه الشائع بينهم ، فلا تشمل ما نحن فيه ، لما عرفت سابقا من ابتناء دعوى الإجماع على الحدس.

٢٨٧. لأظهريّتها من بين سائر الآيات ، لتأكّد دلالتها من حيث الوصف والشرط والعلّة. ولذا قد اعتبر المحقّق القمّي رحمه‌الله مفهوم الوصف في الآية ، مع توقّفه في أصل حجّية مفهوم الوصف ، بل قد حكي عن بعض (*) المحقّقين أنّه لو أورد على الآية بألف إيراد فهو لا يقدح في ظهورها في اعتبار خبر العادل.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «هو صاحب كشف الغطاء. منه».

٤٢٨

هي إنّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق ، والظاهر منها ـ بقرينة التفصيل (٢٨٨) بين العادل حين الإخبار والفاسق ، وبقرينة تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالا مساويا ؛ لأنّ الفاسق لا رادع له عن الكذب ـ هو عدم الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، لا وجوب البناء على إصابته وعدم خطائه في حدسه ؛ لأنّ الفسق والعدالة حين الإخبار لا يصلحان مناطا لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه ، وكذا احتمال الوقوع في الندم من جهة الخطأ في الحدس أمر مشترك بين العادل والفاسق ، فلا يصلح لتعليل الفرق به. فعلمنا من ذلك أنّ المقصود من الآية إرادة نفي احتمال تعمّد الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق ؛ لأنّ هذا هو الذي يصلح لإناطته بالفسق والعدالة حين الإخبار. ومنه تبيّن عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسيّة إذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل.

______________________________________________________

٢٨٨. حاصله أنّ الإشكال في اعتبار الإجماع المنقول إنّما هو من حيث احتمال خطأ المدّعي في حدسه ، لا من حيث احتمال تعمّده للكذب ، لأنّ احتمال ذلك في علمائنا الأخيار الذين هم حملة الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وأمنائهم وحججهم على الرعيّة بعدهم منتف قطعا ، لأنّهم أجلّ شأنا وأعظم رتبة من أن يكذبوا على الله تعالى أو على رسوله أو خلفائه المعصومين عليهم‌السلام. والآية الكريمة إنّما تدلّ على اعتبار خبر العادل ووجوب تصديقه فيما أخبر به من حيث احتمال تعمّده للكذب ، لا من حيث احتمال خطائه في حدسه. وتشهد بذلك على ما يستفاد من كلامه وجوه :

أحدها : التفصيل في الحكم بين العادل والفاسق كما هو مقتضى المفهوم شرطا ووصفا ، لأنّ مقتضاه كون علّة وجوب التبيّن كون الجائي بالنبإ فاسقا ، ولا ريب أنّ صفة الفسق إنّما تصلح للعلّية إذا كان الحكم بوجوب التبيّن من حيث احتمال تعمّد الكذب فقط ، نظرا إلى كون صفة العدالة رادعة للعادل عن تعمّده له ، بخلاف صفة الفسق في الفاسق. ولو اريد به وجوب التبيّن عن خبر الفاسق من

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث احتمال الخطأ في خبره لزم كون التعليل بأمر مشترك ، لاشتراك العادل مع الفاسق في احتمال الخطأ ، لأنّ صفة العدالة رادعة عن تعمّد الكذب لا عن الخطأ كما عرفت. وتعليل أحد الحكمين المختلفين بأمر مشترك قبيح ، بل نفي احتمال الخطأ عن الفاسق أولى من نفيه عن العادل ، لما ورد من أنّ «المؤمن غرّ كريم ، والكافر خبّ لئيم».

هذا ، ويرد عليه أنّ غاية ما تدلّ عليه الآية كون علّة وجوب التبيّن عن خبر الفاسق هي صفة الفسق وعدمه عن خبر العادل هي صفة العدالة ، وأمّا كون اختلاف الحكمين لأجل قوّة احتمال تعمّد الكذب في الأوّل بخلافه في الثاني ، أو لأجل مراعاة جهة اخرى ، فلا دلالة للآية على خصوص أحدهما.

فإن قلت : إنّ صفة الفسق تناسب تعمّد الكذب ، لعدم القوّة الرادعة للفاسق ، بخلاف العادل.

