فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-64-5
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٥٠٩

وتعدّد الواقعة إنّما يجدي (١٢٨) مع الإذن من الشارع عند كلّ واقعة ، كما في تخيير الشارع للمقلّد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرّا يجوز معه الرجوع عن أحدهما إلى الآخر ، وأمّا مع عدمه فالقادم على ما هو مبغوض للشارع يستحقّ عقلا العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض ، أمّا لو التزم بأحد الاحتمالين قبح عقابه على مخالفة الواقع لو اتّفقت.

______________________________________________________

١٢٨. دفع لما يمكن أن يتوهّم من اختصاص حرمة المخالفة العمليّة القطعيّة بصورة اتّحاد الواقعة ، وعدم تأتّيها في الوقائع المتعدّدة ، كما يشهد به تخيير الشارع للمقلّد بين قولي مجتهدين تخييرا مستمرّا يجوز معه العدول عن أحدهما إلى الآخر ، بحيث يستلزم القطع في بعض الموارد بمخالفة العمل للواقع في الوقائع المتعدّدة ، كما إذا كان رأي أحدهما وجوب فعل ورأي الآخر حرمة هذا الفعل ، فقلّد الأوّل فارتكبه ، ثمّ قلّد الآخر فتركه. وكذلك تخييره في العمل بأحد الخبرين المتعارضين تخييرا مستمرّا حتّى فيما كان مضمون أحدهما وجوب فعل ومضمون الآخر حرمته. وكذلك حكم المشهور بوجوب العدول عن تقليد الميّت إلى تقليد الحيّ ، وعن تقليد غير الأعلم إلى تقليد الأعلم ، لأنّ ذلك أيضا قد يستلزم المخالفة العمليّة في الوقائع المتعددة.

ومحصّل دفعه : أنّ ما ذكر من عدم قبح المخالفة العمليّة مع تعدّد الواقعة إنّما يسلّم فيما كان للمكلّف عند كلّ واقعة دليل تعبّدي مأمور هو بالبناء على كونه طريقا إلى الواقع ، أو على كون مضمونه بدلا عن الواقع ، على الوجهين في جعل الطرق الظاهريّة ، أو على مجرّد العمل على طبقه الذي مرجعه إلى مجرّد معذوريّة المكلّف في العمل به ، كما في العمل بالاصول.

وبالجملة ، إنّ ما ذكر إنّما يتمّ مع إذن من الشارع على أحد الوجوه المذكورة عند كلّ واقعة مع قطع النظر عن الآخر. وأمّا مع عدمه ، بأن كانت الوقائع المتعدّدة المتدرّجة من جزئيّات التكليف الواحد المعلوم بالإجمال ومحتملاته ،

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

فالعقل لا يفرّق بينها وبين الواقعة الواحدة في قبح المخالفة العمليّة. ووجه الفرق بين المقامين واضح ، لأنّه مع عدم قيام الدليل على حكم كلّ واقعة ، وكون الوقائع المتعدّدة من جزئيّات التكليف الواحد المعلوم إجمالا ومحتملاته ، تكون تلك الوقائع في نظر العقل في حكم واقعة واحدة ، فتقبح المخالفة فيها ، بخلاف ما لو قام الدليل عند كلّ واقعة ، لأنّه مع قيامه كذلك يصير كلّ واقعة في نظر العرف واقعة مستقلّة معلوما حكمها بالتفصيل ، فكأنّ تلك الوقائع حينئذ تخرج عندهم من أطراف العلم الإجمالي ، فلا يلاحظ حينئذ مخالفة العمل له عند ملاحظة مجموع تلك الوقائع.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وهو بعد لا يخلو عن نظر ، لأنّ المخالفة الالتزاميّة من حيث هي ـ على ما حقّق المقام ـ غير مانعة عن جريان الاصول ، والمانع إنّما هو لزوم المخالفة العمليّة في الوقائع المتعدّدة. فما نحن فيه من قبيل الموارد المذكورة في السؤال ، لفرض جريان الأصل عند كلّ واقعة مع قطع النظر عن لزوم المخالفة العمليّة في الوقائع المتعدّدة. فلا بدّ أن لا يكون قبح في هذه المخالفة أيضا.

والأولى في الجواب منع التخيير الاستمراري في مسألتي التقليد وتعارض الأخبار ، كما تحقّق في محلّه. ودعوى اختصاص قبح المخالفة العمليّة بما لو أذن الشارع من ابتداء الأمر فيها أو فيما يستلزمها. وليس الأمر كذلك في مسألتي العدول عن تقليد الميّت وغير الأعلم ، إذ وجوب العدول في الاولى عارض بسبب الموت. وأمّا في الثانية فالعدول فيها إلى تقليد الأعلم إن كان لأجل حدوث وجود الأعلم فكذلك أيضا ، لأنّ وجوب العدول حينئذ أيضا عارض لذلك. وإن كان لأجل حدوث العلم بوجوده ، بأن قلّد غير الأعلم جهلا أو غفلة عن وجود الأعلم ، فتقليد غير الأعلم حينئذ باطل من ابتداء الأمر ، بناء على وجوب تقليد الأعلم ، وإن كان معذورا في حال الجهل والغفلة.

٢٠٢

ويمكن استفادة الحكم أيضا من فحوى أخبار التخيير عند التعارض. لكن هذا الكلام لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدّد فيها الواقعة حتّى تحصل المخالفة العمليّة تدريجا ، فالمانع في الحقيقة هي المخالفة العمليّة القطعيّة ولو تدريجا مع عدم التعبّد بدليل ظاهري ، فتأمّل جدّا (١٢٩). هذا كلّه في المخالفة القطعيّة للحكم المعلوم إجمالا من حيث الالتزام ، بأن لا يلتزم به أو يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر إذا اقتضت الاصول ذلك.

وأمّا المخالفة العمليّة (١٣٠) : فإن كانت لخطاب تفصيلي ، فالظاهر عدم

______________________________________________________

١٢٩. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى ما تقدّم عند شرح قوله : «وأمّا الشبهة الحكميّة ...» من ضعف التفصيل المذكور.

١٣٠. اعلم أنّ مخالفة العمل إمّا لخطاب معلوم بالتفصيل ، وإمّا لخطاب مردّد بين خطابين. وعلى التقديرين إمّا أن تكون الشبهة حكميّة ، أو موضوعيّة. والأمثلة واضحة ممّا ذكره. ولكن فرض مخالفة العمل لخطاب معلوم بالتفصيل مع كون الشبهة حكميّة لا يخلو عن إشكال ، إذ الخطاب التفصيلي لا يتحقّق إلّا بالعلم بالحكم وموضوعه ومتعلّقاتهما ، ومع ذلك لا يمكن فرض الشبهة بحسب الحكم.

