عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨))

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن إنذارك يا محمد وعن الإيمان بك (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي (١) تحفظ إيمانهم وأعمالهم بالجبر (إِنْ) أي ما (عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي تبليغ الرسالة فحسب ، نسخ هذا بآية السيف (٢)(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني أبا جهل أو الجنس (مِنَّا رَحْمَةً) أي نعمة من الصحة والغنا والأمن (فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) كالمرض والشدة والقحط (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بعملهم المعاصي (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) [٤٨] أي يكفر بنعم الله ، يعني (٣) يشكو من ربه عند المصيبة ولا يكره عند النعمة.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩))

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له الحكم فيهما والقدرة على أهلهما باذاقة الرحمة وإصابة البلية متى شاء وكيف أراد (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي على أي صورة وصفة يشاء (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) أي أولادا إناثا كلوط النبي عليه‌السلام (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [٤٩] أي الأولاد الذكور كابراهيم النبي عليه‌السلام.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي يقرن الأولاد حال كونهم (ذُكْراناً وَإِناثاً) لمن يشاء كيعقوب النبي عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم الإناث هنا ليدل على أنه فاعل لما يشاءه ولا (٤) لما يشاؤنه ، ثم عرف الذكور بيانا لشهرتهم عندهم ثم قدم ما هو الأصل في التقديم من الجنسين كما في قوله (مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى)(٥)(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا يلد ولدا كيحيى وعيسى عليهما‌السلام (إِنَّهُ) أي الله تعالى (عَلِيمٌ) أي عالم بالحكمة ، يعطي ما يصلح لكل واحد من العباد (قَدِيرٌ) [٥٠] أي قادر على تكوين ما يصلح لهم.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١))

قوله (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) نزل حين قال اليهود للنبي عليه‌السلام إن كنت نبيا كلم الله وانظر إليه لنؤمن بك كموسى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينظر موسى إلى الله تعالى (٦) ، أي ما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه ، إما بوحي وهو الإلهام في القلب والرؤية في المنام كأم موسى عليه‌السلام في التابوت وإبراهيم في الذبح (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بأن يحجب العبد عن الله المتكلم له كموسى عليه‌السلام إذا سمع (٧) التكلم (٨) من الشجرة ولم ير شخصه (أَوْ يُرْسِلَ) الله تعالى (رَسُولاً) أي ملكا كجبرائيل عليه‌السلام (فَيُوحِيَ) أي يلقي الرسول إليه كما كلم الأنبياء غير موسى (بِإِذْنِهِ) أي بأمر الله تعالى (ما يَشاءُ) من الوحي (إِنَّهُ) أي الله (عَلِيٌّ) أي منزه عن صفات الخلق بأن يتكلم أحدا في الدنيا مواجهة ويراه أحد عيانا فيها (حَكِيمٌ) [٥١] أي حاكم في صنعه بالحكمة من الإيحاء والتكلم بواسطة وغير واسطة ، قوله (أَوْ يُرْسِلَ) بالنصب عطف على محل (إِلَّا وَحْياً) ، تقديره : بأن يوحي أو أن يسمع من وراء حجاب أو أن يرسل أو هما مصدران في موضع الحال ، وكذا (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ظرف في موضع الحال أيضا ، وبالرفع عطف على معنى أو هو يرسل ،

__________________

(١) أي ، ح : ـ وي.

(٢) نقل المصنف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٣ / ٢٠٠ ؛ وانظر أيضا هبة الله بن سلامة ، ٨٠ ؛ وابن الجوزي ، ٥١.

(٣) يعني ، وي : ـ ح.

(٤) ولا ، ح : لا ، وي.

(٥) الحجرات (٤٩) ، ١٣.

(٦) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٢٠١ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣١١ ؛ والبغوي ، ٥ / ٩٠.

(٧) إذا سمع ، ي : إذ سمع ، ح و.

(٨) التكلم ، ح و : تكلم ، ي.

٨١

وقرئ «فيوحي» بالنصب باضمار أن و «يوحي» بالسكون عطفا على (يُرْسِلَ) بالرفع (١) ، وتقدير النظم : ما يجوز أن يكلم الله أحدا إلا موحيا إليه أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا إليه رسولا.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢))

(وَكَذلِكَ) أي مثل إيحائنا إلى الرسل (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي جبرائيل بأمرنا أو القرآن لأجل أمرنا وهو دين الإسلام يحييه كالروح للجسد ، قوله (ما كُنْتَ تَدْرِي) في محل النصب على الحال من كاف (إِلَيْكَ) ، أي لم تكن تعلم قبل الوحي (مَا الْكِتابُ) أي القرآن ف (ما) استفهامية (وَلَا) تدري ما (الْإِيمانُ) الشرعي دون العقلي ، لأن الأنبياء قبل الوحي كانوا مؤمنين موحدين بطريق العقل والاستدلال ، روي : أنه عليه‌السلام كان يوحد الله ويبغض الأصنام ويحج ويعتمر ويتبع شريعة إبراهيم (٢)(وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أي الكتاب والإيمان لأنه أقرب أو كل واحد منهما (نُوراً) أي ضياء من العمى (نَهْدِي) أي نرشد (بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ونوفقه إلى الهدى وهو أهل له (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) أي لتدعو الخلق (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥٢] أي دين الإسلام بسبب الكتاب.

(صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

قوله (صِراطِ اللهِ) بدل من «الصراط المستقيم» ، أي «إلى صراط الله» (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق ، أي له ملكهما يتصرف فيه كيف يشاء (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [٥٣] أي ترجع إليه أمور جميع الخلائق ، يعني عواقبها يوم القيامة.

__________________

(١) «أو يرسل» ، «فيوحي» : قرأ نافع برفع اللام من يرسل وباسكان الياء بعد الحاء من «فيوحي» ، والباقون بنصب اللام والياء. البدور الزاهرة ، ٢٨٨.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

٨٢

سورة الزخرف

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢))

(حم) [١] أي بحق «حم» (وَالْكِتابِ) أي وبحق القرآن (الْمُبِينِ) [٢] أي الفارق طرق الهدى من طرق الضلالة.

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣))

قوله (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) جواب القسم ، أي أوجدناه قرآنا بلغة العرب وليس بمفترى كما زعم بعض المشركين ، وهو المراد بكونه جوابا للقسم ، لأنه كونه عربيا غير مشكوك فيه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [٣] أي إرادة أن تعقله العرب ويفهموه ، ولا يقولوا لو لا فصلت آياته بلساننا.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤))

قوله (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) عطف على جواب لتحقيق أنه غير مفترى ، أي إن القرآن الذي أنزل عليهم نقل من الأصل الذي أثبت فيه الكتب المنزلة فهو مثبت في أم الكتاب ، أي في (١) اللوح المحفوظ (لَدَيْنا) بدل من «أم الكتاب» ، أي في أشرف مكان عندنا (لَعَلِيٌّ) أي لرفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من بينها (حَكِيمٌ) [٤] أي ذو حكمة بالغة.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥))

(أَفَنَضْرِبُ) الهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدر ، أي أنهملكم فنصرف (٢) ونزيل (عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أي القرآن ، قوله (صَفْحاً) حال ، أي صافحين بمعنى معرضين عنكم ولا تؤمرون ولا تنهون (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [٥] بفتح الهمزة ، أي لأن كنتم قوما مشركين (٣) ، وبكسرها (٤) شرط من الشروط المحققة يذكر تهجينا للمقول له أو تجهيلا للمخاطبين بصفتهم كأنهم شاكون فيها مع وضوحها.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧))

قوله (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) [٦] تسلية للنبي عليه‌السلام ، أي كم بعثنا من نبي في الأمم الأولين (٥) كما أرسلناك نبيا في قومك (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٧] كاستهزاء قومك بك.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من أهل مكة المسرفين (بَطْشاً) أي قوة ، وهو تمييز (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) [٨] أي

__________________

(١) في ، ح : ـ وي.

(٢) فنصرف ، ح و : فنضرب ، ي.

(٣) مشركين ، ح و : فاسقين ، ي.

(٤) «إن كنتم» : كسر الهمزة المدنيان والأخوان وخلف ، وفتحها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٨٨.

(٥) في الأمم الأولين ، وي : ـ ح.