قلت : ـ مع أنّ مجرّد المناسبة غير مجد ما لم يكتس اللفظ بسببها ظهورا عرفيّا ، وهو فيما نحن فيه محلّ نظر أو منع ـ إنّ المناسبة فيما سنذكره أيضا محقّقة ، وهو أن يكون اختلاف الحكمين لأجل مراعاة حال العادل والمحافظة على شأنه ومرتبته عند الناس ، وذلك بأن كان المطلوب عند الشارع أوّلا وبالذات هو التوصّل إلى الواقع بالعلم ، إلّا أنّه قد نزّل خبر العادل منزلة الواقع تعبّدا مطلقا ، سواء كان ذلك من حيث احتمال تعمّد الكذب أو من حيث الخطأ لأنّه إن وجب التثبّت في خبره أيضا فربّما تظهر مخالفة خبره للواقع بعد الفحص والتبيّن ، فيفتضح بين الناس ويزول وقعه عن القلوب.

فإن قلت : إنّ افتضاحه مع ظهور المخالفة إنّما هو في صورة ظهور تعمّده للكذب لا مع ظهور خطائه.

قلت : نعم إلّا أنّ هذا إنّما هو مع ظهور كون المخالفة لأجل الخطأ لكن كثيرا ما تشتبه الحال ويتردّد الأمر بين تعمّد الكذب والخطأ ، بل العامّة تحمله

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

حينئذ على التعمّد دون الخطأ فيزول بذلك وقعه عن القلوب ، فالمحافظة على شأن العادل لا تتمّ إلّا مع تصويبه مطلقا. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ نفي احتمال الخطأ في الأخبار مطلقا سواء كان المخبر عادلا أم فاسقا لمّا كان مركوزا في أذهان العقلاء ، فالمنساق من وجوب التبيّن عن خبر الفاسق هو التبيّن من حيث احتمال تعمّد الكذب خاصّة.

وثانيها : التعليل بقوله سبحانه : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً) الآية. ويظهر التقريب فيه ممّا تقدّم ، لأنّ احتمال الوقوع في الندم من حيث احتمال الخطأ مشترك بين العادل والفاسق ، بخلافه من حيث احتمال تعمّد الكذب كما تقدّم. وأنت خبير بأنّ احتمال الخطأ كما أنّه مشترك بينهما ، كذلك احتمال تعمّد الكذب أيضا. وقوّة احتمال الثاني في خبر الفاسق غير مجدية ، لأنّ العلّة هي احتمال الإصابة مع الجهالة المورثة للندم ، لا قوّة احتمالها في خبر الفاسق وضعفه في خبر العادل. ولذا اعترف المصنّف رحمه‌الله عند الاستدلال بالآية على حجّية خبر الواحد بأنّ العلّة إن تمّت إنّما تدلّ على عدم حجّية خبر العادل أيضا ، بتقريب أنّ مفهوم الشرط يدلّ على اعتباره ، والعلّة تنفيه ، وظهور العلّة أقوى من ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم ، فبها ترفع اليد عن المفهوم. وما يظهر من المصنّف رحمه‌الله هنا من كون احتمال الوقوع في الندم في خبر الفاسق احتمالا مساويا ، بخلافه في خبر العادل ، فمع عدم اطّراده غير مجد كما عرفت.

وثالثها : إطباق الاصوليّين على اشتراط الضبط في الراوي ، بل الفقهاء في الشاهد ، فلو كانت الآية مطلقة لم يبق وجه للاشتراط بعد عدم ظهور دليل مقيّد لإطلاقها.

ورابعها : عدم استدلالهم على حجّية فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ ، مع استدلالهم عليها بآيتي النفر والسؤال.

٤٣١

فإن قلت : إنّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبول (*) الخبر ؛ لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمّد الكذب ، فيجب التبيّن في خبر العادل أيضا لاحتمال خطائه وسهوه ؛ وهو خلاف الآية المفصّلة بين العادل والفاسق ، غاية الأمر وجوبه في خبر الفاسق من جهتين وفي العادل من جهة واحدة. قلت : إذا ثبت بالآية عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، ينفى احتمال خطائه وغفلته واشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحسّ ؛ وهذا أصل عليه إطباق العقلاء والعلماء في جميع الموارد. نعم ، لو كان المخبر ممّن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يعبأ بخبره ؛ لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه ؛ ولذا يعتبرون في الشاهد والراوي الضبط ، وإن كان ربّما يتوهّم الجاهل ثبوت ذلك من الإجماع ، إلّا أنّ المنصف يشهد بأنّ اعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجيّ مخصّص لعموم آية النبأ ونحوها ممّا دلّ على وجوب قبول قول العادل ، بل لما ذكرنا من أنّ المراد بوجوب قبول قول العادل رفع التهمة عنه من جهة احتمال تعمّده الكذب ، لا تصويبه وعدم تخطئته أو غفلته.

