فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

الواقعة ، وإمّا أن لا يكون له (١٥٨) فيها حكم ، ـ كالبهائم والمجانين ـ فعلى الأوّل ، فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم من الاصول أو الأمارات الظنيّة التي منها خبر الواحد. وعلى الثاني ، يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي وترك الواجب الواقعي ، وقد فرّ المستدلّ منهما.

فإن التزم أنّ مع عدم التمكّن من العلم لا وجوب ولا تحريم ؛ لأنّ الواجب والحرام ما علم بطلب فعله أو تركه ، قلنا : فلا يلزم من التعبّد بالخبر تحليل حرام أو عكسه.

وكيف كان : فلا نظنّ بالمستدلّ (١٥٩)

______________________________________________________

١٥٨. يعني : في الظاهر وإن ثبت في الواقع. وحينئذ لا يرد على قوله : «وعلى الثاني يلزم ...» منع اللزوم بعد فرض كونه كالبهائم.

١٥٩. هذا توجيه لكلام المستدلّ ، ودفع لجملة من النقوض المتقدّمة التي أوردها صاحب الفصول وربّما يظهر من المصنّف رحمه‌الله تسليم ورود النقض عليه بالأمارات الشرعيّة مثل اليد والبيّنة ونحوهما. وهو لا يخلو من نظر. وتوضيح المقام أنّ موارد النقض امور : منها جواز الفتوى وتقليد الجاهل بالعالم. وفيه : أنّ الجهّال الذين يجوز لهم تقليد العالم على صنفين : منهم من لا يمكن له أو يتعسّر عليه تحصيل العلم أو الاطمئنان بالأحكام الواقعيّة ولو بسؤال الإمام عليه‌السلام ، كأكثر العوام بل جميعهم الموجودين في أمثال زماننا أو الموجودين في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، الذين يتعسّر أو يتعذّر عليهم الوصول إلى حضرتهم وأخذ الأحكام منهم ، أو من أصحابهم الذين يحصل العلم أو الاطمئنان بإخبارهم ، لبعدهم أو لوجود مانع آخر. ومنهم من يتيسّر له ذلك من دون مشقّة كثيرة لا تتحمّل عادة ، كالحاضرين في بلد الإمام عليه‌السلام.

ولا ريب أنّ جواز التقليد للصنف الأوّل لا يرد نقضا على المستدلّ ، بعد فرض تخصيص كلامه بصورة الانفتاح ، لفرض انسداد باب العلم في حقّهم وأمّا الصنف الثاني فلا ريب أنّ تقليدهم ليس بمثابة تقليد العوام في أمثال هذا الزمان ، إذ

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

كانت فتوى أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام مفيدة للوثوق لهم بالأحكام الواقعيّة. ولذا ترى أنّ عدلا في هذا الزمان أيضا لو أخبر عن رأي المجتهد حصل للمخاطب علم أو وثوق بكونه فتواه. والوجه فيما ذكرناه من حصول الوثوق لهم بنفس الأحكام الواقعيّة أنّ فتاوى ذلك الزمان لم تكن كفتاوى مجتهدي هذا الزمان مبتنية على إعمال الاصول التعبّديّة ، بل كانت فتاواهم أشبه بنقل الأخبار المسموعة عن الإمام عليه‌السلام بالمعنى ، وإنكار حصول الوثوق في مثل ذلك مكابرة محضة. وهذا وإن سمّي تقليدا ، كما يظهر من قول أبي جعفر الباقر عليه‌السلام لأبان : «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» إلّا أنّه نوع اجتهاد في الحقيقة. ولذا نقول بجواز البقاء على تقليد الميّت بل التقليد له ابتداء أيضا في مثل هذه الصورة ، وإن لم نقل بهما في أمثال هذا الزمان.

وبالجملة ، إنّ التقليد على هذا الوجه لا يرد نقضا على المستدلّ ، إذ لعلّه لا يأبى عن العمل بالوثوق الذي لا يعتنى باحتمال الخلاف فيه عند العقلاء ، بل الظاهر أنّ غيره أيضا ممّن منع العمل بغير العلم ـ كالسيّد وأتباعه ـ قد أرادوا من العلم ما يشمل ذلك أيضا. وفي كلام السيّد إشارة إلى ذلك كما يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومنها : جواز العمل بالاصول اللفظيّة. وفيه : أنّ اعتبار ظواهر الألفاظ من الكتاب والسنّة إن اريد به اعتبارها بالنسبة إلى المشافهين ، فلا ريب أنّ الخطابات الشفاهيّة إن لم تفد العلم للمخاطبين فلا أقلّ من حصول الاطمئنان لهم ، وقد عرفت قوّة احتمال عدم إباء المستدلّ من العمل به. وإن أبيت إلّا عن عدم إفادتها إلّا الظنّ غالبا أو دائما نقول : إنّه على هذا الفرض يكون باب العلم إلى تعيين مرادات المتكلّمين منسدّا ، وقد عرفت عدم ورود النقض على المستدلّ على هذا الفرض.

وإن اريد به اعتبارها بالنسبة إلى المعدومين أو الغائبين عن مجلس الخطاب ، فنقول : إنّ اعتبارها بالنسبة إليهم إن كان من باب الظنّ المطلق كما يراه المحقّق

٢٤٢

إرادة الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهر أنّه يدّعي الانفتاح ؛ لأنّه أسبق من السيّد وأتباعه الذين ادّعوا انفتاح باب العلم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى ؛ لأنّ المفروض انسداد باب العلم على المستفتي ، وليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي ، حتّى أنّه لو تمكّن من الظنّ الاجتهادي فالأكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير. وكذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركّبا ؛ فإنّ باب هذا الاحتمال منسدّ على القاطع.