نعم ، يمكن تحقّق الشبهة حينئذ بحسب مصاديق موضوع الحكم ، كما في الشبهة المحصورة ، ولكنّها خارجة من محلّ الفرض. ففرض مثال القصر والإتمام من قبيل ذلك كما ترى ، لكون مخالفة العمل فيه لخطاب مردّد بين خطابين ، أعني : وجوب القصر أو وجوب الإتمام. وهكذا في الظهر والجمعة.

وتحقيق المقام في دفع الإشكال : أنّ المراد من الخطاب التفصيلي في المقام أعمّ ممّا كان الخطاب مبيّنا بحسب الموضوع والمحمول ومتعلّقاتهما ، كما في أحد قسمي الشبهة الموضوعيّة ، وممّا كان الخطاب في الكتاب أو السنّة مرتّبا على عنوان عامّ جامع بين شيئين علم وجوب أحدهما أو حرمته كما في المثالين. وبعبارة اخرى : أنّ المدار في وجود الخطاب التفصيلي إنّما هو على زعم أهل العرف بوجوده ، لكونهم قاطعين بوجوده في المثالين ، وهو الأمر بالصلاة في الكتاب و

٢٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

السنّة ، وإن كان المراد من الصلاة مجملا ومردّدا في مورد الشبهة بين القصر والإتمام أو الظهر والجمعة ، إلّا أنّ هذا الإجمال لا يضرّ في زعمهم بوجوده ، إذ عنوان الصلاة جامع قريب بين الأمرين ، بحيث يعدّ عندهم كون خطاب كلّ من القصر والإتمام والظهر والجمعة خطابا واحدا مفصّلا ، وإن لم يكن كذلك بحسب الدقّة.

وعلى هذا ، فالمراد من الخطاب المجمل المردّد بين خطابين هو كون الحكم مرتّبا في الكتاب والسنّة على موضوعين متغايرين ، بحيث لا يوجد جامع قريب بينهما قد تعلّق الحكم به في الكتاب والسنّة ، كما مثّل به المصنّف رحمه‌الله للمقام.

ثمّ إنّ ظاهر المصنّف رحمه‌الله حيث خصّ الوجوه الأربعة التي ذكرها بما تلزم فيه مخالفة العمل للخطاب المجمل المردّد بين خطابين ، هو عدم تأتّيها فيما يلزم فيه مخالفة العمل لخطاب مفصّل. ولعلّ الوجه فيه كون مخالفة الخطاب التفصيلي معصية يقينا عند العقلاء ، بخلاف مخالفة الخطاب المجمل ، كما ذكره في وجه بعض الوجوه المذكورة.

ولكنّك خبير بأنّ ذلك إنّما يصلح وجها لعدم تأتّي بعض الوجوه المذكورة ـ أعني : الوجه الأوّل ـ لا جميعها ، مع أنّه قد نقل عن بعضهم جواز ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة دفعة ، كما تقدّم عند تعداد ما ورد في الشرح ممّا يوهم جواز مخالفة العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي ، مضافا إلى أنّ الفرق بين مثال القصر والإتمام ـ الذي هو من قبيل الثاني كما عرفت ـ وبين المائع المردّد بين كونه ماء طاهرا مغصوبا وبين كونه نجسا ـ الذي هو من قبيل الأوّل ـ باحتمال الجواز في الثاني دون الأوّل ، ضعيف كما صرّح به في الشبهة المحصورة في مقام تضعيف ما يظهر من صاحب الحدائق المفصّل بينهما ، بل المخالفة في المثال الثاني أقبح من الأوّل ، للعلم تفصيلا بحرمة الموضوع الخارجي في الثاني وإن لم تعلم جهة الحرمة فيه تفصيلا ، بخلاف مثال القصر والإتمام ، لعدم العلم فيه بوجوب أحدهما بالخصوص. فالوجه جريان الوجوه المذكورة في المقامين ، وإن لم يتأتّ ما ذكره

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المصنّف رحمه‌الله من الوجه للوجه الأوّل فيما تلزم مخالفة العمل لخطاب مفصّل ، للعلم بعنوان متعلّق التكليف فيه ، بخلاف ما تلزم مخالفة العمل فيه لخطاب مجمل كما لا يخفى.

نعم ، يمكن التمسّك فيه أيضا بوجهين :

أحدهما : أنّ كلّا من أطراف العلم الإجمالي موضوع برأسه ، فيلاحظ تكليف كلّ موضوع بالنسبة إليه ، فيجوز ترك جميع أطراف الشبهة إن كانت وجوبيّة ، وارتكابها إن كانت تحريميّة ، ما لم يقم دليل خاصّ على خلافه ، من دون فرق بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة.

وثانيهما : دعوى وضع الألفاظ للمعاني المعلومة ، أو انصرافها إليها في الخطابات الشرعيّة إن قلنا بوضعها للمعاني الواقعيّة ، ولا ريب أنّ شيئا من أطراف العلم الإجمالي ليس ممّا علم حرمته أو وجوبه وهذان الوجهان كما يجريان فيما تلزم مخالفة العمل لخطاب مفصّل ، كذلك يجريان فيما تلزم مخالفة العمل لخطاب مجمل ، كما هو واضح.

ولكنّ الوجهين ـ كسائر الوجوه التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله ، ما عدا الثاني منها ـ ضعيفان. أمّا الأوّل فإنّ الرخصة في المخالفة العمليّة القطعيّة اللازمة من إعمال الاصول في جميع أطراف الشبهة في المقام قبيحة على الشارع ، كما سيجيء عند بيان كون الوجه الثاني من الوجوه المذكورة أقوى.

وأمّا الثاني فيرد عليه :

أوّلا : ـ بعد منع الوضع أو الانصراف المذكورين ـ أنّ هذا الوجه يؤدّي إلى فتح باب الحيلة إلى اضمحلال الدين ، لأدائه إلى إمكان ارتكاب كلّ ما علمت حرمته أو نجاسته تفصيلا ، بأن يخلطه بما يشابهه من حلال أو طاهر ثمّ يرتكبهما جميعا. ولكنّ المصنّف رحمه‌الله قد استظهر في الشبهة المحصورة عدم كون مثل هذه الصورة مرادا للقائل بجواز ارتكاب جميع أطراف الشبهة ، فراجع.

