فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل (١٨) : أنّه قد عرفت أنّ القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لأحكام مقطوعه ، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها ، فيقطع بالنتيجة ، فإذا قطع بكون شيء خمرا وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشيء.

لكنّ الكلام في أنّ قطعه هذا هل هو حجّة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله ، فيعاقب على مخالفته أو أنّه حجّة عليه إذا صادف الواقع؟ بمعنى أنّه

______________________________________________________

١٨. اعلم أنّ ظاهر كلام المصنّف قدس‌سره أنّ هذا التنبيه من فروع اعتبار القطع من باب الطريقيّة المحضة التي قد عرفت الكلام في كيفيّتها وثمرتها. وليعلم هنا امور :

أحدها : أنّه إذا فرض كون الحكم الواقعي مرتّبا على الموضوع الواقعي ، واعتبر القطع من باب الطريقيّة المحضة لإثبات أحكام متعلّقه ، فلا ريب أنّ القاطع بالحكم حينئذ يحصل عنده كبرى كلّية لصغرى حصّلها بالوجدان ، فيحصل له القطع بالنتيجة ، وقد تقدّم سابقا أنّ القاطع إذا اعتبر قطعه من باب الطريقيّة المحضة لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لأحكام متعلّق قطعه. فحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون قطعه مصادفا للواقع أو مخالفا له. وعلى الثاني إمّا أن يعمل بمقتضى قطعه أو لا. وموضوع المسألة ومورد الأقوال نفيا وإثباتا وتوقّفا في

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

حرمة التجرّي وترتّب العقاب على الفعل المتجرّى به هو القسم الثالث ، ولكن مقتضى المقابلة بينه وبين القسم الثاني هو جريان الأقوال المذكورة في القسم الثاني أيضا ، من حيث الحكم بوجوب الفعل الذي قطع بوجوبه أو حرمته كذلك ، وترتّب الثواب على إتيان الفعل الذي اعتقد كونه مأمورا به أو على ترك الفعل الذي اعتقد كونه منهيّا عنه. وعدم تعميم المصنّف لعنوان المسألة بما يشمل ذلك أيضا إمّا لمعلوميّة ذلك بحكم المقابلة والمقايسة ، وإمّا لاختصاص مورد الأقوال بالقسم الثالث ، لعدم تعرّضهم لغيره.

وأمّا القسم الأوّل فالظاهر أنّه لا أثر للقطع فيه عندهم سوى ما يترتّب على مطابقة نفس الواقع ومخالفته.

وثانيها : أنّك قد عرفت أنّ ظاهر كلام المصنّف كون هذا التنبيه من فروع اعتبار القطع من باب الطريقيّة المحضة ، وأمّا ما عداها من أقسامه ، أعني : ما كان القطع فيه جزءا من الحكم الواقعي مع اعتباره من باب الكشف عن متعلّقه أو من باب الصفة الخاصّة ، فالظاهر جريان حكم التجرّي فيهما أيضا في الجملة. وذلك فإنّه إذا أخذ القطع جزءا من موضوع الحكم الواقعي مع اعتبار كشفه عن متعلّقه فلا يخلو : إمّا أن يكون موضوع الحكم الواقعي هو مطلق الانكشاف ، سواء صادف الواقع أم لا ، فحينئذ لا مسرح لحكم التجرّي هنا ، فإنّ موضوع الحكم الواقعي حينئذ هو مطلق الانكشاف وقد حصل. وإمّا أن يكون الموضوع هو نفس الواقع مقيّدا بصفة الانكشاف ، فإذا فرض كون النجاسة والحرمة محمولتين في الواقع على الخمر الواقعي المنكشف لا ما كان خمرا في اعتقاد المعتقد ، فإذا اعتقد الخلّ خمرا يجري فيه حكم التجرّي كما هو واضح.

وممّا ذكرناه يظهر حال ما لو كان القطع فيه معتبرا من باب الصفة الخاصّة ، لجريان القسمين فيه أيضا. وإنّما لم يتعرّض المصنّف لهذين القسمين من القطع في المقام إمّا لوضوح حالهما ، وإمّا لقلّة وجودهما في الأحكام ، بل لم يوجد في

٦٢

لو شرب الخمر الواقعي عالما عوقب عليه في مقابل من شربها جاهلا ، لا أنّه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا وإن لم يكن خمرا في الواقع.

ظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاق على الأوّل ؛ كما يظهر من دعوى جماعة (١) الإجماع (١٩)

______________________________________________________

الأحكام الفرعيّة ما يكون القطع فيه معتبرا من باب الصفة الخاصّة كما قدّمناه سابقا.

وثالثها : أنّك قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ موضوع البحث في كلام المصنف إنّما هو القطع الطريقي الذي لم يصادف الواقع ، من حيث إنّه بواسطته هل يترتّب على المعتقد حكم واقعيّ يناسبه أم لا؟ فإذا اعتقد ماء الرمّان خمرا ، فهل يحكم بواسطة هذا الاعتقاد بحرمة هذا المائع الخارجي ، أم يكون الحكم تابعا للواقع؟ وكذا لو اعتقد وجوب دعاء رؤية الهلال مع عدم وجوبه في الواقع.

والحاصل : أنّ محلّ الخلاف هو الحكم بحرمة هذا الفعل أو وجوبه. وأمّا مجرّد كشف هذا الفعل عن خبث سريرة فاعله وفساد طينته فممّا لا إشكال بل لا خلاف فيه ظاهرا ، كما أنّه لا إشكال بل لا خلاف أيضا في أنّ الفعل مع قطع النظر عن الاعتقاد وتجرّده عنه لا يحكم عليه بما كان يحكم عليه مع الاعتقاد ممّا يناسبه.

١٩. ذلك يظهر منهم في الاصول والفروع ، فقد حكي عن الحاجبي والآمدي والفاضل الجواد في شرح الزبدة والفاضل الصالح المازندراني في حاشية المعالم والمحقّق القمّي في قوانينه دعوى الاتّفاق على ما ذكره في مسألة الواجب الموسّع ، بل عن القاضي الباقلّاني المصير إلى كون الصلاة حينئذ قضاء ، نظرا إلى وقوعها بعد الوقت بحسب ظنّه. وفي كشف اللثام في شرح قول الفاضل «لو ظنّ التضييق عصى لو أخّر» قال : «إجماعا كما في المنتهى». مضافا إلى ما نقله المصنّف من عدم الخلاف في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر. وقال المحقّق في المعتبر : «لو خشي على نفسه لصّا أو سبعا تيمّم ولا إعادة ـ إلى أن قال ـ : ولو ظنّ مخوفا فتيمّم وصلّى ثمّ بان فساد ظنّه فلا إعادة». ثمّ نسب الخلاف في ذلك إلى أحمد في إحدى الروايتين. وحكي عنه أيضا الحكم ببطلان الغسل إذا ظنّ إضرار استعمال الماء فاغتسل ثمّ بان فساد ظنه. ولا ريب أنّ التعبير بالظنّ في هذه العبارات لبيان أدنى فردي الرجحان كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله ، فيشمل القطع أيضا.

