عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

١
٢

٣
٤

سورة بني إسرائيل (الإسراء)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) قيل : (سُبْحانَ) كلمة لازمة الإضافة ، دالة على التنزيه بالبليغ من كل قبيح (١) ، وهو وصف الله تعالى بالبراءة من كل نقص وعيب بالمبالغة ، وقال الزمحشري رحمه‌الله (٢) : إنه اسم علم مصدر هو التسبيح لا ينصرف بالعلمية وللزائد فيه كعثمان ، منصوب بفعل متروك إظهاره ، تقديره : أسبح الله سبحان ، ثم نزل منزلة الفعل ، وفيه معنى التعجب (٣) ، أي سبحوا الله من كل عيب يضيفه إليه الأعداء وتعجبوا من أمره الذي سرى (بِعَبْدِهِ) محمد عليه‌السلام ، أي سيره (لَيْلاً) أي في بعض الليل بدلالة التنكير ، قيل : إنما ذكر الليل ولم يكتف بذكر (أَسْرى) الدال عليه إيذانا بأن الإسراء والرجوع كان في جزء من ليلة (٤) ، وأسرى وسرى بمعنى واحد لا يستعملان إلا في سير الليل خاصة ، يعني سار بعبده ليلا (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي من الحرم ، وسمي به لإحاطته بالمسجد ، قال ابن عباس : «الحرم كله مسجد» (٥) ، أراد أنه سيره من مسجد مكة ، وقيل : «من دار أم هانئ بنت أبي طالب» (٦) ، وكانت من الحرم بعد البعثة قبل الهجرة بسنة في شهر رمضان أو في رجب بجسده في اليقظة لتواتر الأخبار الصحيحة على ذلك ، وعليه الأكثرون ، وقد روي عن النبي عليه‌السلام : «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرائيل بالبراق» (٧) ، فذلك حديث الإسراء (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي إلى بيت المقدس ، سمي أقصى ، لأنه أبعد من المسجد الحرام ، إذ لم يكن حينئذ وراءه مسجد يعبد الله فيه (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) ظرف ، أي كثرنا فيه الثمار وأجرينا الأنهار ، وجعلناه مقرا للأنبياء والصالحين ، والمراد «مما حوله» دمشق والأردن وفلسطين وغيرها (لِنُرِيَهُ) أي محمد عليه‌السلام ، متعلق ب (أَسْرى مِنْ آياتِنا) أي علاماتنا العجيبة الدالة على وحدانيتنا في تلك الليلة من عجائب السموات والأرض (إِنَّهُ) أي إن الله (هُوَ السَّمِيعُ) بأقوال محمد عليه‌السلام وأقوال أهل مكة (الْبَصِيرُ) [١] بأفعاله وأفعالهم أو الحافظ له في ظلمة الليل وضوء النهار.

ذكر في حديث المعراج : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فرج عني سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبرائيل ، ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ إيمانا وحكمة ، فأفرغه في صدري ثم أطبقه ، ثم أتيت ببراق ملجم مسرج ، وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يقع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٢) وقال الزمخشري رحمه‌الله ، ب س : وقيل ، م.

(٣) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٣ / ١٦٩.

(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٦٩.

(٥) انظر الكشاف ، ٣ / ١٦٩.

(٦) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٥٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٦٩.

(٧) عن مالك بن صعصة ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٦٠.

٥

فاستعصب علي ، فقال جبرائيل : أبمحمد تفعل هذا فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فأرفض عرقا فانطلقت مع جبرائيل حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته في الحلقة التي يربط فيها الأنبياء ، فدخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فجاءني جبرائيل باناء من خمر وإناء من لبن فأخذت اللبن ، فقال جبرائيل : اخترت الفطرة ، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك ، فانطلق بي جبرائيل حتى أتى إلى السماء الدنيا فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال جبرائيل ، قيل ومن معك؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسلت إليه؟ قال نعم ، قيل مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت ، أي وصلت فإذا فيها آدم ، فقال جبرائيل : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السّلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

وفي رواية : فاذا فيها رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، فاذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقلت من هذا ، قال أبوك ، وهذه الأسودة عن يمينه أهل الجنة والأسودة عن شماله أهل النار.

ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية ، فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال جبرائيل ، قيل : ومن معك؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال نعم ، قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح فلما خلصت فاذا فيها يحيى وعيسى عليهما‌السلام ، وهما ابنا خالة ، قال : هذا يحيى وعيسى ، فسلم عليهما ، فسلمت عليهما فردا ، ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة ، فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال جبرائيل ، قيل : ومن معك؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح ، فلما خلصت إذا فيها يوسف ، قال : هذا يوسف ، فسلم عليه فسلمت عليه فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي إلى السماء الرابعة ، فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال جبرائيل ، قيل : ومن معك؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح فلما خلصت فاذا إدريس ، قال : هذا إدريس ، فسلم عليه فسلم عليه ، فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة ، فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال جبرائيل ، قيل : ومن معك؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح فلما خلصت فاذا هارون ، قال : هذا هارون ، فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي إلى السماء السادسة ، فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال جبرائيل ، قيل : ومن معك؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فاذا فيها موسى ، قال : هذا موسى ، فسلم عليه فسلمت عليه فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، فلما جاوزت بكى ، قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ، ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال جبرائيل ، قيل : ومن معك؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء فلما خلصت فاذا فيها إبراهيم ، قال : هذا أبوك ، فسلم عليه فسلمت عليه فرد ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، فرفع بي إلى البيت المعمور ، فسألت عنه جبرائيل ، فقال : هو البيت المعمور الذي يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، فاذا خرجوا لم يعودوا إليه أبدا ، ثم ذهب بي إلى سدرى المنتهى فاذا نبقها مثل قلال هجر وإذا أوراقها مثل آذان الفيل ، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها ، يعني خمس صلوات تغيرت ، أي بحسن الثواب ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، وفي أصلها أربعة أنهار ، نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان يا جبرائيل؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم دنوت الجبار رب العزة فتدليت حتى كنت منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحي إلي ما أوحي ، ففرض علي خمسون صلوة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك؟ فقلت : خمسين صلوة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فان أمتك لا تطيق ذلك ، فاني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب! خفف على أمتي ، فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت ، فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فقال لي مثله ، فرجعت ، فوضع

٦

عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فان أمتك أضعف أجساما وقلوبا ، قلت : والله سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضي وأسلم ، وقيل : رجع وسأل ، فقال تعالى : يا محمد ، قال : لبيك وسعديك ، قال : إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلوة عشر هي خمس عليك وهي خمسون في أم الكتاب لا يبدل القول لدي ، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشر ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فان عملها كتبت سيئة واحدة ، فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم أدخلت الجنة فاذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، أي القباب منه ، وإذا ترابها المسك» (١).