وإن أراد الامتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر ، فنقول : إن التعبّد بالخبر حينئذ يتصوّر على وجهين : أحدهما : أن يجب العمل به لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا ظنّيا عنه ، بحيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى الكشف عن الواقع ، كما قد يتّفق ذلك حين انسداد باب العلم وتعلّق الغرض بإصابة الواقع ؛ فإنّ الأمر بالعمل بالظنّ الخبري أو غيره لا يحتاج إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنّيا

______________________________________________________

القمّي رحمه‌الله ، فقد عرفت عدم ورود النقض عليه بذلك. وإن كان من باب الظنّ النوعي ، أو التعبّد العقلائي مطلقا ، أو مع عدم حصول ظنّ شخصي بخلافه ، أو غير ذلك من الوجوه المحتملة التي ستأتي في محلّها ، فالنقض حينئذ إنّما يرد لو ثبت تسليم المستدلّ كون اعتبار الظواهر على أحد هذه الوجوه ، ولعلّه إنّما يعمل بها لأجل إفادتها الوثوق ، نظير ما ادّعاه بعض الأخباريّين من كون دلالة الكتب الأربعة كأسانيدها قطعيّة. ومع تسليم عدم إفادتها سوى الظنّ فقد عرفت عدم ورود النقض عليه حينئذ أيضا لأجل فرض الانسداد.

ومنها : جواز عمل الجاهل المركّب بيقينه. ويظهر ضعفه ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا ، مضافا إلى ما أسلفناه في بعض الحواشي السابقة.

ومنها : جواز العمل بالأمارات الشرعيّة المجعولة لتميّز الموضوعات المشتبهة ، مثل اليد والبيّنة ونحوهما.

٢٤٣

عن الواقع.

الثاني : أن يجب العمل به لأجل (١٦٠) أنّه يحدث فيه ـ بسبب قيام تلك الأمارة ـ مصلحة راجحة على المصلحة

______________________________________________________

وفيه أوّلا : أنّ النقض بها إنّما يرد لو قلنا بالتخطئة في استعمال الأمارات لتشخيص الموضوعات ، كاستعمال الأدلّة الظنّية لتحصيل المعرفة بالأحكام ولعلّ المستدلّ يقول بالتصويب في الموضوعات ، كما هو مذهب بعض المتأخّرين.

وثانيا : أنّه لا إشكال في انسداد باب العلم بالموضوعات المشتبهة. وهو واضح. وقد عرفت عدم ورود النقض عليه حينئذ.

فإن قلت : إنّ الأمارات الشرعيّة معتبرة ولو مع التمكّن من تحصيل العلم ، ولذا يجوز الاعتماد على البيّنة ولو في موارد إمكان تحصيل العلم بما قامت عليه.

قلت : إنّ الانسداد ليس علّة لجعل الأمارات ، بل هو حكمة له ، فلا يجب اطّراده. هكذا قيل. وفيه نظر ، لأنّ تجويز العمل بالظنّ لحكمة الانسداد لا يدفع المحظور الذي ذكره المستدلّ. وهو واضح. ولعلّه لأجل ذلك سكت المصنّف رحمه‌الله عن دفع النقض بالأمارات المذكورة.

١٦٠. ظاهر العبارة والعبارة التي حكاها عن النهاية تبعا للشيخ اعتبار المصلحة الحادثة بسبب قيام الأمارة في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمها. وهو لا يتمّ إلّا على الوجهين الأوّلين من وجوه اعتبار الظنّ من باب الموضوعيّة. وظاهره كما يأتي بطلان كلّ من الوجهين. وهو لا يتمّ مع قوله : «وأمّا وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني فلا قبح فيه أصلا» إلى آخر ما ذكره ، إذ ظاهره اختيار هذا الوجه.

ويمكن دفعه بأنّ ما ذكره إنّما هو في مقابل جعل العمل بالطريق الظنّي من باب الطريقيّة المحضة. فمراده بيان اعتبار الطرق الظنّية على وجهين ، أحدهما : من باب الطريقيّة المحضة ، والآخر على وجه الموضوعيّة ساكتا على الثاني عن كون المصلحة في الفعل على أحد الوجهين من وجوه اعتبار الظنّ ، من باب الموضوعيّة أو

٢٤٤

الواقعيّة (١٦١) التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع ، كأن يحدث في صلاة الجمعة ـ بسبب إخبار العادل بوجوبها ـ مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا.

______________________________________________________

في سلوك الطريق كما هو الوجه الثالث منها ، وإن كان الجمود على ظاهر العبارة هنا موهما لما ذكر في الإشكال.

هذا ، والأولى في دفعه منع ظهور قوله : «وأمّا وجوب العمل بالخبر ...» في اختيار ما ذكر ، إذ غايته منع القبح العقلي ، وهو لا ينافي إنكار وقوع العمل بالخبر على الوجه المذكور في الشرع.

هذا ، ولكن ربّما يظهر من الجواب عن السؤال الآتي اختياره لهذا الوجه ، لأنّه إنّما أجاب عن السؤال بما ذكرناه من منع القبح العقلي بعد التنزّل والمماشاة مع الخصم. ثمّ إنّه ادّعى في الجواب المذكور عدم كون هذا الوجه تصويبا ، وأحال بيانه إلى ما ذكره بعد ذلك من وجوه كيفيّة جعل الطرق ، مع أنّه لم يشر هناك إلى عدم كون هذا الوجه تصويبا ، وإنّما ادّعى عدم كون الوجه الثالث من وجوه اعتبار الأمارات من باب الموضوعيّة تصويبا ، لا هذا الوجه الذي هو الوجه الثاني منها ، بل صريحه ـ حيث ادّعى استلزام القول بالإجزاء للتصويب ـ خلافه ، كما سنشير إليه هناك. وهذا ربّما يؤيّد كون مراده بما ذكره هنا هو الوجه الثالث من الوجوه المذكورة دون الوجه الثاني منها ، فتدبّر.

١٦١. فإن قلت : لا وجه للتخصيص بالمصلحة الراجحة ، لظهور كفاية المصلحة المساوية في تجويز العمل بمؤدّى الأمارة ، ومع احتمال تساوي المصلحتين لا يلزم التصويب ، لأنّ لزومه مبنيّ على رجحان المصلحة في الطريق ، لأنّ اضمحلال المفسدة الواقعيّة على تقدير مخالفة الأمارة للواقع مشروط برجحان مصلحة الطريق ، كما هو ظاهر.