٨٣

ذكر (١) في مواضع من القرآن قصص الأولين في الهلاك كالمثل الذي يسار به لشهوته.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي المشركين (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْعَلِيمُ) [٩] بخلقه ، فزاد الله تعالى وصفه في جوابهم ليأخذوا طريق الهدى ويتركوا طريق الضلالة فقال هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وقرئ «مهادا» (٢) ، أي قرارا للخلق (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا (٣)(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [١٠] أي إرادة أن تعرفوا طرقها من بلد إلى بلد بلا مشقة أو إرادة أن تعرفوا هذه النعم وتشكروا ربها ، ثم عطف على الذي جعل قوله (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ) زيادة تذكير النعم لهم ، أي هو الذي أنزل من السماء (ماءً بِقَدَرٍ) أي بمقدار الحاجة ولم يكن طوفانا ، ثم التفت من الغيبة إلى التكلم إظهارا لعظمة نفسه وافتقارهم إليه بما لا بد لهم في معيشتهم ليؤمنوا بوحدانيته ويقروا بالبعث بقوله (فَأَنْشَرْنا) أي أحيينا (بِهِ) أي (٤) بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً) أي يابسة لا نبات فيها (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) [١١] من قبوركم ولا ينفعكم إنكاركم ثمه.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢))

ثم زاد الوصف في ربوبيته لهم لرفع جهلهم به بقوله (وَ) هو (الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) أي الأصناف (كُلَّها) من الحيوان والنبات وغير ذلك (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ) أي من السفن والإبل والدواب (ما تَرْكَبُونَ) [١٢] عليها.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣))

(لِتَسْتَوُوا) أي لتثبتوا (عَلى ظُهُورِهِ) أي على ظهور ما تركبون (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) عليكم بألسنتكم معترفين بها في قلوبكم معظمين لها (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي على مركوبكم (وَتَقُولُوا) عند ذلك تحميدا وتنزيها (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ) أي ذلل (لَنا هذا) المركوب (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) [١٣] أي مطيعين أو ضابطين.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [١٤] أي راجعون إليه في الآخرة ، قيل : وجه اتصاله بما قبله أن الركوب مباشرة أمر مخطر وسبب تلف فكان من حق الراكب أن لا ينسى يوم موته فيقول ذلك بقلبه ولسانه ليكون مستعدا للقاء ربه باصلاح نفسه (٥) ، روي عن النبي عليه‌السلام : «انه قال بسم الله حين وضع رجله في الركاب ، فلما استوى على الدابة قال «الحمد لله سبحان الذي سخر لنا» الآية ، ثم حمد الله ثلاثا وكبر ثلاثا ، ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفرلي إن لا يغفر الذنوب إلا أنت» (٦) ، قيل : لا ينبغي للعاقل أن يركب تلذذا وتنزها (٧).

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥))

(وَجَعَلُوا لَهُ) أي إنهم مع اعترافهم بخالق السموات والإرض حين سئلوا عنه قد جعلوا ، أي حكموا

__________________

(١) ذكر ، ح و : اذكر ، ي.

(٢) «مهدا» : قرأ الكوفيون بفتح الميم وإسكان الهاء ، وغيرهم بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٨٨.

(٣) طرقا ، وي : طريقا ، ح.

(٤) أي ، وي : ـ ح.

(٥) اختصره المفسر من الكشاف ، ٥ / ٢٢١.

(٦) أخرجه الترمذي ، الدعوات ، ٤٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٩٤.

(٧) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

٨٤

أن لله (١) تعالى (مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي بعضا لقولهم الملائكة بنات الله ، لأن الولد جزء الوالد أو جعلوا بعض عباده شريكا له (٢) ، لأنهم أشركوا الأصنام معه تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي لجحود لنعم ربه (مُبِينٌ) [١٥] أي بين الكفر ، لأن نسبة الولد إليه كفر وهو أصل الكفران كله.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦))

قوله (أَمِ اتَّخَذَ) أورد فيه (أَمِ) المنقطعة (٣) بتضمير الهمزة الاستفهامية للإضراب والإنكار تجهيلا لهم (٤) ، أي بل أاتخذ تعالى (٥) لنفسه حيث لم يرضوا باثبات الجزء له حتى جعلوه شر الجزءين عندهم وهو الإناث (مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ) أي واختاركم (بِالْبَنِينَ) [١٦] وهو مما (٦) يستحيل في صفاته ، قيل : هو رد على بني مليح حيث قالوا الملائكة بنات الله (٧).

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧))

ثم وصف كراهيتهم بالنبات بقوله (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي جعل له شبها من جنسه بقوله الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك ، لأن الولد يشبه الوالد (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي صار وجهه متغير اللون (وَهُوَ كَظِيمٌ) [١٧] أي حزين يكظم غيضه ، المعنى : أنكم كيف ترضون لله من الأوصاف ما لا ترضون لأنفسكم.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨))

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) الاستفهام فيه للتوبيخ ، قرئ بفتح الياء والتخفيف ، وبضم الياء والتشديد (٨) ، أي أينسب للرحمن ولد ويجعل له من الولد من هو متصف بالصفة المذمومة وهو من ينشأ ، أي يربي (فِي الْحِلْيَةِ) أي في الزينة والنعمة (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) أي في الكلام إذا احتاج إلى مجاباة الخصوم (غَيْرُ مُبِينٍ) [١٨] بحجة ، أي ليس عنده بيان ببرهان يحج به من يخاصمه ، وذلك لضعف عقله ونقصانه ، إذ المرأة إذا أرادت أن تتكلم بحجتها انقلبت الحجة عليها غالبا ، وفي الآية إشارة إلى أن التربية في الزينة والتنعم من المذام ، لأنه من صفات النساء فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي ومن أقبح أوصافهم أنهم سموا الملائكة الذين هم ٤٣ أكرم عباد الله عليه إناثا فاسخفوا بهم واحتقروهم ، ثم قال بهمزة الإنكار (أَشَهِدُوا) أي أحضروا ، وقرئ «أو شهدوا» بهمزة الاستفهام وتخفيف همزة المجهول (٩) ، يعني بين الهمزة والواو ومن الإشهاد وأو آشهدوا بادخال ألف بين همزة الاستفهام وهمزة الفعل المجهول وهو أشهدوا ، أي أآحضروا (خَلْقَهُمْ) أي خلق الملائكة حين خلقهم الله تعالى فعلموا أنهم ذكور وإناث ، وهذا استهزاء بهم وتوبيخ لهم ، قوله (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) وعيد لهم ، نزل حين سأل عنهم النبي عليه‌السلام ما يدريكم أن الملائكة إناث؟ فقالوا : سمعنا من

__________________

(١) لله ، ح و : الله ، ي.

(٢) له ، وي : ـ ح.

(٣) للإضراب ، + ح.

(٤) لهم ، ح و : بهم ، ي.

(٥) تعالى ، ح و : الله ، ي.

(٦) مما ، وي : ما ، ح.

(٧) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٢٠٤.

(٨) «ينشأ» : قرأ حفص والأخوان وخلف بضم الياء التحتية وفتح النون وتشديد الشين ، والباقون بفتح الياء وإسكان النون وتخفيف الشين. البدور الزاهرة ، ٢٨٨.

(٩) «أشهدوا» : قرأ المدنيان بهمزتين ، الأولى مفتوحة محققة ، والثانية مضمومة مسهلة بين بين مع إسكان الشين ، وأدخل بينهما ألفا أبو جعفر وقالون بخلف عنه ، وأما ورش فيسهل من غير إدخال ، والباقون بهمزة واحدة مفتوحة محققة مع كسر الشين. البدور الزاهرة ، ٢٨٩.