قال الراوي : ثم أهبط بسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ، فلذلك اختلف أهل العلم ، أن المعراج في المنام أو في اليقظة؟ وقبل الوحي أو بعده؟ فقال المحققون : أن هذا كان رؤيا في المنام أراه الله عزوجل قبل الوحي بدليل آخر الحديث ، يعني فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، ثم كان تحقيقه سنة ثمان ، ونزل قوله تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ)(٢).

وروي : أنه لما رجع رسول الله ليلة أسري به وكان بذي طوى ، قال : يا جبرائيل! إن قومي لا يصدقونني ، قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق.

وروي الزهري عن عروة أن النبي عليه‌السلام لما أصبح ليلة أسري به وأخبر الناس بذلك ارتد ناس ممن صدقوه وفتنوا وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر ، فقالوا : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال لئن قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال : نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء بغدوة أو روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق ، ثم قالوا للنبي عليه‌السلام : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ قال : نعم ، قالوا : أخبرنا عن نعته ، فأخبرهم عنه كما كان ، فقال قوم : إن النعت فو الله لقد أصاب ، ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا ، هل لقيت منها شيئا؟ قال : نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته ثم وضعته كما كان ، فسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ، قالوا : هذه آية ، قالوا : فأخبرنا عن عيرنا ، قال مررت بها بالتنعيم ، قالوا : فما عدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها؟ قال : نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان تقدمها جمل أورق عليه غرارتان محيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس ، قالوا : وهذه آية ، ثم خرجوا ثم يسدون نحو الثنية حتى أتوا عليها فجعلوا ينتظرون متي تطلع الشمس فيكذبونه ، وبعضهم على ثنية أخرى ينتظرون العير ، إذ قال قائل منهم : والله هذه الشمس قد طلعت ، وقال الآخر : والله هذه الإبل قد طلعت تقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم ، فلم يؤمنوا ، وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين ، قال رسول الله عليه‌السلام : لقد رأيتني في الحجر وهو حطيم البيت وقريش تسألني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، قيل : سر الإسراء به من مكة إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء ، هو أن يكون ذلك سببا لتصديقه الصعود إلى السماء على التدريج ، لأنه إذا أخبرهم بقطع المسافة البعيدة في أيسر زمان دل دلالة صحيحة على إمكان صعوده إلى السماء أيضا عقلا (٣).

__________________

(١) رواه البخاري ، بدء الخلق ، ٦ ، مناقب الأنصار ، ٤٢ ؛ ومسلم ، الإيمان ، ٢٥٩ ، ٢٦٣ ، ٢٦٤.

(٢) الفتح (٤٨) ، ٢٧.

(٣) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٥٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٦١ ـ ٤٦٨.

٧

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢))

ثم أخبر الله تعالى عن حال موسى عليه‌السلام وقومه تهديدا لمكذبي النبي عليه‌السلام من أهل مكة فقال (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية جملة واحدة (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) من الضلالة (أَلَّا تَتَّخِذُوا) بالياء غيبة (١) ، أي لئلا يتخذوا أو «أن» تفسير فهي بمعنى النهي ، أي لا يتخذ بنو إسرائيل (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) [٢] أي ربا كفيلا يكلون أمورهم إليه ، وبتاء الخطاب لزيادة التخويف (٢) ، يعني لا تعبدوا من دوني ربا.

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب بأنه مفعول ثان لقوله «لا تتخذوا» ، يعني لا تعبدوا ذرية المحمولين في السفينة وهي عيسى وعزير أو منادا بحذف حرف النداء ، ينادي كفار مكة ، أي يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا من دوني وكيلا ولا تشركوا بي وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه ، وهذا منة على جميع الناس ، لأن كلهم من ذرية من أنجاه الله من الغرق بالسفينة ، وتوبيخ لمن أشرك منهم بالله ، يعني أنهم كانوا مؤمنين به فكونوا مثلهم في الإيمان بالنبي عليه‌السلام ، ثم أثنى على نوح بقوله (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [٣] أي كثير الشكر لله كثير الخير للمساكين ، قيل : كان يعرض عشاءه عند فطره على من آمن به ، فان وجده محتاجا به آثره به (٣) ، وقيل : كان قائلا الحمد لله إذا أكل وشرب أو قام وقعد وذهب (٤).

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤))

(وَقَضَيْنا) أي بينا بالوحي وأعلمنا (٥) بالوحي وأنهينا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) أي في التورية أو في اللوح المحفوظ أو (إِلى) بمعنى على ، أي قضينا عليهم حكما مقطوعا (لَتُفْسِدُنَّ) أي والله لتعصن (٦)(فِي الْأَرْضِ) أي في أرض (٧) الشام وبيت المقدس (مَرَّتَيْنِ) نصب على المصدر من غير لفظ الفعل ، أي إفسادين في المرة الأولى قتلهم النبي عليه‌السلام شعياء ، وقيل : «هو مخالفتهم أحكام التورية وارتكابهم المحارم» (٨) ، والإفساد في المرة الثانية قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم (وَلَتَعْلُنَّ) أي ولتعظمن (عُلُوًّا كَبِيراً) [٤] أي تعظما شديدا ، والعلو العتو بالقهر الشديد والظلم العظيم.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥))

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي موعود أولى المرتين وهو عقابها (بَعَثْنا) أي سلطنا (عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) أي عبيدنا ومماليكنا وأكثر ما يقال عباد الله وعبيد الناس (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي ذوي بطش قوي في الحرب ، وهم العمالقة أو سنحاريب الملك من أرض نينوى ، والأظهر عن الأكثر بختنصر ملك ببال ولاية نمرود (فَجاسُوا) أي داروا يطلبونكم ، من جاس الشيء إذا طلبه بالاستقصاء (خِلالَ الدِّيارِ) أي وسطها ووسط الأزقة للقتل والأسر والإفساد (وَكانَ) مجيء العقاب لهم (وَعْداً مَفْعُولاً) [٥] أي مقدرا في اللوح المحفوظ لا محالة من أن يفعل بهم ذلك.

قال محمد بن إسحاق : كان أول ما نزل بني إسرائيل بسبب ذنوبهم هو أن الله كان إذا ملك ملكا عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده وكان لهم بعد موسى عليه‌السلام ملك صالح يعبد ربه ويعدل بين الناس ، وبعث معه شعياء بن أصفياء قبل بعثة زكريا ويحيى وعيسى ، وشعيا هو الذي بشر بمجيء عيسى ومحمد عليهما‌السلام ،

__________________

(١) «ألا تتخذوا» : قرأ أبو عمرو بياء الغيبة وغيره بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ١٨٤.

(٢) التخويف ، س م : التخفيف ، ب.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٧٠.

(٤) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٥٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٦٩.

(٥) وأعلمنا ، م : وأنهينا ، ب س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٦٠.

(٦) لتعصن ، ب س : لتعصين ، م.

(٧) أي في أرض ، س : أي أرض ، ب م.

(٨) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٨٣.