قلت : نمنع كفاية المصلحة المساوية في تجويز العمل بمؤدّى الأمارة ، لأنّ

٢٤٥

أمّا إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأوّل ، فهو وإن كان في نفسه قبيحا مع فرض انفتاح باب العلم ـ لما ذكره المستدلّ من تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقة للواقع في نظر الشارع من الأدلّة القطعيّة التي يستعملها المكلّف للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيّين ، أو يكونا متساويين في نظره من حيث الإيصال إلى الواقع. إلّا أن يقال : إنّ هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلى الواقع ؛ إذ ليس المراد انسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلا مركّبا ، كما تقدّم سابقا. فالأولى : الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن عن الواقع. وأمّا وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني ، فلا قبح فيه أصلا ، كما لا يخفى.

قال في النهاية في هذا المقام تبعا للشيخ قدس‌سره في العدّة : إنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة (٣) ، انتهى موضع الحاجة.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يوجب التصويب (١٦٢) ؛ لأنّ المفروض على هذا أنّ

______________________________________________________

مؤدّاها إن كان هو الوجوب ، وكان الحكم الواقعي هي الحرمة ، فمع تساوي المصلحة والمفسدة وتزاحمهما لا يبقى مقتض لشيء من الوجوب والحرمة ، لأنّ مقتضى ذلك هي الإباحة دون الوجوب أو الحرمة. ومن هنا يظهر أنّه مع اختلاف مؤدّى الطريق والواقع في الوجوب والحرمة مثلا ، لا بدّ أن يكون رجحان مصلحة الطريق بحيث يكون مقدار الزائد منها على حدّ الإلزام ، فلا يكفي فيه أدنى الرجحان كما هي مقتضى إطلاق العبارة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ إطلاقها وارد في مقام بيان اعتبار الرجحان في الجملة ، لا في مقام تحديده. وكيف كان ، فممّا ذكرناه يظهر ما في اعتبار تساوي المصلحتين في الوجه الثاني من وجهي اعتبار الظنّ كما سيشير إليه.

١٦٢. الأولى ترك كلمة الحصر. والتقريب في لزوم التصويب هنا أنّه مع مزاحمة مفسدة الواقع بمصلحة الطريق الراجحة عليها ، لا تكون مفسدة الواقع منشأ

٢٤٦

في صلاة الجمعة التي اخبر بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة الواقعيّة ، فالمفسدة الواقعيّة سليمة عن المعارض الراجح بشرط عدم إخبار العادل بوجوبها ، وبعد الإخبار يضمحلّ المفسدة ؛ لعروض المصلحة الراجحة ، فلو ثبت مع هذا الوصف تحريم ثبت بغير مفسدة توجبه ؛ لأنّ الشرط في إيجاب المفسدة له خلوّها عن معارضة المصلحة الراجحة ، فيكون إطلاق الحرام الواقعيّ حينئذ بمعنى أنّه حرام لو لا الإخبار ، لا أنّه حرام بالفعل ومبغوض واقعا ، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة عند الشارع ليس إلّا المحبوبيّة والوجوب ، فلا يصحّ إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليها. ولو فرض صحّته فلا يوجب ثبوت حكم شرعيّ مغاير للحكم المسبّب من

______________________________________________________

لحكم ما دامت الأمارة قائمة على خلاف الواقع ، فلا يكون في حقّ من قامت الأمارة المخالفة عنده حكم واقعي مجعول سوى مؤدّى الأمارة ، ولا نعني بالتصويب إلّا اختلاف الأحكام الواقعيّة بالظنون.

نعم ، تكون المفسدة الواقعيّة في حقّ العالم بالواقع ، ومن قامت الأمارة عنده على طبق الواقع ، ومن كان جاهلا بالواقع ، بأن لم تقم عنده الأمارة أصلا ، منشأ للحكم. فهذه المفسدة تختلف باختلاف المكلّفين. فهي مفسدة شأنيّة في حقّ من قامت عنده الأمارة المخالفة ، بمعنى كونها منشأ للحكم على تقدير عدم قيام الأمارة المخالفة عنده ، ومفسدة فعليّة في حقّ من عداه ممّن ذكرناه. وهذه المفسدة الفعليّة قد تكون منشأ لحكم فعلي منجّز ، كما في حقّ العالم بالواقع أو من قامت عنده الأمارة الموافقة ، وقد تكون منشأ لحكم واقعي شأني ، كما في حقّ الجاهل بالواقع وباختلافها يختلف الحكم الواقعي أيضا ، لأنّه شأنيّ محض في حقّ من قامت عنده الأمارة المخالفة ، بمعنى أنّ له مادّة بحيث لو انكشف له عدم مخالفة الأمارة للواقع كانت هذه المادّة منشأ لحكم واقعي له. وبالجملة ، إنّ المراد بوجوده الشأني صلاحيّته للوجود على تقدير عدم المانع. وشأنيّ موجود في حقّ الجاهل بالواقع رأسا ، بمعنى كونه موجودا بالفعل وإن توقّف تنجّزه وتوجّهه إلى المكلّف على العلم أو قيام الأمارة المطابقة. فالشأنيّة هنا بالنسبة إلى التنجّز وفي الأوّل بالنسبة إلى

٢٤٧

المصلحة الراجحة.

والتصويب وإن لم ينحصر (١٦٣) في هذا المعنى ، إلّا أنّ الظاهر بطلانه أيضا ؛ كما اعترف به العلّامة في النهاية

______________________________________________________

أصل الوجود. وفعلي منجّز في حقّ العالم بالواقع ومن قامت عنده الأمارة المطابقة. ومن هنا يظهر أمران :

أحدهما : إنّ قيام الأمارة المطابقة لا يوجب حدوث حكم مغاير للحكم الواقعي وإن تزايدت به المفسدة الواقعيّة ، للتوافق بين جهة الظاهر والواقع حينئذ ، إذ غاية الأمر تأكّد الحكم وجوبا أو تحريما لا حدوث حكم آخر مغاير للواقع ، لعدم الحاجة حينئذ إلى جعل حكمين متوافقين. وثانيهما : إنّ لزوم التصويب إنّما هو بالنسبة إلى من قامت عنده الأمارة المخالفة لا مطلقا.

