فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

الثاني : أنّه إذا اختلفت القراءة (٢٣٧)

______________________________________________________

٢٣٧. اعلم أنّه قد وقع الخلاف قديما وحديثا بين علماء المسلمين في تواتر القراءات السبع ، وهي المرويّة عن مشايخها ، وهم نافع وأبو عمرو والكسائي وحمزة وابن عامر وابن كثير وعاصم. وإطالة الكلام في ذلك وإن كانت خارجة من وضع التعليقة ، إلّا أنّ تحقيق هذا المقام وتوضيح هذا المرام لمّا كان من أهمّ المطالب وأعظم المقاصد لا أرى بأسا بإيراد شطر من الكلام بما يناسبه المقام ، فنقول مستهديا من الله ومستمدّا من أمنائه عليهم‌السلام : إنّ المشهور تواتر السبع ، بل قد ادّعى جماعة ـ كالشهيد والمحقّق الثانيين والأردبيلي ـ الإجماع عليه. وأضاف بعضهم القراءات الثلاث ، ومشايخها : أبو يعقوب وأبو جعفر الطبري وأبيّ بن خلف ، وادّعى تواترها أيضا. وقال المحقّق القمّي : وهو المشهور بين المتأخّرين. وممّن صرّح بتواتر القراءات الثلاث هو الشهيد في الذكرى بعد نقل الشهرة عليه. والشهيد الثاني في الروض قال : «إنّ بعض محقّقي القرّاء من المتأخّرين أفرز كتابا في أسماء الرجال الذين نقلوها في كلّ طبقة ، وهم يزيدون عمّا يعتبر في التواتر ، فيجوز القراءة بها إن شاء الله تعالى».

وليس المراد من تواتر السبع أو العشر تواترها عن مشايخها إلينا ، كما توهّمه بعض من لا حظّ له في العلم ، ولا تواتر الترخيص عن الأئمّة عليهم‌السلام لشيعتهم كما توهّمه المحقّق البهائي ، بل المقصود تواترها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشايخها ، كما هو ظاهر كلمات المدّعين للتواتر.

هذا ، وقد أنكر تواتر السبع جماعة من العامّة والخاصّة ، مثل الشيخ والطبرسي وعليّ بن طاوس (*) والمحدّث البحراني والفاضل السيّد نعمة الله من الخاصّة ، ومثل الزمخشري على ما نقله عنه جماعة. وكذا الزركشي حيث قال في

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «نقله عنه المحدّث الجزائري في كتاب زهر الربيع عن كتاب سعد السعود. منه».

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

البرهان : «السبع متواتر عند الجمهور ، بل قيل مشهورة. والتحقيق أنّها متواترة عن الأئمّة السبعة ، وأمّا تواترها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ففيه نظر ، فإنّ إسنادهم لهذه القراءات السبع موجودة في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد» انتهى.

وقال بعض الشافعيّة في شرح منظومته : «الخلاف في تواتر السبعة حكاه السرخسي من أصحابنا في كتاب الصوم من الغاية ، فقال : القراءات السبع متواترة عند الأئمّة الأربعة وجميع أهل السنّة ، خلافا للمعتزلة ، فإنّها آحاد عندهم» انتهى. وممّن ادعى أنّها آحاد أيضا الأنباري شارح البرهان قال : «وأسانيدهم تشهد بذلك ، ونازع قول الإمام في البرهان أنّها متواترة». وقال صاحب البديع من الحنفيّة : إنّها مشهورة لا متواترة. وفي مختصر الروضة للطوفي من الحنابلة : «أنّها متواترة ، خلافا لبعضهم» انتهى كلام بعض الشافعيّة.

وهل المراد بتواتر السبع تواتر كلّ واحدة عن مشايخها ، أو المراد انحصار المتواتر فيها؟ ظاهر من عدا الشهيد الثاني هو الأوّل. وصريحه في محكيّ شرح الألفية هو الثاني ، حيث قال : واعلم أنّه ليس المراد أنّ كلّ ما ورد من هذه القراءات متواتر ، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإنّ بعض ما نقل عن السبعة شاذّ فضلا من غيرهم ، كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن.

وحجّة القائلين بتواتر السبع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشايخها وجوه :

أحدها : تواتر ذلك إلينا ، بمعنى أنّ تواتر السبع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشايخها منقول إلينا بعدد يبلغ حدّ التواتر أو يزيد عليه.

وثانيها : الإجماعات المحكيّة عن الفاضل في جملة من كتبه ، والشهيدين في الذكرى والروضة ، والمحقّق الثاني في شرحه ، والعاملي والأردبيلي.

وثالثها : ما دلّ من الأخبار على نزول القرآن على سبعة أحرف ، مثل ما روته العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف كلّها كاف شاف».

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد ادّعى بعضهم تواتره. وفي الخصال أنّه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أتاني آت من الله فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت : يا ربّ وسّع على أمّتي. فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف».

ورابعها : قضاء العادة بالنقل لو كان الصادر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير هذه القراءات ، أو كان بعض هذه غير صادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لشدّة اهتمامهم ونهاية رعايتهم في حفظ القرآن وضبطه ، حتّى إنّ بعض الناس قد عدّ آياته وكلماته وحروفه.

وخامسها : الخبر المرويّ في بعض كتب العامّة والخاصّة كصاحب المدارك من أنّ القراءة سنّة متّبعة.

هذا ، ويرد على الأوّل أنّ دعوى المدّعين للتواتر مبنيّة على الحدس والاجتهاد ، ومثلها لا يفيد القطع لنا وإن بلغ عددهم حدّ التواتر أو أفاد القطع لو كان خبرهم مستندا إلى النقل.

وعلى الثاني أنّ المحصّل منه غير حاصل ، والمنقول منه غير مفيد في المقام وإن قلنا بحجّيته ، لأنّ المقصود هنا دعوى القطع بتواتر السبع لا إثباتها بدليل ظنّي معتبر.

وعلى الثالث أنّ الخبر الأوّل ضعيف سندا ، مع أنّه مجمل دلالة ، لأنّه يحتمل أن يراد به نزوله على سبع لغات. قال ابن أثير في نهايته في الحديث : «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف ، أراد بالحرف اللغة ، يعني : على سبع لغات من لغات العرب ، أي : أنّها متفرّقة في القرآن ، فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هزيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة يمن. وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه».