٢٠٥

جوازها ، سواء كانت (١٣١) في الشبهة الموضوعيّة ، كارتكاب الإنائين المشتبهين المخالف لقول الشارع : «اجتنب عن النجس» ، و (*) كترك القصر والإتمام في موارد اشتباه الحكم ؛ لأنّ ذلك معصية لذلك الخطاب ؛ لأنّ المفروض وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الإنائين ، ووجوب صلاة الظهر والعصر مثلا ، قصرا أو إتماما ، وكذا لو قال : أكرم زيدا واشتبه بين شخصين ؛ فإنّ ترك إكرامهما معصية.

فإن قلت (١٣٢):

______________________________________________________

وثانيا : أنّه ـ مع تسليم كون الألفاظ موضوعة أو منصرفة إلى المعاني المعلومة ـ يكون جميع أطراف الشبهة غير محرّم في الواقع فيما كانت الشبهة تحريميّة ، وغير واجب كذلك فيما كانت وجوبيّة ، فيخرج من موضوع المسألة ممّا علم وجوب أحد الشيئين إجمالا أو حرمته أو نجاسته كذلك ، وبديهة حسن الاحتياط في الشرع قاضية ببطلانه.

وأمّا وجه ضعف باقي الوجوه المذكورة فسيأتي عند شرح قوله : «والأقوى من هذه الوجوه». ثمّ إنّ هنا تفاصيل أخر مذكورة في محلّ آخر ، وقد أشار إلى أحدها في الشبهة المحصورة كما نبّهناك عليه.

١٣١. لا يخفى ما في العبارة من الحزازة ، وكأنّ قوله : «وكترك القصر ...» في موضع المعادل لقوله : «سواء كانت». وكأنّه قال : سواء كانت الشبهة موضوعيّة أم حكميّة. وقوله : «وكذا لو قال ...» مثال للشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة.

١٣٢. حاصله : منع لزوم المخالفة العمليّة في الشبهة الموضوعيّة بعد فرض كون الاصول فيها مخرجة لمجاريها من موضوع الخطابات الواقعيّة ، إذ بعد الحكم بطهارة كلّ من الإنائين لا تلزم مخالفة العمل لقوله : اجتنب عن النجس.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : أو في الشبهة الحكميّة.

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل ما أجاب به أوّلا : هو منع شمول أدلّة الاصول لصورة العلم الإجمالي كما هو مختار المصنّف رحمه‌الله ، وأنّ إجراء الأصل في كلّ من المشتبهين إنّما هو مع ملاحظة كلّ من المشتبهين في نفسه مع قطع النظر عن مخالفة أحدهما إجمالا للواقع ، أو تسليم شمولها لأحد طرفي العلم الإجمالي ، بجعل الآخر بدلا عن الواقع كما هو مختار المحقّق القمّي رحمه‌الله.

وحاصل ما ذكر ثانيا : هو دعوى قبح ترخيص الشارع في العمل بالاصول فيما يؤدّي إلى مخالفة العمل للواقع ، وإن سلّمنا شمول أدلّتها للمقام ، فلا بدّ حينئذ من صرف تلك الأدلّة ـ على تقدير تسليم ظهورها في الشمول لصورة لزوم مخالفة العمل للعلم الإجمالي ـ إلى غير هذه الصورة ، وإن كانت الاصول حاكمة على الأدلّة الواقعيّة في الشبهة الموضوعيّة ، كما هو محصل السّؤال ، وسيشير إليه ، وتقدّم في المخالفة الالتزاميّة.

ومحصّل ما ذكره في المقامات الأربعة من المخالفة الالتزاميّة والعمليّة في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة : أنّ إجراء الاصول إن كان مستلزما لمخالفة العمل للواقع ولو في الوقائع المتعدّدة فهي غير جارية ، لما يلزم من القبح على الشارع كما عرفت ، من دون فرق في ذلك بين كون الاصول حاكمة على الخطابات الواقعيّة كما في الشبهة الموضوعيّة مطلقا ، وبين كونها منافية لها كما في الشبهة الحكميّة كذلك ، وإن لم يستلزم المخالفة المذكورة ، كما في واقعة واحدة من موارد المخالفة الالتزاميّة. فهي جارية فيها من دون فرق فيه أيضا بين ما ذكرناه. فالمانع من جريان الاصول مخالفة العمل للخطاب المعلوم إجمالا أو تفصيلا ، لا مجرّد المخالفة للخطاب المذكور ، لما عرفت من عدم جريانها في الصورة الاولى وإن كانت حاكمة عليه ، وجريانها في الصورة الثانية وإن كانت منافية له.

وممّا ذكرناه يظهر فساد ما يتوهّم من التهافت والتنافي بين كلمات المصنّف رحمه‌الله ، حيث حكم في صدر المسألة بعدم تنافي الاصول الموضوعيّة للخطاب

٢٠٧

إذا أجرينا أصالة الطهارة في كلّ من الإنائين وأخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع ، فليس في ارتكابهما ـ بناء على طهارة كلّ منهما ـ مخالفة لقول الشارع : «اجتنب عن النجس». قلت : أصالة الطهارة في كلّ منهما بالخصوص إنّما يوجب جواز ارتكابه من حيث هو ، وأمّا الإناء النجس الموجود بينهما فلا أصل يدلّ على طهارته ؛ لأنّه نجس يقينا ، فلا بدّ إمّا من اجتنابهما تحصيلا للموافقة القطعيّة ، وإمّا أن يجتنب أحدهما فرارا عن المخالفة القطعيّة ، على الاختلاف المذكور في محلّه. هذا ، مع أنّ حكم الشارع بخروج مجرى الأصل عن موضوع التكليف الثابت بالأدلّة الاجتهاديّة لا معنى له إلّا رفع حكم ذلك الموضوع ، فمرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف لقوله : «اجتنب عن النجس» ، فافهم.

وإن كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردّد بين خطابين ـ كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع (١٣٣) أو بحرمة هذه المرأة ، أو علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ففي المخالفة القطعيّة حينئذ

______________________________________________________

المذكور ، وبالتنافي هنا وفيما يأتي من قوله : «فيكون الأصل في الموضوع ...».