فإن قلت : لا دلالة لشيء ممّا ذكر على المدّعى من ترتيب الشارع على الاعتقاد المجرّد عن الواقع ما يناسبه من الأحكام ، مع فرض كون الاعتقاد مجرّد طريق إلى الواقع كما هو الفرض في المقام ، إذ حرمة التأخير في مسألة ظنّ الضيق ، وحرمة السفر في السفر المظنون الخطر ، وكذلك جواز التيمّم وعدم الإعادة في صورة ظنّ المخوف ، مترتّبة في الواقع على ظنّ الضرر ، فالظنّ جزء من موضوع الحكم الواقعي في هذه الموارد ، فإذا تحقّق يترتّب عليه ما ذكر من الأحكام في الواقع ، سواء كان الظنّ مصادفا للواقع أم لا ، فلا تكون في تلك الفتاوى دلالة على الالتزام بترتّب حكم على الاعتقاد المجرّد عن الواقع مع عدم ترتّبه على المعتقد في الواقع.

قلت : الظاهر أنّ الظنّ عند العلماء في الموارد المذكورة معتبر من باب الطريقيّة إلى الواقع لا جزء موضوع من الحكم الواقعي. ويشهد له أمران ، أحدهما : حكمهم في الشبهة المحصورة بوجوب الاجتناب عن أطرافها ، ولا ريب أنّ حرمة ارتكاب بعض أطراف الشبهة إنّما هي لمجرّد احتمال ارتكاب الحرام الواقعي المستعقب للعقاب الاخروي ، فمنشؤها حكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي حيث يحتمل فيه ذلك.

وهذا هو الدليل في الموارد المتقدّمة ، فإنّ مرجع الجميع إلى وجوب دفع الضرر ، غاية الأمر أنّه في المضارّ الدنيويّة إنّما يحكم بوجوب دفع الضرر المظنون دون المحتمل ، إذ المضارّ الدنيويّة المحتملة الكثيرة لا يمكن التحرّز عنها ، فالعقل إنّما يحكم بالتحرّز عن المظنون منها ، بخلاف المضارّ الاخرويّة ، فإنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط في مواردها إنّما هو لمجرّد احتمال العقاب لو اقتصر على مجرّد الموافقة الاحتماليّة. وأمّا عدم الاعتناء

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بذلك في موارد أصالة البراءة كالشبهات البدويّة فإنّما هو لكون العقل قاطعا بعدم العقاب فيها ، لقضيّة قبح التكليف بلا بيان ، وإلّا لكان الاحتياط فيها لازما أيضا. والضرر المظنون في مسألة ضيق الوقت وإن كان اخرويّا أيضا إلّا أنّ توسعة الشارع في الوقت مع احتمال الضيق بموت ونحوه لعامّة الناس دليل على عدم اعتناء الشارع بمجرّد الاحتمال فيها أيضا. ولذا لو أخّر وفاجأه الموت في الوقت لم يكن عاصيا.

وبالجملة ، أنّه لا إشكال في أنّ احتمال الضرر في موارد الاحتياط إنّما اعتبر في حكم العقل من باب الطريقيّة إلى الواقع لا جزءا من موضوع الحكم العقلي ، فلا يترتّب عليه أثر شرعيّ على تقدير عدم المصادفة للواقع إلّا على القول بحرمة التجرّي. فكذلك الظنّ في الموارد المتقدّمة ، فإنّ مرجع الجميع إلى أمر واحد كما عرفت.

وثانيهما : إنّ الفقهاء إنّما جعلوا من مسوّغات التيمّم نفس الضرر كما لا يخفى على من لاحظ كلماتهم ، وإنّما جعلوا الظنّ والعلم طريقا إليه ، فالمسوّغ عندهم هو نفس الضرر لا الظنّ أو العلم به كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ العدليّة قد ذكروا في الاستدلال على وجوب شكر المنعم أنّ في تركه احتمال المضرّة ، أعني : العقاب الاخروي ، وجعلوا ثمرة وجوب شكره وعدم وجوبه استحقاق العقاب وعدمه لمن لم يبلغه دعوة نبيّ زمانه وترك الفحص عنه ، فالحكم بعقاب تارك الفحص ـ لأجل استلزام تركه ترك الشكر ، المتوقّف على معرفة أحكام شرعه ـ يستلزم حكمهم باستحقاق العقاب بمجرّد احتمال الضرر الاخروي ، إذ الفرض أنّ حرمة ترك الفحص لأجل استلزامه ترك الشكر الواجب ، ووجوب الشكر أيضا لأجل احتمال العقاب في تركه ، فحرمة ترك الفحص لأجل احتمال العقاب الاخروي لا محالة. وإطلاق حكمهم بذلك يستلزم كون مجرّد احتمال العقاب الاخروي منشأ لحكم شرعيّ مطلقا صادف الواقع أم لا ، وهو ينافي ما تقدّم من منع كون مجرّد احتمال الضرر الاخروي منشأ لحكم شرعيّ يترتّب على مخالفته العقاب على تقدير عدم المصادفة للواقع.

قلت : إنّ حكمهم باستحقاق تارك الشكر بمجرّد احتمال الضرر في تركه لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ، بمعنى أنّ تشريع الأحكام ووجود نبيّ في كلّ زمان ووجوب

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

شكر المنعم لكلّ أحد لمّا كان ثابتا عندهم ، فأطلقوا القول بأنّ تارك الفحص عن نبيّ زمانه لأجل استلزامه ترك الشكر معاقب. فغرضهم أنّ أثر حكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل إنّما يظهر في الضرر الثابت شرعا ، إذ لا مانع حينئذ من ترتّب العقاب على المخالفة بمجرّد احتماله ، لإتمام الحجّة حينئذ بحكم العقل ، لا أنّ العقاب المحتمل يترتّب على المخالفة على كلّ تقدير وإن لم يكن ثابتا في الواقع أيضا.