وفي مجمع البحرين بعد نقل ذلك عن أبي عبيدة قال : «ثمّ قال : وممّا يبيّن ذلك قول ابن مسعود : إنّي سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين ، فاقرءوا كما علمتم ، إنّما هو كقول أحدهم : هلمّ وتعال وأقبل». ونقل فيه أيضا عن العامّة قولين

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

آخرين ، أحدهما : أنّ المراد بالحرف الإعراب. والآخر : أنّ المراد به الكيفيّات. نعم نقل القول بكون المراد به وجوه القراءة التي اختارها القرّاء قولا آخر أيضا.

ويحتمل كون المراد نزول القرآن على سبعة أبطن ، كما روي «أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن». ويحتمل أن يكون المراد نزوله على سبعة أقسام ، كما روى أصحابنا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام ، كلّ قسم منها كاف شاف ، وهي : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص. وعن القاضي أبي بكر بن العربي في القواصم : ضبط الأمر على سبع قرائات ليس له أصل في الشرع ، وقد جمع قوم ثماني قرائات ، وقوم عشرا. قال : «وأصل ذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، فظنّ قوم أنّها سبع قرائات ، وهو باطل» انتهى. وعن أبي حاتم ابن حيّان : «اختلف في المراد بذلك على خمسة وثلاثين قولا ، وقد وقفت منها على كثير» انتهى.

وقال بعض الشافعيّة : «ورجّح القرطبي قول الطحاوي إنّ المراد به أنّه وسّع عليهم في مبدإ الأمر أن يعبّروا عن المعنى الواحد بما يدلّ عليه لغة إلى سبعة ألفاظ ، لأنّهم كانوا أميّين لا يكتب إلّا القليل منهم ، فشقّ على أهل كلّ ذي لغة أن يتحوّل إلى غيرها ، فلمّا كثر من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ارتفع ذلك ، فلا يقرأ إلّا باللفظ الذي نزل». ثمّ نقل ذلك عن ابن عبد البرّ. وعن القاضي أبي بكر : «ومن ذلك أنّ أبيّ بن كعب كان يقرأ (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) «للذين آمنوا أمهلونا» «للذين آمنوا أخّرونا». وممّن اختار هذا القول أيضا ابن العربي» انتهى.

ومع تسليم كون المراد نزوله على قرائات سبع يحتمل أن يكون المراد بهذه السبع غير السبع المشهورة ، لاحتمال أن يكون عند الأئمّة عليهم‌السلام قرائات مخصوصة غير السبع المعروفة. ومع التسليم نقول : إنّ الخبر المزبور معارض بأقوى منه ، وهو

٣٤٤

ما رواه الكليني في الحسن كالصحيح عن الفضيل بن يسار قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف. فقال : كذبوا أعداء الله ، لكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد». وروى أيضا بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة». ويرد على الخبر الثاني أيضا جميع ما تقدّم سوى بعض المحتملات التي ذكرناها في إجمال الدلالة.

وعلى الرابع منع توفّر الدواعي على نقل القراءات على وجه يحصل به التواتر ، كيف وقد تركوا ما هو أهمّ منها من الأحكام ويؤيّد عدم اهتمامهم بأمر القرآن عراء المصاحف السابقة عن النقط والإعراب.

وعلى الخامس أنّه مع إرساله غير مرويّ في كتب الأخبار ، وإنّما أورده بعضهم في كتب الاستدلال ، فلا يمكن الاعتماد عليه. مضافا إلى عدم دلالته على تواتر خصوص السبعة المعروفة ، لاحتمال وجود قرائات مخصوصة عند الأئمّة عليهم‌السلام مغايرة لها. نعم ، يدلّ على كون القراءة توقيفيّة ، فلو صحّ سنده لا يدلّ على أزيد من المنع من القراءة على مقتضى القواعد العربيّة ، وأمّا دلالته على تعيين شيء من السبع المعروفة فلا.

وحجّة النافين أو ما يمكن الاحتجاج به لهم أيضا وجوه :

أحدها : الأصل.

وثانيها : ما ذكره محمّد بن بحر الرهني من أنّ «كلّ واحد من القرّاء قبل أن يتجدّد القارئ الذي بعده كانوا لا يجيزون إلّا قراءته ، ثمّ لمّا جاء القارئ الثاني انتقلوا عن ذلك المنع إلى جواز قراءة الثاني ، وكذلك القراءات السبع ، فاشتمل كلّ واحد على إنكار قراءته ، ثمّ عادوا إلى خلاف ما ذكروه ، ثمّ اقتصروا على هؤلاء السبعة» انتهى. وأنت خبير بأنّه مع هذا الاختلاف ومنع كلّ من قراءة الآخر كيف يحصل القطع بتواترها؟ إذ لو كانت هذه القراءات متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشايخها

٣٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فكيف يسع لهم تخطئة بعضهم بعضا؟ فليست هذه التخطئة إلّا من جهة ابتناء هذه القراءات على القواعد العربيّة والاستحسانات الاعتباريّة. ويؤيّده ما نقل من أنّ المصاحف التي دفعت إلى القرّاء في عصر القراءة كانت خالية عن النقط والإعراب. نعم ، قد نقل أنّ أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا في خلافة معاوية.

وثالثها : أنّ الشيخ أبا علي قد ذكر في مقدّمات مجمعه القرّاء السبعة ومشايخهم ، وهم لا يبلغون حدّ التواتر.

فإن قلت : إنّه معارض بما تقدّم عن الشهيد الثاني في الروض من تصريحه بأنّ بعض محقّقي القرّاء من المتأخّرين أفرد كتابا في أسماء الرجال الذين نقلوها في كلّ طبقة ، وهم يزيدون عمّا يعتبر في التواتر.

قلت : إنّ الشهيد قد أخذ ذلك من قول بعض العامّة ، وهو لا يعارض قول الثقة الناقد البصير بالفنّ.