١٦٣. لأنّ أوضح صور التصويب هو ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الوجه الأوّل من وجوه اعتبار الظنّ من باب الموضوعيّة ، وما ذكر في السؤال إنّما هو الوجه الثاني منها ، وسنشير إلى وجوه الفرق بينهما في بعض الحواشي الآتية.

ثمّ إنّ للقائلين بالتصويب مذاهب آخر :

أحدها : أنّ الله تعالى قد جعل في حقّ كلّ مجتهد في الواقع قبل حصول الظنّ له حكما موافقا لما يؤدّي إليه ظنّه ، بمعنى أنّ الله تعالى لمّا علم بأنّ المجتهد الفلاني يظنّ كذا وضع ذلك المظنون قبل حصول ظنّه. وثانيها : أنّ الله تعالى قد جعل في حقّ كلّ مجتهد حكما في الواقع ، وأدّى الله ظنّ كلّ إلى ما وضعه في حقّه قسرا. وثالثها : أنّ الله تعالى قد جعل في حقّ كلّ مجتهد حكما في الواقع ، إلّا أنّ المجتهد يناله اتّفاقا لا قهرا.

لكنّ المعروف من مذهب التصويب ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الوجه الأوّل من وجوه اعتبار الظنّ من باب الموضوعيّة. واختاره العضدي ، إلّا أنّه قد حكي عنه أنّه قد التزم بشبيه حكم في الواقع وإن لم يكن نفسه ، فادّعى أنّ في الواقع شيئا لو كان الله تعالى جعل حكما كان هذا هو المجعول. وأنت خبير بأنّه إن أراد بهذا الشيء

٢٤٨

في مسألة التصويب ، وأجاب به صاحب المعالم (١٦٤) ـ في تعريف الفقه (٤) ـ عن قول العلّامة : بأنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم.

قلت : لو سلّم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه وأغمضنا النظر عمّا سيجيء ـ من عدم كون ذلك تصويبا ـ كان الجواب به عن ابن قبة من جهة أنّه أمر ممكن غير مستحيل ، وإن لم يكن واقعا لإجماع أو غيره ، وهذا المقدار يكفي في ردّه ، إلّا أن يقال (١٦٥) : إنّ كلامه قدس‌سره بعد الفراغ عن بطلان التصويب ، كما هو ظاهر استدلاله من تحليل الحرام الواقعي.

وحيث انجرّ الكلام إلى التعبّد بالأمارات الغير العلميّة ، فنقول في توضيح هذا المرام وإن كان خارجا عن محلّ الكلام : إنّ ذلك يتصوّر على وجهين : الأوّل : أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع ـ فلا يلاحظ في التعبّد بها إلّا الإيصال إلى الواقع ، فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ـ كما لو أمر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد بسؤال الأعراب عن الطريق ، غير ملاحظ في ذلك إلّا كون قول الأعراب موصلا إلى الواقع دائما أو غالبا ، والأمر بالعمل في هذا القسم ليس إلّا للإرشاد.

الثاني : أن يكون

______________________________________________________

الحكم الواقعي الشأني فهو عين القول بالتخطئة ، وإن أراد به شيئا آخر فهو غير معقول.

١٦٤. أي : بالتصويب. والمقصود من نقل جواب صاحب المعالم هنا هو الانتصار بفهمه لكون ما ذكره تصويبا. ولا يقدح فيه ما أورده عليه جماعة ممّن تأخّر عنه من عدم كون ما ذكره العلّامة في التهذيب مستلزما للتصويب.

١٦٥. لا يخفى أنّ هذا التوجيه هو المتعيّن في كلام ابن قبة ، لعدم استقامته على القول بالتصويب كما هو واضح ، فلا وجه لذكره على وجه الاحتمال. وحاصل الاستثناء هو كون دعوى ابن قبة للاستحالة بعد الفراغ عن بطلان التصويب ، بمعنى كون مراده دعوى الاستحالة من غير جهة التصويب.

٢٤٩

ذلك (١٦٦) لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل وإن خالف الواقع ، فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق التي هي مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها.

أمّا القسم الأوّل ، فالوجه فيه لا يخلو من امور : أحدها : كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة (١٦٧) هذه الأمارة (*) للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلّف.

الثاني : كونها في نظر الشارع غالب المطابقة (١٦٨). الثالث : كونها في نظره (١٦٩) أغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع ؛ لكون أكثرها في نظر الشارع جهلا مركّبا. والوجه الأوّل والثالث يوجبان الأمر بسلوك الأمارة ولو مع تمكّن المكلّف من الأسباب المفيدة للقطع ، والثاني لا يصحّ إلّا مع تعذّر باب العلم ؛ لأنّ تفويت الواقع على المكلّف ـ ولو في النادر ـ من دون تداركه بشيء ، قبيح.

______________________________________________________

١٦٦. لا يخفى ما في العبارة من المسامحة ، لأنّ ظاهر قوله : «في مصلحة العمل بها» وكذا قوله : «إدراك مصلحة هذا الطريق» هو اعتبار المصلحة في سلوك الطريق وتطبيق العمل على مؤدّاه ، وهو غير مقصود بالخصوص ، وإلّا لا يشمل المقسم لجميع أقسامه ، بل المقصود كون التعبّد بالطرق الظنّية لوجود مصلحة في الجملة إمّا في الفعل أو في سلوك الطريق ، فيشمل المقسم جميع أقسامه الثلاثة.

١٦٧. سواء كانت موافقة العلوم الحاصلة للمكلّف دائمة أيضا أم لا ، وإن أمكن الفرق بينهما بأنّ اللازم على الثاني إيجاب العمل بالأمارات ، بخلافه على الأوّل ، إلّا أنّه لا أثر لهذا الفرق فيما نحن بصدده من إثبات جواز رخصة الشارع في العمل بها.