ووجه الفساد : أنّه حيث حكم بعدم التنافي في صدر المسألة فقد نظر ثمّة إلى عدم تنافي الاصول للخطاب المجمل بحسب العمل في الجملة ولو بالنسبة إلى الواقعة الواحدة ، وحيث حكم بالتنافي هنا وفيما يأتي فقد نظر فيهما إلى التنافي بحسب العمل ، وإن كانت الاصول حاكمة على الخطاب المذكور في المقامين. ولعلّه إلى ما ذكرناه أشار هنا وفي كلامه الآتي بقوله «فافهم».

١٣٣. ربّما يقال بخروج هذا المثال من مورد الوجوه الأربعة المذكورة ، لاختصاص موردها بما إذا لم يكن أحد طرفي الشبهة موردا لأصل موضوعي ، لحكومته على الأصل الحكمي ، لأنّ أصالة الإباحة في المرأة والطهارة في الماء وإن تعارضتا ، إلّا أنّه إذا ثبتت حرمة مباشرة المرأة بأصالة عدم الزوجيّة أو حرمة المباشرة تبقى أصالة الطهارة أو البراءة في الطرف الآخر سليمة من المعارض ، فاللازم

٢٠٨

وجوه : أحدها : الجواز مطلقا ؛ لأنّ المردّد بين الخمر والأجنبيّة لم يقع النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعيّة حتّى يحرم ارتكابه ، وكذا المردّد بين الدعاء والصلاة ؛ فإنّ الإطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيليّة ومخالفتها. الثاني : عدم الجواز مطلقا ؛ لأنّ مخالفة الشارع قبيحة عقلا مستحقّة للذمّ عليها ، ولا يعذر فيها إلّا الجاهل بها. الثالث : الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الاولى دون الثانية ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة فوق حدّ الإحصاء بخلاف الشبهات الحكميّة ، كما يظهر من كلماتهم (١٣٤) في مسائل الإجماع المركّب.

وكأنّ الوجه ما تقدّم من أنّ الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلّة التكليف ، بخلاف الاصول في الشبهات الحكميّة ؛ فإنّها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا. وقد عرفت ضعف ذلك ، وأنّ مرجع الإخراج الموضوعي إلى رفع الحكم المترتّب على ذلك ، فيكون الأصل في الموضوع في الحقيقة منافيا لنفس الدليل الواقعي إلّا أنّه حاكم عليه لا معارض له ، فافهم.

الرابع : الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع ـ كوجوب أحد الشيئين ـ وبين اختلافه ، كوجوب الشيء وحرمة آخر. والوجه في ذلك أنّ الخطابات في الواجبات الشرعيّة (١٣٥) بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكلّ ،

______________________________________________________

في المثال حينئذ هو الحكم بطهارة الماء وحرمة المرأة ، سيّما مع عدم العلم بمخالفة العمل حينئذ للواقع. فالأولى في المقام أن يمثّل بما علم بخمريّة هذا الإناء أو غصبيّة ذلك وما يضاهي ذلك. ثمّ إنّه قد تقدّم ما يتعلّق بالوجوه المذكورة عند شرح قوله : «وأمّا المخالفة العمليّة ...».

١٣٤. متعلّق بقوله : «بخلاف الشبهات الحكميّة». ووجه الاستشهاد : تصريحهم بعدم جواز خرق الإجماع المركّب لمخالفته لقول الإمام عليه‌السلام.

١٣٥. كذلك في المحرّمات الشرعيّة ، لأنّ خطاباتها أيضا في حكم خطاب واحد بترك الكلّ ، وما ذكره من باب المثال. والوجه فيما علّل به المقام أنّه مع

٢٠٩

فترك البعض معصية عرفا ، كما لو قال المولى : افعل كذا وكذا ، فإنّه بمنزلة افعلها جميعا ، فلا فرق في العصيان بين ترك واحد منهما معيّنا أو واحد غير معيّن عنده.

نعم ، في وجوب الموافقة القطعيّة بالإتيان بكلّ واحد من المحتملين كلام آخر مبنيّ على أنّ مجرّد العلم بالحكم الواقعي يقتضي البراءة اليقينية عنه ، أو يكتفى بأحدهما حذرا عن المخالفة القطعيّة التي هي بنفسها مذمومة عند العقلاء ويعدّ معصية عندهم وإن لم يلتزموا الامتثال اليقيني لخطاب مجمل.

والأقوى من هذه الوجوه (١٣٦) هو الوجه الثاني ، ثمّ الأوّل ، ثمّ الثالث. هذا

______________________________________________________

كون الخطابات المتّحدة بالنوع في حكم خطاب واحد تكون مخالفة أحد هذه الخطابات مستلزمة لمخالفة خطاب تفصيلي ، وهو الخطاب الواحد الانتزاعي ، بخلافه مع اختلافها بحسب النوع ، فتتحقّق المعصية على الأوّل دون الثاني ، لأنّ الإطاعة والمعصية عبارتان عن موافقة الخطابات التفصيليّة ومخالفتها ، كما علّل بذلك الوجه الأوّل. ولكن بعد منع انحصار الإطاعة والمعصية في موافقة الخطابات الحقيقيّة التفصيليّة ومخالفتها ـ كما أشار إليه فيما علّل به الوجه الثاني ـ يظهر كون هذه العلّة أظهر فسادا ممّا علّل به الوجه الأوّل ، لمنع الحصر المذكور فضلا عن شموله للخطابات الاعتباريّة ، مضافا إلى ما سنشير إليه.

١٣٦. يظهر وجه كونه أقوى من ملاحظة ما علّل به الوجه الثاني. وحاصله : أنّ الرخصة فيما يستلزم مخالفة العمل للواقع المعلوم إجمالا أو تفصيلا رخصة في معصية الشارع ، وهي قبيحة عقلا. وأدلّة الاصول ـ على تقدير شمولها للشبهات المشوبة بالعلم الإجمالي ـ لا بدّ من التصرّف فيها ، إمّا بتخصيصها بالشبهات البدويّة ، أو بإفادة الترخيص في أحدهما ، بناء على كون الآخر بدلا عن الواقع. وأيّا ما كان فلا يثبت جواز المخالفة العمليّة القطعيّة ، بل سيجيء في مسألة البراءة عدم ثبوت البدليّة ووجوب الموافقة القطعيّة.

٢١٠

كلّه في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلّف به (١٣٧).