ورابعها : ما تقدّم من رواية زرارة والفضيل ، وكذا ما رواه في الكافي في الصحيح عن المعلّى بن خنيس قال : «كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ومعنا ربيعة الرأي ، فذكر القرآن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ. فقال ربيعة الرأي : أضالّ؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أمّا نحن فنقرأ على قراءة أبيّ». قال في كتاب الوافي : «والمستفاد من هذا الحديث أنّ القراءة الصحيحة هي قراءة أبيّ ، وأنّها الموافقة لقراءة أهل البيت ، إلّا أنّها اليوم غير مضبوطة عندنا ، إذ لم يصل إلينا قراءته في جميع ألفاظ القرآن» انتهى. وقال المحدّث البحراني : «لعلّ كلامه في آخر الحديث إنّما وقع على سبيل التنزّل والرعاية لربيعة الرأي ، حيث إنّه معتمد العامّة في وقته تلافيا لما قال عليه‌السلام في حقّ ابن مسعود وتضليله له ، مع أنّه عندهم بالمنزلة العليا سيّما في القراءة ، وإلّا فهم لا يتّبعون أحدا ، وإنّما هم متّبعون لا تابعون» انتهى.

وخامسها : لزوم التناقض في الأحكام الواقعيّة لو كان جميع القراءات متواترا

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما كان اختلاف القراءة موجبا لاختلاف الحكم ، كما في قوله سبحانه : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) حيث قرأ أهل الكوفة غير الحفص بالتشديد والباقون بالتخفيف. وعلى الاولى معناه : حتّى يغتسلن ، وعلى الثانية : حتّى ينقطع الدم عنهنّ. ومن المعلوم الذي لا تعتريه وصمة الريب أنّ حكم الله الواقعي ليس إلّا أحدهما ، فكيف تمكن دعوى القطع بالتواتر مع استلزامها لما هو باطل بالضرورة من المذهب؟ ومثله ما نقل متواترا عن قراءة كثير منهم من جواز ترك البسملة ، مع إطباق أصحابنا على عدم جوازه وبطلان الصلاة به ، فلو كانت القراءات متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف أجمعوا على خلافه أيضا؟

وسادسها : ما ذكره السيّد الجزائري في كتاب كشف الأسرار من أنّه : «قد تواتر بين الشيعة أنّ من جملة بدع عثمان التي أوجبت عليه الكفر ما قالوه من أنّه جمع ما عند الناس من صحف القرآن ، فلم يترك عند أحد صحيفة فيها شيء من القرآن إلّا أخذها منه غير عبد الله بن مسعود ، فإنّه امتنع من دفع صحيفته إليه ، فطالبه بدفعها فأبى ، فضربه حتّى كسر له ضلعين ، فبقي أيّاما ومات في ذلك. ثمّ عمد إلى الصحف فألّف منها هذا المصحف الذي في أيدي الناس ، وأمر مروان بن الحكم وزياد بن سميّة ـ وكانا كاتبيه يومئذ ـ أن يكتبا هذا المصحف ممّا ائتلفه من تلك الصحف ، ودعا زيد بن ثابت وأمره أن يجعل له قراءة يحمل الناس عليها ، ففعل ذلك ، ثمّ طبخ تلك المصاحف بالماء على النار ثمّ غسلها ورمى بها. وهذا ممّا يدلّ على أنّه قد كان في تلك الصحف زيادات كثيرة وآيات كره عثمان مضمونها وأن يطّلع أحد من الناس عليها ، فأصل هذه القراءات كلّها قراءة واحدة هي قراءة زيد ، ثمّ كثّرها القارون» انتهى. وقد ذكر في ذلك الكتاب وجوها أخر أيضا لا يخلو بعضها عن نظر ، فراجع ولاحظ.

ويؤيّد عدم تواتر السبع أوّلا : عدّهم قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عليّ عليه‌السلام في قبال

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

القراءات السبع ، حيث يقولون : في قراءة النبيّ كذا وفي قراءة علىّ كذا ، كما يظهر من الاختلاف المذكور في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.) فلو كانت القراءات السبع متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا وجه لعدّ قراءته أو قراءة أوصيائه عليهم‌السلام في قبالها.

وثانيا : ما ذكره العلّامة في المنتهى تبعا لبعض العامّة كما سيجيء ، حيث قال : «وأحبّ القراءات إليّ ما قرأه عاصم من طريق أبي بكر بن عيّاش وطريق أبي عمرو بن العلاء ، فإنّها أولى من قراءة حمزة والكسائي ، لما فيهما من الإدغام والإمالة وزيادة المدّ ، وذلك كلّه تكلّف ، ولو قري به صحّت بلا خلاف» انتهى ، لأنّه لو كانت القراءات متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يبقى مجال لدعوى التكلّف في قراءة حمزة والكسائي. وهذا مع دعوى العلّامة للتواتر بل الإجماع عليه كما ترى.

وثالثا : تخطئة جملة من محقّقي علماء الأدب بعض القراءات السبع ، مثل نجم الأئمّة في الردّ على استدلال الكوفيّين في تجويزهم العطف على الضمير المجرور من دون إرادة الخافض بقراءة حمزة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) حيث قال ما لفظه : «إنّ حمزة جوّز ذلك بناء على مذهب الكوفيّين ، لأنّه كوفيّ ، ولا نسلّم قرائات السبع» انتهى ، فتأمّل. وقد حكى المحقّق الكاظمي في شرحه على الوافية عن الزمخشري (*) عند حكاية قراءة ابن عامر «قتل أولادهم شركائهم» على

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «قوله : عن الزمخشري ... هذا القول منه قد صار سببا لإطلاق لسان التشنيع عليه. فممّن شنع عليه الأديب الكواشي بما حاصله : أنّ الطعن على قراءة ابن عامر طعن على جميع علماء الأمصار لأنّهم تلقّوا قراءته بالقبول ، وقرءوا بها في صلاتهم ، وذكروا أنّها منقولة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله تعالى شأنه أكرم من الامّة على الاجماع في الخطاء. وممّن زاد عليه في التشنيع أبو حيّان ، فإنّه قال : العجب من أعجمي ضعيف العقل لا اطّلاع له على تمام قواعد النحو وقوانين كلام العرب ، يخطّئ عربيّا في نهاية الفصاحة وغاية البلاغة ، اعتمد العامّة والخاصّة على قراءته ، وذكر كثيرا من هذا الباب. وممّن أطنب في التشنيع العلّامة سعد الدين التفتازاني في شرح الكشّاف ، حيث قال : إنّ اعتراض الزمخشري على قراءة ابن عامر ذنب عظيم وخطأ جسيم ، لأنّه طعن على قراءة

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الفصل بين المتضايفين ، حيث حكم بسماجة وروده ، كما سمج ورود : زجّ القلوص أبي مزارة. ثمّ قال : والذي حمله على ذلك أنّه رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبا بالياء» انتهى.