هذا غاية توضيح ما استظهره المصنّف قدس‌سره من فتاوى العلماء من كون الاعتقاد المجرّد عن الواقع منشأ لحكم شرعيّ يناسبه. ولكنّه بعد لا يخلو عن نظر بل منع ، وذلك لأنّ ما استظهره منه كما عرفت أمران ، أحدهما : حكمهم بترتّب الحكم الشرعيّ على الضرر الدنيوي المظنون وإن لم يكن ضررا في الواقع. وقد استظهرنا كون هذا الظنّ معتبرا من باب الطريقيّة دون الموضوعيّة حتّى يتمّ المدّعى لأمرين. ولكن عند التأمّل لا شهادة لهما بذلك ، إذ الظاهر أنّ الظنّ المتعلّق بالضرر الدنيوي معتبر عندهم من باب الموضوعيّة ، إذ الظاهر أنّ هذا الظنّ عندهم كسائر الظنون الشرعيّة ، كالبيّنة في الموضوعات وخبر العدل في الأحكام ، فإنّ ذلك كلّه عندهم على وتيرة واحدة. وظاهر المشهور التزام الثواب والعقاب على مطابقة الأوامر الظاهريّة ومخالفتها وإن تخلّفت عن الواقع ، لكون الحكم الظاهري مرتّبا على الظنّ المستفاد من هذه الأمارات طابق الواقع أم لا ، فيكون الظنّ حينئذ جزءا من موضوع الحكم الظاهري. فالحكم الواقعي فيما نحن فيه وإن كان مرتّبا على الضرر الواقعي ، إلّا أنّ الحكم الظاهري مرتّب على الظنّ به مطلقا.

فمن هنا يظهر أنّ عدّهم من مسوّغات التيمّم نفس الضرر كما تقدّم لا ينافي القول بموضوعيّة الظنّ من الحكم الظاهري. ولا ينافيه أيضا كون الاحتمال معتبرا في قضيّة حكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل من باب الطريقيّة ، لوضوح الفرق بينهما ، إذ احتمال الضرر الاخروي كالقطع به لا يعقل كونه منشأ لحكم شرعيّ آخر سوى الحكم المحتمل في الواقع ، إذ الاحتمال لا يزيد على القطع. ولا ريب أنّه إذا قطع بعقاب اخروي ، فلو كان هذا القطع سببا لحكم آخر سوى المقطوع به فيحصل القطع بعقاب آخر لمخالفة هذا الحكم أيضا ، وهكذا فيتسلسل ، بخلاف الظنّ بالضرر الدنيوي.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فحكم العقل بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة لأجل احتمال الضرر الاخروي إرشادي لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، بخلاف حكمه في الضرر الدنيوي المظنون.

وهذا الذي ذكرناه في الفرق بين الضّرر الاخروي المحتمل والضرر الدنيوي المظنون هو الذي صرّح به المصنّف قدس‌سره في التنبيه الثاني من تنبيهات الشبهة المحصورة.

فالتدافع بين المقامين واضح بيّن ، فراجع ولاحظ. وفي بعض النسخ قد وقع الأمر بالتأمل بعد قوله «عدم الضرر فيه». ولعلّه إشارة إلى ما قدّمناه من كون الظنّ في باب الضرر الدنيوي مأخوذا من باب الطريقيّة إلى الواقع وجزءا من موضوع الحكم الظاهري ، فحينئذ يندفع التنافي بين المقامين.

ثمّ إنّ ظاهر المحقّق حيث حكم ببطلان الغسل فيما لو ظنّ إضرار استعمال الماء بالبدن ثمّ انكشف خلاف ما ظنّه ـ كما أسلفناه ـ هو كون الحكم المرتّب على الظنّ حكما واقعيّا لا ظاهريّا ، وإلّا لكان الأوفق بالقواعد هو الحكم بصحّة الغسل في الصورة المفروضة ، لموافقته للأمر الواقعي ، ومجرّد مخالفة الأمر الظاهري لا يوجب البطلان مع الموافقة للواقع.

لا يقال : إنّ الحكم بالبطلان لعلّه لعدم تأتّي قصد القربة مع مخالفة الأمر الظاهري.

لأنّا نقول : إنّ الكلام في المقام من حيث الحكم بالصحّة أو الفساد ليس من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مخالفة الحكم المرتّب على ظنّه مع انكشاف خلافه بعد الفراغ من العمل مع قطع النظر عن الحيثيّة المذكورة. ويمكن أن يستدلّ عليه بأنّ المستفاد من قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) هو مبغوضيّة جعل النفس في معرض الهلاكة ، سواء كانت في الواقع مهلكة أيضا أم لا ، لصدق النهي مع الإقدام مع ظنّ الضرر وإن لم يكن ضرر في الواقع. فموضوع الحرمة هو جعل النفس في عرضة الهلاكة لا الهلاكة الواقعيّة. ويؤيّده أنّ القبيح في حكم العقل أيضا هو العنوان المذكور ، لا الوقوع في الهلاكة الواقعيّة بالخصوص. وعلى هذا فالضرر الواقعي ليس بموضوع الحرمة أصلا ، بل الحرمة مرتّبة في الواقع على العنوان المذكور الصادق بظنّ الضرر وإن لم يكن ضرر في الواقع ، فحينئذ لا ترتبط مسألة ظنّ الضرر بما نحن فيه أصلا كما لا يخفى.

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنّ الإنصاف أنّ دعوى كون المرتّب على ظنّ الضرر حكما واقعيّا لا تخلو عن نظر بل منع ، وإن مال إليه سيّدنا الأستاذ (دام ظلّه) في مجلس الدرس معلّلا بما أسلفناه ، وذلك فإنّ ظاهر الآية ترتّب الحرمة على الهلاكة الواقعيّة ، فحينئذ إن قلنا باعتبار الظنّ بالضرر عقلا أو شرعا يكون الظنّ طريقا شرعيّا إلى الواقع ، والحكم المرتّب عليه حكما ظاهريّا ، وإلّا فنمنع صدق الآية مع ظنّ الضرر. والتحقيق اعتباره عقلا ، ولكن لا يترتّب عليه مع ذلك حكم ظاهري أيضا ، فإنّ حكم العقل بحرمة الإقدام على الضرر المظنون إرشادي لا يترتّب عليه سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، وهو واضح بعد التأمّل ، وإن كان خلاف ظاهر المشهور كما تقدّم. وكيف كان ، فلا مدخليّة لمسألة ظنّ الضرر في أصل المقصود في المقام.