______________________________________________________

وأمّا ضعف باقي الوجوه فظاهر. أمّا الأوّل فلمنع انحصار تحقّق المعصية في مخالفة الخطاب التفصيلي. وأمّا الثالث فلعدم الفرق فيما ذكر بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة. وقد أشار المصنّف إلى ضعف ما يوهم الفرق بينهما. وما ورد في الشرع ممّا يوهم خلاف ذلك في الشبهات الموضوعيّة قد أجاب عنه في الشبهة المحصورة ، مع الإشارة إلى جملة من تلك الموارد ، فراجع.

وأمّا الرابع فلإمكان إرجاع المتخالفين في الوجوب والحرمة أيضا إلى خطاب واحد متعلّق بالجميع ، لأنّ كلّا من الواجب والحرام يمكن إرجاعه إلى الآخر ، إذ كلّ واجب يجب فعله ، وكلّ حرام يجب تركه ، وإذا قال : افعل هذا ولا تفعل ذاك فكأنّه قال : افعلهما ، أي : كلّا من الفعل والترك. وبعد التأويل في المتخالفين وقربه في المتحدين لا يؤثّر في المقام. مع أنّه لا اعتداد بالخطابات الانتزاعيّة من الخطابات المتأصّلة في الإطاعة والامتثال كما لا يخفى. هذا كلّه ، مضافا إلى ما تقدّم في الحاشية السابقة.

وأمّا ما ذكره من الترتيب في الترجيح فالوجه فيه : أنّه لو أغمض عن التحقيق وفرض دوران الأمر بين ما عدا الوجه الثاني من الوجوه المذكورة لكان الأوّل منها حينئذ متعيّنا ، لأنّ العقل لو جوّز المخالفة القطعيّة لجوّزها مطلقا من دون تفصيل بين موارد الشبهة وأقسام الخطاب ، إذ ما هو مناط حكم العقل هو قبح المخالفة القطعيّة ، وإذا فرض عدم حكمه بقبحها فهو لا يفرّق في الحكم بالجواز بين الموارد. وأمّا لو أغمض عن ذلك ودار الأمر بين التفصيل الثالث والرابع فكان الثالث أولى بالإذعان ، كما يظهر وجهه ممّا قدّمناه في الحاشية السابقة ، سيّما مع ملاحظة ما قدّمناه هنا.

١٣٧. المراد من الحكم أعمّ من الحكم الكلّي والجزئي. وعلى الأوّل أيضا أعمّ ممّا كان الاشتباه في نفس المحمول ، أو الموضوع ، أو هما معا في مثل قولنا ،

٢١١

وأمّا الكلام في اشتباهه من حيث الشخص المكلّف بذلك الحكم ، فقد عرفت أنّه يقع تارة في الحكم الثابت لموضوع واقعي مردّد بين شخصين ، كأحكام الجنابة المتعلّقة بالجنب المردّد بين واجدي المني ، وقد يقع في الحكم الثابت لشخص من جهة تردّده بين موضوعين ، كحكم الخنثى المردّد بين الذكر والانثى.

أمّا الكلام في الأوّل ، فمحصّله : أنّ مجرد تردّد التكليف بين شخصين لا يوجب على أحدهما شيئا ؛ إذ العبرة في الإطاعة والمعصية (١٣٨)

______________________________________________________

الفعل الفلان واجب أو حرام ، إذ الشبهة الحكميّة بحسب اصطلاحهم أعمّ ممّا كان الاشتباه من حيث الوجوب والحرمة مثلا أو مفهوم متعلّقهما. وعلى الثاني أعمّ ممّا كان الاشتباه ناشئا من الاشتباه في مصاديق الوجوب والحرمة مثلا ، أو من الاشتباه في مصاديق متعلّقهما ، لكون ذلك أيضا موجبا لاشتباه الحكم الجزئي بالعرض ، وممّا كان الاشتباه ناشئا من الجهتين. وهذه أقسام ستّة من الأقسام الثمانية المتقدّمة في أصل التقسيم ، مندرجة تحت قوله : «هذا كلّه في اشتباه الحكم ...». نعم ، ربّما يتوهّم اختلال في العبارة ، من حيث عدم شمولها للشبهات المصداقيّة من الأقسام الستّة المذكورة. وقد عرفت ما فيه. ثمّ إنّه أشار إلى القسمين الباقيين بقوله : «وأمّا الكلام في اشتباهه ...».

ثمّ المراد بقوله : «من حيث الفعل المكلّف به» إنّما هو مقابل اشتباه الحكم من حيث المكلّف ، فيشمل اشتباهه من حيث الفعل ، ومن حيث الطلب خاصّة ، بأن اريد من اشتباه الفعل أعمّ من اشتباهه من حيث الذات ومن حيث الصفة ، إذ كما يصدق أنّ الفعل المأمور به في مثل الظهر والجمعة مشتبه ، كذلك في الفعل المشتبه الحكم ، إذ يصدق أنّ هذا الفعل باعتبار حكمه الواقعي مشتبه ، فتدبّر.

١٣٨. الوجه فيهما واضح ، لعدم تحقّق موضوعهما عند العقلاء بدون العلم بتوجّه خطاب تفصيلي أو إجمالي مردّد بين خطابين فصاعدا إلى مكلّف خاصّ ، فمجرّد ورود خطاب من الشارع بأنّه يجب الغسل على كلّ جنب لا يوجب الغسل

٢١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

على واجدي المني في الثوب المشترك ، لكون كلّ منهما شاكّا في توجّه خطاب إليه. فالمدار في حرمة المخالفة القطعيّة في جميع المقامات على مخالفة العمل لخطاب تفصيلي أو إجمالي مردّد متوجّه إلى خصوص المكلّف.

وتوضيح الكلام في المقام بحيث تتّضح الفروع التي أشار إليها المصنّف قدس‌سره يتوقّف على بيان تكليف كلّ من الشخصين الذين فرض تردّد الحكم الواقعي بينهما كواجدي المني ، وكذا تكليف كلّ منهما بالنسبة إلى الآخر ، وتكليفهما بالنسبة إلى غيرهما ، وتكليف الغير بالنسبة إليهما.