ويؤيّد ما ذكرنا : أنّه لم يستدلّ أحد من العلماء على حجّية فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ ، مع استدلالهم عليها بآيتي النفر والسؤال (١). والظاهر : أنّ ما ذكرنا ـ من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلّة قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد ـ هو الوجه فيما ذهب إليه المعظم (٢) ، بل أطبقوا عليه كما في الرياض (٣) من عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحسّ ، وإن علّله في الرياض بما لا يخلو عن نظر : من أنّ الشهادة من الشهود وهو الحضور ، فالحسّ مأخوذ في مفهومها.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الإخبار عن حدس واجتهاد ونظر ليس حجّة إلّا على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام الشرعيّة ، وأنّ الآية ليست عامّة لكلّ خبر ودعوى خرج ما خرج.

فإن قلت : فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمّده للكذب فيه ، تقبل شهادته فيه ؛ لأنّ احتمال تعمّده للكذب منتف بالفرض ، واحتمال غفلته وخطائه

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «قبول» ، مقبولية.

٤٣٢

منفيّ بالأصل المجمع عليه ، مع أنّ شهادته مردودة إجماعا. قلت : ليس المراد ممّا

______________________________________________________

وخامسها : إطباق الفقهاء على عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحسّ بل إلى العلم والحدس.

فإن قلت : إنّ اشتراط الحسّ في الشهادة لعلّه لأجل قوله عليه‌السلام لمن أراه الشمس : «على مثلها فاشهد أو دع» لا لعدم إطلاق الآية بالنسبة إلى نفي احتمال الخطأ في الحدس.

قلت : إنّ هذا الخبر وما في معناه مجمل ، إذ كما يحتمل إرادة المثليّة في كون المشهود به مرئيّا ومحسوسا كذلك يحتمل إرادة المثليّة في حصول العلم بالمشهود به مطلقا.

فإن قلت : لعلّ اشتراط الحسّ فيها لأجل أنّ الشهادة مأخوذة من الشهود ، وهو الحضور كما ذكره صاحب الرياض.

قلت : نمنع الدلالة ، لكثرة استعمال الشهادة في غير المحسوسات أيضا ، كالشهادة بوجوده تعالى ورسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحوهما. وهذا هو المراد بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من وجه النظر.

وهنا وجه سادس ، وهو أنّه لو لم يكن المراد بالآية وجوب التبيّن عن خبر الفاسق لأجل مجرّد احتمال تعمّده للكذب ، بل كان المراد بها وجوب التبيّن عن خبره مطلقا ، سواء كان من جهة ذلك أو من سائر الجهات ، كاحتمال الخطأ والنسيان وإرادة المجاز ، كان اللازم حينئذ عدم حجّية خبر الفاسق مع العلم بصدقه أيضا مع بقاء سائر الاحتمالات في كلامه ، وحجّية خبر العادل مع طرق هذه الاحتمالات على كلامه وإن لم يعلم صدقه ، ولا يلتزمه أحد ، لوضوح عدم وجوب الفحص عن سائر الجهات.

٤٣٣

ذكرنا عدم (٢٨٩) قابليّة العدالة والفسق لإناطة الحكم بهما وجودا وعدما تعبّدا كما في الشهادة والفتوى ونحوهما ـ بل المراد أنّ الآية المذكورة لا تدلّ إلّا على مانعيّة الفسق من حيث قيام احتمال تعمّد الكذب معه ، فيكون مفهومها عدم المانع في العادل من هذه الجهة ، فلا يدلّ على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفي خطائه بأصالة عدم الخطأ المختصّة بالأخبار الحسيّة ، فالآية لا تدلّ أيضا على اشتراط العدالة ومانعيّة الفسق في صورة العلم بعدم تعمّد (*) الكذب ، بل لا بدّ له من دليل آخر ، فتأمّل.