وثانيهما : حكمهم في مسألة ظنّ ضيق الوقت بالعصيان بالتأخير مع انكشاف خلافه وبقاء الوقت. فنقول : إنّ حكمهم بذلك إنّما يكون من قبيل ما نحن فيه ـ أعني :

كون الاعتقاد المجرّد عن الواقع مؤثّرا في حكم الشارع بما يناسبه ـ على بعض الوجوه خاصّة ، وذلك أنّ حكمهم باعتبار ظنّ ضيق الوقت إنّما هو بدليل الانسداد الجاري في الأحكام الكلّية عند من يرى الانسداد فيها ، وقد أسلفنا عند بيان انقسام الظنّ ـ كالقطع ـ إلى الموضوعيّة والطريقيّة ـ وسيجيء في محلّه أيضا ـ أنّ القائلين بالانسداد مختلفون ، فمنهم من يرى أنّ مقتضى دليل الانسداد هو حكم العقل وإنشائه كون الظنّ المطلق حجّة شرعيّة للمكلّف كسائر الطرق الشرعيّة ، فيكون العقل كالشرع منشأ للحجّية ، وحاكما باستحقاق ممتثل هذا الطريق للثواب ومخالفه للعقاب. ومنهم من يرى كون العقل مدركا لإنشاء الشارع ، بمعنى أنّه عند الانسداد يدرك إنشاء الشارع وجعله للظنّ حجّة.

فعلى هذين الوجهين يكون الظنّ طريقا إلى الواقع وجزءا من موضوع الحكم الظاهري ، فلا يكون لهذا الظنّ مدخل فيما نحن فيه ، إذ [الحاصل أنّ المقصود في المقام صيرورة الظنّ المجرّد عن الواقع سببا لوجوب الفعل المعتقد وجوبه أو حرمته كذلك ، والظنّ بضيق الوقت ـ بناء على اعتباره من باب دليل الانسداد على تقريريه ـ جزء من

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

موضوع الحكم الظاهري لا سبب لحدوث الوجوب](*) المقصود في المقام كون الاعتقاد المجرّد عن الواقع بنفسه مؤثّرا في حكم الشارع بما يناسبه ، بأن يحكم الشارع بالحرمة إذا اعتقد المائع الخارجي خمرا مع كونه خلّا في الواقع. والظنّ بضيق الوقت على ما ذكر وإن كان طريقا إلى الواقع إلّا أنّه جزء من موضوع الحكم الظاهري ، فليس من قبيل مجرّد الاعتقاد الذي رتّب الشارع عليه ما يناسبه من الأحكام.

نعم ، لو كان اعتبار الظنّ عند الانسداد من باب الطريقيّة المحضة إلى الواقع ، بأن لا يكون في حكم العقل باعتباره إلّا مجرّد رجحان الوصول به إلى الواقع ، ولم يكن فيه سوى مصلحة إدراك الواقع به ، وفرض ترتيب الشارع عليه ما يناسبه من الأحكام ، كان اعتبار الظنّ حينئذ من قبيل ما نحن بصدده. ولكن ظاهر المشهور من القائلين بدليل الانسداد هو أحد الوجهين الأوّلين ، فإنّهم قد حكموا بالإجزاء مع ظهور المخالفة ، وهو لا يتمّ على الوجه الثالث ، فإنّ مقتضى اعتبار الظنّ من باب الطريقيّة المحضة ـ كالقطع ـ هو بقاء الحكم الواقعي في العهدة مع ظهور المخالفة ، ولذا لا نقول بالإجزاء لو قلنا بالظنون المطلقة على تقدير تسليم إفادة الأوامر الظاهريّة الثابتة بالطرق الخاصّة للإجزاء ، لما سيجيء في محلّه من أنّ الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو الوجه الثالث ، وأنّ العمل بالظنّ جزئي من جزئيّات العمل بالاحتياط.

نعم ، هنا طريقة اخرى سلكها مؤلّف الهداية رحمه‌الله في الحكم باعتبار ظنّ ضيق الوقت وحصول العصيان بالتأخير وإن انكشف الخلاف ، ويحتمل كون استناد المشهور في الحكم بحصول العصيان بالتأخير إليها ، وعليها يتمّ استشهاد المصنّف للمقام بما ذكر ، وهي توقّف حصول اليقين بالخروج عن عهدة التكليف عند اليقين باشتغال الذمّة به على إتيان المامور به الذي ظنّ فواته بالتأخير ، حيث قال : «إنّه مع وجوب الفعل وإلزام الشارع إيّاه ، وعدم إذنه في الترك ، لاشتماله على المصلحة التي لا يجوز للمكلّف تفويتها بحكم العقل ، يتعيّن الإتيان به حينئذ احتياطا ، لتحصيل المطلوب بعد العلم باشتغال الذمّة ، ودفعا للضرر المظنون بسبب التأخير. وكما أنّ اليقين بالاشتغال يستدعي تحصيل اليقين

__________________

(*) هذه العبارة كتب عليها في الطبعة الحجريّة أنّها حاشية منه ، ولذا جعلناها بين المعقوفتين.

٦٩

على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت ؛ فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق.

نعم ، حكي عن النهاية وشيخنا البهائي (٢) التوقّف في العصيان ، بل في التذكرة : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه (*) فالوجه عدم العصيان (٣) ، انتهى. واستقرب العدم سيّد مشايخنا في المفاتيح (٤).

وكذا لا خلاف بينهم ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية ، يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه (**). ويؤيّده : بناء العقلاء على الاستحقاق وحكم العقل بقبح التجري.

______________________________________________________

بالفراغ وأداء ما يعلم منه بتفريغ الذمّة ، كذا يقضى بتحصيل اليقين بالخروج عن عهدة ذلك التكليف وعدم حصول الترك له ، ولا يكون ذلك إلّا بالإتيان به عند ذلك وعدم تأخيره عنه ، بل قد يشكل جواز التأخير في صورة الشكّ في الأداء مع التأخير كما سنشير إليه ، إذ قضيّة ما ذكرناه مراعاة الاحتياط في التعجيل عند حصول التردّد ، إلّا أن يقوم دليل قاطع لعذر المكلّف يفيد جواز التأخير ، كما قام الدليل عليه في صورة ظنّ البقاء.

والحاصل : أنّ الإذن المستفاد من الشارع في التأخير لا يعمّ صورة ظنّ الفوات ، وكذا حكم العقل بجواز التأخير للفعل. وقضيّة حكم العقل بملاحظة ثانيهما هو لزوم التعجيل. ولا فرق حينئذ بين الواجبات الموسّعة الموقّتة وغيرها من الموسّعات المطلقة ، بل الحال في الأخير أظهر. والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه في المقامين».

وهذا كلامه بألفاظه. وعليه يثبت وجوب إتيان الفعل عقلا عند ظنّ ضيق الوقت بموت أو خروج وقت أو نحوهما ، ويثبت شرعا أيضا للملازمة بينهما ، فيصحّ الاستشهاد حينئذ لتأثير الاعتقاد المجرّد عن الواقع في حكم الشارع بما يناسبه ، لحكمهم

__________________

(*) في بعض النسخ : بطلانه.

(**) في بعض النسخ زيادة : فتأمل.