أمّا الأوّل فتكليفهما في أنفسهما هو جواز العمل لكلّ منهما بأصالة البراءة ، فلا يجب الغسل على أحدهما. والوجه فيه ما عرفت من عدم علم كلّ منهما بكونه مخاطبا بخطاب وجوب الغسل مثلا ، لا ما سمع من صاحب الجواهر من كون كلّ منهما مكلّفا بإجراء الأصل الجاري في حقّه ، وأنّه ليس له إجراء الأصل في حقّ الآخر ، لكون كلّ منهما موضوعا برأسه ، فيلاحظ الأصل الجاري في حق كلّ منهما في حقّه من دون تحقّق تعارض بينهما ، وذلك لمنع عدم جواز إعمال إنسان للأصل الجاري في حقّ غيره إذا ترتّب على إجرائه الأصل في حقّ الآخر أثر شرعيّ ، كما في مسألة ائتمام أحد واجدي المني بالآخر ، وفي مسألة حمل أحدهما للآخر ، وغيرهما ممّا ستعرفه. وليس في أخبار الاستصحاب ما ينافي ذلك كما لا يخفى.

وكيف كان ، فمقتضى القاعدة في المقام هو عمل كلّ منهما في أنفسهما بمقتضى أصالة البراءة. ولم يظهر فيه مخالف سوى ما يحكى عن المولى المقدّس الأردبيلي ، حيث ذكر في واجدي المني أنّ حكمهما حكم الشبهة المحصورة لو لا النصّ فيها بوجوب الاحتياط ، لأنّه يظهر منه أنّ مقتضى القاعدة في الشبهة المحصورة لو كان هو الاحتياط ـ كما هو الحقّ ـ لكان مقتضاها في واجدي المني أيضا ذلك ، إذ ظاهره كون المسألتين من واد واحد في الاندراج تحت القاعدة. ومن هنا أيضا قد جعل صاحب المدارك حكم واجدي المني دليلا على عدم وجوب

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة المحصورة. وأنت خبير بأنّ ذلك انحراف عن طريق الصواب ، إذ مقتضى القاعدة في الشبهة المحصورة هو وجوب الاجتناب ، ولو لم يكن هنا نصّ أيضا ، بل النصّ فيها معارض للقاعدة ، بخلاف مسألة واجدي المني على ما عرفت.

وأمّا الثاني ، أعني : جواز ائتمام أحدهما بالآخر أو استئجاره لعبادة أو كنس مسجد أو نحو ذلك ، فنقول : إنّ المعيار في ذلك أنّ كلّ مورد تلزم فيه مخالفة علم تفصيلي أو خطاب مفصّل أو خطاب مردّد بين خطابين لا يجوز كما عرفت. وسيجيء في بعض الحواشي الآتية بعض موارد انفكاك العلم التفصيلي عن الخطاب المفصّل. ومنها مسألة الحامل والمحمول الآتية ، بناء على تحقق الدخول والإدخال بحركة واحدة ، كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله.

وكلّ مورد لا يلزم فيه أحد الامور المذكورة يجوز. ففي مثل حمل أحد واجدي المني للآخر للدخول في المسجد الحرام مثلا للطواف أو غيره ، بناء على حرمة إدخال الجنب أو إدخال النجاسة غير المتعدّية ، إن قلنا بتحقّق الدخول والإدخال بحركة واحدة ، بمعنى تصادقهما عليها كسائر الكلّيات المتصادقة على مورد واحد ، لوضوح تغايرهما بحسب المفهوم ، دخل في المخالفة القطعيّة المعلومة تفصيلا ، للعلم بحرمة هذه الحركة الشخصيّة التي هي دخول بالنسبة إلى نفسه وإدخال بالنسبة إلى المحمول ، وإن تردّدت بين كونها لأجل مخالفة خطاب حرمة الدخول أو الإدخال.

وإن قلنا بتغايرهما وكون كلّ منهما موجودا في الخارج بوجود مغاير لوجود الآخر كما في الذهن ، فإن جعلناهما راجعين إلى عنوان واحد محرّم ، وهو مطلق الإدخال الشامل لإدخال النفس وإدخال الغير ، دخل في المخالفة لخطاب تفصيلي ، كارتكاب طرفي الشبهة المحصورة. وإن جعلنا كلّا منهما عنوانا مستقلّا محرّما دخل في المخالفة لأحد الخطابين المردّد بينهما ، نظير ما لو علمنا بنجاسة هذا المائع

٢١٤

بتعلق الخطاب بالمكلّف الخاصّ ، فالجنب المردّد بين شخصين غير مكلّف بالغسل وإن ورد من الشارع أنّه : يجب الغسل على كلّ جنب ؛ فإنّ كلّا منهما شاكّ في توجّه هذا الخطاب إليه ، فيقبح عقاب واحد من الشخصين يكون جنبا بمجرّد هذا الخطاب الغير المتوجّه إليه.

______________________________________________________

أو حرمة هذه المرأة. وأوضح منه في ذلك ما لو أدخل صاحبه في المسجد الحرام بإمساك يد صاحبه حين دخوله. ونحوه دخول المحمول مع استئجاره الحامل للحمل ، مع قطع النظر عن حرمة الدخول والإدخال أو فرض عدمها ، للقطع بصدور أحد المحرّمين عنه ، أعني : الدخول أو استئجار الجنب بناء على حرمته.

هذا بناء على كون المراد من حرمة الاستئجار حرمة إجراء الصيغة بقصد ترتيب الأثر. وإن اريد منه ما يقع منه على وجه المعاطاة يكون الدخول والاستئجار حينئذ نظير الدخول والإدخال في جريان الوجوه المتقدّمة فيه ، لكون الاستئجار حينئذ متحقّقا بركوب الأجير حين دخوله ولكنّ الظاهر من العبارة هو الأوّل ، إذ الظاهر من قوله : «وكذا من جهة دخول المحمول ...» هو التشبيه في مخالفة الخطاب الإجمالي المردّد لا في أصل مسألة الحمل. أمّا استئجار أحدهما للآخر للعبادة أو كنس المسجد ، فالظاهر جوازه ، إذ جواز العبادة ودخول المسجد من تكليف الأجير من دون مدخل للاستئجار فيه ، فإذا جاز له ذلك في نفسه يجوز استئجاره أيضا.

وأمّا اقتداء أحدهما بالآخر فغير جائز ، للعلم ببطلان صلاة المأموم ، إمّا من جهة بطلان صلاته بنفسها ، أو من جهة بطلان صلاة إمامه. فهذا الفعل الخاصّ ـ وهو صلاة المأموم ـ معلوم البطلان تفصيلا ، ففي الاعتداد بها وعدم إعادتها منفردا مخالفة لخطاب الأمر بالصلاة. نعم ، لو قلنا بكون الحكم الظاهري في حقّ أحد ممضى في حقّ غيره ـ كما يظهر من بعضهم ـ لاتجّه الحكم بجواز الاقتداء. ولكنّه ـ مع كونه خلاف التحقيق ـ يوجب الخروج من محلّ الفرض ، لفرض صحّة

٢١٥

نعم ، لو اتّفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجّه خطاب إليه دخل في اشتباه متعلّق التكليف الذي تقدّم حكمه بأقسامه (١٣٩).