١٦٨. بالنسبة إلى العلوم الحاصلة للمكلّف ، بأن كانت ظنونه غالبة المطابقة ، وعلومه دائمة المطابقة.

١٦٩. هذه الصورة داخلة في صورة الانسداد ، لما تقدّمت إليه الإشارة في كلام المصنّف رحمه‌الله من كون المراد به انسداد باب الوصول إلى الواقع غالبا ، لا انسداد

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الأمارة» ، الأمارات.

٢٥٠

وأمّا القسم الثاني ، فهو على وجوه : أحدها : أن يكون الحكم ـ مطلقا (*) ـ تابعا لتلك الأمارة ، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل ـ مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة وعدمها ـ حكم ، فتكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل ـ مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين ـ لا حكم له أو محكوم بما يعلم الله (١٧٠) أنّ الأمارة تؤدّي إليه ، وهذا تصويب باطل عند أهل الصواب من المخطّئة ، وقد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبار والآثار.

الثاني : أن يكون الحكم الفعلي (١٧١) تابعا لهذه الأمارة ، بمعنى أنّ الله تعالى في كلّ

______________________________________________________

باب الاعتقاد مطلقا.

١٧٠. هذا إنّما ينطبق بظاهره على القول الأوّل من الأقوال الثلاثة التي قدّمناها في بعض الحواشي السابقة ، ولكن لا يناسبه جعل عنوان الكلام فيما لا يكون للجاهل حكم في الواقع أصلا ، إذ على هذا القول لا بدّ من الالتزام بوجوده في الجملة.

وكيف كان ، فعلى الوجهين ـ من كون الجاهل بالواقع مكلّفا بتحصيل الظنّ بحكم العالمين ، أو بما يعلم الله بأنّ الأمارة تؤدّيه إليه ـ يندفع الدور الذي أورده على القول بالتصويب ، بتقريب أنّه إذا فرض عدم حكم في الواقع في حقّ الجاهل ، فإذا حصل له ظنّ بحكم واقعي فلا ريب أنّ حصول الظنّ بشيء مسبوق بوجود هذا الشيء ولو عند الظانّ ، فمع عدم وجود حكم واقعي للجاهل فأيّ شيء يطلبه الجاهل؟ وبأيّ شيء يتعلّق ظنّه؟ لأنّ الظنّ مسبوق بوجود المظنون ، والفرض تأخّره عنه ، وهذا هو الدور الباطل. ووجه اندفاعه واضح.

١٧١. المراد بفعليّة الحكم مجرّد وجوده الواقعي ، وبشأنيّته وجود المقتضي للوجود الواقعي لو لا المانع من اقتضائه ، كما يظهر بالتأمّل في العبارة ، لا ما هو

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «مطلقا» ، من أصله.

٢٥١

واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الأمارة على خلافه ، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعليّة ذلك الحكم ؛ لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبة على مصلحة الواقع ، فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير الظانّ بخلافه (١٧٢) ، وشأني في حقّه ، بمعنى وجود المقتضي (١٧٣) لذلك الحكم لو لا الظنّ على خلافه.

______________________________________________________

المتبادر منهما.

ثمّ إنّ حاصل الوجه الأوّل هو اختصاص الحكم الواقعي بالعالمين ، وكون حكم الجاهلين تابعا لمؤدّى الأمارة ، سواء طابقت الواقع أم خالفته ، ولازمه عدم وجود حكم واقعي أصلا في حقّ الجاهل قبل قيام الأمارة.

والوجه الثاني يفارقه من وجوه : أحدها : أنّهما وإن اشتركا في عدم وجود حكم واقعي شأني في حقّ الجاهل بالواقع ، أعني : من قامت عنده أمارة مخالفة للواقع ، إلّا أنّ الثاني يختصّ بوجود مادّة للحكم ، وهي المصلحة أو المفسدة الشأنيّة بالمعنى الذي أشرنا إليه سابقا ، بخلافه على الوجه الأوّل.

وثانيها : اشتراك العالم مع الجاهل الذي قامت عنده أمارة مطابقة للواقع في الحكم الواقعي الأوّلي على الوجه الثاني ، بخلافه على الوجه الأوّل ، إذ الحكم الواقعي للجاهل على هذا الوجه هو ما أدّى إليه ظنّه ، سواء طابق الواقع أم خالفه ، لكون الحكم الواقعي على هذا الوجه مختصّا بالعالمين.

وثالثها : اشتراك العالم مع الجاهل الذي لم تقم عنده أمارة في الحكم الواقعي الأوّلي على الوجه الثاني ، كما أشرنا إليه في بعض الحواشي السابقة ، بخلافه على الوجه الأوّل ، لعدم حكم واقعي للجاهل المذكور على هذا الوجه كما أشرنا إليه. وإلى ما ذكرناه يرجع أيضا ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الفرق.

١٧٢. سواء كان عالما بالواقع أو ظانّا به مع المطابقة.

١٧٣. هي المصلحة الواقعيّة التي منعت المصلحة الحادثة بسبب قيام الأمارة من عملها لأجل مزاحمتها لها.

٢٥٢

وهذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعيّ للظانّ بخلافه ؛ لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اخرى لا تصير منشأ للحكم ، فلا يقال للكذب النافع : إنّه قبيح واقعا. والفرق بينه وبين الوجه الأوّل ـ بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ـ : أنّ العامل بالأمارة (١٧٤) المطابقة حكمه حكم العالم ، ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم ، نعم كان ظنّه (١٧٥) مانعا عن المانع (١٧٦) وهو الظنّ بالخلاف.

الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمّنت (١٧٧) الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة ، إلّا أنّ العمل على طبق تلك الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنّه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه واقعا يشتمل على مصلحة ، فأوجبه الشارع. ومعنى إيجاب العمل على الأمارة : وجوب تطبيق العمل عليها ، لا وجوب إيجاد عمل على طبقها ؛ إذ قد لا تتضمّن الأمارة إلزاما على المكلّف ، فإذا تضمّنت استحباب شيء أو وجوبه تخييرا أو إباحته ، وجب عليه إذا أراد الفعل أن يوقعه على وجه الاستحباب أو الإباحة ، بمعنى حرمة قصد غيرهما ، كما لو قطع بهما. وتلك المصلحة لا بدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ـ لو كان الأمر بالعمل به مع التمكّن من العلم ـ وإلّا كان تفويتا لمصلحة الواقع ، وهو قبيح ، كما عرفت في كلام ابن قبة.