ورابعا : ما ذكره الطبرسي في بيان وجه نسبة القراءات إلى المشايخ السبعة قائلا : «إنّما اجتمع الناس على قراءة هؤلاء واقتدوا بهم فيها لسببين ، أحدهما : أنّهم تجرّدوا لقراءة القرآن فاشتدّت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم ، ومن كان قبلهم أو في أزمنتهم ممّن نسبت إليه القراءة من العلماء وعدّت قراءتهم من الشواذّ لم يتجرّدوا لذلك تجرّدهم ، وكان الغالب على هؤلاء الفقه والحديث أو غير ذلك من العلوم. والآخر : أنّ قراءتهم وجدت مسندة لفظا وسماعا حرفا حرفا من أوّل القرآن إلى آخره ، مع ما عرف من فضلهم وكثرة علمهم بوجوه القرآن» انتهى. ووجه التأييد أنّه لو كانت قراءتهم متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان اللازم الاستناد في سبب الاشتهار إلى تواتر القراءات إليهم لا إلى الوجهين المذكورين ، فهما ينبئان عن ابتنائها على اجتهادهم فيها.

والتحقيق بعد ملاحظة الأدلّة المتقدّمة والتأييدات المذكورة هو حصول القطع ـ ولا أقلّ من الظنّ القويّ ـ بعدم تواتر القراءات السبع المعروفة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشايخها ، وكونها مبتنية على اجتهادهم في إعمال القواعد العربيّة والوجوه الاعتباريّة ، كيف لا ومشايخ القراءات السبع من العامّة العمياء ، ولا يورث أخبارهم القطع بالواقع وإن بلغوا في العدد إلى خمسين. وتؤيّد ما اخترناه أيضا دعوى جماعة من العامّة إجماعهم على عدم تحقّق التواتر ، بل ربّما يتراءى من بعضهم كون ذلك من ضروريّات مذهبهم.

قال المحدّث البحراني : «إنّ ظاهر جملة من العلماء العامّة ومحقّقي هذا الفنّ

__________________

السبعة ، لأنّه بزعمه إنّهم اخترعوا هذه القراءات باجتهادهم وآرائهم ، كان يطعن عليهم ويضعّف قراءتهم. وحكي عن أعاظم علمائهم أنّهم كانوا يبرءون من الزمخشري على هذا المقام. ثمّ أطال في تلاوة التشنيع والذمّ ، ذكر هذا كلّه في كتاب زهر الربيع. منه».

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إنكار ما ادّعي هنا من التواتر أيضا. قال الشيخ العلّامة شمس الدين محمّد بن محمّد بن محمّد بن الجزري الشافعي المقبري في كتاب النشر لقراءات العشر على ما نقله بعض مشايخنا المعاصرين : «كلّ قراءة وافقت العربيّة ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف الثمانيّة ولو احتمالا ، وصحّ سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ، ولا يحلّ إنكارها ، بل من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ووجب على الناس قبولها ، سواء كانت من الأئمّة السبعة أم العشرة أم غيرهم من الأئمّة المنقولين. ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذّة أو باطلة ، سواء كانت من السبعة أو ممّن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمّة التحقيق من السلف والخلف. صرّح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد المدائني. ونصّ عليه في غير موضع الإمام أبو محمّد مكي بن أبي طالب ، وكذلك الإمام أبو العبّاس أحمد بن عمّار المهتدي. وهو مذهب السلف الذي لا يعرف من أحد منهم خلافه قال أبو شامة في كتاب المرشد الموجز : فلا ينبغي أن يقرأ بكلّ قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمّة السبعة ، ويطلق عليها الصحّة ، وأنّ هكذا نزلت ، إلّا إذا دخلت في هذا الضابط. وحينئذ لا يتفرّد بها مصنّف دون غيره ، ولا يختصّ ذلك بنقلها عنهم ، بل إن نقلت عن غيرهم من القرّاء فذلك لا يخرجها عن الصحّة ، فإنّ الاعتماد فيما نقل عنهم على استجماع تلك الأوصاف لا على من نسب إليه ، غير أنّ هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم» انتهى.

وهو كما ترى صريح في أنّ المعيار في الصحّة إنّما هو ما ذكروه من الضابط ، لا مجرّد وروده عن السبعة فضلا عن العشرة ، وأنّ العمل على هذا الضابط مذهب السلف والخلف ، فكيف يتمّ ما ادّعاه أصحابنا من تواتر هذه السبع؟ ويؤيّد ذلك ما نقله شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني قال : سمعت شيخي علّامة الزمان وأعجوبة الدوران يقول إنّ جار الله ينكر تواتر

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

السبع ، ويقول : إنّ القراءة الصحيحة التي قرأ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هي في صفتها ، وإنّما هي واحدة ، والمصلّي لا تبرأ ذمّته من الصلاة إلّا إذا قرأ فيما وقع فيه الاختلاف على كلّ الوجوه ، كمالك وملك ، وصراط وسراط ، وغير ذلك» انتهى كلام صاحب الحدائق.

وقال المحقّق الكاظمي عند شرح قول الفاضل التوني : «وقدماء العامّة اتّفقوا على عدم جواز العمل بقراءة غير السبعة أو العشرة المشهورة» أقول : هذا إنّما وقع فيما اشتهر من كتب المتأخّرين ، وأمّا متقدّموهم فعلى خلاف ذلك ، فقال أبو بكر بن العربي : ليست هذه السبع متعيّنة للجواز حتّى لا يجوز غيره ، كقراءة أبي جعفر وشيبة والأعمش ونحوهم ، فإنّ هؤلاء مثلهم أو فوقهم. قال في الإتقان : وكذا غير واحد منهم مكّي وأبو علي الهمداني وآخرون من أئمّة القرآن. هذا كلامه ، ثمّ حكى عن أبي حيّان ما يؤدّي ذلك ، وكذا عن القرّاء وأبي شامة في المرشد ، ثمّ ذكر ما تقدّم حكايته في كلام المحدّث البحراني من كلام ابن الجوزي. وقد تحقّق ممّا قدّمناه أنّ الحقّ عدم تواتر السبع.