٨٥

أبائنا ونشهد بصدقهم (١) ، فقال تعالى سنكتب شهادتهم على آبائهم بأنوثة الملائكة في الدنيا (وَيُسْئَلُونَ) [١٩] عنها يوم القيامة فيجازون عليها.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠))

(وَقالُوا) أي قال المشركون معتذرين استهزاء وعنادا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي الملائكة وغيرهم (٢) فقال تعالى (ما لَهُمْ بِذلِكَ) أي بذلك القول (مِنْ عِلْمٍ) يعني ليس لهم علم بما قالوه ، لأنهم لو قالوا لو شاء الرحمن معتقدين ذلك لوصفوا (٣) بالعلم ولمدحوا عليه ، لأن المشية لله تعالى (٤) في كل شيء (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [٢٠] أي ما هم إلا يقولون ذلك عن ظن وتخمين سواء طابق الواقع أو خالفه.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢))

ثم زادهم توبيخا بهمزة الإنكار فقال (أَمْ آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم والميم صلة (كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل القرآن أو قبل محمد عليه‌السلام فيه عبادة غير الله تعالى (فَهُمْ بِهِ) أي بذلك الكتاب (مُسْتَمْسِكُونَ) [٢١] أي آخذون حجة وعاملون بما فيه ، فلما لم يجيبوا أضرب تعالى عنهم بقوله (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة تقصد وهي ملتهم (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ) أي على سننهم (مُهْتَدُونَ) [٢٢] أي ذاهبون مستنين.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣))

(وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك القول الصادر لك من قومك (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي جبابرتها لرسلهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [٢٣] أي متبعون بسننهم (٥) وأعمالهم.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤))

(قالَ) وقرئ «قال» (٦)(أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) أي قل يا محمد أتتبعون آباءكم ولو جئتكم (بِأَهْدى) أي بدين أصوب وأرشد (مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ) أي قال جبابرة أهل مكة إنا بما جئتم (بِهِ) أيها الرسل (كافِرُونَ) [٢٤] أي جاحدون عنادا وإن جئتمونا بما هو أهدى.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي من الجاحدين بالعذاب (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [٢٥] أي آخر أمرهم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦))

(وَ) اذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ) مصدر بمعنى فعيل ، أي بريء (٧) ، استوى فيه القليل والكثير والذكر والأنثى (مِمَّا تَعْبُدُونَ) [٢٦] أي مما تعبدونه من الأصنام.

(إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧))

قوله (٨)(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني (٩) ، بدل من المجرور ، يعني إنني بريء من معبودكم إلا من الذي

__________________

(١) عن الكلبي ومقاتل ، انظر البغوي ، ٥ / ٩٥.

(٢) غيرهم ، ح ي : غيره ، و.

(٣) لوصفوا ، ح و : ليوصف ، ي.

(٤) تعالى ، ح : ـ وي.

(٥) بسننهم ، ح و : لسننهم ، ي.

(٦) «قل» : قرأ ابن عامر وحفص بفتح القاف واللام وألف بينهما على أنه فعل ماض ، وغيرهما بضم القاف وإسكان اللام على أنه فعل أمر. البدور الزاهرة ، ٢٨٩.

(٧) أي برئ ، ح و : ـ ي.

(٨) قوله ، وي : ـ ح.

(٩) أي خلقني ، وي : ـ ح.

٨٦

فطرني ، وجاز ذلك لكونهم عابدين آلهتهم مع الله ، ويجوز أن يكون (إِلَّا) صفة بمعنى غير ويكون «ما» في «ما تعبدون» موصوفة ، أي بري من آلهة (١) غير الذي فطرني ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، أي لكن الذي فطرني ، أي (٢) لا أبرأ منه ، قوله (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [٢٧] لا ينافي قوله (فَهُوَ يَهْدِينِ)(٣) لكون المراد بالجمع بينهما في القول استمرار الهداية في الحال والاستقبال ، لأن المعنى أن الله تعالى يثبتني على الهداية حالا ومئالا وهي كلمة الإخلاص ، أعني «لا إله إلا الله».

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨))

(وَجَعَلَها) أي وجعل إبراهيم أو الله كلمة التوحيد التي تكلم بها بالوصية (كَلِمَةً باقِيَةً) تقال (٤)(فِي عَقِبِهِ) أي في ذريته ونسله من بعده (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [٢٨] إلى الإيمان والطاعة إذا علموا أن إبراهيم كان أوصى بذلك ، قيل : «لا يزال في ذرية إبراهيم عليه‌السلام من يعبد الله ويوحده» (٥).

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

قوله (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) إضراب عن حال أهل مكة ، لأنه تعالى أخبر للنبي عليه‌السلام أن قومك هؤلاء من عقب إبراهيم فلم يوحدوني بل متعتهم بالمد في العمر والنعمة (وَآباءَهُمْ) فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعم واتباع الشيطان عن كلمة التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ) أي القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) [٢٩] أي ظاهر الرسالة بما معه من الآيات البينة الفارقة بين الحق والباطل ، ف (حَتَّى) غاية لسبب التمتيع (٦) وهو اشتغالهم بالاستمتاع فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عن هذه (٧) الغفلة ، ثم أخبر ثانيا عن حالهم عندها فقال (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ) أي القرآن (قالُوا) بما هو أقبح من غفلتهم وهو (هذا) أي ما جاء به محمد عليه‌السلام (سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) [٣٠] فكذبوه فلم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم عليه‌السلام.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢))

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ) هذا احتكام منهم على حكمة الله في تخيير (٨) محمد عليه‌السلام من أهل زمانه للرسالة بقولهم استهزاء بالقرآن هلا نزل (هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من إحديهما ك (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ)(٩) وهما مكة والطائف ، قوله (عَظِيمٍ) [٣١] صفة (رَجُلٍ) ، أي رئيس بحسب الدنيا لا عظيم عند الله وهو الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود بالطائف ، فقال الله توبيخا لهم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي نعمته من الرسالة والنبوة فيجعلون من شاؤا رسولا مع عجزهم ، فالهمزة فيه للإنكار الموذن بالتجهيل ، يعني ليس لهم ذلك بل نحن نختار للرسالة من نشاء من عبادنا (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) التي هي الرحمة الصغرى (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية ، يعني ما يعيشون (١٠) به من المنافع حلالا كانت أو حراما بحسب القسمة ، وهي أدنى من الرسالة التي هي الرحمة الكبرى فلم نترك اختيارها إليهم لحكمة نعلمها ، فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل منه ، وهو السلم الأعلى إلى حلول دار السّلام والطريق الموصل إلى حيازة حظوظ السعادة الباقية

__________________

(١) آلهة ، وي : آلهتهم ، ح.

(٢) أي ، ح : ـ وي.

(٣) الشعراء (٢٦) ، ٧٨.

(٤) تقال ، وي : يقال ، ح.

(٥) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٠٦ ؛ والبغوي ، ٥ / ٩٧.

(٦) التمتيع ، ح و : التمتع ، ي.

(٧) هذه ، ي : ـ ح و.

(٨) تخيير ، ح : تخير ، وي.

(٩) الرحمن (٥٥) ، ٢٢.

(١٠) يعيشون ، وي : تعيشون ، ح.

٨٧

(وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي فضلنا بعضهم على بعض بالغني والفقر والحرية والرق في الدنيا (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي استهزاء ، يعني ليستخدم بعضهم بعضا بالاستيجار وليستعبد (١) الأحرار العبيد بالإكراه ، ثم أخبر أن عطاء الآخرة خير من عطاء الدنيا بقوله (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أي الجنة والنبوة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [٣٢] أي مما يجمع الكفار من حطام الدنيا وزينتها.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣))

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي لو لا كراهة أن يكون الناس كافرين ، يعني راغبين في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) أي عليها ، فاللام بمعنى على أو (لِبُيُوتِهِمْ) بدل من (لِمَنْ يَكْفُرُ) ، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن (سُقُفاً) مفردا وجمعا بسكون القاف وضمها (٢) ، وهي سماء البيت (مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) أي مصاعد من فضة ، جمع معرج (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [٣٣] أي يعلون إلى سطوحها.

(وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤))

(وَلِبُيُوتِهِمْ) أي ولجعلنا لبيوتهم (أَبْواباً) من فضة (وَسُرُراً) من فضة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) [٣٤] أي يجلسون وينامون.

(وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

(وَزُخْرُفاً) أي ذهبا أو زينة ، يعني لجعلنا لهم زينة من كل شيء أو عطف على محل (مِنْ فِضَّةٍ) ، أي لجعلنا بعضها من فضة وبعضها من ذهب ، المعنى : لو لا الخوف على المؤمن الذي يحب الدنيا لصببت الدنيا على الكافر صبا ، إذ لا حظ له شرف في نعيم الآخرة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا) مشددا بمعنى إلا و (إِنْ) للنفي ، أي ما كل ذلك إلا (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني يفنى ولا يبقى (وَالْآخِرَةُ) أي الجنة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [٣٥] أي للذين يتقون الشرك والمعاصي ، وقرئ «لما» مخففة من الثقيلة (٣) و «ما» زائدة تأكيدا ، قيل : لم لم يوسع على المسلمين ليرغب الناس إلى الإسلام؟ أجيب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا ، لأن الدخول لأجل الدنيا من دين أهل النفاق ونسيان ذكر الله تعالى (٤).