______________________________________________________

صلاة كلّ منهما في حقّه وحقّ غيره.

وأمّا الثالث والرابع فمجمل الكلام فيهما أنّ هذين الشخصين بالنسبة إلى ثالث كالإناءين المشتبهين ، فكلّما لزم منه مخالفة خطاب تفصيلي لا يجوز. فلا يجوز له الاقتداء بأحدهما ولا بهما في صلاتين ، بأن اقتدى بأحدهما في الظهر وبالآخر في العصر ، ولا بهما في صلاة واحدة ، لكون الأوّل من قبيل ارتكاب أحد طرفي الشبهة المحصورة ، والثاني من قبيل ارتكابهما تدريجا ، والثالث دفعة.

وأمّا استئجارهما أو استئجار أحدهما للعبادة أو لكنس المسجد فلا إشكال فيه ، لكون صحّة الاستئجار تابعة لصحّة عمل الأجير في نفسه ، وقد عرفت صحّة عملهما في نفسهما. وكذا احتسابهما في عدد الجمعة ، وهو الخمسة أو السبعة ، لكون المدار في ذلك أيضا على صحّة الصلاة عند المصلّي لا بحسب الواقع. ولا فرق فيه بين كون تمام العدد واجدين للمني في الثوب المشترك أو بعضهم. نعم ، لو كان الإمام داخلا في أطراف الشبهة ، بأن يعلم كون الجنب إمّا هو الإمام أو أحد المأمومين ، لم تنعقد الجمعة ، لكن لا لعدم تماميّة العدد بذلك ، بل للعلم ببطلان صلاة المأمومين ، إمّا لبطلان صلاة الإمام أو صلاتهم ، هكذا قيل فتأمّل.

١٣٩. أقسام الاشتباه في متعلّق التكليف ستّة ، لأنّ الاشتباه فيه إمّا في مفهومه أو مصداقه. وعلى الثاني ؛ إمّا في المكلّف به أو المكلّف. ومخالفة العلم الإجمالي على التقادير إمّا لخطاب تفصيلي ، أو لخطاب مجمل مردّد بين خطابين فصاعدا. وقد تقدّم حكم الجميع في كلام المصنّف رحمه‌الله ما عدا الشكّ في المكلّف ، لأنّه هنا في صدد بيان حكمه. وحاصل ما ذكره : أنّه إذا حصل الشكّ لأحد المكلّفين الذين فرض اشتباه الحكم بينهما أو لثالث دخل في باقي أقسام اشتباه الحكم. ويظهر الوجه في ذلك من ملاحظة الفروع التي قدّمناها في الحاشية السابقة.

٢١٦

ولا بأس بالإشارة إلى بعض فروع المسألة ؛ ليتّضح انطباقها على ما تقدّم في العلم الإجمالي بالتكليف (١٤٠). فمنها : حمل أحدهما الآخر وإدخاله في المسجد للطواف أو لغيره ، بناء على تحريم إدخال الجنب أو إدخال النجاسة الغير المتعدّية.

فإن قلنا : إنّ الدخول والإدخال متحقّقان بحركة واحدة ، دخل في المخالفة المعلومة تفصيلا وإن تردّد بين كونه من جهة الدخول أو الإدخال. وإن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن : فإن جعلنا الدخول والإدخال راجعين إلى عنوان محرّم واحد ـ وهو القدر المشترك بين إدخال النفس وإدخال الغير ـ كان من المخالفة المعلومة للخطاب التفصيلي ، نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس. وإن جعلنا كلا منهما عنوانا مستقلّا ، دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالإجمال الذي عرفت فيه الوجوه المتقدّمة.

وكذا من جهة دخول المحمول واستئجاره الحامل ـ مع قطع النظر عن حرمة الدخول والإدخال عليه أو فرض عدمها ـ ؛ حيث إنّه علم إجمالا بصدور أحد المحرّمين : إمّا دخول المسجد جنبا أو استئجار جنب للدخول في المسجد ، إلّا أن يقال بأنّ الاستئجار تابع لحكم الأجير ، فإذا لم يكن (*) في تكليفه محكوما بالجنابة وابيح له الدخول في المسجد ، صحّ استئجار الغير له.

ومنها : اقتداء الغير بهما في صلاة أو صلاتين : فإن قلنا بأنّ عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعيّة ، كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة ، والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الإنائين ، والاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة (١٤١) كارتكاب أحد الإنائين. وإن قلنا : إنّه يكفي في

______________________________________________________

١٤٠. الناشئ من خطاب تفصيلي أو إجمالي مردّد بين خطابين.

١٤١. بأن اقتدى بأحدهما في صلاة ثمّ عرض للإمام مانع عن إتمامها ، فأقام الآخر مقامه فأتمّها.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : هو.

٢١٧

جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص في حكم نفسه ، صحّ الاقتداء في صلاة فضلا عن صلاتين ؛ لأنّهما طاهران بالنسبة إلى حكم الاقتداء. والأقوى : هو الأوّل ؛ لأنّ الحدث مانع واقعي لا علمي.

نعم ، لا إشكال في استئجارهما لكنس المسجد فضلا عن استئجار أحدهما ؛ لأنّ صحّة الاستئجار تابعة لإباحة الدخول لهما لا للطهارة الواقعيّة ، والمفروض إباحته لهما. وقس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك ، مميّزا بين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي وبين الأحكام المتعلّقة بالجنب من حيث إنّه مانع ظاهري للشخص المتّصف به.

وأمّا الكلام في الخنثى (١٤٢) : فيقع تارة في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكوريّة والانوثيّة أو مجهولهما ، وحكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصّة بكلّ من الفريقين ، وتارة في معاملة الغير معها. وحكم الكلّ يرجع إلى ما ذكرنا (١٤٣)

______________________________________________________

١٤٢. اعلم أنّ الكلام في الفروع الآتية إنّما هو على تقدير عدم كونها طبيعة ثالثة كما هو المشهور بين الفقهاء ، وإلّا فعدم شمول الخطابات المختصّة بالرجال والإناث لها ممّا لا إشكال فيه ، بل المطلقات أيضا ، لعدم انصرافها إليها. نعم ، لو فرض خطاب على وجه العموم لكان شاملا لها. وأمّا تحقيق الكلام في كونها طبيعة ثالثة أو كونها داخلة في صنف الرجال أو النساء فله محلّ آخر ، ولا يناسبه المقام.