وهنا فوائد :

الاولى : أنّ ظاهر إطلاق أكثر من ادّعى تواتر السبع وعزاه بعض الشافعيّة إلى الجمهور هو تواترها بحسب جوهر الألفاظ وأدائها وكيفيّاتها. والمراد بالجوهر ما يختلف به المعنى ، أو الخطوط ، أو هما معا. والأوّل مثل «ملك» على صيغة الماضي ، و «ملك» بفتح الفاء وكسر العين أو تسكينها. والثاني إمّا بحسب اللغة مثل (كفوا) بالهمزة والواو ومخفّفا ومثقّلا ، أو بحسب الصرف مثل «يرتدّ» و «يرتدد» و «يخدعون» و (يُخادِعُونَ) ، أو بحسب النحو مثل (لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) بالياء والتاء. والثالث مثل «مالك» بالألف على قراءة عاصم والكسائي والخلف ويعقوب الحضرمي ، و «ملك» على قراءة الباقين. والمراد بالأداء ما يتعلّق بكيفيّة أداء اللفظ مثل المدّ والإمالة والتفخيم والترقيق والإشمام والروم ، وبالهيئة هي

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الحركات والسكنات في أوّل الكلمة أو وسطها أو آخرها.

وغرضهم من إثبات تواتر السبع هو عدم جواز القراءة بغيرها وإن وافق القواعد العربيّة والمعاني اللغويّة. وممّا يشهد به وبكون مرادهم بتواتر السبع أعمّ من تواترها بحسب الجوهر والأداء والكيفيّة اتفاقهم ـ من دون ظهور خلاف ، سوى ما يظهر من المرتضى ـ على بطلان الصلاة لو أخلّ بحركات الفاتحة والسورة فيها ، بمعنى أن يقرأ بغير ما قرأ به السبعة وإن كانت موافقة للقواعد العربيّة ولم يتغيّر بها المعنى ، كأن ينصب «الرحمن الرحيم» أو يرفعهما. وأمّا مخالفة المرتضى فلأنّه قد صحّح صلاة من أخلّ بقراءة السبعة ما لم يؤدب إلى خلل في المعنى ، ولو كان مرادهم بتواتر السبع تواترها بحسب الجوهر خاصّة لم يسعهم ذلك.

هذا ، وربّما يظهر من بعض المدّعين لتواتر السبع تفصيل في المقام ، وكلماتهم لا تخلو عن تشويش واضطراب. قال ابن الحاجب : «القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء ، كالمدّ والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها. لنا : لو لم تكن متواترة لكان بعض القراءات غير متواتر ، كملك ومالك ونحوهما ، وتخصيص أحدهما تحكّم باطل ، لاستوائهما» انتهى.

وقال العضدي في شرحه : «القراءات السّبع منها ما هو من قبيل الهيئة ، كالمدّ واللين وتخفيف الهمزة والإمالة ونحوها ، وذلك لا يجب تواتره. ومنها ما هو من قبيل جوهر اللفظ ، نحو ملك ومالك. وهذا متواتر ، وإلّا كان غير متواتر ، وهو من القرآن ، فبعض القرآن غير متواتر ، وقد بطل لما مرّ. ولا يمكن أن يصار إلى أحدهما بعينه فيقال : إنّه المتواتر دون الآخر ، وذلك الواحد هو القرآن ، لأنّه تحكّم باطل ، لاستوائهما بالضرورة» انتهى.

وقال المحقّق البهائي رحمه‌الله في زبدته : «والسبع متواترة إن كانت جوهريّة كملك ومالك. وأمّا الأدائيّة كالمدّ والإمالة فلا» انتهى. وقال الفاضل الجواد في

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

شرح العبارة : «القراءات السبع قسمان : منها ما هي جوهريّة ، أي : من قبيل جوهر اللفظ ، كملك ومالك ، والمراد بها ما تختلف خطوط المصحف به والمعنى باختلافه. ومنها ما هي أدائيّة ، أي : من قبيل الهيئة كالمدّ واللّين ، والمراد بها خلاف ذلك. والثاني لا يجب تواتره ، فيجوز كونه آحاديّا مع تواتر اللفظة التي تتّصف به ، لأنّ القرآن هو الكلام ، وصفات الألفاظ ليست كلاما. والأوّل يجب تواتره ، لأنّه قرآن ، وقد ثبت اشتراط التواتر فيه ، فلو كان غير متواتر لكان بعض القرآن غير متواتر ، وقد بطل» انتهى.

وهذه الكلمات كما ترى مفصّلة بين الجوهريّة والأدائيّة المفسّرة بالهيئة في كلام الفاضل الجواد. ولعلّ المراد بها ما يشمل المدّ واللين والحركات الإعرابيّة والبنائيّة ونحوها. هذا مع عدم بيان المراد بالجوهريّة سوى ما عرفته من الفاضل الجواد تبعا لجماعة ، وهو ما تختلف خطوط المصحف ومعناه باختلافه. ويلزمه أن لا يكون ما اختلف خطّه دون معناه أو بالعكس باختلافه متواترا ، وما ليس بتواتر ليس بقرآن اتّفاقا ، وإثبات عدم كون أمثال ذلك من القرآن دونه خرط القتاد ، لما يلزم عليه من كون بعض القرآن متواترا دون بعض.

وأورد الفاضل الجواد سؤالا على نفسه في دعوى عدم تواتر الهيئة بقوله : لا يقال : الهيئة جزء صوري للفظ كما أنّ الجوهر جزء مادّي للهيئة فإذا اشترط في القرآن التواتر وجب تواتره بكلا الجزءين ، فيجب تواتر الهيئة أيضا. وأجاب عنه ـ بعد تسليم كون الهيئة جزءا ـ صوريّا ـ بانعقاد الإجماع على عدم وجوب تواتر القرآن بتلك الهيئة. وهو كما ترى صريح في انعقاد الإجماع على عدم وجوب تواتر الهيئة ، وقد عرفت أنّ ظاهر الأكثر خلافه. وبالجملة إنّ كلماتهم في المقام غير محرّرة.