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦))

ثم قال (وَمَنْ يَعْشُ) أي ومن يعرض ، من عشا يعشو إذا ضعف بصره بلا آفة بعينه ، والمراد منه التعامى ، أي ومن يتعام (٥)(عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي القرآن بأن لا يؤمن به ولا يعمل بما فيه (نُقَيِّضْ) أي نسيب (لَهُ شَيْطاناً) مسلطا عليه يخذله مجازاة لإعراضه عن ذكر الله (فَهُوَ) أي الشيطان (لَهُ) أي للمعرض (قَرِينٌ) [٣٦] أي صاحب لا يفارقه في النار كلاهما في سلسلة واحدة أو لا يفارقه في الدنيا يزين له الضلالة.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧))

(وَإِنَّهُمْ) أي وإن الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي ليمنعون المعرضين (عَنِ السَّبِيلِ) أي طريق الهدى (وَيَحْسَبُونَ) أي يظنون (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [٣٧] أي أنهم على الطريق المستقيم ، وإنما جمع ضمير (مَنْ يَعْشُ) وضمير ال «شيطان» في قوله (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) مع أنهما مفردان ، لأن المراد ب (مَنْ) وال «شيطان» جنسان مبهمان

__________________

(١) وليستبعد ، ح و : ويستعبد ، ي.

(٢) «سقفا» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح السين وسكون القاف ، وغيرهم بضم السين والقاف. البدور الزاهرة ، ٢٨٩.

(٣) «لما» : قرأ عاصم وحمزة وابن جماز وهشام بخلف عنه بتشديد الميم ، والباقون بتخفيفها ، وهو الوجه الثاني لهشام. البدور الزاهرة ، ٢٨٩.

(٤) قد أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٥) يتعام ، وي : يتعامى ، ح.

٨٨

فيتناول كل واحد (١) منهما الإفراد ، فبذلك جاز أن يرجع إليهما بصيغة ضمير الجمع.

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨))

قوله (حَتَّى) غاية لحسبانهم مهتدين (٢)(إِذا جاءَنا) مفردا ، أي المعرض وقرئ «جاءانا» تثنية (٣) ، أي المعرض وشيطانه (٤)(قالَ) أي المعرض لشيطانه تندما (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعدا مثل بعد ما بين المشرق والمغرب بتغليب المشرق ، أراد به غاية تباعدهما (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [٣٨] أي قال الله تعالى فبئس الصاحب معه الشيطان في النار أو قال المعرض فبئس القرين أنت يا شيطان.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩))

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) أي يقال يوم القيامة للكافرين المعرضين عن القرآن عند دخولهما النار لن ينفعكم اليوم الندم أو الاعتذار أو التمني (إِذْ ظَلَمْتُمْ) بدل من (الْيَوْمَ) ، أي إذا أشركتم ، قوله (أَنَّكُمْ) بالفتح تعليل لعدم النفع ، أي لما صح ظلمكم عندكم في الدنيا فلن ينفعكم اليوم ندمكم لأنكم (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [٣٩] أي حق جميعكم من التابع والمتبوع أن تكونوا في العذاب سواء لاشتراككم في موجبه وهو الكفر.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١))

قوله (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) نزل حين بالغ النبي عليه‌السلام في طلب إيمان أهل مكة (٥) ، فأوحى الله تعالى إلى أن لا نافع إلا هو بقوله (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) ، أي تفهم من كان أصم القلب (أَوْ تَهْدِي) أي ترشد (الْعُمْيَ) أي من تعامى عن الحق إلى الهدى (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٤٠] أي ظاهر الضلالة في علم الله تعالى فوجبت (٦) عليه كلمة العذاب ، والفاء في جواب شرط مقدر وهو لما يؤمنوا بك وبما جئتهم (٧) به من القرآن في قوله (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ)(٨) بأن نميتك قبل نصرتك وتعذيب الكفار هنا (٩)(فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) [٤١] يوم القيامة.

(أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢))

(أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من العذاب في حيوتك بأن لم يؤمنوا (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ) أي على إهلاكهم (مُقْتَدِرُونَ) [٤٢] أي قادرون بلا مانع عنه.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣))

قوله (فَاسْتَمْسِكْ) خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، أي خذ (بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) واعمل به وهو القرآن (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٤٣] أي على دين الحق.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤))

(وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَذِكْرٌ) أي لشرف (١٠)(لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي للعرب ، لأنه نزل بلغتهم ، وقيل : ذكر لك بما أعطاك من الحكمة ولقومك (١١) ، أي لمتبعيك (١٢) بالهداية (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [٤٤] يوم القيامة عن شكر هذا

__________________

(١) واحد ، ي : ـ ح و.

(٢) غاية لحسبانهم مهتدين ، و : ـ ح ي.

(٣) «جاءنا» : قرأ المدينان والمكي والشامي وشعبة بألف بعد الهمزة ، والباقون بغير ألف. البدور الزاهرة ، ٢٩٠.

(٤) غاية لحسبانهم مهتدين ، + ح.

(٥) لعله اختصره من الكشاف ، ٥ / ٢٢٦.

(٦) فوجبت ، ح و : فوجب ، ي.

(٧) جئتهم ، وي : جئت ، ح.

(٨) أي ، + ح.

(٩) هنا ، ح و : ـ ي.

(١٠) لشرف ، ح : شرف ، وي.

(١١) نقوله المفسر عن البغوي ، ٥ / ١٠٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٠٨.

(١٢) لمتبعيك ، وي : المتبعيك ، ح.

٨٩

الشرف أو عن القيام بحق القرآن.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) أي اسئل أمم من أرسلنا من قبلك الذين يقرؤون كتبهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وقيل : إن الأنبياء جمعوا ليلة المعراج وصلى بهم النبي عليه‌السلام ببيت المقدس ، فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم سل من رسلنا قبلك (١)(أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [٤٥] يعني (٢) هل جاءهم رسول بدعوهم إلى عبادة غير الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أسألهم قد اكتفيت بعلمي ويقيني بما في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي باليد والعصا (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [٤٦] على سبيل التعريض.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧))

(فَلَمَّا جاءَهُمْ) موسى (بِآياتِنا) أي بعلاماتنا (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) [٤٧] أي يسخرون ويعجبون ، قيل : كيف جاز أن يجاب «لما» ب (إِذا) للمفاجاة وهو ليس بفعل ليعمل في «لما» بمعنى حين؟ أجيب بأن (إِذا) متضمن لفعل المفاجاة وهو عامل النصب في محل (إِذا) على المفعولية ، تقديره : فلما جاءهم بآياتنا فأجاؤا وقت ضحكهم (٣).

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨))

(وَما نُرِيهِمْ) أي القبط (مِنْ آيَةٍ) كالطوفان والجراد والضفادع (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ) أي أعظم (مِنْ أُخْتِها) أي من الآية التي كانت قبلها ليكون العذاب أعظم وأشد فلم يؤمنوا بشيء منها (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي عاقبناهم بهذه العقوبات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [٤٨] عن كفرهم.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩))

(وَقالُوا) أي قال القبط لموسى تعظيما له عند مجيء موسى بالآيات عاجزين ذليلين (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) بفتح الهاء وضمها (٤) ، أي العالم الكامل قالوا به استعظاما لعلم السحر (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بحق ما أمرك به ربك إن تدعو لله فتستجاب ليكشف العذاب عمن اهتدى (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) [٤٩] أي مؤمنون بك وموحدون ربك.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) بدعاء موسى (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) [٥٠] أي ينقضون عهودهم كفرا.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١))

(وَنادى فِرْعَوْنُ) بنفسه أو أمر بالنداء (فِي قَوْمِهِ) أي في مجامعهم وأسواقهم افتخارا (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) أي أنهار النيل ، ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر تنيس ونهر دمياط (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) الواو للحال ، أي تجري من تحت قصوري وسرري وبين يدي وفي بساتيني (أَفَلا تُبْصِرُونَ) [٥١] عظمتي وفضلي على موسى.