______________________________________________________

٢٨٩. محصّل ما ذكره في معنى الآية الشريفة كونها منساقة لبيان اشتراط العدالة ومانعيّة الفسق في العمل بخبر المخبر ، لأجل انتفاء احتمال تعمّد الكذب في العادل بحكم الشارع ، وبقاء هذا الاحتمال في الفاسق ، ساكتة عن بيان وجوب التبيّن عن خبرهما وعدمه من سائر الجهات ، مثل احتمال الخطأ والنسيان ونحوهما. فكأنّه قال : يجب عليكم التبيّن عن خبر الفاسق من هذه الجهة ، ولا يجب التبيّن عن خبر العادل من هذه الجهة. ومقتضاه عدم اشتراط العدالة في مورد انتفى فيه احتمال تعمّد الكذب عن خبر الفاسق ، ولكن لا ينافيه اشتراطها تعبّدا في بعض الموارد بدليل خارج ، كما في الشهادة والفتوى. وكذا مقتضاه عدم دلالتها على اعتبار خبر العادل من حيث احتمال الخطأ والنسيان ونحوهما ، فيشاركه خبر الفاسق من هذه الجهة ما لم يقم دليل على نفيهما فيه. وكذا لو احتمل اشتراط شيء آخر في حجّية الخبر سوى العدالة ، كما إذا احتمل اشتراط تعدّد المخبر فيها كالشهادة ، فإنّ مقتضى ما حقّق به المقام عدم نهوض الآية لنفي هذه الاحتمالات ، فتكون الآية حينئذ قضيّة مجملة مهملة من غير جهة بيان نفي احتمال تعمّد الكذب في خبر العادل.

هذا ، ولكنّ المنصف الناظر في ظاهر الآية ـ بناء على اعتبار المفهوم فيها وصفا أو شرطا ـ يقطع بكون ذلك خلاف ظاهر الآية ، لوضوح ظهورها في بيان

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «تعمّد» ، تعمّده.

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

حجّية خبر العادل ، وكون عدالة المخبر علّة تامّة لجواز قبول خبره ، وذلك لما قرّرناه في محلّه من ظهور الجملة الشرطيّة ـ وكذا الوصفيّة بناء على اعتبار مفهوم الوصف ـ في كون الشرط علّة تامة للجزاء والوصف للحكم.

فإن قلت : كيف تدّعي ظهورها في المقام في العلّية التامّة ، والتعليل والتفصيل بين العادل والفاسق يقتضيان ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، من ورودها لمجرّد بيان نفي احتمال تعمّد الكذب عن خبر العادل دون الفاسق ، دون احتمال الخطأ والنسيان ، لاشتراكهما في ذلك؟ فلو شملت العلّة مثل ذلك أيضا لزم التعليل والترجيح بأمر مشترك ، وهو قبيح ، بل أقبح من الترجيح بلا مرجّح.

قلت : قد تقدّم سابقا ما في استشهاد العلّة والتفصيل. نعم ، هنا شيء آخر ، وهو أنّ ما احتمل اشتراطه في حجّية الخبر شرعا قسمان : قسم استقرّ بناء العقلاء على اعتباره وجودا أو عدما في عملهم بأخبارهم غير العلميّة. وقسم لو ثبت كان شرطا تعبّديا لا بدّ من بيان الشارع له ، مثل احتمال اعتبار تعدّد المخبر ، كما في الشهادة ونحو ذلك. والآية بإطلاقها تنفي الثاني دون الأوّل ، لأنّ الشروط المعتبرة في نظر العقلاء لا يجب على الشارع بيانها لو كانت معتبرة عنده. فإذا ورد إطلاق دليل فهو لا يدلّ على نفي شرطيّة مثله ، إذ لا يقبح إيراد الكلام على وجه الإطلاق مع كون المطلوب مشروطا في الواقع بما كانت شرطيّته مركوزة في نظر المخاطب. نظير ما ذكره بعض المحقّقين من عدم دلالة إطلاق الدليل على نفي شرطيّة ما هو حاصل للمخاطب حين الخطاب ، نظرا إلى منع قبح إيراد الكلام على وجه الإطلاق مع كون المطلوب مشروطا في الواقع بما هو حاصل في المخاطب ، كما لو قال للمستطيع : حجّ من دون بيان اشتراط وجوبه بالاستطاعة ، أو قال للمستجمع لشرائط الصلاة : صلّ من دون بيان الشرطيّة ، وهكذا. واحتمال مانعيّة احتمال الخطأ والنسيان فيمن يندر منه ذلك من هذا القبيل ، لكون عدم مانعيّة ذلك مركوزا في أذهانهم مثل ركوز مانعيّة احتمال ذلك ممّن يكثر منه ذلك. فإطلاق