وكيف كان ، فحجّة من ادّعى تواتر الجميع من الجوهر والمادّة والهيئة أنّ القرآن من قبيل اللفظ ، فكما أنّ الجوهر جزء مادّي له ، كذلك الأداء والهيئة جزء

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

صوري له ، وإذا ثبت اعتبار التواتر في القرآن ثبت اعتبار تواتره بكلا جزئيه. ومع التسليم أنّ الأداء والهيئة من اللوازم المساوية للفظ ، فمع تواتر الجوهر يلزم تواتر لازمه أيضا.

وحجّة المفصّل لعلّها أنّ الآيات قد كتبت في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يصلح نقشا لما تكلّم به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عارية عن النقط والإعراب ، وبعد جمعها كذلك قد صارت تمام القرآن ، وهذه النقوش قد نقلت متواترة إلى القرّاء السبعة ، فتصرّفوا في أدائها وهيئتها بما أدّى إليه اجتهادهم. وممّا يشهد به أنّ جماعة من العلماء قد بنوا على صحّة قراءة عاصم ، وحكموا بشذوذ قراءة ابن مسعود ، مع كونه من مشايخه ، إذ لو لم تكن قراءتها مبنيّة على الاجتهاد فلا وجه للتفصيل بالحكم بصحّة قراءة أحدهما وشذوذ الآخر ، لأنّه لا بدّ حينئذ من الحكم بصحّة كلّ منهما ، لفرض تواترهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. مع أنّ شذوذيّة قراءة الشّيخ يستلزم شذوذيّة قراءة تلميذه أيضا لا محالة ، لكونه آخذا منه وناقلا عنه.

ولعلّه لما ذكرناه قد ذكر الشهيد الثاني في شرح الألفيّة ـ فيما حكي عنه ـ قائلا : واعلم أنّه ليس المراد أنّ كلّ ما ورد من هذه القراءات متواتر ، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإنّ بعض ما نقل من السبعة شاذّ فضلا عن غيرهم ، كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن. والمعتبر القراءة بما تواتر من هذه القراءات وإن ركّب بعضها في بعض ، ما لم يترتّب بعضها على بعض بحسب العربيّة فيجب مراعاته ، ك (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) فإنّه لا يجوز الرفع فيهما ولا النصب وإن كان كلّ منهما متواترا ، بأن يؤخذ رفع «آدم» من غير قراءة ابن كثير ورفع «كلمات» من قراءته ، فإنّه لا يصلح ، لفساد المعنى.

ثمّ إنّه قد ذكر في ذيل كلامه ما ينافي صدره ، حيث قال : «وأمّا اتّباع قراءة واحدة من العشر في جميع السورة فغير واجب قطعا ، ولا مستحبّ ، فإنّ الكلّ من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين ، تخفيفا عن الامّة ، وتهوينا

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على أهل هذه الملّة» انتهى. وقد أشار بالتخفيف والتهوين إلى ما تقدّم من رواية الخصال المتضمّنة لسؤال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التوسعة في قراءة القرآن.

ووجه المنافاة واضح ، إذ إنكار تواتر الجميع ينافي دعوى كون الجميع من عند الله. ويمكن دفع المنافاة بحمل ما ذكره من كون الكلّ من عند الله وممّا أنزله الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين على كون جميع القراءات من حيث الجوهر كذلك ، وما ذكره من نفي كون الجميع متواترا على نفي كون جميع الألفاظ مع كيفيّة أدائها وهيآتها كذلك فتدبّر.

وتحقيق المقام أنّ القراءات تتصوّر بوجوه أربعة :

أحدها : أن يختلف باختلافه خطوط المصاحف ومعناها ، أعني : المصاحف الموجودة في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا ممّا لا إشكال فيه ، إذ لو لم يكن الجميع حينئذ متواترا فلا بدّ إمّا من الحكم بتواتر بعضها بالخصوص ، وهو تحكّم باطل. وإمّا من الحكم بعدم تواتر الجميع أو بعض غير معيّن ، وهو مستلزم لعدم كون هذا القسم من القرآن ، لاتّفاقهم على اعتبار التواتر فيه ، وهو ضروري البطلان. والظاهر أنّه لا كلام لهم في ذلك ، وعليه يمكن تنزيل ما تقدّم عن الشهيد الثاني من حصر المتواتر في السبع لا كون الجميع متواترا ، بأن أراد تخصيص المتواتر بما يختلف باختلافه الخطّ والمعنى ، وأنّ هذا في جملة السبع. وربّما يؤيّده تمثيل العلّامة بعد دعوى الإجماع على تواتر السبع بمثل ملك ومالك.

وثانيها : أن يختلف باختلافه المعنى دون اللفظ ، مثل يطهرن ويطّهرن بالتخفيف والتشديد.

وثالثها : عكس ذلك ، مثل يرتدّ ويرتدد. وهذان القسمان أيضا ممّا لا يمكن نفي تواتر الجميع فيهما ، لما ذكرناه من الوجه.

ورابعها : أن لا يختلف باختلافه شيء من اللفظ والمعنى ، مثل قراءة «والأرحام» بالجرّ والنصب ، أو غير ذلك من كيفيّات تأدية الألفاظ ، مثل المدّ واللين

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والتفخيم والترقيق والإدغام والروم ونحوها. وهذا هو الذي يمكن لمنكري التواتر إنكاره فيه. وحيث قد عرفت أنّ الأقوى عدم ثبوت التواتر نقول بجواز القراءة في هذا القسم بمقتضى القواعد العربيّة وإن لم ينطبق على شيء من القراءات السبع ، ولا يحكم ببطلان الصلاة لو أخلّ فيها بشيء من ذلك ـ وإن قرأ به السبعة ـ إذا وافق القواعد العربيّة. نعم ، يجب في المدّ مدّ الصوت بمقدار زمان امتداد التكلّم بألف ، لا ما هو الدائر على ألسنة المتحلّين بهذا العلم من مدّ الصوت بمقدار زمان المتكلم بأربعة ألفات ، لأنّ ما ذكرناه هو المتعارف عند المتكلّمين بهذه اللغة. وربّما يقال بأنّ أصل المدّ واللين ونحوهما متواتر ، والمنفي مقادير المدّ وكيفيّة الإمالة.