__________________

(١) لعل المؤلف اختصر من البغوي ، ٥ / ١٠٢.

(٢) يعني ، ح و : أي ، ي.

(٣) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٥ / ٢٢٧.

(٤) «أيه» : قرأ ابن عامر وصلا بضم الهاء اتباعا لضم الياء ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٩٠.

٩٠

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢))

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ) الهمزة للتقرير والميم صلة كأنه قال اثبت عندكم وهذه حالتي ، إنني أنا خير (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي ضعيف حقير ، يعني موسى (وَلا يَكادُ) أي لا يقرب (يُبِينُ) [٥٢] أي يفصح كلامه لعية فيه أراد لثغته التي حدثت (١) بسبب الجمرة ، فلا يصلح للرياسة والسياسة ليؤمن به الناس ويقتدوه وأنا فصيح الكلام وبليغ الحجة أفلا تنظرون فضلي عليه في كل شيء.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣))

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ) أي هلا أعطي أسوة وقرئ «أساورة» (٢)(مِنْ ذَهَبٍ) إن كان صادقا في مقالته وحقا في رسالته فيكون حاله خيرا (٣) من حالي ، وكان آل فرعون إذا سودوا رجلا ألبسوه أسورة ذهب وطوقوه طوق ذهب (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [٥٣] أي متتابعين يشهدون بصدقه.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥))

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي استذلهم (فَأَطاعُوهُ) أي انقادوا له فيما يريد (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) [٥٤] أي عاصين الله ورسوله بنقض العهد.

(فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي عاقبناهم (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) [٥٥] أي لم نبق أحدا منهم.

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) بضمتين جمع سليف وبفتحتين جمع سالف (٤) ، ومعنى الكل الماضي والمتقدم ، أي فأهلكناهم وجعلناهم متقدمين عبرة (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [٥٦] بعدهم من الكفار يتمثلون بحالهم فلا يفعلون مثل أفعالهم.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧))

قوله (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ) الآية نزل حين قال ابن الزبعري للنبي عليه‌السلام بعد نزول قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(٥) رضينا أن يكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة ، لأنهم عبدوا دون الله ففرح قومه بذلك وضحكوا استهزاء ورفعوا أصواتهم تعجبا وأعرضوا عن النبي عليه‌السلام ، فقال تعالى ولما ضرب ، أي وصف ابن مريم (مَثَلاً) يعني ممثلا به (إِذا قَوْمُكَ) أي كفار مكة (مِنْهُ) أي من أجل المثل (يَصِدُّونَ) [٥٧] بالضم ، أي يعرضون عن الحق ، وبالكسر (٦) ، أي يضجون ويرفعون أصواتهم تعجبا.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨))

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعنون عيسى فنرضي أين يكون آلهتنا معه في النار على تقدير أن يكون هو فيها (ما ضَرَبُوهُ) أي هذا المثل وهو آلهتنا خير أم هو (لَكَ) يا محمد ، يعني ما عارضوك بهذه المعارضة (إِلَّا جَدَلاً) أي مجادلين بالباطل أو لأجل الجدل في القول لا لطلب الحق وترك الباطل (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [٥٨] أي شديد و (٧) الخصومة دأبهم اللجاج.

__________________

(١) حدثت ، وي : تحدثت ، ح.

(٢) «أسورة» : قرأ حفص ويعقوب بسكون السين ، وغيرهما بفتح السين وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٩٠.

(٣) خيرا ، وي : خيرا ، ح.

(٤) «سلفا» : قرأ الأخوان بضم السين واللام ، وغيرهما بفتحهما. البدور الزاهرة ، ٢٩٠.

(٥) الأنبياء (٢١) ، ٩٨.

(٦) «يصدون» : قرأ ابن كثير والبصريان وعاصم وحمزة بكسر الصاد ، وغيرهم بضمها. البدور الزاهرة ، ٢٩٠.

(٧) شديدو ، وي : شديد ، ح.

٩١

(إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))

(إِنْ هُوَ) أي ما عيسى (إِلَّا عَبْدٌ) مربوب فلا يجوز أن يكون إلها لكن (أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [٥٩] أي دليلا وعبرة يستدلون بوجوده من غير أب على قدرة الله تعالى كما خلقنا آدم من غير أب وأم لذلك.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠))

(وَلَوْ نَشاءُ) لقدرتنا على عجائب الأمور (لَجَعَلْنا) أي ولدنا (مِنْكُمْ) يا بني آدم (مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [٦٠] بعدكم كما يخلقكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من الأجسام ، وذات الله القديم متعالية عن ذلك.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١))

(وَإِنَّهُ) أي نزول عيسى عليه‌السلام (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) بكسر العين ، أي ما يعلم به قرب الساعة وبفتح العين (١) واللام رواية ، أي علامة لقيام الساعة (فَلا تَمْتَرُنَّ) أي لا تشكن (بِها) أي في الساعة والبعث من المرية الشك (وَاتَّبِعُونِ) أي اتبعوا صراطي وهو التوحيد (هذا) أي الذي آمركم به من التوحيد (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [٦١] لا اعوجاج له.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ) أي لا يصرفنكم (الشَّيْطانُ) عن هذا الصراط وهو طريق الهدى (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [٦٢] أي ظاهر العداوة.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣))

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات والشرائع (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي بالنبوة وشرائع الإنجيل (وَ) بعثت (لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أمر الدين دون بعض الذي تختلفون فيه من غيره ، إذ لا تعبد فيه (فَاتَّقُوا اللهَ) من المخالفة (وَأَطِيعُونِ) [٦٣] فيما آمركم من أمر التحيد.

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥))

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أي هو (٢) خالقي وخالقكم (فَاعْبُدُوهُ) أي وحدوه وأطيعوه (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [٦٤] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) أي الجماعات المتحزبة في أمر عيسى (مِنْ بَيْنِهِمْ) أي من (٣) بين النصارى الذين بعث عيسى إليهم بالنبوة ، فقال لهم إني قد (٤) جئتكم بالحكمة ، وهم النسطورية واليعقوبية والملكائية ، وقيل : هم اليهود والنصارى (٥) تفرقوا في أمر عيسى ، فقالت اليهود إنه ولد الزنا ، وقالت النصارى إنه ابن الله واختلفوا في قتله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [٦٥] أي وجيع.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينتظرون إذ لم يؤمنوا إلا (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) الساعة (بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [٦٦] بها يعني غافلون عنها لاشتغالهم بالدنيا ، ويجوز أن تأتي الناس بغتة وهم يظنون كالمؤمنين

__________________

(١) نقل المؤلف هذه القراءة عن السمرقندي ، ٣ / ٢١١.

(٢) هو ، وي : ـ ح.

(٣) من ، ح و : ـ ي.

(٤) فقال لهم إني قد ، و : وقال لهم قد ، ي : فقال لهم ، ح.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٣١.

٩٢

بالوحي ، ومحل (١)(أَنْ تَأْتِيَهُمْ) نصب بدل من (السَّاعَةَ) و (بَغْتَةً) مع ما بعدها حالان (٢) منها.

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧))

قوله (الْأَخِلَّاءُ) مبتدأ ، أي الأصدقاء بسبب المعصية (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) خبر ، أي يعادي بعضهم بعضا ، ف (يَوْمَئِذٍ) ظرف ل «عَدُوٌّ» (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [٦٧] أي إلا الأصدقاء في الله أو إلا المجتنبين أخلاء السوء ، قيل : كل وصلة أخوة منقطعة إلا ما كان في الله فانها في كل وقت باقية مزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحاب في الله والتباغض في الله (٣) ، والآية نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط (٤).

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨))

(يا عِبادِ) بياء الإضافة وتركها (٥) ، أي ينادي به يومئذ المتقون المتحابون في الله (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) من العذاب (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [٦٨] مما عملتم في الدنيا من الذنوب.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩))

(الَّذِينَ آمَنُوا) منصوب المحل صفة ل (عِبادِ) ، أي الذين صدقوا (بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) [٦٩] أي مخلصين وجوههم لنا ولطاعتنا.