٨

فقال : أبشروا! يأتيكم راحب الحمار ومن بعده صاحب البعير فملك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا ، ثم قبض الله ملك بني إسرائيل اسمه صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا ، وعصوا ربهم ونبيهم شعياء معهم ولا يقبلون منه ، فلما فعلوا ذلك أوحى الله تعالى إلى شعياء أن قم وأنذرهم وعظهم وحذرهم لينزجروا عن أفعالهم الخبيثة ، فقام وأنذر وبالغ في الوعظ والتحذير فلم يقبلوا منه ، فقصدوا قتله فهرب منهم ، فلقيه شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان فأخذ بثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا في وسطها المنشار فقطعوها ثم استخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث أرمياء بن حلقيا نبيا ، وكان من سبط هارون بن عمران وكان يسدد ذلك الملك ويرشده ، ثم عظمت الأحداث والذنوب في بني إسرائيل واستحلوا المحارم ، فأوحى الله إلى أرمياء أن خوفهم بما أمرك به وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم بأحداثهم ، فقام أرميا فيهم ولم يدر ما يقول ، فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة بين فيها لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وقال في آخرها عن الله عزوجل وإني حلفت بعزتي لأقضين لهم فتنة يتحير فيها الحكيم ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ، ثم أوحى إلى أرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث ، ويافث أهل بابل ، فلما أخبرهم بذلك أخذوه وحبسوه ، قيل : هو الحضر عليه‌السلام ، فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ، ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس ، وقتل علماءهم وأحرق التورية وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا ذلك حتى ملؤه ثم أمرهم أن يجمعوا من بلدان بيت المقدس الغنائم والرجال والنساء فاجتمع كل صغير وكبير من بني إسرائيل عنده فاختار منهم سبعين ألف صبي ، قيل : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على المسلمين ويسلطهم عليهم؟ أجيب بأن معناه : خلينا بينهم وبين ما فعلوه بقطع لطفنا عنهم ومنه إسناد التولية إلى نفسه في قوله (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١) ، فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه أيها الملك : لك غنائمها كلها وأقسم بيننا هؤلاء الصبيان فأعطاهم إياهم فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة ، ثم أدخل من بقي من بني إسرائيل أرض بابل فمكثوا بها سبعين سنة حتى مات ملكهم بختنصر ، وقيل : «مسخه الله نسرا في الطير ثم مسخه ثورا في الدواب ثم مسخه أسدا في الوحوش» (٢) لتخريبه بيت المقدس وإحراقه التورية ، ثم غزا رجل من أهل همدان يقال له كورش أهل بابل فظهر عليهم وسكن ديارهم ، وتزوج امرأة من بني إسرائيل وطلبت من زوجها أن يرد قومها بني إسرائيل إلى أرضهم ، ففعل فجاؤا إلى بيت المقدس فمكثوا في أرضها ، فرجع حالهم إلى أحسن ما كانوا عليه تائبين مطيعين لله ، ثم أنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله لإصلاح دينهم وكانت التورية قد أحرقت ، وكان عزير غلاما من السبايا التي كانت ببابل ، فرجع إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره ، إذ أقبل عليه رجل وقال يا عزير ما يبكيك؟ قال : أبكي على كتاب الله تعالى وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح دنيانا وأخرانا غيره ، قال : أفتحب أن يرد الله إليك التورية ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ، ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزير وصام وتطهر وطهر ثيابه ، ثم عمد إلى المكان الذي وعده فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء فمثلت التورية في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التورية ، فأحبوه حتى لم يحبوا حبه شيئا ، فكان بينهم يأمرهم وينهاهم بالتورية ، فهذه هي الواقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل لظلمهم أنفسهم (٣).

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦))

(ثُمَّ رَدَدْنا) أي أعدنا (لَكُمُ الْكَرَّةَ) أي الدولة والرحمة (عَلَيْهِمْ) أي على الذين قتلوكم بعد مائة سنة لما تبتم

__________________

(١) الأنعام (٦) ، ١٢٩ ؛ أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٧٠.

(٢) عن وهب ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٨١.

(٣) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٦٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٧٠ ـ ٤٨٢.

٩

ورجعتم عن الفساد والعلو ، وهي قتل بختنصر وأصحابه ، يعني أظفرناكم بهم بعد أن ظفروا بكم وظلموكم بالقتل والسبي (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) [٦] تمييز ، جمع نفر كالعبيد ، جمع عبد ، أي أكثر رجالا ، والنفير من ينفر معك من قومك ، وقيل : النفير العدد (١).

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧))

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ) أي إن أطعتم ربكم بالتوحيد والعبادة الخالصة (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي عملتم الثواب لأجلكم في الجنة (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي إن أشركتم وخالفتم أمر ربكم فلا نفسكم عقاب الإساءة وجزاؤها ، وقيل : اللام فيه بمعنى «على» كما في قوله تعالى () [١] (٣) ، المعنى : أن الإحسان والإساءة كلاهما مختص بأنفسكم لا يتعدى النفع والضر إلى غيركم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي عقاب المرة الآخرة وهي قتلهم يحيى وقصدهم (٤) قبل عيسى حين يرفع ، وإفسادهم بعثنا عليكم من قتلكم وسباكم ونفوا من دياركم (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي ليقبحوها بالقتل والسبي والفساد ليظهر أثره في وجوهكم من حزن وكآبة ، وإنما اختصت الوجوه ، لأن آثار المساءة انما يظهر في وجوه الناس كما يظهر آثار البشارة فيها من فرح ومسرة ، قرئ بواو الجمع وياء الغيبة ، وبفتح الهمزة والياء ، والفاعل «الوعد» أو «الله» ، وبالنون وفتح الهمزة إخبارا عن الله (٥)(وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) أي بيت المقدس (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) من المرتين المذكورتين (وَلِيُتَبِّرُوا) أي وليهلكوا ويخربوا (ما عَلَوْا) أي الذي ظهروا عليه من بلادهم (تَتْبِيراً) [٧] أي إهلاكا شديدا ، وهو في الأصل التكسير ، ومنه التبر للمتكسر من الذهب والفضة.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) يا بني إسرائيل بعد المرة الثانية إن تبتم عن معاصيكم فترد الدولة إليكم (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي إن رجعتم عن توبتكم إلى المعصية رجعنا إلى عقوبتكم ، قال قتادة : «فعادوا فبعث الله عليهم محمدا عليه‌السلام ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرن» (٦)(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ) بأمر الله ونهيه على لسان رسله (حَصِيراً) [٨] أي حبسا يحبسون فيها ولا يخرجون منها أبدا من قولهم حصرت إذا صار محصورا ، أي محبوسا ، وقيل : الحصير هو الفراش الذي يبسط ويجلس عليه (٧) ، وروي في بيان المرة الآخرة : أن بني إسرائيل لما مات عزير جعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث والذنوب ، واستحلوا المحارم فبعث الله فيهم (٨) الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعثه الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام ، وكانوا من بيت آل داود فمات زكريا ، وقيل : قتلوه فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم لقصدهم قتله قتلوا يحيى بن زكريا ، فبعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل فظهر عليهم ، ثم دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دما يغلي أخبروني خبره ، قالوا : هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ، قال : ما صدقتموني ما هذا إلا لأمر عظيم صدر منكم فغضب عليهم ، فذبح منهم على الدم سبعمائة وسبعين زوجا من رؤوسهم فلم يهدأ الدم ، فقال : يا بني إسرائيل ويلكم أصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم بلا خوف من الله قبل أن

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٨٣.