٧٠

وقد يقرّر دلالة العقل (٢٠) على ذلك : بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين ، بأن قطع

______________________________________________________

بحصول العصيان بالتأخير عند ظنّ الضيق.

فتلخّص ممّا قدّمناه أنّ الاستشهاد للمقام بفتوى العلماء في مسألة ظنّ الضرر الدنيوي وفي مسألة ظنّ الضيق غير تامّ بالنسبة إلى الاولى مطلقا ، وبالنسبة إلى الثانية في وجه. والأولى منهما الاستشهاد للمقام بفحوى ما ذكره الفاضل التوني في مبحث المقدّمة من نفي الخلاف عن وجوب المقدّمة العلميّة ، حيث قال : «واعلم أنّه قد يطلق المقدّمة على امور يكون الإتيان بالواجب حاصلا في ضمن الإتيان بها ، وكأنّه لا خلاف في هذا القسم من المقدّمة ، لأنّه عين الواجب» انتهى ، فإنّه إذا ثبت الحكم الشرعيّ بالاحتمال فبالظنّ أولى.

لا يقال : إنّ وجوب المقدّمة عقلي إرشادي ، وليس بشرعيّ ثابت بخطاب الشرع ، فإنّ معنى حكم العقل بوجوبها هو إدامة المصلحة في فعلها ، وهي عدم وقوع المكلّف في خطر ترك الواجب.

لأنّا نقول : إنّ الظاهر كما حقّق في محلّه أنّ النزاع في المقدّمة إنّما هو في وجوبها الشرعيّ ، وقد نصّ بعضهم بعدم كون النزاع في وجوبها الإرشادي.

لا يقال : إنّ وجوب المقدّمة على تقدير شرعيّته توصّلي غيري ، ولا يعقل ترتّب العقاب على مخالفة مثله كما قرّر في محلّه ، والمقصود في المقام حصول العصيان بمخالفة الاعتقاد المجرّد عن الواقع.

لأنّا نقول : إنّ ترتّب الثواب والعقاب على فعل المقدّمة وتركها وإن كان خلافيّا ، إلّا أنّه لا ملازمة بين حصول العصيان بمخالفة خطاب الشرع وبين ترتّب العقاب على المخالفة ، وتظهر ثمرة الوجوب في غيره. والمقصود في المقام أيضا كون الاعتقاد المجرّد عن الواقع مؤثّرا في حكم الشارع بما يناسبه ، لا ترتّب العقاب على مخالفة هذا الحكم أيضا كما لا يخفى.

٢٠. المقرّر هو الفاضل السبزواري في الذخيرة في مسألة الجاهل بوجوب مراعاة الوقت ، وقد غيّر المصنّف كلامه بما يناسب المقام كما لا يخفى. وسيأتي توضيح هذا

٧١

أحدهما بكون مائع معيّن خمرا وقطع الآخر بكون مائع (*) آخر خمرا ، فشرباهما ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فإمّا أن يستحقا العقاب ، أو لا يستحقّه أحدهما ، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر ، أو العكس.

لا سبيل إلى الثاني والرابع ، والثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل (٥).

ويمكن الخدشة في الكلّ (٢١):

______________________________________________________

الدليل عند بيان ما أورده المصنّف رحمه‌الله.

٢١. اعلم أنّ القول بكون الاعتقاد المجرّد عن الواقع مؤثّرا في حكم الشارع بما يناسبه مخالف للأصل ، وهو الحجّة للنافي ، فلا بدّ في الخروج من مقتضاه من دليل ، وقد ذكر المصنّف للمثبتين وجوها ، ثمّ أخذ في المناقشة فيها. فنقول في توضيح ما أورده على الدليل الأوّل ـ أعني : الإجماع ـ : إنّه بعد أن منع تحقّق الإجماع في المسألة أشار إلى قادح آخر فيه بقوله : «والمسألة عقليّة». وحاصله : أنّ دعوى الإجماع في المسائل العقليّة غير مجدية ، لعدم كشفه عن رضا المعصوم عليه‌السلام في العقليّات ، وهو المناط في اعتبار الإجماع ، إذ حكم المجمعين في المسائل العقليّة إنّما هو بحسب قضاء عقولهم ، وهو لا يكشف عن حكم الإمام عليه‌السلام أيضا بذلك. فهو مثل دعوى الإجماع على أنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، فلا يتحقّق الإجماع النافع في المقام.

لا يقال : دعوى عدم حصول القطع من إجماع العلماء في المسائل العقليّة برضا المعصوم عليه‌السلام بها مكابرة للوجدان.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ كشف إجماع العلماء عن رضا المعصوم عليه‌السلام في المسألة العقليّة إذا كان حكمهم مبنيّا على قضاء عقولهم إنّما يسلّم إذا وافقهم عقولنا فيما حكموا به ، وإلّا فإذا فرض إدراك عقولنا خطأهم في مدركات عقولهم فلا نسلّم كشف اتّفاقهم عن اتّفاق الإمام المعصوم عليه‌السلام معهم ، إذ الفرض علمنا بخطئهم أو توقّفنا فيه ، ومع ذلك كيف يدّعى الكشف المذكور؟!

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : معيّن.

٧٢

أمّا الإجماع ، فالمحصّل منه غير حاصل ، والمسألة عقليّة خصوصا مع مخالفة غير واحد ، كما عرفت من النهاية وستعرف من قواعد الشهيد قدس‌سره ، والمنقول منه ليس حجّة في المقام.

وأمّا بناء العقلاء ، فلو سلّم فإنّما هو على مذمّة الشخص من حيث إنّ هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه لا على نفس فعله ، كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ؛