______________________________________________________

١٧٤. يعني على الوجه الثاني.

١٧٥. المطابق للواقع.

١٧٦. من تحقّق الحكم الواقعي.

١٧٧. بأن لا يكون قيام الأمارة المخالفة سببا لجعل مؤدّاها حكما واقعيّا في حقّ الجاهل بالواقع كما كان في الصورة السابقة ، فيبقى الواقع حينئذ بحاله ، ويجب العمل على طبق الأمارة. وحاصل الوجوه الثلاثة : أنّ مقتضى الأوّل جعل مؤدّى الأمارة هو الحكم الواقعي الأوّلي مطلقا ، طابق الواقع أو لا. ومقتضى الثاني جعل مؤدّاها هو الحكم الواقعي مع المخالفة خاصّة. ومقتضى الثالث بقاء الواقع بحاله مع الموافقة والمخالفة.

٢٥٣

فإن قلت : ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالأمارة وترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها وبين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤدّاها (*) على المكلّف؟ مثلا إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر ، فإن كان في فعل الجمعة مصلحة يتدارك بها ما يفوت بترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حقّ هذا الشخص خالية عن المصلحة الملزمة ، فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعي ، فهنا وجوب واحد ـ واقعا وظاهرا ـ متعلّق بصلاة الجمعة. وإن لم تكن في فعل الجمعة صفة كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا ، لكونه مفوّتا للواجب مع التمكّن من إدراكه بالعلم.

فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعي بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني ، وهو كون الأمارة سببا لجعل مؤدّاها هو الحكم الواقعي لا غير وانحصار الحكم في المثال بوجوب صلاة الجمعة ، وهو التصويب الباطل.

قلت : أمّا رجوع الوجه (١٧٨)

______________________________________________________

١٧٨. اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد حاول في هذا الجواب الجمع بين امور :

أحدها : بيان الفرق بين الوجهين. وحاصله : أنّ مقتضى الوجه الثاني هو جعل مؤدّى الأمارة بسبب ما يحدث في الفعل من المصلحة ، بمعنى كون ذلك حكما واقعيّا في حقّ من قامت عنده ، بحيث لو انكشف خلافها بالعلم أو بأمارة اخرى انقلب حكمه الواقعي بسبب انقلاب موضوعه الواقعي ، كصيرورة الحاضر مسافرا والصحيح مريضا. فإذا قامت الأمارة على وجوب الجمعة ، وفرض كون الواقع وجوب الظهر ، كان حكمه الواقعي وجوب الجمعة ، وإذا انكشف خلافها انقلب حكمه الواقعي إلى وجوب الظهر ، لأجل تبدّل المصالح بانكشاف الخلاف.

ومقتضى الوجه الثالث هي الرخصة في العمل بمؤدّى الأمارة ، وفرض

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : هو الحكم الواقعي.

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مؤدّاها واقعا ، لأجل ما لاحظه الشارع من المصلحة في سلوكها ، من دون أن تحدث بسبب قيامها مصلحة في نفس الفعل توجب جعل مؤدّاها في حقّ من قامت عنده. فإذا قامت الأمارة المخالفة فغاية ما تقتضيه المصلحة الموجودة في سلوكها هي الرخصة في العمل بها وفرض مؤدّاها واقعا ، لا جعل مؤدّاها في حقّ من قامت عنده كما هو مقتضى الوجه الثاني. فالواقع مع قيام الأمارة المخالفة باق على ما هو عليه وإن رخّص الشارع في مخالفته لأجل ما في سلوك هذه الأمارة من المصلحة ، ومع انكشاف الخلاف علما أو ظنّا ينكشف الواقع كذلك ، لا أنّ الواقع يتبدّل بتبدّل الأمارة وانكشاف الخلاف كما هو مقتضى الوجه الثاني على ما عرفت. وثمرة الرخصة في العمل بمؤدّاها وفرضها واقعا ما أشار إليه بقوله : «فإن كان في أوّل الوقت» إلى قوله : «ثمّ إن استمرّ ...».

وثانيها : بيان ثمرة بقاء الحكم الواقعي على حاله على الوجه الثالث مع قيام الأمارة المخالفة والرخصة في العمل بمؤدّاها. وحاصله : ظهور الثمرة في وجوب الإعادة والقضاء مع انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه ، لأنّه مع فرض كون العمل بمؤدّى الأمارة من باب الرخصة في مخالفة الواقع ما دامت الأمارة قائمة من دون حدوث الوجوب النفس الأمري ، إذا انكشف خلافها بطلت هذه الرخصة ، ووجب البناء على مقتضى الحكم الواقعي وترتيب آثاره من أوّل الأمر ، فإن كان انكشاف الخلاف في أثناء الوقت تجب الإعادة ، وفي خارجه يجب القضاء إن قلنا بكونه تابعا للأداء ، وعلى الوجهين اللذين أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله إن قلنا بكونه بأمر جديد كما هو التحقيق ، ولذا لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله للأوّل.

فإن قلت : إنّ مجرّد بقاء الحكم الواقعي لا يقتضي وجوب الإعادة والقضاء مع فرض امتثال الأمر الظاهري بالعمل بمؤدّى الأمارة ، إذ لا دليل على وجوب امتثال آخر بعده ، سيّما إذا كان انكشاف الخلاف بطريق ظنّي لا قطعي ، إذ هذا الظنّ ليس بأولى من الأوّل.