(٢) الواقعة (٥٦) ، ٩١.

(٣) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٤٨٣.

(٤) وقصدهم ، س : وقصد ، ب م.

(٥) «ليسوءوا» : قرأ الكسائي بالنون ونصب الهمزة ، والشامي وشعبة وحمزة وخلف بالياء ونصب الهمزة ، والباقون بالياء وضم الهمزة بعدها واو الجمع ولورش فيه ثلاثة البدل ، ولحمزة في الوقف عليه وكذا هشام النقل والإدغام لأصالة الواو. البدور الزاهرة ، ١٨٤.

(٦) انظر البغوي ، ٣ / ٤٨٤.

(٧) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٤٨٤.

(٨) الله فيهم ، س م : فيهم الله ، ب.

١٠

لا أترك منكم نافخ نار أنثى أو ولا ذكر إلا قتلته ، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوا الخبر ، فقالوا : إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا ، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه ، قال : ما كان اسمه؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، قال : الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، فلما رأى الملك أنهم صدقوه خر ساحدا لله ، وقال : لمن حوله أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا جيوشنا من كان ههنا ، فأخرج كلهم منها وخلى بني إسرائيل فيها ، ثم قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربكم ما قد أصاب عومك من أجلك وما قتل منهم في الحرب فاهدأ ، أي اسكن باذن ربك قبل أن لا أبقى أحدا من قومك فهدأ الدم باذن الله ، وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره ، ثم انصرف الملك إلى بابل وذهب ببني إسرائيل كلهم معه وبقي بيت المقدس خرابا حتى بناه عمر مع المؤمنين بعد النبي عليه‌السلام (١).

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩))

ثم قال تعالى (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) أي يرشد (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي إلى الملة أو الطريقة التي هي أسدها وأصوبها وهي شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان برسله والعمل بطاعته (وَيُبَشِّرُ) القرآن بضم الياء وكسر الشين بالتشديد ، وبفتح الياء وضم الشين بالتخفيف (٢)(الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [٩] أي ثوابا عظيما.

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))

(وَ) يبشر أيضا (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا) أي هيئنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [١٠] أي وجيعا دائما ، وذكر المؤمنين الصالحين والكافرين دون الفسقة ، لأن الناس كانوا حينئة إما مؤمن تقي أو كافر بالله.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) بحذف الواو لالتقاء الساكنين وفي الخط أيضا ، وهي غير محذوفة في المعنى ، ومعناه : أن الكافر يدعو على ماله وولده ونفسه (بِالشَّرِّ) فيقول عند غضبه : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي دعاء مثل دعائه ربه بأن يهب له النعمة والعافية ، يعني يطلب الشر كما يطلب الخير ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ، ولكن لا يستجيب بفضله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [١١] أي يتسرع إلى طلب ما يقع في قلبه ، وقيل : العجول الضجور الذي لا صبر له على سراء ولا ضراء (٣) ، والمراد منه النضر بن الحارث حيث قال : فأمطر علينا حجارة من السماء ، فأجيب به فضرب عنقه يوم بدر صبرا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي خلقناهما علامتين لوحدانيتنا (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي أزلنا بعض ضوء القمر ، قيل : «في الزمان الأول لا يعرف الليل من النهار ، فبعث الله جبرائيل فمسح جناحه بالقمر فذهب ضوءه وبقي أثر جناحه فيه ، وهو السواد الذي في القمر» (٤) ، قال ابن عباس : «جعل الله نور الشمس سبعين جزاء ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزء فجعلها مع نور الشمس» (٥)(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي مضيئة تبصر فيها الأشياء ، يعني جعلنا القمر ذا محو والشمس ذات إضاءة (لِتَبْتَغُوا) أي لتطلبوا ببياض النهار (فَضْلاً) أي رزقا (مِنْ رَبِّكُمْ) في النهار (وَلِتَعْلَمُوا) باختلاف الليل والنهار (عَدَدَ السِّنِينَ

__________________

(١) اختصره المفسر من البغوي ، ٣ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(٢) «ويبشر» : قرأ الأخوان بفتح الياء التحتية وسكون الباء وضم الشين مخففة ، والباقون بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة. البدور الزاهرة ، ١٨٤.

(٣) هذا المعنى منقول عن البغوي ، ٣ / ٤٨٥.

(٤) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٢.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٤٨٥.

١١

وَالْحِسابَ) أي حساب الأوقات ، قيل : لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ، ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يدر المؤمن وقت الحج ولا وقت حلول آجال المعاملات ولا وقت السكون والراحة (١)(وَكُلَّ شَيْءٍ) يحتاج إليه (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [١٢] أي بيناه بيانا طاهرا ، فلم يبق لكم علينا حجة ، وزال عذركم وعلتكم.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤))

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) أي عمله من خير وشر (فِي عُنُقِهِ) لا يفارقه كلزوم القلادة في العنق حتى يحاسب به يوم البعث ، وسمي القضاء من السعادة والشقاوة طائرا على عادة العرب فيما يتفأل به ويتشأم من سوانح الطير وبوارحها (٢) ، وخص العنق بالذكر ، لأن الإلزام فيها أشد ، وقيل : هذا أيضا من جري الكلام على عادة العرب بنسبة الأشياء اللازمة إلى الأعناق (٣)(وَنُخْرِجُ) بالنون (٤)(لَهُ) أي للإنسان (يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ) بضم الياء وتشديد القاف ، يعطاه ، وبفتح الياء وتخفيف القاف (٥) ، أي يراه (مَنْشُوراً) [١٣] أي مفتوحا يقرأه أميا كان أو غير أمي.

قيل : «ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوبة فيها شقي أو سعيد» (٦) ، وفي الآثار أن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا ينشر إلى يوم القيامة ، فاذا بعث يقال له (اقْرَأْ كِتابَكَ) أي ما في كتابك (كَفى بِنَفْسِكَ) الباء زائدة في الفاعل ، أي كفى شخصك (الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [١٤] تمييز ، فعيل بمعنى الفاعل ، أي محاسبا لما ترى فيه كل حسنة وسيئة محصاة عليك ، وإنما فوض حسابه إليه لئلا ينسب الله إلى الظلم ولتجب الحجة عليه باعترافه.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

(مَنِ اهْتَدى) أي من اجتهد حتى وصل إلى الهداية والاستقامة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فثوابه لها (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي عقابه على نفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يؤاخذ أحد بذنب آخر ، قوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) أمة (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [١٥] إليهم إقامة للحجة وقطعا للعذر ، فيه دليل على أن ما وجب على العبد بالسمع دون العقل ، فان أجابوا الرسول وإلا عذبوا ، ورد لقول من يقول أن الحجة لازمة لهم بالعقل قبل بعثة الرسل ، لأن معهم أدلة العقل التي يعرف بها الله تعالى وقد تركوا النظر مع تمكنهم منه فستوجبوا العذاب بتركهم إياه ويجعل بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر في أدلة العقل ، وهذا القول لأهل الاعتزال.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦))

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) أي أهلها (أَمَرْنا) بالتخفيف والمد ، أي كثرنا وبلا مد (٧) ، أي كثرنا بالخباثة من أمر القوم ، يعني إذا دنا وقت إهلاك قرية أكثرنا بالخباثة (مُتْرَفِيها) أي منعميها وأغنيائها أو أمرناهم بالطاعة ،

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.