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١))

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [٧٠] أي تسرون ، والحبرة المبالغة في السرور ، يعني تكرمون إكراما بليغا يظهر أثره على وجوههم ، ثم أخبر أنهم إذا دخلوا الجنة واستقروا فيها (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ) أي بقصاع (مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو إناء يشرب منه لا عروة له ليشرب الشارب من حيث شاء (وَفِيها) أي في الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) بهاء الضمير وتركها (٦) تلذذا (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أي تلتذ به نظرا (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [٧١] أي (٧) لا تخرجون ولا تموتون.

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) أي (٨) وهي الجنة (الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما) أي بسبب وارثه (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٧٢] من الأعمال الحسنة ، يعني دخلت الجنة في ملككم كدخول الميراث في ملك وارثه (لَكُمْ فِيها) أي في الجنة (فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) أي ينقطع (مِنْها) أي من تلك الفاكهة (تَأْكُلُونَ) [٧٣] متى شئتم.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦))

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ [٧٤] لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي لا يخفف العذاب طرفة عين عنهم (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [٧٥] أي آيسون من رحمة الله ، قيل : «يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يردم عليه فيبقى فيه خالدا لا يرى ولا يرى» (٩).

__________________

(١) محل ، وي : ـ ح.

(٢) حالان ، ح و : حالا له ، ي.

(٣) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٢٣١.

(٤) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢١٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٣١.

(٥) «يا عباد» : قرأ المدنيان والبصري والشامي ورويس باثبات الياء ساكانة ، والباقون بحذفها. البدور الزاهرة ، ٢٩١.

(٦) «تشتهيه» : قرأ المدنيان والشامي وحفص بزيادة هاء الضمير مذكرا بعد الياء ، والباقون بحذفها. البدور الزاهرة ، ٢٩١.

(٧) أي ، ح : ـ وي.

(٨) أي ، وي : ـ ح.

(٩) عن الضحاك ، انظر الكشاف ، ٥ / ٢٣٢.

٩٣

(وَما ظَلَمْناهُمْ) أي لا نعذبهم بغير ذنب (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [٨٦] باستكبارهم عن الإيمان.

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨))

(وَنادَوْا) عند شدة العذاب وطول مكثهم فيها أو لغلبة الجوع الملقى عليهم (يا مالِكُ) أي يا خازن جهنم ادع لنا ربك (لِيَقْضِ) أي ليحكم (عَلَيْنا رَبُّكَ) بالموت فيجيبهم مالك بعد أربعين سنة أو ألف سنة (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [٧٧] دائما في العذاب ، قيل : كيف قال (وَنادَوْا يا مالِكُ) بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ أجيب بأن تلك أزمنة ممتدة فيختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس وينادون أوقاتا لشدة ما بهم من العذاب (١) ، ثم يقال لهم توبخا (لَقَدْ جِئْناكُمْ) على لسان رسلي (بِالْحَقِّ) أي القرآن والتوحيد في الدنيا (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [٧٨] أي جاحدون.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩))

(أَمْ أَبْرَمُوا) أي أأحكم أهل مكة (أَمْراً) في كيد محمد عليه‌السلام واتفقوا عليه (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) [٧٩] أي محكومون كيدنا لإهلاكهم كما أبرموا كيدهم له ، وذلك نزل حين اجتمعوا في دار الندوة ودخل إبليس عليهم لتقوية مكرهم (٢) ، وقد مر بيانه في سورة الأنفال ، قيل : المبرم هو المفتول على طاقين (٣).

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) أي بل يظنون أنا لا نعلم ما خطر ببالهم (وَنَجْواهُمْ) أي ما يتناجون بينهم جهرا وهم الذين كانوا يتناجون خلف الكعبة ، ويقولون لا يسمع رب محمد مقالتنا هنا فقال تعالى (بَلى) نسمع نحن ذلك (وَرُسُلُنا) أي الحفظة من الملائكة (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [٨٠] ما يسرون وما يعلنون.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١))

قوله (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) نزل حين قالوا الملائكة بنات الله تبكيتا (٤) ، أي قل يا محمد إن كان للرحمن ولد فرضا (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [٨١] لذلك الولد ، وهذا غاية التوحيد والمبالغة في نفي الولد ، لأنه تعليق بالمحال لما ثبت ببرهان صحيح عقلي وحجة واضحة أن لا ولد له فانتفت عبادته لانتفائه ، لأن المعلق بالمحال محال مثله ، وفيه إيماء إلى الإنصاف في الجدال وإثبات للحجة عليهم في نفي الولد عنه تعالى ، وقيل : أنا أول الجاحدين لقولكم باضافة الولد إليه (٥) ، وقيل : (إِنْ) نافية ، أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين لله بنفي ذلك (٦).

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣))

وتكذيب قولكم قوله (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ) تنزيه لنفسه تعالى (عن ما (يَصِفُونَ) [٨٢] أي يقولون من الكذب بأن لله ولدا (فَذَرْهُمْ) أي اترك كفار مكة (يَخُوضُوا) أي يشرعوا في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا) أي يعاينوا (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [٨٣] وهو يوم القيامة (٧).

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤))

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) أي معبود فيها بدون الاستقرار (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي معبود فيها كذلك ، يعني

__________________

(١) قد أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٣٢.

(٢) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢١٣.

(٣) نقل المفسر هذا المعنى عن السمرقندي ، ٣ / ٢١٣.

(٤) نقله عن الكشاف ، ٥ / ٢٣٣.

(٥) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٢٣٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٠٩.

(٦) وهذا منقول عن الكشاف ، ٥ / ٢٣٣.

(٧) قوله ، + وي.

٩٤

ليس حالا فيهما أو في أحدهما (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أمره (الْعَلِيمُ) [٨٤] بخلقه وقولهم وفعلهم ، فيه نفي الآلهة التي تعبد في الأرض وتخصيص الألوهية له تعالى.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥))

ثم عظم نفسه ونزه بقوله (وَتَبارَكَ) أي تعاظم وتعالى عما يقولون (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خزائنهما أو نفاذ الأمر فيهما (وَ) له (ما بَيْنَهُما) من الخلق (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم قيامها (وَإِلَيْهِ) أي إلى حكمه (تُرْجَعُونَ) [٨٥] بالتاء والياء (١).

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦))

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي لا يقدر الآلهة الذين يعبدونهم (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (الشَّفاعَةَ) لأحد كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ، وهم الملائكة وعزير وعيسى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) أي إلا لمن قال كلمة الإخلاص من المؤمنين فهو استثناء متصل أو لكن من شهد بالحق وهو توحيد الله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [٨٦] أنه الحق عن بصيرة وإخلاص ، (هُمْ) خبر «لكن» الذين يملكون الشفاعة فهو استثناء منقطع.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ليعترفون (٢) بخالقهم وهم كفار قريش (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [٨٧] أي كيف يصرفون بعد الاعتراف والتصديق.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨))

قوله (وَقِيلِهِ) جر بلفظ حرف القسم ، أي أقسم بقول النبي عليه‌السلام وندائه (يا رَبِّ) شكاية لهم وجواب القسم (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) [٨٨] وقرئ بالنصب (٣) أيضا على تقدير يعلم قيام الساعة ويعلم قيله ، وقيل : الجر والنصب يجوزان لكون العطف على لفظ الساعة وعلى محلها (٤) ، وفيه بعد معنى ولفظا ، أما معنى فلعدم معنى التخصيص فيه وأما لفظا فللفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

قوله (فَاصْفَحْ) جواب شرط محذوف ، أي إذا لم يجئ منهم إيمان فأعرض (عَنْهُمْ) أي عن دعوتهم أو فاعف ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال (وَقُلْ سَلامٌ) أي قل لهم قولا تسلم به من شرهم وهو سلام لكم سلام متاركة لا سلام دعاء (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [٨٩] بالخطاب وهو وعيد لهم منه تعالى ، وقرئ بالياء (٥) على معنى الخبر عنهم.

__________________

(١) «ترجعون» : قرأ المكي والأخوان وخلف ورويس بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٢٩١.

(٢) ليعترفون ، وي : أي لتعرفون ، ح.

(٣) «وقيله» : قرأ عاصم وحمزة بخفض اللام وكسر الهاء ، والباقون بنصب اللام وضم الهاء. البدور الزاهرة ، ٢٩١.

(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٥ / ٢٣٤.

(٥) «يعلمون» : قرأ المدنيان والشامي بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٢٩١.