______________________________________________________

وثانيا : مع تسليم كشفه عن اتّفاق الإمام معهم أنّ هذا ليس إجماعا مصطلحا ، إذ المعتبر فيه كشف اتّفاق العلماء عن رضا المعصوم عليه‌السلام من حيث كونه شارعا ، والفرض في المقام كشف اتّفاقهم عمّا عند الإمام عليه‌السلام من حيث كونه أحد العقلاء بل أعقلهم. نعم ، هذا الاتّفاق أيضا حجّة من حيث الائتمان عن الخطأ بدخول من لا يحتمل تطرّق الخطأ في حكم عقله فيهم ، وهو مثل الاتّفاق على أمر بحيث يكشف عن حقّيته في الواقع وإن لم يعلم بدخول الإمام عليه‌السلام فيهم ، مثل الاتّفاق على حدوث العالم. ولكنّ الكلام في تحقّق مثل هذا الاتّفاق في المقام ، مع أنّه لا وجه حينئذ لتخصيص المجمعين بالعلماء كما هو ظاهر دعوى الإجماع ، إذ الفرض إلغاء جهة العلم في المسائل العقليّة وملاحظة جهة حكم العقل خاصّة كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ المعتبر في الإجماع المصطلح هو حصول القطع من اتّفاق العلماء برضا المعصوم ، ومنه بالواقع ، والأمر في المسائل العقليّة على العكس ، فإنّه من اتّفاقهم فيها يحصل القطع بالواقع ، ومنه بما عند المعصوم إذا لم يعلم بدخوله فيهم كما هو الغالب ، فلا يكون إجماعا مصطلحا. فحينئذ إذا حصل الاتّفاق في المسائل العقليّة فلا يخلو : إمّا أن يعلم بدخول الإمام فيهم أم لا. وعلى الثاني إمّا أن يحصل من اتّفاقهم القطع بموافقة الإمام معهم أم لا. ولا حجّية في الأخير وإن فرض رجوع العقل بعد ملاحظته عمّا جزم به أوّلا إلى التوقّف والشكّ. وتحقّق أحد الأوّلين في المقام أوّل الكلام ، سيّما مع مخالفة جماعة من العلماء ، وتوقّف بعض آخر في المسألة.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا قدّمناه الوجه فيما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «والمنقول منه ليس حجّة في المقام» وذلك فإنّ الإجماع المنقول هو نقل اتّفاق العلماء بحيث يكشف

٧٣

فإنّ المذمّة على المنكشف (٢٢) لا الكاشف (٢٣). ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجرّي ؛ فإنّه لكشف ما تجرّى به عن خبث الفاعل (*) ، لا عن كون الفعل مبغوضا للمولى.

والحاصل أنّ الكلام في كون هذا الفعل الغير المنهيّ عنه واقعا ، مبغوضا للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضا ، لا في أنّ هذا الفعل ـ المنهيّ عنه باعتقاده ظاهرا ـ ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيّده وكونه في مقام الطغيان والمعصية (**) ؛ فإنّ هذا غير منكر في المقام ، لكن لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعيّا ؛ لأنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل ، ومن المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذّم إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل.

وأمّا ما ذكر من الدليل العقلي (٢٤) ،

______________________________________________________

عن رضا المعصوم عليه‌السلام من حيث كونه شارعا ، وقد عرفت أنّ الاتّفاق المذكور على تقدير تحصّله عندنا لا يكشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام من الحيثيّة المذكورة.

والحاصل : أنّ المنقول من الإجماع تابع لمحصّله ، فإذا لم يكن محصّله معتبرا في مورد ـ ولو باعتبار عدم تحقّق عنوانه ـ لم يكن منقوله أيضا معتبرا كما هو واضح. هذا مضافا إلى الإشكال في حجّية الإجماع المنقول رأسا كما قرّر في محلّه.

٢٢. الذي هي الصفة.

٢٣. الذي هو الفعل.

٢٤. لا بأس بأن نوضح المراد أوّلا من الدليل المذكور ، ثمّ نعطف عنان القلم إلى بيان ما أورده المصنّف قدس‌سره عليه ، فنقول : إذا فرضنا شخصين قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا ، فشرباهما ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع دون الآخر ، فاحتمال عدم استحقاقهما للعقاب حينئذ أو استحقاق غير المصادف خاصّة واضح البطلان.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : لكونه جريئا عازما على العصيان والتمرّد.

(**) في بعض النسخ زيادة : وعازما عليه.

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فحينئذ إمّا أن يحكم باستحقاقهما فهو المطلوب. وإمّا أن يحكم باستحقاق المصادف دون غيره ، وهو مخالف لقواعد العدل ، وذلك فإنّ الصادر منهما عن اختيار وإرادة هو شرب المائع الخارجي بعنوان أنّه خمر ، والمصادفة وعدمها أمران اتّفاقيّان خارجان من حيّز الاختيار. وحينئذ فعلّة استحقاق المصادف للعقاب لا تخلو : إمّا أن تكون هي شرب المائع الخارجي بعنوان أنّه خمر من دون مدخليّة للمصادفة وعدمها ، وإمّا أن تكون ما ذكر بشرط المصادفة ، وإمّا أن تكون نفس المصادفة. والأوّل يقتضي استحقاق غير المصادف أيضا ، لوجود العلّة المذكورة فيه أيضا. والثاني كالثالث مخالف لقواعد العدل ، إذ كما أنّه لا يمكن إناطة الاستحقاق وعدمه بأمر غير اختياري خاصّة ، كذلك لا يمكن إناطتهما بأمر مركّب من الاختياري وغيره. فتعيّن الحكم باستحقاق كليهما للعقاب. هذا توضيح الدليل المذكور.

وأمّا الجواب فبأنّا نختار التفصيل بين المصادف وغيره ونقول باستحقاق الأوّل دون الثاني ، وذلك فإنّه لا كلام لنا في استحقاقهما الذمّ من جهة قصدهما إلى الفعل المحرّم ، لخروجه من محلّ البحث ، وقد ثبت العفو عنه في أخبار كثيرة كما سيجيء. ولا كلام أيضا في استحقاق الفاعل للذمّ من حيث كشف المتجرّى به عن خبث سريرته وصفة الشقاوة فيه. وإنّما الكلام في استحقاق الفاعل للعقاب على الفعل المتجرّى به مثل شرب الخمر في المثال.

فنقول : لا إشكال في استحقاق المصادف باتّفاق من الخصم ، لأنّه عصى اختيارا كعصيان سائر العصاة من دون تعقّل فرق بينهما أصلا. وأمّا عدم استحقاق غير المصادف فلعدم صدور فعل منهيّ عنه منه. وأمّا استحقاقه من حيث عزمه إلى فعل محرّم بحسب اعتقاده فقد عرفت خروجه من محلّ الكلام ، ولعلّ هذا هو الذي أوقع الخصم فيما وقع فيه ، حيث نظر إلى كون مثل هذا الفاعل مستحقّا للذمّ ، غافلا عن أنّ ذمّه إنّما هو من حيث عزمه إلى فعل ما اعتقد حرمته ، لا على كونه فاعلا لهذا الفعل مع قطع النظر عن قبح العزم.

وأمّا قولك : بأنّ التفاوت بالاستحقاق وعدمه لا يحسن أن يناط بما هو خارج من الاختيار ، بمعنى أنّ التزام عدم استحقاق غير المصادف مع مشاركته مع المصادف في

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الفعل الاختياري لا بدّ أن يكون لأجل عدم مصادفته غير الاختياري ، فحينئذ لا بدّ أن يكون استحقاق المصادف أيضا لأجل مصادفته غير الاختياريّة ، فحينئذ لا يحسن أن يناط التفاوت بينهما بالاستحقاق وعدمه بما هو خارج من الاختيار ، فممنوع ، إذ لا قبح في عدم عقاب غير المصادف ، فإنّ القدر المتيقّن الثابت عند العقل هو قبح العقاب بإزاء فعل لا يرجع إلى الاختيار رأسا ، لا عدم العقاب بإزاء فعل لأجل أمر لا يرجع إلى الاختيار أصلا ، لعدم ثبوت قبحه ، بل لا قبح فيه.