(٢) وسمي القضاء من السعادة والشقاوة طائرا على عادة العرب ... من سوانح الطير وبوارحها ، ب س : ـ م.

(٣) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٤٨٦.

(٤) «ونخرج» : قرأ أبو جعفر بالياء التحتية المضمومة وفتح الراء ، ويعقوب بالياء التحتية المفتوحة وضم الراء ، والباقون بالنون المضمومة وكسر الراء. البدور الزاهرة ، ١٨٤.

(٥) «يلقاه» : قرأ الشامي وأبو جعفر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. البدور الزاهرة ، ١٨٤.

(٦) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٨٦.

(٧) «أمرنا» : قرأ يعقوب بمد الهمزة ، والباقون بقصرها. البدور الزاهرة ، ١٨٤.

١٢

لأن الأمر لا يكون إلا بها ، فحذف المأمور به بدليل قوله (فَفَسَقُوا) أي فعصوا (فِيها فَحَقَّ) أي وجب (عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي العذاب (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [١٦] أي جزيناها بإهلاك من فيها بالاستئصال.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) بيان وتمييز ل (كَمْ) ، و (كَمْ) مفعول (أَهْلَكْنا) ، و «القرن» أربعين سنة (١) ، وقيل : ثمانون (٢) ، وقيل : مائة ، وهو الأصح لما نقله عبد الله بن بشر المازني عن النبي (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، أي أهلكنا قرونا كثيرة كعاد وثمود وقوم لوط (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ) الباء زائدة فيه (بِذُنُوبِ عِبادِهِ) يتعلق بقوله (خَبِيراً بَصِيراً) [١٧] وهما منصوبان على الحال من «ربك» ، أي كفى الله عالما بسرهم وجهرهم قادرا على أخذهم ومجازاتهم لا يغفل عنهم ولا يعجز عن عقابهم ، وفيه تهديد شديد لهذه الأمة وتنبيه على أن الذنوب أسباب الهلكة لا غير.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي ثواب الدنيا بعمله (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) أي أعطينا له في الدنيا (ما نَشاءُ) من البسط والتقتير لا ما يشاء هو ، وأبدل من (لَهُ) بدل البعض بتكرير العامل قوله (لِمَنْ نُرِيدُ) إن نهلكه كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا (٥) والمجاهد للذكر والغنيمة (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي أوجبناها له (يَصْلاها) أي يدخلها (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) [١٨] أي مطرودا من الرحمة مبعدا من كل خير.

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩))

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) من الناس بعمله (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي كما هو حقه فليس مشوبا بغرض من أغراض الدنيا (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي مخلص في إيمانه فما يبالي أوتي في الدنيا حظا من الحظوظ أو لم يؤت (فَأُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [١٩] أي مقبولا بالثواب.

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠))

(كُلًّا) أي كل واحد من المؤمنين والكافرين (نُمِدُّ) أي نعطي (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) ما قسم لهم ، فمحل (هؤُلاءِ) نصب بدل من (كُلًّا) ، وهو مفعول (نُمِدُّ (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أي من زرقه ، يعني نرزق المطيع العاصي جميعا ثم يختلف بهما الحال في المآل (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) أي رزقه (مَحْظُوراً) [٢٠] أي ممنوعا عن خلقه للعصيان ، والمراد من ال (عَطاءِ) الدنيا وإلا فلاحظ للكفار في الآخرة ، والآخرة مختصة بالمؤمن.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

(انْظُرْ) يا محمد بعين العبرة (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي جعلناهم متفاوتين في التفضل ، أي في الرزق والعمل الصالح ، يعني طالب الدنيا وطالب الآخرة ونصب (كَيْفَ) على الحال ب (فَضَّلْنا (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) أي أفضلها للمؤمنين مما فضلوا في الدنيا (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [٢١] أي في الثواب لهم ، قيل : «الرجل الأعلى في الجنة يرى فضله على من هو أسفل منه فيها ، والرجل الأسفل لا يرى أن فوقه أحدا» (٦).

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))

ثم قال مخاطبا للنبي عليه‌السلام ومسمعا لغيره (لا تَجْعَلْ) يا محمد (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ) أي فتبقى في النار (مَذْمُوماً) أي يذمك الناس (مَخْذُولاً) [٢٢] أي ذليلا بلا ناصر.

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٨٨.

(٢) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٨٨.

(٣) نقله عن البغوي ، ٣ / ٤٨٨.

(٤) القرن أربعين سنة وقيل ثمانون وقيل مائة وهو الأصح ... النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ب س : ـ م.

(٥) والمهاجر للدنيا ، ب س : ـ م.

(٦) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٤.

١٣

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣))

(وَقَضى رَبُّكَ) أي وحكم أمرا مقطوعا به أو أوصى ربك (أن) أي بأن (لا (تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي لا توحدوا أحدا إلا الله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأمر برابهما وعطفا عليهما (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) «إن» شرطية زيدت عليها «ما» تأكيدا لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت عن ما لم يصح دخول النون في الفعل (١) ، لا تقول إن تضربن زيدا أضربك ، قرئ «يبلغان» بالألف والتثنية والتشديد لذكر الوالدين قبله فيكون (أَحَدُهُما) بدلا من ألف الضمير الراجع إلى «الوالدين» (أَوْ كِلاهُما) عطف على (أَحَدُهُما) ، وقرئ «يبلغن» على التوحيد والتشديد (٢) ، وفاعله (أَحَدُهُما) ، وكلاهما عطف عليه ، أي إن بلغ أحد الأبوين الهرم عندك أو كلا الأبوين (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) بالكسر مع التنوين للتنكير ، وبالفتح وبالضم بلا تنوين (٣) ، وقدر فيه التعريف وهو اسم سمي به الفعل فبني ، ومعناه : التضجر ، أي لا تتضجر عند خروج مكروه منهما وإماطة البول في الخلا عنهما كما كانا (٤) يميطانه عنك صغيرا أو «لا (تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) قولا رديا (وَلا تَنْهَرْهُما) أي ولا تغلظ عليهما بالقول (وَقُلْ) بدل التأفيف والنهر (لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) [٢٣] أي لينا حسنا عريا عن اللغو.