٩٥

سورة الدخان

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣))

(حم) [١] أي يا محمد بحق الحي القيوم (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [٢] أي وبحق القرآن الفارق بين الحق والباطل ، جواب القسم (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي ليلة القدر من اللوح المحفوظ من السماء السابعة إلى السماء الدنيا دفعة واحدة في بيت العزة إلى السفرة الكرام الذين أمروا باستنساخه من اللوح في ليلة القدر ، ثم نزل به جبرائيل عليه‌السلام إلى رسول الله عليه‌السلام في عشرين سنة متفرقا أو هي ليلة نصف شعبان ، وسماها ليلة مباركة لكثرة خيرها وبركتها على العاملين فيها الخير من المغفرة وفضيلة العبادة ونزول الرحمة على المؤمنين في هذه الليلة ، روي : أنه تعالى يغفر لجميع المسلمين فيها إلا لكاهن أو ساحر أو مدمن خمر أو عاق للولدين أو مصر على الزنا (١) ، وروي : «أنه من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا ، وعشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان» (٢) ، وروي أنه عليه‌السلام قال : «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب» (٣) ، قوله (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [٣] مع ما بعده تفسير لجواب القسم ، أي أنزلناه لإنذارنا وتحذيرنا الكافرين من العقاب.

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤))

(فِيها) أي في ليلة القدر أو نصف شعبان (يُفْرَقُ) أي يفصل ويكتب (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [٤] أي محكوم بوقوعه (٤) من خير وشر وأجل ورزق وكل ما هو كائن من هذه الليلة إلى الليلة الآخرى من السنة القابلة من أم الكتاب.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦))

(أَمْراً) أي يفرق فرقا وقضاء (مِنْ عِنْدِنا) أي بأمرنا من عندنا ، فصار نصبا بنزع الخالفض ، قوله (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [٥] بدل من (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) ، أي كنا مرسلين الرسل إلى الخلق أو الملائكة في هذه الليلة (رَحْمَةً) أي لرحمة للمؤمنين (مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لمقالتهم (٥)(الْعَلِيمُ) [٦] بهم وبأعمالهم ، قيل : يبدأ استنساخ كل أمر محكوم بوقوعه من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب والزلازل والخسف والصواعق إلى جبرائيل ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا (٦).

__________________

(١) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٢٣٥.

(٢) انظر الكشاف ، ٥ / ٢٣٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٣) روى ابن ماجة نحوه ، إقامة ، ١٩١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٣٥.

(٤) بوقوعه ، ح و : بوقوع ، ي.

(٥) لمقالتهم ، وي : بمقالتهم ، ح.

(٦) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٢٣٦.

٩٦

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧))

(رَبِّ السَّماواتِ) بالجر بدل من (رَبِّكَ) ، وبالرفع (١) ، أي هو رب السموات (وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [٧] أي مؤمنين بتوحيد الله الذي يقرون بأنه رب السموات والأرض.

(لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ) أي خالقكم ورازقكم (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [٨] أي خالقهم ورازقهم لا غيره (٢) مما تعبدون.

قوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [٩] جواب لقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، أي لا يوقنون حقيقة أن للسموات والأرض ربا بل هم في شك من القرآن وقيام الساعة يلعبون ، أي يستهزؤون بك يا محمد.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠))

قوله (فَارْتَقِبْ) نزل حين دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش فقال اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف عليه‌السلام ، فاستجيب دعاؤه حتى هلكوا وأكلوا الميتة ، وكان واحدهم يرى كهيئة الدخان بين السماء والأرض من شدة الجوع ، فجاء أبو سفيان النبي عليه‌السلام وقال يا محمد تأمر بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع لهم ليكشف عنهم الجوع ، فأراد النبي عليه‌السلام أن يدعو لهم ليكشف عن القحط ، فقال تعالى ارتقب ، أي انتظر يا محمد عذابهم (٣)(يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [١٠] أي ظاهر لا شك فيه ، يعني القحط ، وسمي دخانا ليبس الأرض من النبات وارتفاع الغبار مشبها بالدخان ، وقيل : «هو دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس أحدهم كرأس الحنيذ» (٤) ، وقيل : «ينتفخ الكافر حتى يصير كالجمل فيأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام» (٥).

(يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣))

(يَغْشَى النَّاسَ) أي يشمل أهل مكة الدخان فاذا أغشيهم قالوا (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) [١١] مشيرين إلى الجوع (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) أي الجوع أو دخان العذاب (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [١٢] أي نؤمن أن كشف عنا العذاب وهو موعدة منهم بالإيمان فيقال لهم حينئذ (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي كيف يتذكرون الإيمان ويفون (٦) بما وعدوا عند نزول العذاب ، يعني لا ينفعهم تذكرهم شيئا (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) [١٣] أي مظهر ما يوجب الأذكار من الآيات والمعجزات فلم تذكروا ، وهو أعظم في وجوب الإيمان من كشف الدخان.

(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤))

(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي أعرضوا عما جاء به فلم يصدقوه (وَقالُوا) للرسل (مُعَلَّمٌ) أي (٧) يعلمه القرآن غيره كجبر ويسار و (٨) (مَجْنُونٌ) [١٤] لا اعتبار لقوله ، يعني (٩) بهتوه بتعليم غيره إياه ونسبوه إلى الجنون.

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥))

قوله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) خطاب لأهل مكة ، أي إنا كنا نكشف العذاب الذي هو الجوع عنكم زمانا (قَلِيلاً) ثم (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [١٥] أي تعودون إلى شرككم لا تلبثون عقيب الكشف ، فكشف الجوع عن قريش

__________________

(١) «رب السموات» : قرأ الكوفيون بجر الباء ، وغيرهم برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٩١.

(٢) لا غيره ، وي : لا غير ، ح.

(٣) أخذه عن البغوي ، ٥ / ١١٢.

(٤) عن علي ابن أبي طالب ، انظر الكشاف ، ٥ / ٢٣٧.

(٥) عن علي رضي الله عنه ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢١٧.

(٦) ويفون ، وي : ويقولون ، ح.

(٧) أي ، ح : ـ وي.

(٨) و ، وي : ـ ح.

(٩) يعني ، وي : ـ ح.

٩٧

بدعاء النبي عليه‌السلام فعادوا إلى الكفر فانتقم منهم يوم بدر وإن أريد بالدخان الذي قبل يوم القيامة ، فكشف العذاب عنهم انما يستقيم بما روي : أن الكفار والمنافقين إذا رأوا الدخان يأتي من السماء غوثوا ، وقالوا ربنا اكشف عنا العذاب انا مؤمنون ، أي منيبون إليك فكشف الله عنهم بعد أربعين يوما فريثما يكشفه عنهم يرتدون عقيب ذلك (١).

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

(يَوْمَ نَبْطِشُ) أي اذكر يوم نأخذ (الْبَطْشَةَ) أي بقوة البطشة (الْكُبْرى) أي يوم بدر أو يوم القيامة (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [١٦] أي ننتقم منهم في ذلك اليوم.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا) أي ابتلينا (قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بالإمهال وكثرة المال فارتكبوا المعاصي (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) [١٧] على الله وهو موسى وهرون (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) «أَنْ» مفسرة لأن مجيء الرسول المرسل إليهم متضمن معنى القول ، لأنه بشير ونذير ، أي أرسلوا معي بني إسرائيل ولا تعذبوهم لا ذنب بهم إلى الشام (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [١٨] غير متهم ائتمنه الله على وحيه ورسالته فاتبعوني وأطيعوا أمري (وَأَنْ لا تَعْلُوا) أن هذه كالأولى ، أي لا تتعظموا (عَلَى اللهِ) باستهانة رسوله ووحيه أو لا تخالفوا أمره ولا تعملوا بالفساد (٢)(إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) [١٩] أي دليل واضح على رسالتي كاليد والعاصا.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١))

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي أتعوذ به من (أَنْ تَرْجُمُونِ) [٢٠] أي تقتلوني وكانوا يتوعدونه من الرجم (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) أي إن لم تصدقوني (فَاعْتَزِلُونِ) [٢١] أي فاعتزلوا أذائى فانه ليس بجزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك (٣) فلم يؤمنوا به.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢))

(فَدَعا رَبَّهُ) أي دعا موسى ربه عليهم (أَنَّ) أي بأن (هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) [٢٢] أي مشركون لم يطيعوني.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧))