٤٣٥

الأمر الثاني : أنّ الإجماع في مصطلح الخاصّة بل العامّة ـ الذين هم الأصل له (٢٩٠) وهو الأصل لهم ـ هو : اتّفاق جميع العلماء في عصر ؛ كما ينادي بذلك تعريفات كثير من (*) الفريقين (٤). قال في التهذيب : الإجماع هو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

______________________________________________________

الآية لا ينفي احتمال مانعيّة مثل ذلك مطلقا ما لم يثبت دليل على نفيه من الخارج ، كما ثبت إجماع العقلاء فضلا عن العلماء على نفي احتمال الخطأ والنسيان ممّن لا يكثر منه ذلك.

وأمّا القسم الثاني ، فإطلاق الآية ينفيه لا محالة ، إذ لو كان شرطا فلا بدّ من بيانه وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. وحينئذ يكون ما اشترط في ظاهر الآية من اعتبار العدالة مع ما هو مركوز في نظر العقلاء علّة تامّة لقبول الخبر ، وينفي احتمال غيره بإطلاقها.

وممّا ذكرناه قد ظهر أنّ الأولى تسليم ظهور الجملة الشرطيّة في كون الشرط علّة تامّة للجزاء ، والجواب عمّا أورده المصنّف رحمه‌الله على نفسه بما قدّمناه ، لا منع إطلاق الآية. وأثر الفرق بين ما ذكرناه وما ذكره المصنّف رحمه‌الله يظهر في نفي الشرائط التعبّدية وعدمه بإطلاق الآية ، فيصح على ما ذكرناه دون ما ذكره ، كما يظهر بالتأمّل فيما ذكرناه. ولعلّه بالأمر بالتأمّل أشار إلى ما ذكرناه ، أو إلى استبعاد أن يكون اشتراط الضبط في الشاهد على القاعدة ، وعدم قبول شهادة الفاسق مع العلم بعدم كذبه على خلافها ، مع كون اعتبار كلّ من الضبط والعدالة في قبول الشهادة على سياق واحد.

٢٩٠. لأنّهم السابقون فيه على الشيعة ، كما حكي عن المرتضى من أنّهم لمّا ذكروا الإجماع فعرضوه علينا فوجدناه حقّا فقبلناه. وأمّا كونه أصلا لهم فلكونه مبنى دينهم ، لأنّ عمدة أدلّتهم على خلافة ابن أبي قحافة إجماع الامّة عليها على

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «تعريفات كثير من» ، كثير من تعريفات.

٤٣٦

وقال صاحب غاية البادى ـ شارح المبادئ الذي هو أحد علمائنا المعاصرين للعلّامة قدس‌سره ـ : الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام هو اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه يشتمل على قول المعصوم ، انتهى. وقال في المعالم : الإجماع في الاصطلاح اتّفاق خاصّ ، وهو اتّفاق من يعتبر قوله من الامّة (٦) ، انتهى. وكذا غيرها من العبارات (٢٩١) المصرّحة بذلك (٧) في تعريف الإجماع وغيره من المقامات ، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بانقراض عصره (٨).

______________________________________________________

زعمهم. وقال المولى الفاضل البارع الآغا محمد علي بن الوحيد البهبهاني في كتابه المسمّى بسنّة الهداية : «به خاطر دارم كه در شرح مواقف ويا مقاصد تصريح نموده به اينكه در إجماع كثرت معتبر نيست ، بلكه حقّ آن است كه إجماع به موافقت يك نفر محقّق مى شود ، چنانكه خلافت أبو بكر به بيعت عمر به تنهايى ثابت شد» انتهى ، أى طالب حق چشم بصيرت گشا ....

٢٩١. عرّفه الغزالي بأنّه اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر من الامور الدينيّة. والحاجبي : بأنّه اجتماع المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر. والفخر الرازي : بأنّه اتّفاق الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر من الامور. وبعض الشافعيّة بأنّه : اتّفاق مجتهدي أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته في عصر من الأعصار على أيّ أمر كان ممّا اجتهدوا فيه.