٢٥٥

الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل ؛ لأنّ مرجع جعل مدلول الأمارة في حقّه ـ الذي هو مرجع الوجه الثاني ـ إلى أنّ صلاة الجمعة واجبة عليه واقعا ، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ، فإذا صلّاها فقد فعل الواجب الواقعي ، فإذا انكشف مخالفة الأمارة

______________________________________________________

قلت : إنّ الدليل على وجوب الامتثال ثانيا هو ما دلّ على وجود الحكم الواقعي بعد انكشاف الخلاف ، إذ لا رافع لهذا الأمر إلّا امتثاله ثانيا. وأمّا عدم أولويّة الظنّ الثاني من الأوّل ، ففيه : أنّ مقتضى الأمارة الثانية بطلان مؤدّى الاولى من رأس ، فهي حاكمة عليها لا معارضة لها حتّى يجري فيها دعوى عدم الأولويّة. ومجرّد أمر الشارع بالعمل بمؤدّى الأمارة الاولى لا يقتضي أزيد من فرض مؤدّاها واقعا ما لم ينكشف الخلاف.

فإن قلت : إنّه لا دليل على هذا التقييد ، إذ مقتضى اعتبار الأمارات فرض مؤدّياتها واقعا ولو مع انكشاف الخلاف ، ومقتضاه عدم وجوب الإعادة والقضاء.

قلت : ـ مع منع شمول تلك الأدلّة لصورة الانكشاف ، لورودها في مقام التشريع ـ إنّ هذه الأدلّة كما تثبت اعتبار الأمارة الاولى كذلك الثانية ، ولا ريب أنّ مقتضى اعتبار الثانية بطلان الاولى من رأس كما عرفت. وبعبارة اخرى : إنّ مقتضى شمول تلك الأدلّة للأمارة الثانية هو خروج الاولى من تحت تلك الأدلّة ، لكشفها عن بطلانها من رأس ، كصورة العلم بمخالفتها للواقع.

فإن قلت : إنّه مع كون مصلحة سلوك الطريق متداركة لمصلحة الواقع لا مقتضى لوجوب الإعادة والقضاء.

قلت : مرجع هذا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في السؤال ، إذ مقتضي كون مصلحة سلوك الطريق متداركة لمصلحة الواقع هو نفي وجود الحكم الواقعي. وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى جوابه ، وسنشير أيضا إلى ما يدفع ذلك.

وثالثها : بيان كون المصلحة في سلوك الطريق بقدر ما يتدارك به ما يفوت

٢٥٦

للواقع فقد انقلب موضوع الحكم واقعا إلى موضوع آخر ، كما إذا صار المسافر بعد فعل صلاة القصر حاضرا إذا قلنا بكفاية السفر في أوّل الوقت لصحة القصر واقعا. ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة (*) : وجوب ترتيب أحكام الواقع (**) على مؤدّاها من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع ـ كما يوهمه ظاهر (١٧٩)

______________________________________________________

من مصلحة الواقع ، وذلك لأنّ ما يجب الالتزام به بحكم العقل من المصلحة في سلوك الطريق ـ في دفع القبح اللازم من الرخصة في العمل بمؤدّى الأمارة الظنّية المتطرّق عليها التخلّف عن الواقع كثيرا ـ هو مقدار من المصلحة يتدارك به ما يفوت بالعمل بمؤدّاها من مصلحة الواقع ، لا ما يتدارك به مصلحة الواقع مطلقا ، لعدم المقتضي للالتزام بذلك ، لارتفاع القبح بما ذكرناه.

فإذا قامت الأمارة على وجوب الجمعة ، وكان الواجب في الواقع هو الظهر ، وأتى بالجمعة في وقتها ، فإن استمرّ هذا الحكم الظاهري ـ أي : الرخصة في ترك الظهر ـ إلى آخر وقتها وجب كون مصلحة سلوك الطريق متداركة لما فات من مصلحة الظهر ، لئلّا يلزم تقويت الواجب الواقع مع التمكّن من تحصيل العلم به. وإن لم يستمرّ ، بل انكشف وجوب الظهر قبل خروج وقتها ، وجب كونه مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الإتيان بالظهر مع نوافلها في أوّل وقتها ، لا أصل مصلحة الظهر ، لفرض إمكان إدراكها بالإتيان بالظهر في وقتها. وإن انكشف وجوبها بعد خروج وقتها وجب اشتماله على مصلحة يتدارك بها مصلحة أداء الظهر وما يتعلّق به ، لا كلّية مصلحة الظهر ، لما عرفت من إمكان إدراكها في الجملة بقضائها. وممّا ذكرناه يتّضح ما قدّمناه من عدم استلزام الالتزام بالمصلحة في سلوك الطريق لعدم وجوب الإعادة والقضاء ، فلا تغفل.

١٧٩. وجه الظهور ظاهر. وأمّا الاحتمال الآخر في كلامهما فهو احتمال

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : على أنّ مضمونها هو الحكم الواقعي.

(**) في بعض النسخ : بدل «أحكام الواقع» ، أحكام الواجب الواقعي.

٢٥٧

عبارتي العدّة والنهاية المتقدّمتين ـ فإذا أدّت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا ، وجب ترتيب أحكام الوجوب الواقعي وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي ، فإن كان في أوّل الوقت جاز الدخول فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرها ، فإذا فعلها جاز له فعل النافلة وإن حرمت في وقت الفريضة المفروض كونها في الواقع هي الظهر ؛ لعدم وجوب الظهر عليه فعلا ورخصته في تركها ، وإن كان في آخر وقتها حرم تأخيرها والاشتغال بغيرها.

______________________________________________________

إرادتهما كون أمر الشارع بالعمل بالأمارات الظنّية لأجل كون الظنّ صفة حسنة في المكلّف ، وهو كاف في حسن أمر الشارع ، على ما عليه العدليّة من كون أوامره ونواهيه تابعة للحسن والقبح ، لا أنّ المقصود كون الأمارة الظنّية محدثة في الفعل مصلحة يكون عليها مدار الحكم.

وربّما يظهر من كلامه وجه آخر في أمر الشارع بالعمل بالأمارات ، وهو ما أشار إليه بقوله : «إلّا أن يقال : إنّ غاية ما يلتزم به في المقام هي المصلحة ...».