قوله (فَأَسْرِ بِعِبادِي) أي ببني إسرائيل ، الفاء فيه جواب شرط محذوف ، أي قال الله تعالى إن كان الأمر كما تقول فأسر بهم (لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [٢٣] أي ندبر أن يتبعكم فرعون وقومه ليقتلوكم ، ونحن ننجيكم ونهلكهم فاذهب موسى بني إسرائيل إلى البحر بأمره تعالى ، فضرب عصاه البحر فصار طريقا يبسا ، فلما جاوز موسى مع بني إسرائيل البحر عاد (٤) موسى بضرب البحر بعصاه ليلتئم لئلا يدركه بالقبط فقال تعالى لموسى (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي ساكنا منفرجا كحاله حتى يدخله القبط (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) [٢٤] أي سيغرقون فدخل فرعون وقومه فأغرقهم الله تعالى وبقيت بيوتهم وقصورهم وبساتينهم خاوية ، فقال تعالى (كَمْ تَرَكُوا) وهو متضمن بمعنى الإخراج ، أي كم أخرجناكم (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [٢٥] أي بساتين وأنهار جارية (وَزُرُوعٍ) أي وحروث (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [٢٦] أي مساكن حسنة (وَنَعْمَةٍ) بالفتح من التنعم ، أي وكم تركوا من نعيم (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) [٢٧] أي معجبين.

__________________

(١) نقله عن الكشاف ، ٥ / ٢٣٧.

(٢) بالفساد ، وي : الفساد ، ح.

(٣) ذلك ، ح : ـ وي.

(٤) عاد ، وي : دعا ، ح.

٩٨

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨))

(كَذلِكَ) أي تركا كذلك أو الأمر كذلك ، يعني الأمر كما أجر جناهم من تلك النعمة والمسرة والسعة في العيش (وَأَوْرَثْناها) أي جعلنا أموال القبط ميراثا (قَوْماً آخَرِينَ) [٢٨] أي لبني إسرائيل.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) أي أهلهما ترحما لهم لكفرهم وهذا تعظيم لمهلكهم أو ما بكت السماء والأرض بعينهما لما روي : أن المؤمن إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا (١) ، وهذا ممكن قدرة (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) [٢٩] أي مؤخرون عن نزول العذاب.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١))

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) [٣٠] أي الشديد أو الهوان وهو قتل الأبناء واستحياء النساء.

قوله (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من (الْعَذابِ) ، أي من عذاب فرعون (إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي متكبرا عاصيا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) [٣١] أي من (٢) المشركين وهو خبر ثان ل (كانَ).

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي بني إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) منا بحالهم التي هذ أحقاء بها يختاروا أو بما يصدر منهم من الفرطات في بعض الأوقات (عَلَى الْعالَمِينَ) [٣٢] أي عالمي زمانهم.

(وَآتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم (مِنَ الْآياتِ) أي من العلامات الربانية كفلق البحر والمن والسلوى وغيرها (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) [٣٣] أي اختبار ظاهر ، فان الله يختبر بالنعم كاختباره بالنقم.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥))

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ) [٣٤] أي إن كفر مكة قالوا جوابا لما (٣) قيل لهم إنكم تموتون ثم تحيون بعد الموت للحساب والجزاء كما تقدمتكم موتة بعدها حيوة (إِنْ هِيَ) أي ما الموتة التي بعدها اليوة (إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) التي تقدمت لا الموتة التي نموتها بعد ثم نحيى (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) [٣٥] أي مبعوثين بعد الموت.

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))

(فَأْتُوا بِآبائِنا) إحياء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٣٦] أنا نبعث بعد الموت ، قالوا ذلك للنبي عليه‌السلام وأصحابه ، ثم تهددهم الله باهلاك قوم كانوا أقرب إلى أهل مكة بالاستكبار عن الإيمان فقال (أَهُمْ خَيْرٌ) أي يا محمد أكفار مكة خير ، أي أشد قوة ومنعة (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) الحميري وهو كان نبيا مبعوثا إليهم أو رجلا صالحا وقومه كافرين (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل قوم تبع عطف على «قَوْمُ تُبَّعٍ» (أَهْلَكْناهُمْ) أي إنا أهلكنا قوم تبع ومن تقدمهم من الكفار المستكبرين عن الإيمان ، وكلهم كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) [٣٧] أي عاصين وجاحدين.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أي وما بين الجنسين (لاعِبِينَ) [٣٨] أي بلا حكمة حال من فاعل «خلقنا».

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٥ / ١١٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢١٨.

(٢) من ، وي : ـ ح.

(٣) لما ، وي : مما ، ح.

٩٩

قوله (ما خَلَقْناهُما) بيان للجملة قبلها ، أي ما خلقنا السموات والأرض (إِلَّا بِالْحَقِّ) أي إلا لأمر كائن وهو الاستدلال على الوحدانية ، وقيل : لمنفعة الخلق (١) ، وقيل : للأمر والنهي والترغيب والترهيب (٢)(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [٣٩] أي لا يفقهون ذلك ولا يصدقون.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي يوم القضاء بين الخلق وهو يوم القيامة (مِيقاتُهُمْ) أي ميعادهم (أَجْمَعِينَ) [٤٠] أي الأولين والآخرين.

قوله (يَوْمَ لا يُغْنِي) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ) ، أي يوم لا ينفع (مَوْلًى عَنْ مَوْلًى) أي ولي عن ولي قريبا كان أو أجنبيا (شَيْئاً) من الشفاعة أو من دفع العذاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [٤١] أي يمنعون مما نزل بهم من العذاب.

قوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) من المؤمنين ، فانه يشفع له ويشفع بدل من ضمير «يُنْصَرُونَ» (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) للكافرين بالانتقام (الرَّحِيمُ) [٤٢] بالمؤمنين بالفضل والثواب.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧))

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [٤٣] طَعامُ الْأَثِيمِ) [٤٤] أي الكثير (٣) الإثم وهو أبو جهل والوليد وأصحابهما (كَالْمُهْلِ) أي كالصفر المذاب أو كدري الزيت (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) [٤٥] بتاء التأنيث ، أي الشجرة ، وقرئ بياء التذكير (٤) ، أي المهل ، والتشبيه في الذوب لا في الغليان (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [٤٦] أي الماء الحار الذي انتهى حره فيؤمر بالقاء الكافر في النار فيقال للزبانية (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) بضم التاء وكسرها (٥) ، أي جروه بجفوة وغلظة شديدة (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) [٤٧] أي وسطها.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩))

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) [٤٨] ولم يقل من الحميم ليكون أهول وأهيب ، ويقول له الملائكة استهزاء به (٦)(ذُقْ) العذاب (إِنَّكَ) بكسر الهمزة وفتحها (٧)(أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [٤٩] في زعمك ، لأنه كان يقول في الدنيا للنبي عليه‌السلام أنا أعز أهل الوادي وأمنعهم فو الله لن تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلاني شيئا.

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢))

(إِنَّ هذا) أي العذاب (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [٥٠] أي تشكون في الدنيا أو تجادلون فيها بالباطل (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين وحدوا الله وأطاعوه (فِي مَقامٍ) بضم الميم وفتحها (٨)(أَمِينٍ) [٥١] أي في مكان ذي أمانة لمن نزله لا خيانة له ، لأن المكان المخيف كأنه يخون لنازله لما يلقى فيه من الخوف ، قوله (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [٥٢] بدل من «من مقام أمين».

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣))

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) الجملة حال من ضمير فاعل (فِي جَنَّاتٍ) ، أي لابسين من الجنسين ، يعني

__________________

(١) هذا المعنى منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٢١٩.

(٢) أخذ المفسر هذا المعنى عن السمرقندي ، ٣ / ٢١٩.

(٣) الكثير ، وي : كثير ، ح.

(٤) «يغلي» : قرأ ابن كثير وحفص ورويس بياء التذكير ، والباقون بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ٢٩٢.

(٥) «فاعتلوه» : ضم التاء نافع وابن كثير وابن عامر ويعقوب ، وكسرها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٩٢.

(٦) به ، وي : بهم ، ح.

(٧) «إنك» فتح الهمزة الكسائي ، وكسرها غيره. البدور الزاهرة ، ٢٩٢.

(٨) «مقام» : ضم الميم المدنيان والشامي ، وفتحها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٩٢.

١٠٠