قال بعض الشافعيّة في مقام تفسير مراد الحاجبي فيما تقدّم من كلامه : «ومراده بالتمثيل بالمدّ والإمالة ، مقادير المدّ وكيفيّة الإمالة لا أصل المدّ والإمالة ، فإنّه متواتر قطعا. فالمقادير كمدّ حمزة ودرش بقدر ستّ ألفات ، وقيل : خمس ، وقيل : أربع ورجّحوه ، وعاصم بقدر ثلاث ، والكسائي بقدر ألفين ونصف ، وقالون بقدر ألفين ، والسوسي بقدر ألف ونصف ، ونحو ذلك. وكذلك الإمالة تنقسم إلى محضة ، وهي أن ينحّي بالألف إلى الياء ، وبالفتحة إلى الكسرة ، وبين بين ، وهي كذلك إلّا أنّها تكون إلى الألف أو الفتحة أقرب ، وهي المختار عند الأئمّة ، أمّا أصل الإمالة فمتواترة قطعا. وكذلك التخفيف في الهمزة والتشديد فيه ، منهم من يسهّل ، ومنهم من يبدّله ، ونحو ذلك. فهذه الكيفيّة هي التي ليست متواترة ، ولهذا كره أحمد قراءة حمزة ، لما فيها من طول المدّ والكسر والإدغام ونحو ذلك ، وكذا قراءة الكسائي ، لأنّها كقراءة حمزة في الإمالة والإدغام ، كما نقل ذلك السرخسي في الغاية ، فلو كان ذلك متواترا لما كرهه أحمد ، لأنّ الامّة إذا كانت مجمعة على شيء فكيف يكره؟» انتهى. والحقّ ما عرفت.

الثانية : أنّه قد صرّح غير واحد من العلماء بذهاب القائلين بتواتر السبع أو

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

العشر أو أزيد (*) إلى عدم جواز القراءة بغيرها لأنّ القرآن ما ثبت بالتواتر ، وما ليس بمتواتر ليس بقرآن ، فلا تجوز القراءة بغيرها. ولذا ذهب العلّامة إلى عدم جواز القراءة بقراءة ابن مسعود ، لعدم ثبوت تواترها ، حتّى إنّه قد صرّح بعضهم بعدم جواز الخروج من القراءات السبع وإن كان بعضها مخالفا للقواعد العربيّة.

وأمّا القائل بكون المتواتر في السبع لا أنّ السبع متواترة كما تقدّم ، فإن تعيّن ذلك ، بأن علم كون المتواتر هو الجوهري من القراءات السبع كما احتملناه في كلام الشهيد الثاني ، اختصّ ذلك بالحكم ، وإن لم يتعيّن ذلك ، بأن علم إجمالا وجود قراءة شاذّة في جملة السبع ولم تتميّز عن المتواترة يجري فيه ما ستعرفه من الرجوع إلى مقتضى الاصول من البراءة والاشتغال.

وقد ذهب جماعة من المنكرين لتواتر السبع ـ كالبهائي والمحدث البحراني ـ إلى وجوب القراءة بها ، وعدم جواز الخروج منها. واحتجّوا لذلك بوجوه :

أحدها : إجماع أصحابنا قولا وعملا. ولذا يحكمون ببطلان صلاة من قرأ الفاتحة بما خرج من السبع أو العشر ، وبعدم الخروج من العهدة بغيرها إذا استؤجر لقراءة القرآن.

وثانيها : الأخبار الدالة على ذلك. قال المحدّث البحراني في حدائقه : ثمّ إنّ الذي يظهر من الأخبار أيضا هو وجوب قراءة القرآن بهذه القراءات المشهورة ، لا من حيث ما ذكروه من ثبوتها وتواترها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل من حيث الاستصلاح والتقيّة. فروى في الكافي بسنده إلى بعض الأصحاب عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «قلت له : جعلت فداك إنّا نسمع الآيات ليست هي عندنا كما نسمعها ، ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم ، فهل نأثم؟ فقال : لا اقرءوا كما علّمتم ، فسيجيء من يعلّمكم». وروى فيه عن أبي سالم بن سلمة قال : «قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «قال المحقّق القمّي رحمه‌الله بعد ذكر السبع والعشر : وزاد بعضهم على ذلك ، وهو مهجور. منه».

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

حروفا ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم العليم» الحديث.

وثالثها : قاعدة الاشتغال ، لعدم العلم بالخروج من عهدة التكليف المتعلّق بما تجب فيه قراءة القرآن بالقراءة بما هو خارج من السبع.

وعندي هذه الوجوه ضعيفة. أما الأوّل فإنّ الإجماع المذكور تقييدي ، لاحتمال كون عدم تجويز بعض المجمعين للقراءة بما خرج من السبع لأجل زعمه كونها متواترة ، وبعض آخر لأجل إمضاء الأئمّة عليهم‌السلام لها والمنع من غيرها ، كما عرفته من الأخبار ، فمن ينكر الأمرين لا يجوز له التمسّك بهذا الإجماع.

وأمّا الثاني فإنّ تلك الأخبار واردة في مقام بيان عدم جواز القراءة بقراءة أهل البيت عليهم‌السلام من دون نظر إلى الأمر بقراءة مخصوصة ، لاحتمال أن يكون المراد بقوله عليه‌السلام : «كما يقرأ الناس» هو الإحالة إلى القراءة بحسب متفاهم اللسان وعلى ما تقتضيه القواعد العربيّة من دون لزوم اتّباع القرّاء السبعة ، بل هذا هو الظاهر من الفقرة المذكورة. ويحتمل الإحالة إلى القراءة بقراءة مخصوصة غير السبع المشهورة ، أو القراءة بها وبغيرها من القراءات.