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤))

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ) من باب إضافة حاتم إلى الجود ، أي ألن لهما جناحك الذليل بالإصغاء إليهما وتواضع أو لا ترفع عليهما يدك تعظيما لهما وتحسينا للأدب (مِنَ الرَّحْمَةِ) أي من الشفقة لهما (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) أي اجعل رحمتهما في قلبي حتى أربيهما (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [٢٤] وادع لهما بشرط الإسلام أو بالهداية والإرشاد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رضا الله في رضاء الوالد وسخطه في سخط الوالد» (٥) ، وقال عليه‌السلام : «لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر» (٦) ، وقال عليه‌السلام : «الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيع» (٧) ، قيل «بر الوالدين» : «أن لا تقوم إلى خدمتهما وأنت كسل» (٨).

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

ثم خاطب بخطاب عام (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي في ضمائركم من بر الوالدين وعقوقهما (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي بارين بالوالدين محسنين إليهما ، ثم صدر منكم ما يؤدي إلى أذاهما ثم أبتم إلى الله بالاستغفار منه (فَإِنَّهُ) أي الله (كانَ لِلْأَوَّابِينَ) أي الراجعين إليه بالتورية من الذنوب إلى طاعته (غَفُوراً) [٢٥] قيل «الأواب» : «هو الذي يذنب ثم يرجع عن ذنبه ويتوب» (٩) ، وقيل «الأوابون» : «هم الذين يصلون صلوة الضحى» (١٠) ، قال عليه‌السلام : «صلوة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى» (١١) ، أي إذا فرت من حرها إلى ظل أمها ، وقيل : «هم الذين يصلون بين المغرب والعشاء» (١٢) ، فان الملائكة تحف بهم.

__________________

(١) فانك ، + م.

(٢) «يبلغن» : قرأ الأخوان بألف ممدودة مدا مشبعا بعد الغين وكسر النون ، والباقون بغير ألف مع فتح النون. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

(٣) «أف» : قرأ المدنيان وحفص بكسر الفاء منونة ، وابن كثير وابن عامر ويعقوب بفتح الفاء بلا تنوين ، والباقون بكسرها بلا تنوين. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

(٤) كانا ، س : كان ، ب م.

(٥) رواه الترمذي ، البر ، ٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩٠.

(٦) روى النسائي نحوه ، الزكوة ، ٦٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩٠.

(٧) أخرجه الترمذي ، البر ، ٣ ؛ وابن ماجة ، الطلاق ، ٣٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩٠.

(٨) عن الفضل بن عياض ، انظر الكشاف ، ٣ / ١٧٦.

(٩) عن سعيد بن جبير ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩١ (عن سعيد بن المسيب).

(١٠) عن عون العقيلي ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٩١.

(١١) رواه مسلم ، مسافرين ، ١٤٣ ، ١٤٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩١.

(١٢) عن محمد بن المنكدر ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٩١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٦٥.

١٤

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦))

(وَآتِ) أي أعط (ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أي صلته بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمعاضدة إذا كانوا عاجزين من الكسب محتاجين إليك ، يعني به صلة الرحم ، وقيل : «أراد به قرابة الرسول عليه‌السلام» (١)(وَالْمِسْكِينَ) أي وأعط السائل (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي الضيف النازل وحقه ثلاثة أيام (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) [٢٦] أي لا تنفق مالك في غير طاعة الله ، قيل : «لو أنفق إنسان ماله كله في سبيل الحق لم يكن تبذيرا» (٢).

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧))

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ) أي (٣) المنفقين أموالهم في غير سبيل الحق (كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي أعوانهم وأمثالهم في الشر (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [٢٧] أي جحودا لنعمة فلا ينبغي أن يطاع ، لأنه يدعو إلى مثل عمله.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨))

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي إن أعرضت عن هؤلاء الذين أمرتك بالإنفاق عليهم من ذي القربى وغيرهم مجيب لهم إذا لم يكن عندك شيء حياء منهم عند سؤالهم عنك شيئا ، فليس المراد بالإعراض الإعراض بالوجه ، لأنه كناية عن الإباء من الإعطاء ، بل المراد تركهم بلا جواب يدل عليه المفعول له ، وهو (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) أي لطلب رزق (مِنْ رَبِّكَ) لتعطيهم ، فتقدير المعنى : لفقد رزق تطلبه من الله ، فوضع الابتغاء الذي هو المسبب موضع الفقد الذي هو السبب ، يعني لطلب نعمة ليست عندك (٤)(تَرْجُوها) أي ترجو أن يأتيك بها الله وتنتظره (فَقُلْ لَهُمْ) جواب الشرط (٥)(قَوْلاً مَيْسُوراً) [٢٨] أي لينا سهلا ، يعني عدهم عدة جميلة تطييبا لقلوبهم ولا تتركهم بلا جواب لهم ليشتغل قلوبهم (٦) ، وقل : رزقنا الله وإياكم ، قيل : يجوز أن يتعلق (ابْتِغاءَ) بنفس الشرط كما عرفت ، ويجوز أن يتعلق بجوابه مقدما عليه (٧) ، أي فقل لهم قولا جميلا ابتغاء رحمة من الله عليك برحمتك عليهم ، قيل : نزلت الآية في بلال وصهيب وسالم وغيرهم من الفقراء ، كانوا يسألون النبي عليه‌السلام ما يحتاجون إليه ، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول (٨).

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩))

قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) بخلا عن النفقة (وَلا تَبْسُطْها) بالعطاء (كُلَّ الْبَسْطِ) في الإسراف فتعطي جميع ما عندك فيجيء الآخرون ويسألونك فلا تجد ما تعطيهم للنبي صلى الله عليه‌السلام بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، نزل حين جاء صبي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أمي تسألك درعا ولم يكن لرسول الله إلا قميصة ، فقال : للصبي عد وقتا آخر ، فذهب إلى أمه ، فقالت : قل له إن أمي تسألك الدرع الذي عليك ، فدخل رسول الله عليه‌السلام داره ونزع قميصه فأعطاه وقعد عريانا ، فأذن بلال بالصلوة فانتظروه فلم يخرج ، فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا (٩) ، فقال تعالى لا تمسك يدك عن النفقة في

__________________

(١) عن علي بن الحسين ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٩٢.

(٢) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٩٢.

(٣) أي ، س م : أن ، ب.

(٤) فليس المراد بالإعراض الإعراض بالوجه لأنه كناية عن الإباء من الإعطاء بل المراد تركهم بلا جواب يدل عليه المفعول له وهو (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) أي لطلب رزق (مِنْ رَبِّكَ) لتعطيهم فتقدير المعنى لفقد رزق تطلبه من الله فوضع الابتغاء الذي هو المسبب موضع الفقد الذي هو السبب يعني لطلب نعمة ليست عندك ، ب س :

(ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) يعني لفقد رزق تطلبه من الله فوضع الابتغاء الذي هو مسبب موضع الفقد الذه هو السبب أي لطلب رزق (مِنْ رَبِّكَ ...) ،) م.

(٥) جواب الشرط ، س : جواب شرط ، م ، ـ ب.

(٦) ليشتغل ، ب س : يشتغل ، م.

(٧) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ١٧٧.

(٨) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩٢.