١٤٣. يعني : حكم كلّ من معاملتها مع غيرها من معلوم الذكورة والأنوثة ومجهولهما ، ومن حكم نفسها بالنسبة إلى الأحكام المختصّة بكلّ من الفريقين ، ومعاملة الغير معها ، يرجع إلى ما ذكرناه من اشتباه متعلّق التكليف ، سواء كانت نفس التكاليف معلومة بالتفصيل وإن لم يكن هنا خطاب مفصّل ، أم كان خطابه أيضا مفصّلا ، أم كانت نفس التكليف مجملا مردّدا خطابه بين خطابين ، لأنّ جميع ما ذكره من فروع مسألة الخنثى وحكم فيها بالاحتياط من قبيل الاشتباه في متعلّق التكليف ، كما يظهر من ملاحظة ما سنتلو عليك في الحاشية الآتية.

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح المقام أنّك قد عرفت عند بيان المخالفة العمليّة للخطاب التفصيلي أنّ المراد من الخطاب التفصيلي أعمّ ممّا كان الخطاب مبيّنا بحسب موضوعه ومحموله ومتعلّقاتهما ، بحيث ينحصر فرض الاشتباه فيه في مصاديق موضوعه أو محموله أو متعلّقاتهما ، ومن ورود خطابين متعلّقين بموضوعين متغايرين ، ولكن كان بين متعلّقيهما جامع قريب يتضمّنه خطاب ثالث في الكتاب والسنّة كالقصر والإتمام ، لأنّ خطاب المسافر وإن كان مغايرا لخطاب الحاضر ، إلّا أنّ الخطاب بالصلاة في الكتاب والسنّة جامع بينهما ، فمخالفة خطابي القصر والإتمام مخالفة لهذا الخطاب التفصيلي.

ثم إنّ مخالفة الشارع تارة بمخالفة الخطاب التفصيلي المذكور بمعنييه ، واخرى بمخالفة خطاب مجمل مردّد بين خطابين ، وثالثة بمخالفة العلم التفصيلي وإن لم يكن هنا خطاب تفصيلي. ومثال الأوّلين واضح.

وأمّا الثالث فكحرمة نظر الخنثى إلى أحد الفريقين ، لأنّه بعد ضمّ قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) إلى قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) يحصل علم تفصيلي بحرمة النظر إلى البالغ غير المماثل. وإن وقع الاشتباه في مصداق هذا التكليف المفصّل بالنسبة إلى الخنثى ، فنظرها إلى الفريقين مخالفة لهذا التكليف المعلوم تفصيلا. واعتبار كون ذلك من قبيل اشتباه الخطاب وتردّده بين خطابين وإن كان صحيحا نظرا إلى توجّه أحد الخطابين إليهما ، إلّا أنّه لا اعتبار بإجمال الخطاب مع العلم التفصيلي كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. ويظهر أثر الأمرين في تأتّي الوجوه الأربعة التي تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله في مخالفة الخطاب المردّد بين خطابين وعدمه ، لأنّه مع عدم الاعتداد بإجمال الخطاب ، وجعل المناط في الإطاعة والمخالفة هو العلم التفصيلي ، تكون المخالفة في المقام في حكم مخالفة خطاب تفصيلي في عدم الجواز بوجه واحد ، بخلاف ما لو جعل المناط فيهما هو الخطاب المجمل المردّد بين خطابين ، فيتأتّى في المقام حينئذ الوجوه الأربعة المذكورة ، وإن كان أقواها حرمة المخالفة مطلقا أيضا.

٢١٩

في الاشتباه المتعلّق بالمكلّف به. أمّا معاملتها مع الغير (١٤٤) ،

______________________________________________________

وممّا ذكرناه يتّضح ما أورده المصنّف رحمه‌الله على المتوهّم غاية الوضوح ، وإن وقع غير واحد في فهم مراده في اشتباه وحيرة ، وأنّ قوله : «والتحقيق هو الأوّل» إشارة إلى كون المقام من قبيل الاشتباه في متعلق التكليف المعلوم تفصيلا وإن لم يكن هنا خطاب مفصّل ، فإنّه في سابق كلامه وإن وصف العلم بحرمة النظر إلى إحدى الطائفتين بالإجمال ، إلّا أنّ هذا الوصف إنّما هو باعتبار تردّد متعلّق حرمة النظر بين الطائفتين ، وإلّا فهذا التردّد لا يضرّ في كون هذا التكليف معلوما بالتفصيل كما يظهر ممّا قدّمناه ، ولذا وصفه بالتفصيل في قوله : «لأنّه علم تفصيلا ...» وقوله : «كما تقدّم في الدخول والإدخال ...» التشبيه إنّما هو في عدم العبرة بإجمال الخطاب مع العلم التفصيلي بالتكليف ، إذ قد تقدّم في كلامه كون الدخول والإدخال بناء على تحقّقهما بحركة واحدة من قبيل ذلك.

١٤٤. اعلم أنّ في حكم الخنثى هنا في غير الأحكام المشتركة بين الرجل والمرأة وجوها أقواها ما اختاره المصنّف رحمه‌الله :

أحدها : وجوب العمل بمقتضى الاحتياط في جميع الموارد التي تعلم كونها حكم الرجل والمرأة ، فتجتنب عن لبس الحرير ولو في غير الصلاة ، والنظر إلى المرأة ، وتكرّر الصلاة في الجهر والإخفات ، وتحضر الجمعة والجهاد ، وإن كان عدم وجوب الجهاد على المرأة رخصة لا عزيمة ، لعلمها إجمالا بتوجّه خطاب أحد الفريقين إليها.

وثانيها : جواز العمل بمقتضى أصالة البراءة في جميع الموارد المذكورة ، بناء على عدم كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف عند الشكّ في الأجزاء والشرائط وفي الشبهة المحصورة ونحوهما.

وثالثها : التفصيل بين الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، لجواز العمل بمقتضى أصالة البراءة في الأوّل ، ووجوب العمل بمقتضى الاحتياط في الثاني ،

٢٢٠