وأمّا الثالث فإنّ مرجع الشكّ في وجوب القراءة بالسبع المشهورة وعدمه إلى الشكّ في الأجزاء والشرائط ، وسيأتي في محلّه أنّ المختار فيه أصالة البراءة دون الاشتغال.

فإن قلت : إنّ الرجوع إلى أصالة البراءة إنّما هو فيما كان الشكّ فيه في الشرطيّة والجزئيّة ، لا فيما كان الشكّ فيه في مصداقهما بعد تبيّن مفهومهما. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ المأمور به ـ وهي قراءة القرآن في الصلاة ـ مبيّن المفهوم ، لأنّ القرآن عبارة عن الكلام المنزل للإعجاز ، والشكّ إنّما هو في أنّ مصداق هذا المفهوم هو الألفاظ على نحو ما قرأه السبع ، أو ما كان مطابقا للقواعد العربيّة ، سواء طابق إحدى القراءات السبع أم لا ، والمرجع عند الشكّ في تحقّق

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مصداق الجزء أو الشرط إلى قاعدة الاشتغال دون البراءة.

قلت : إنّا نمنع كون المقام من قبيل الشكّ في المصداق ، إذ القرآن وإن كان هو الكلام المنزل للإعجاز ، إلّا أنّه لا ريب في قيام هذا المعنى بجواهر الألفاظ المطابقة للقواعد العربيّة ، سواء طابقت القراءات السبع أم لا. والشكّ إنّما هو في اشتراط القراءة بإحدى السبع فيما اشترطت فيه قراءة القرآن وعدمه ، فهذا ليس من قبيل ما دار الأمر فيه بين ما هو قرآن ، وغير قرآن ، بل في اشتراط القراءة ببعض ما صدق عليه القرآن حقيقة وعدمه.

هذا كلّه على مذهب من أنكر تواتر السبع ، وادّعى تعيّن العمل بها. وأمّا المختار من منع التواتر ، وعدم قيام دليل معتبر على وجوب القراءة بها ، فالتحقيق أن يقال : إنّ المعتبر هي القراءة بما ينطبق على القواعد العربيّة وإن كان خارجا من السبع. نعم ، الأولى القراءة بإحدى السبع خروجا من خلاف من أوجبها. هذا إذا كانت مطابقة للقواعد العربيّة. وأمّا إذا كانت مخالفة لها ، كالعطف على الضمير المجرور من دون إعادة الخافض ، فيعدل عنها حينئذ إلى ما يوافق القواعد. وأمّا إذا لم تعلم الموافقة والمخالفة ، لأجل عدم استحضار موارد استعمالات العرب ، فيتّبع حينئذ إحدى السبع ، لكونهم أقرب إلى أهل اللسان. وأمّا فيما يخطّئهم بعض علماء الأدب ، مثل نجم الأئمّة والزمخشري والزجّاج وأمثالهم ، ممّن قد علم بكونه أعلى مرتبة في الإحاطة بكلمات العرب وموارد استعمالاتهم من هؤلاء السبعة ، فالظاهر حينئذ اتّباع علماء الأدب. هذا بحسب ما يتعلّق بقواعد العرب.

وأمّا ما يختصّ بفنّهم في كيفيّة تأدية الألفاظ ، مثل الإمالة واللين والتفخيم والترديد والإشمام والروم والإدغام وزيادة المدّ ونحوها ، فالظاهر عدم وجوب متابعتهم في ذلك ، بل المعتبر فيه الرجوع إلى متعارف أهل اللسان في تأدية الألفاظ ، بل هذه الامور على الوجه المقرّر عند المتحلّين بهذه الصناعة في أمثال هذه الأعصار ربّما تخلّ بسلاسة القرآن وحلاوة قراءته واستماعه. وبالجملة ، فالمتّبع ملاحظة

٣٥٩

في الكتاب على وجهين مختلفين (٢٣٨)

______________________________________________________

طريقة أهل اللسان في ذلك. والله أعلم.

الثالثة : قال السيّد الجزائري في كشف الأسرار : «وقد ظهر في قريب من هذه الأعصار السجاوندي الذي يكتب ويرسم على الآيات من علامات الوقف المطلق واللازم ونحو ذلك ، وقد وضعه رجل اسمه سجاوند ، وبعد ملاحظة تفاسير الخاصّة وأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام لم يبق شكّ ولا ريب في عدم اعتباره ، وقد شاع وذاع كتابة رسومه في المصاحف. والظاهر أنّه إن مضى زمان يدّعى تواتره ووجوب القراءة به وإبطال صلاة من قرأ بغيره ، ولا نقول كما قيل : العلم نقطة كثّره الجاهلون ، بل نقول : العلم بسيط وقد ركّبه العالمون» انتهى. وببالي أنّه قد ذكر في كتاب الأنوار : أنّ رسوم خطّ القرآن التي قد تداولت كتابة خطّ القرآن بها في المصاحف ـ وهي خارجة من قواعد الخطّ ـ إنّما نشأت من جهل عثمان بن عفّان بقواعده.

وقال في كشف الأسرار أيضا في وصف القرآن الذي كتبه عثمان : ألا ترى إلى رسم قواعد خطّه كيف خالفت علم العربيّة؟ مثل كتابة الألف بعد واو المفرد ، وحذفها بعد واو الجمع ونحو ذلك ، حتّى صار اسمه رسم القرآن ، وذلك لجهل عثمان بقواعد الخطّ وقواعد علم العربيّة.

٢٣٨. توضيح المقام وتتميم هذا المرام : أنّه إذا اتّفقت القراءات أو اختلفت لكن لا بحيث يؤدّي إلى اختلاف الحكم المستفاد منها تجوز القراءة بكلّ منها عند مدّعي تواترها ، وكذا عند منكره ـ كما هو المختار ـ ما لم تخالف القواعد العربيّة كما تقدّم في الحاشية السابقة. وأمّا إذا اختلفت بحيث يؤدّي إلى اختلاف الحكم المستفاد منها ، مثل قراءة «يطّهّرن» بالتشديد الظاهر في الاغتسال ، والتخفيف الظاهر في انقطاع الدّم. فعلى القول بتواترها فاللازم عليه من حيث القراءة بها جواز القراءة بكلّ منها ، وعدم جواز الإخلال بكلّ منها.

٣٦٠