وحاصل الفرق بين المصادف وغيره : أنّ المكلّف في صورة المصادفة لمّا كان طالبا لارتكاب ما كان منهيّا عنه في نفس الأمر ، فارتكب فصادف الواقع ، وهذه المصادفة حيث كانت بالأخرة راجعة إلى اختياره ، لكونها ناشئة ومسبّبة عن فعله الاختياري ، فلا قبح في عقابه لهذا الفعل من حيث كونه مصادفا. وأمّا صورة عدم المصادفة ، فالمكلّف لمّا كان عازما على الفعل المنهي عنه في نفس الأمر ، فاتّفق عدم المصادفة من دون أن يرجع ذلك إلى اختياره ، إذ هو كان عازما على فعل ما يعتقد مصادفته للواقع ، فعدم المصادفة قضيّة اتّفاقيّة خارجة من حيّز الاختيار. فقولنا بعدم العقاب بإزاء هذا الفعل لأجل عدم مصادفته للواقع لا يستلزم قبحا ، والقبح إنّما هو في العقاب على غير الاختياري.

وإذا عرفت ذلك فنقول في توضيح عبارة المصنّف رحمه‌الله : إنّ قوله : «وقولك إنّ التفاوت ـ إلى قوله ـ ممنوع» إمّا هو تسليم لحسن إناطة التفاوت بالاستحقاق وعدمه بأمر غير اختياري ، ولكن ليس مقصوده تسليم ذلك مطلقا ، لبطلانه بالضرورة ، بل مقصوده تسليمه في خصوص المقام ومضاهيه ، فإنّ المصادفة وعدمها وإن كانتا خارجتين من الاختيار ، إلّا أنّ الأولى راجعة بالآخرة إلى الاختيار ، فلا غرو في إناطة الاستحقاق بمثل هذا الأمر الاختياري ومضاهيه. وحينئذ فقوله : «فإنّ العقاب لأمر لا يرجع ...» تعليل لتسليم حسن الإناطة المذكورة ، بتقريب أنّ ما توهّمه الخصم من أنّ التفاوت بالاستحقاق وعدمه لا يحسن أن يناط بأمر غير اختياري إنّما نشأ من منعنا من استحقاق غير المصادف ، فإنّ الخصم أيضا يسلّم استحقاق المصادف حيث يدّعي استحقاق كليهما ، فوجه المنع حينئذ هو عدم المانع من حسن الإناطة المذكورة ، إذ

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ما يصلح للمنع إنّما هو ما توهّمه الخصم من أنّ التزام عدم استحقاق غير المصادف لأجل عدم مصادفته غير الاختياري يستلزم كون استحقاق المصادف أيضا لأجل مصادفته غير الاختياريّة ، فيلزم إناطة الاستحقاق وعدمه بأمر غير اختياري ، ولكنّه لا يصلح للمنع ، إذ الخصم يسلّم استحقاق المصادف ، والإشكال إنّما هو في عدم استحقاق غير المصادف ، ولا إشكال فيه أيضا ، إذ لا مانع من عدم الاستحقاق لأجل أمر لا يرجع إلى الاختيار ، فإنّ المانع إنّما هو استحقاقه لأمر لا يرجع إلى الاختيار ، لا عدم استحقاقه لأمر لا يرجع إلى الاختيار.

وحيث كان استحقاق المصادف مسلّما كما عرفت فلم يشر المصنّف إلى وجه حسن إناطة استحقاقه بالمصادفة غير الاختياريّة ، في مقام تسليم حسن إناطة التفاوت بالاستحقاق وعدمه بأمر غير اختياري ، واكتفى عنه بقوله أوّلا : «لأنّه عصى اختيارا».

والوجه فيه ما قدّمناه من أنّ المصادفة وإن كانت غير اختياريّة إلّا أنّها راجعة بالآخرة إلى الاختيار.

فإن قلت : إنّ المصنّف رحمه‌الله قد علّل المنع بأنّ القبيح هو العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار ، فإن أراد من العقاب استحقاقه ـ كما بنيت توضيح كلامه عليه ـ فلا يصحّ وصفه حينئذ بالقبح وعدمه ، فإنّ الحسن والقبح من عوارض الأفعال الاختياريّة للمكلّفين ، والاستحقاق وعدمه من العوارض العقليّة القائمة بنفس المكلّفين. وإن أراد منه فعليّة العقاب كما هو ظاهر ما يتراءى من كلامه ، ففيه ـ مع خروجه من محلّ الكلام ، إذ الكلام في الاستحقاق وعدمه لا في فعليّة العقاب وعدمها ـ أنّ قوله : «إلّا أنّ عدم العقاب ...» لا يدفع دليل الخصم ، إذ عدم معلوميّة قبح عدم العقاب فعلا لا يستلزم عدم الاستحقاق فعلا ، إذ عدم العقاب أعمّ من عدم الاستحقاق ، وليس لازما مساويا له.

قلت : إنّ عدم قبح العقاب الفعلي وإن لم يكن لازما مساويا عقليّا لعدم الاستحقاق ، إلّا أنّه لازم غالبي له ، غاية الأمر أن تكون مسامحة في العبارة ، ولا بأس بها بعد وضوح المقصود.

٧٧

فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ؛ لأنّه عصى اختيارا دون من لم يصادف.

وقولك : إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار ، ممنوع ؛ فإنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح ، إلّا أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم ؛ كما يشهد به الأخبار (٢٥)

______________________________________________________

وإمّا هو منع من لزوم إناطة التفاوت بالاستحقاق وعدمه بأمر غير اختياري ، بتقريب ما تقدّم من كون المصادفة راجعة بالأخرة إلى الاختيار ، بخلاف عدم المصادفة. والتقريب في التعليل ـ من حيث عدم تعرّض المصنّف رحمه‌الله لكون الاستحقاق للمصادفة غير الاختياريّة لرجوعها بالأخرة إلى الاختيار ـ ما تقدّم من كون استحقاق المصادف مسلّما فيما بينهم ، فاكتفى بالتعرّض لعدم معلوميّة استحقاق غير المصادف ، لعدم معلوميّة قبح عدم العقاب لأمر غير اختياري. هذا ، ولكنّ الأظهر بحسب العبارة هو الوجه الأوّل.