وأكثر هذه التعريفات وما نقلها المصنّف رحمه‌الله وإن خلا عن قيد اتّحاد العصر إلّا أنّه مراد جزما ، إذ لو كان المراد اتّفاق الجميع بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة لم يتحقّق بعد إجماع ، مع أنّ الظاهر من اتّفاق الامّة أو المجتهدين أو الحلّ والعقد هو اتّفاق الموجودين في عصر الإجماع لا اتّفاقهم مع من مضى أو يأتي. وأمّا اعتبار قيد الجميع فظاهر.

نعم ، ظاهر جملة من هذه التعاريف اعتبار اتّفاق جميع الامّة لا خصوص المجتهدين منهم. وتساعده الأدلّة الّتي أقاموها على حجّية الإجماع ، مثل قوله تعالى :

٤٣٧

ثمّ إنّه لمّا كان (٢٩٢) وجه حجّية الإجماع عند الإماميّة اشتماله على قول الإمام عليه‌السلام ، كانت الحجّية دائرة مدار وجوده عليه‌السلام في كلّ جماعة هو أحدهم ؛ ولذا قال

______________________________________________________

(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» ونحوهما ، إذ ظاهر هذه الأدلّة اعتبار اتّفاق جميع الامّة لا خصوص المجتهدين. منهم ، فلا مستند للتقييد بخصوصهم. ويؤيّده ما تمسّكوا به في خلافة أبي بكر من الإجماع ، لعدم اختصاصه بالمجتهدين. نعم ، ظاهر الأكثر عدم العبرة بدخول غيرهم في الإجماع.

ثمّ إنّ بعض الشافعيّة قد صرّح بأنّ المراد بالحلّ والعقد هم المجتهدون. وقيل : ما يشملهم وسائر من كان حلّ الامور وفتقها بيده ، كالقضاة المنصوبة من قبل السلطان عند العامة.

ثمّ إنّ النسبة بين مصطلح العامّة وقدماء أصحابنا بحسب المفهوم وإن كانت هي التساوي ، لأنّ الكلّ قد اعتبروا فيه اتّفاق علماء الامّة وإن اختلفوا في وجه اعتباره وإنّه من حيث عصمة المجموع أو عصمة بعضهم وهو الإمام عليه‌السلام ، إلّا أنّ النسبة بينهما بحسب المصداق ـ على زعم كلّ منهما في تطبيق هذا المفهوم عليه ـ عموم من وجه ، لاجتماعهما في اتّفاق جميع علماء الامّة حتّى الإمام عليه‌السلام. وافتراق الأوّل في صدقه على اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام ، بناء على إنكارهم له في أمثال هذه الأعصار ، وعلى اتّفاق من عدا الشيعة على ما صرّح به العضدي من عدم قدح خروجهم في انعقاد الإجماع. وافتراق الثاني في صدقه على اتّفاق طائفة أحدهم الإمام عليه‌السلام ، وإن خالفهم باقي المجتهدين. هكذا قيل. وفيه تأمّل.

هذا كلّه على اصطلاح القدماء. وأمّا المتأخّرون فالإجماع عندهم هو اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام ، وإن اختلفوا في وجه اعتباره ، فعند الشيخ من حيث كشفه عن تقريره من باب اللطف ، وعند غيره من حيث كشفه عن رضاه. وبين المذهبين فرق من جهة اخرى أيضا ، لأنّ المعتبر عند الشيخ اتّفاق علماء عصر واحد ، بخلاف غيره.

٢٩٢. لمّا كان المقصود من ذكر هذا الأمر الثاني بيان أنّ لفظ الإجماع حيثما يطلق فهو ظاهر في دعوى اتّفاق جميع علماء عصر واحد ، لما صرّح به من كونه

٤٣٨

السيّد المرتضى : إذا كان علّة كون الإجماع حجّة كون الإمام فيهم ، فكلّ جماعة ـ كثرت أو قلّت ـ كان قول الإمام في أقوالها ، فإجماعها حجّة ، وأنّ خلاف الواحد والاثنين إذا كان الإمام أحدهما ـ قطعا أو تجويزا ـ يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا ، وأنّ الإجماع بعد الخلاف كالمبتدإ في الحجّية (٩) ، انتهى. وقال المحقّق في المعتبر ـ بعد إناطة حجّية الإجماع بدخول قول الإمام عليه‌السلام ـ : إنّه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجّة ، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة (١٠) ، انتهى. وقال العلّامة رحمه‌الله ـ بعد قوله : إنّ الإجماع عندنا حجّة لاشتماله على قول المعصوم ـ : وكلّ جماعة ـ قلّت أو كثرت ـ كان قول الإمام عليه‌السلام في جملة أقوالها فإجماعها حجّة لأجله ، لا لأجل الإجماع ، انتهى. هذا ، ولكن لا يلزم من كونه حجّة تسميته إجماعا في الاصطلاح ، كما أنّه ليس كلّ خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح. وأمّا ما اشتهر بينهم : من أنّه لا يقدح خروج معلوم النسب واحدا أو أكثر ، فالمراد أنّه لا يقدح في حجّية اتّفاق الباقي ، لا في تسميته إجماعا ، كما علم من فرض المحقّق قدس‌سره الإمام عليه‌السلام في اثنين.