(٩) عن جابر بن عبد الله ، انظر الواحدي ، ٢٤٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٩٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

١٥

الحق كالمغلولة يده ولا تبسطها كل البسط (١) في العطية (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) يلومك سائلوك بالإمساك إذا لم تعطهم (مَحْسُوراً) [٢٩] أي نادما على ما فرط منك أو منقطعا عن المال فلا تجد عندك شيئا تنفقه على سائلك.

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

ثم سلى نبيه عليه‌السلام عما فيه من الضيق والفقر بقوله (٢)(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) من كان صلاحه في التوسعة (وَيَقْدِرُ) أي ويضيق على من يشاء من كان صلاحه في التضييق لا لهوان مني عليه ولا لبخل به عليه (٣)(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) [٣٠] يعلم صلاح كل واحد منهم من البسط والقتر فمشيته تابعة للحكمة (٤).

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١))

قوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أي مخافة الفقر ، نزل نهيا عن فعل الجاهلية حيث كانوا يقتلون بناتهم خشية الفاقة ، وأخبر أن الله ضامن لهم أن يرزقهم ويرزق أولادهم بقوله (٥)(نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) [٣١] أي ذنبا عظيما ، قرئ بكسر الخاء وسكون الطاء ، وبفتح الخاء والطاء بلا مد ، وبكسر الخاء وفتح الطاء مع المد (٦) ، ومعنى الكل واحد.

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢))

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) وهو نهي عن مقدمات الزنا كالنظرة واللمسة ، فالنهي عن الزنا أولى وليس المراد نفس الزنا ، وإلا لقال ولا تزنوا (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي قبيحة أشد القبح (وَساءَ سَبِيلاً) [٣٢] أي بئس طريقا طريقه ، لأنه غصب على الغير من غير سبب شرعي ، وهو التصهر الذي شرعه الله ، قال ابن مسعود : «لا أحد أغير من الله تعالى» (٧) ، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣))

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي باستحقاقها القتل لما روي عن النبي عليه‌السلام : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث رجل كفر بعد إيمانه أو زنا بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس» (٨)(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) أي غير راكب واحدة من ثلاث (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) أي لقريب (٩) المظلوم (سُلْطاناً) أي قوة وولاية على القاتل بالقتل قصاصا فهو بالخيار إن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية إذا اصطلحا على ذلك ، وإن شاء قتله (فَلا يُسْرِفْ) بالتاء على الخطاب وبالياء (١٠)(فِي الْقَتْلِ) أي الولي لا يقتل بالواحد اثنين ولا غير قاتل حمية ولا يقتل بعد ما عفا أو أخذ الدية ، وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا يرضون بقتل الواحد وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقاربه ، فنهوا عن ذلك (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [٣٣] أي إن ولي المقتول منصور من الله على القاتل باستيفاء

__________________

(١) بالإسراف ، + م.

(٢) ثم سلى نبيه عليه‌السلام عما فيه من الضيق والفقر بقوله ، ب س : ـ م.

(٣) لا لهوان مني عليه ولا لبخل به عليه ، ب س : ـ م.

(٤) فمشيته تابعة للحكمة ، ب س : ـ م.

(٥) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٦) «خطأ» : قرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء وألف ممدودة بعدها والمد عنده حينئذ متصل ، وابن ذكوان وأبو جعفر بفتح الخاء والطاء من غير ألف ولا مد ، والباقون بكسر الخاء وإسكان الطاء ولا بد من التنوين والهمزة للجميع ، ووقف عليه حمزة بنقل حركة الهمزة إلى الطاء وحذف الهمزة فيصير النطق بخاء مكسورة وطاء مفتوحة ممدودة مدا طبيعيا بعدها. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

(٧) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٧.

(٨) أخرجه أبو داود ، الديات ، ٣ ؛ وابن ماجة ، الحدود ، ١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩٤.

(٩) لقريب ، ب م : لقريبه ، س.

(١٠) «يسرف» : قرأ الأخوان وخلف بالتاء المثناة الفوقية ، والباقون بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

١٦

القصاص والدية فلا يستزد على ذلك ومن لم يكن له قريب يطالب بدمه فالسلطان وليه ، قيل : يجوز أن يكون الضمير في (إِنَّهُ) للمظلوم بمعنى إن الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله وينصره في الآخرة بالثواب (١).

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤))

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي) أي بالخصلة والطريقة (هِيَ أَحْسَنُ) وهي حفظه عليه وتثميره بالتعامل الشرعي وتربيحه (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي منتهى بلوغه (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) الذي بينكم وبين ربكم أو بينكم وبين الناس إذا عاهدتم لكل أحد وهو ما يلتزمه الإنسان على نفسه (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ) عنه (مَسْؤُلاً) [٣٤](٢) أي يسأل الناكث عنه يوم القيامة أو يسأل العهد لم نكثت يا عهد توبيخا لناقضه كسؤال المؤودة لم قتلت توبيخا لقائلها ، قيل : العهد هنا الإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه (٣).

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥))

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) لغيركم (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي بميزان العدل ، قرئ بكسر القاف وضمها (٤) ، وهو الميزان بلغة الروم (٥) صغر له أو كبر ، وقيل : عربي ، مأخوذ من القسط وهو العدل (٦)(ذلِكَ) أي الوفاء في الكيل والوزن وبجميع ما أمركم الله به (خَيْرٌ) من الغدر والنقص (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [٣٥] أي عاقبة ، وهي ما يؤول إليه الأمر من الخير والشر.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦))

(وَلا تَقْفُ) أي لا تتبع بالحدس والظن (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ) أي بحقيقته (عِلْمٌ) يعني لا تقل رأيت ولم تره ، وسمعت ولم تسمعه ، وعلمت ولم تعلمه ، من القفو وهو اتباع الأثر ، عن الحسن رضي الله عنه : «ولا تقف أخاك المسلم إذا مر بك ، فتقول هذا يفعل كذا ورأيته يفعل كذا وسمعته يفعله ولم تره ولم تسمعه» (٧) ، وقيل : القفو شبيه بالعضيهة (٨) ، أي بالبهتان ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا ، لأنه اتباع لما لا يعلم صحته ولا فساده (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) رفع (٩) مبتدأ ، مضاف إلى اسم الإشارة ، أي جميع هذه الأعضاء من السمع والبصر والفؤاد ، والخبر (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [٣٦] والضمير في (كانَ) وفي (عَنْهُ) يرجع إلى (كُلُّ) لتذكير اللفظ ، وقدم (عَنْهُ) على (مَسْؤُلاً) لرعاية الفاصلة ، فالوجه أن يكون (عَنْهُ) في محل الرفع ب (مَسْؤُلاً) المقدر قبله لدلالة المذكور عليه تفسيرا (١٠) ، و (أُولئِكَ) جمع «ذا» ، و «ذا» إشارة إلى العقلاء وغيرهم ، والجملة في محل الرفع خبر (إِنَّ) ، قيل : في معنى هذه الآية (١١) يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده (١٢) ، وقيل : يسأل السمع والبصر عما فعله المرء (١٣) ، عن ابن حميد أنه قال : «أتيت النبي عليه‌السلام ، فقلت : يا نبي الله! علمني تعويذا أتعوذ به ، فأخذ بيدي ، ثم قال : «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي» ، فحفظتها» (١٤) ، والمني ماؤه.