وحاصله : أنّ باب العلم بالأحكام الشرعيّة لمّا كان منسدّا أو كان تحصيله موجبا للحرج الشديد والعسر الأكيد في حقّ أكثر الناس حتّى في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، لكون أكثرهم في البلاد النائية بحيث يشقّ عليهم الحضور في خدمتهم وأخذ الأحكام منهم ، بل ربّما كان يتعذّر عليهم ذلك ، سيّما يوم مدّ الظلم باعه وساعد عليه أتباعه ، حتّى صار مخازن وحي الله في زوايا الخمول غير متمكّنين من إقامة الحدود ونشر الأحكام ، صار هذا الانسداد الغالبي أو الحرج النوعي حكمة لوضع الأمارات الظنّية ، فوضعها الشارع مطلقا حتّى في حقّ من تمكّن من تحصيل العلم بالأحكام بسؤال الإمام عليه‌السلام ونحوه ، تسهيلا للطريق للعامّة.

وفيه ما لا يخفى ، إذ تسهيل الأمر على العامّة لا يرفع قبح تفويت الواقع المرتّب على العمل بالأمارة الظنّية ممّن تمكّن من تحصيل العلم بالواقع ، فلا بدّ من جبر هذا الكسر بمصلح آخر ممّا ستعرفه.

٢٥٨

ثمّ إن استمرّ هذا الحكم الظاهري ـ أعني الترخيص في ترك الظهر إلى آخر وقتها ـ وجب كون الحكم الظاهري بكون ما فعله في أوّل الوقت هو الواقع المستلزم لفوت الواقع على المكلّف مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر ؛ لئلّا يلزم تفويت الواجب الواقعي على المكلّف مع التمكّن من إتيانه بتحصيل العلم به. وإن لم يستمرّ ، بل علم بوجوب الظهر في المستقبل ، بطل وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ، ووجب العمل على طبق عدم وجوبه في نفس الأمر من أوّل الأمر ؛ لأنّ المفروض عدم حدوث الوجوب النفس الأمري ، وإنّما عمل على طبقه ما دامت أمارة الوجوب قائمة ، فإذا فقدت ـ بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ـ وجب حينئذ ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم ـ أعني وجوب الإتيان بالظهر ـ ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلّا ما فات منها ؛ فقد تقدّم أنّ مفسدة فواته متداركة بالحكم الظاهري المتحقّق في زمان الفوت. فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم أنّ حكم الشارع بالعمل بمؤدّى الأمارة ـ اللازم منه ترخيص ترك الظهر في الجزء الأخير ـ لا بدّ أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر.

______________________________________________________

وهنا وجه ثالث يظهر في الجملة من المحقّق القمّي رحمه‌الله في بعض كلماته ، وهو كون المصلحة في وضع الأمارات الظنّية وجود ترياق يتدارك به ما يرد من النقص بالعمل بها ، وإن كان ذلك بتحمّل سائر التكاليف الشاقّة والمجاهدات الصعبة ، بل نفس تحمّل المشقّة وبذل الجهد في تحصيل الظنّ بالأحكام الشرعيّة ، واليأس عن إدراك الواقع والأسف عليه ، ربّما يتضمّن ما يتدارك به ما يفوت من مصلحة الواقع.

وهذه الوجوه كما ترى متّفقة في الجملة على كون المصلحة في نفس الأمر دون الفعل المأمور به ، وإن اختلفت في تعيين المصلحة. وهي مؤيّدة لما ذكره المصنّف رحمه‌الله من نفي كون المصلحة في الفعل. نعم ، تعيين كونها في سلوك الطريق ، أو في نفس الأمر ، وأنّها حسن صفة الظنّ ، أو الحرج النوعي ، أو وجود الترياق يحتاج

٢٥٩

ثمّ إن قلنا : إنّ القضاء فرع صدق الفوت ـ المتوقّف على فوات الواجب من حيث إنّ فيه مصلحة ـ لم يجب فيما نحن فيه ؛ لأنّ الواجب وإن ترك إلّا أنّ مصلحته متداركة ، فلا يصدق على هذا الترك الفوت.

وإن قلنا : إنّه متفرّع على مجرّد ترك الواجب ، وجب هنا ؛ لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا ، إلّا أن يقال : إنّ غاية ما يلزم في المقام هي المصلحة في معذوريّة هذا الجاهل مع تمكّنه من العلم ولو كانت لتسهيل الأمر على المكلّفين ، ولا ينافي ذلك صدق الفوت ، فافهم.

ثمّ إنّ هذا كلّه على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء واضح ، وأمّا على القول باقتضائه له ، فقد يشكل الفرق (١٨٠) بينه وبين القول بالتصويب.

______________________________________________________

إلى دليل لأنّه رجم بالغيب وحدس بلا ريب. ويحتمل رجوع ما ذكره المصنّف رحمه‌الله إلى أحد الوجوه المذكورة على سبيل منع الخلوّ.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرناه هنا وفي الحاشية السابقة الوجه في عدم استلزام القول باعتبار الظنون الخاصّة الإجزاء ، بل ظاهر المصنّف رحمه‌الله استلزام القول بالإجزاء القول بالتصويب. والعجب من المحقّق القمّي رحمه‌الله ، لأنّه مع قوله باعتبار الظنون من باب دليل الانسداد ذهب إلى القول بالإجزاء. وأعجب منه قوله به في الأوامر العذريّة كما لا يخفى.

١٨٠. وجه الإشكال : ابتناء القول بالإجزاء على الالتزام بوجود مصلحة مساوية لمصلحة الواقع أو راجحة عليها ، إمّا في نفس الفعل الذي تضمّن الطريق حكمه أو في سلوكه ، وكلّ منهما مستلزم لنفي الحكم الواقعي ، كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله في المقام وما علّقناه على كلامه. لكن لزوم التصويب هنا إنّما هو بالمعنى الذي ذكره في الوجه الثاني من وجوه اعتبار الظنّ من باب الموضوعيّة.

وربّما يشكل ذلك بما يظهر منه في الجواب عمّا أورده على نفسه قبل بيان

٢٦٠