نعم ، ظاهر كلمات جماعة يوهم تسميته إجماعا (*) ؛ حيث تراهم يدّعون الإجماع في مسألة ثمّ يعتذرون عن وجود المخالف بأنّه معلوم النسب. لكنّ التأمّل الصادق يشهد بأنّ الغرض الاعتذار عن قدح المخالف في الحجّية ، لا في التسمية.

______________________________________________________

مصطلحا في هذا المعنى ، أراد أنّ يشير هنا إلى أنّ ما ترى من إطلاق الإجماع على اتّفاق جماعة أحدهم الإمام عليه‌السلام قلّوا أو كثروا ، أو على اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام ، فهو مجاز لا يصدم في ظهوره في المعنى المصطلح عليه عند عدم قيام القرينة على خلافه. وثمرة ذلك تظهر في اعتبار الإجماع المنقول من حيث الكاشف ، دون المنكشف ، لما تقدّم في الأمر الأوّل من عدم الدليل على اعتباره من حيث كونه نقلا لقول الإمام عليه‌السلام. وستقف على حقيقة الحال في ذلك.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : في الاصطلاح.

٤٣٩

نعم ، يمكن أن يقال : إنّهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع على اتّفاق الجماعة التي علم دخول الإمام عليه‌السلام فيها ؛ لوجود مناط الحجّية فيه وكون وجود المخالف غير مؤثّر شيئا. وقد شاع هذا التسامح بحيث كاد أن ينقلب اصطلاح الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة إلى ما يعمّ اتّفاق طائفة من الإماميّة ، كما يعرف من أدنى تتّبع لموارد الاستدلال.

بل إطلاق لفظ «الإجماع» بقول مطلق على إجماع الإماميّة فقط ـ مع أنّهم بعض الامّة لا كلّهم ـ ليس إلّا لأجل المسامحة ؛ من جهة أنّ وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجّية.

وعلى أيّ تقدير : فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام عليه‌السلام في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمّن ، فيكون الإخبار عن الإجماع إخبارا عن قول الإمام عليه‌السلام ، وهذا هو الذي يدلّ عليه كلام المفيد (١١) والمرتضى وابن زهرة والمحقّق (١٢) والعلّامة والشهيدين (١٣) ومن تأخر عنهم (١٤).

وأمّا اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام بقاعدة اللطف كما عن الشيخ رحمه‌الله (١٥) ، أو التقرير كما عن بعض المتأخّرين (٢٩٣) ، أو بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الإمام عليه‌السلام ، فهذا ليس إجماعا اصطلاحيّا ، إلّا أن ينضمّ قول الإمام عليه‌السلام ـ المكشوف عنه باتّفاق هؤلاء ـ إلى أقوالهم ، فيسمى المجموع «إجماعا» بناء على ما تقدّم من المسامحة في تسمية اتّفاق جماعة مشتمل على قول الإمام عليه‌السلام إجماعا وإن خرج عنه الكثير أو الأكثر فالدليل في الحقيقة هو اتّفاق من عدا الإمام عليه‌السلام والمدلول الحكم الصادر عنه عليه‌السلام نظير كلام الإمام عليه‌السلام ومعناه.

______________________________________________________

٢٩٣. هذا ما ذكره بعض المتأخّرين في مقام الانتصار لطريقة الشيخ على ما حكي عنه ، لأنّ الاستكشاف عن رضا المعصوم عليه‌السلام فيما ظهر بين الامّة قول ولم يظهر فيه مخالف ، تارة من حيث وجوب الردع عن الباطل على الإمام عليه‌السلام لو كان ما اشتهر باطلا في الواقع ، واخرى من حيث تقريرهم ما اشتهر بينهم. والحاصل :

٤٤٠