ثمّ إنّ ظاهر قول المصنّف في مقام تعليل استحقاق المصادف : «لأنّه عصى اختيارا» وكذا قوله في وجه منع قول الخصم : «إلّا أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم» هو كون استحقاق المصادف لوجود المقتضي ، وهو عصيانه اختيارا ، وكون عدم استحقاق غير المصادف لوجود المانع ، وهو عدم المصادفة غير الراجع إلى الاختيار.

وأنت خبير بأنّ عدم استحقاق غير المصادف لعدم وجود المقتضي ، لعدم إتيانه بما هو منهيّ عنه في الواقع ، فإنّ المقتضي للعصيان ـ الذي هو علّة لاستحقاق العقاب ـ هو الإتيان بالمنهيّ عنه في اعتقاد الفاعل مع المصادفة ، فانتفاء كلّ من القيدين موجب لانتفاء العلّة التامّة للاستحقاق ، لا مانع من الاستحقاق الذي هو فرع وجود المقتضي.

ثمّ إنّ الظاهر من المصنّف رحمه‌الله نوع توقّف في المسألة ، حيث ادّعى عدم معلوميّة قبح عدم عقاب غير المصادف ، لا معلوميّة عدم قبح عقابه كما لا يخفى.

٢٥. يعني بما ذكره من كون عدم المصادفة مانعا من استحقاق العقاب ، إذ المستفاد من الأخبار المزبورة أنّ كثرة العامل بسنّة أحد الشخصين المفروضين وقلّة العامل بسنّة الآخر مؤثّرتان في كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، مع وضوح خروج

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كثرة العامل بما سنّاه وقلّته من حيّز اختيارهما ، فيظهر من هذه الأخبار أنّ الامور غير الاختياريّة قد تكون دخيلة في استحقاق كثرة الثواب والعقاب وقلّتهما ، كمدخليّتها فيما نحن فيه في أصل الاستحقاق وعدمه ، لأنّ ما يصلح مؤثّرا في الكثرة والقلّة هو يصلح مؤثّرا في أصل الاستحقاق وعدمه ، بل يمكن إرجاع ذلك أيضا إلى أصل الاستحقاق باعتبار استحقاق القدر الزائد وعدمه. والوجه فيه أيضا ما تقدّم في الحاشية السابقة ، لرجوع عمل العامل أيضا إلى الفعل الاختياري لصاحب السنّة.

وإنّما جعل هذه الأخبار شاهدة لا دليلا إمّا لأنّ الكتاب والسنّة لا يصلحان دليلين في العقليّات ، فإنّه لو قطع النظر عمّا أورده على دليل الخصم ، وسلّم عدم حسن إناطة التفاوت في المصادف وغيره بالاستحقاق وعدمه بأمر غير اختياري ، لمخالفتها لقواعد العدل ، وقلنا يكون ما نحن فيه من قبيلها ، وبالجملة سلّمت هذه الكلّية صغرى وكبرى ، فلا ريب أنّه لو وردت أخبار متواترة على خلاف ذلك لوجب تأويلها ما دام القطع حاصلا بالكلّية المذكورة.

وإمّا للفرق بين ما نحن فيه وبين مدلول هذه الأخبار ، لما تقدّم في الحاشية السابقة من أنّ ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ عدم عقاب غير المصادف لوجود المانع منه ، ولا ريب أنّ أقلّية ثواب أحد الشخصين المفروضين في مورد الأخبار وعقابه من ثواب الآخر وعقابه إنّما هي لعدم المقتضي للزيادة لا لوجود المانع منها ، فإنّ اختراع سنّة حسنة أو سيّئة إنّما يقتضي زيادة الثواب أو العقاب بشرط وجود كثرة العامل ، لا مع عدمه أيضا حتّى يكون عدمه مانعا. ولا ريب أنّ عدم العقاب أو عدم زيادته في مورد لعدم المقتضي لا يصلح دليلا على إثبات مانعيّة الأمر المشكوك المانعيّة في موارد أخر.

وإمّا لأنّ ظاهر الأخبار المذكورة بيان مقدار الثواب والعقاب لا بيان ما يترتّبان عليه ، بل قضيّة سببيّة الشرط للجزاء كون إعطاء مقدار ثواب عمل العامل بالسنّة الحسنة وعقاب عمله بالسنّة السيّئة مرتّبا على نفس اختراع السنّتين لا على عمل العامل بهما.

فإن قلت : لا يمكن إنكار ظهور الأخبار المذكورة في كون ما يترتّب على اختراع السنّتين من الثواب والعقاب ناشئا ومسبّبا عن عمل العامل بهما قلّة وكثرة.

٧٩

الواردة في أنّ : من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها (٦).

فإذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة واتّفق كثرة العامل بإحداهما وقلّة العامل بما سنّة الآخر ؛ فإنّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، وقد اشتهر (٢٦) : «أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا» (٧). والأخبار في أمثال ذلك في طرف (*) الثواب والعقاب بحدّ التواتر.

فالظاهر أنّ العقل إنّما يحكم بتساويهما في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى ، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصية. وربما يؤيّد ذلك (٢٧) أنّا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة الذمّ بين من صادف قطعه (**) الواقع وبين من لم يصادف ، إلّا أن يقال إنّ ذلك إنّما هو في المبغوضات العقلائيّة ؛ من حيث إنّ زيادة العقاب من المولى وتأكّد الذمّ من العقلاء بالنسبة إلى من صادف اعتقاده الواقع لأجل التشفّي المستحيل في حقّ الحكيم تعالى ،

______________________________________________________

قلت : يحتمل أن يكون السبب فيه قصد المخترع من اختراع السنّة الحسنة أو السيّئة إلى أن يعمل بها من يأتي بعده ، فجعل الشارع بإزاء عمله مقدار جزاء العاملين بما سنّه ، فالسبب قصده الاختياري لا عمل العامل الخارج من حيّز الاختيار.

٢٦. فيه إشارة إلى عدم عثوره في الكتب على ما يدلّ على ذلك من الأخبار ، ولعلّه لذا لم يجعله دليلا على المدّعى ، مضافا إلى ما في صلاحه لذلك على تقدير عثوره عليه من النظر ، كما تقدّم في الحاشية السابقة.

٢٧. يعني عدم تساويهما في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصية. ووجه التأييد واضح ، فإنّ تأكّد ذمّ المصادف يكشف عن توجّه الذمّ إليه من جهتين ، إحداهما : من جهة الشقاوة ، والاخرى : من جهة الفعل ، بخلاف غير

__________________

(*) في بعض النسخ : طرفي.

(**) في بعض النسخ : بدل «قطعه» ، فعله.

٨٠