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٧٨.

(٢) قدم عنه على مسئولا لرعاية الفاصلة فالوجه أنه في محل الرفع على أنه فاعل مسئولا المقدرة لدلالة المذكور عليه تفسيرا ، + م.

(٣) نقله عن البغوي ، ٣ / ٤٩٤.

(٤) «بالقسطاس» : كسر القاف حفص والأخوان وخلف ، وضمها الباقون. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

(٥) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٩٥.

(٦) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٤٩٥.

(٧) انظر الكشاف ، ٣ / ١٧٩.

(٨) نقله المصنف عن الكشاف ، ٣ / ١٧٩.

(٩) رفع ، س : رفعه ، ب ، ـ م.

(١٠) قدم عنه على مسئولا لرعاية الفاصلة فالوجه ... المقدر لدلالة المذكور عليه تفسيرا ، ب س : ـ م.

(١١) في معنى هذه الاية ، ب س : ـ م.

(١٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٤٩٥.

(١٣) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٩٥.

(١٤) رواه الترمذي ، الدعوات ، ٧٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٩٥.

١٧

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧))

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) بفتح الراء مصدر في موضع الحال أو مفعول له وهو تفسير للمشي ، أي بطرا وكبرا ، وكسر الراء رواية حالا (١) ، أي ذا فرح مختالا تمشي مرة على عقبيك ومرة على صدور قدميك ، فيقال لك (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تثقبها بكبرك حتى تخرج منها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) [٣٧] نصبه حال أو تمييز أو مفعول له ، أي لا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها بكبرك إن مشيت على صدور قدميك ، قال أبو هريرة : «ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله عليه‌السلام ، كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله عليه‌السلام كأنما الأرض تطوي له أنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث» (٢).

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨))

(كُلُّ ذلِكَ) أي كل الذي ذكرناه (كانَ سَيِّئُهُ) بالإضافة ، أي سيء ما عددنا عليك (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [٣٨] أي إثما ومعصية وهو ما سوى الأمور الحسنة كقوله (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ)(٣) ، وغير ذلك ، وقرئ «سيئة» منصوبة بالتنوين (٤) ، فمعناه : كل ما ذكرناه من قوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ)(٥) إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة ، فعلى هذا كان قوله (كُلُّ ذلِكَ) إحاطة بما نهي عنه خاصة ، وإنما لم يقل «مكروهة» بالتاء ليطابق الموصوف ، وهو «سيئة» نظرا إلى المعنى دون اللفظ ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر أو لأن تأنيثها غير حقيقي.

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

(ذلِكَ) أي كل ما أمر الله به ونهى عنه (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي فهو حكمة هادية إلى الرشد ، سمي بها ، لأنها محكمة لا يتطرق عليه فساد ما ، قوله (مِنَ الْحِكْمَةِ) بيان لما أوحي ، قوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) خطاب للنبي عليه‌السلام ، والمراد غيره ، أي لا تشرك بالله (فَتُلْقى) أي فتطرح (فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) أي يلومك الناس (مَدْحُوراً) [٣٩] أي مبعدا من كل خير.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠))

ثم خاطب المشركين من أهل مكة توبيخا بقوله (أَفَأَصْفاكُمْ) الهمزة فيه للإنكار ، أي أشركتم وشاركتم بالله يا كفار مكة فخصكم (رَبُّكُمْ) على وجه الخلوص (بِالْبَنِينَ) أي بأفضل الأولاد (وَاتَّخَذَ) لنفسه (مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) باضافتكم إليه الأولاد ، لأنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [٤٠] أي منكرا شديدا باشراككم به شيئا وتفضيلكم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون ، ثم بأن تجعلوا (٦) أشرف خلق الله أهونه بتسميته إناثا.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١))

ثم قال الله تعالى (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي بينا (فِي هذَا الْقُرْآنِ) الحكم والأمثال والحجج والأحكام (لِيَذَّكَّرُوا) بالتخفيف والتشديد (٧) ، أي ليتعظوا بما فيه وينتهوا عن عبادة الأوثان (وَما يَزِيدُهُمْ) تصريفنا بالقرآن (إِلَّا

__________________

(١) لعله أخذ هذه القراءة عن الكشاف ، ٣ / ١٧٩.

(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٤٩٦.

(٣) الإسراء (١٧) ، ٢٤.

(٤) «سيئه» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان بفتح الهمزة وبعدها تاء تأنيث منصوبة منونة ، والباقون بضم الهمزة وبعدها هاء مضمومة موصولة بواو في اللفظ. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

(٥) الإسراء (١٧) ، ٣١.

(٦) ثم بأن تجعلوا ، س : وبجعل ، ب ، وتجعلون ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٨٠.

(٧) «ليذكروا» : قرأ الأخوان وخلف باسكان الذال وضم الكاف مخففة ، والباقون بفتح الذال والكاف مع تشديدهما. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

١٨

نُفُوراً) [٤١] أي تباعدا عن الحق.

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢))

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (لَوْ كانَ مَعَهُ) أي مع الله (آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) بالياء والتاء (١)(إِذاً) كلمة تدل على أن ما بعدها جزاء ل (لَوْ) ، وجواب عن مقالة المشركين ، وهو (لَابْتَغَوْا) أي لطلب تلك الآلهة (إِلى ذِي الْعَرْشِ) أي خالق العالمين (سَبِيلاً) [٤٢] بالمغالبة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣))

ثم نزه نفسه عن الشريك بقوله (سُبْحانَهُ) أي نزه تنزيها له (وَتَعالى) أي ارتفع وتعظم (عن ما (يَقُولُونَ) أي المشركون من أن معه شريكا في الألوهية (عُلُوًّا كَبِيراً) [٤٣] أي تعاليا بعيدا متصلا بالاستحالة ، وفي وصف العلو بالكبر المبالغة في البراءة مما قالوه من المحال (٢).

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

(تُسَبِّحُ لَهُ) بالياء والتاء (٣)(السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) بلسان الحال الدال على وجود الخالق وقدرته وحكمته (وَ) يسبح (مَنْ فِيهِنَّ) من الملائكة والإنس والجن بلسان الحال الناطق بما يسمع منهم (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) أي ليس موجود من الحيوانات والناميات (إِلَّا يُسَبِّحُ) بلسان الحال ملتبسا (بِحَمْدِهِ) فينزهه مما لا يجوز عليه من الشرك والولد ، لأن كل شيء يدل على الصانع ووحدانيته (٤) وقدرته وحكمته (٥) ، فكأنها ينطق (٦) بذلك ، قال عكرمة : «الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح» (٧) ، والشجرة أو النبات إذا قطع تسبح ما دام رطبا ، وقيل : «كل الأشياء يسبح لله حيا كان أو جمادا ، وتسبيحها سبحان الله وبحمده» (٨) ، وهذا ممكن عقلا وقدرة ، قيل : «الثوب يسبح ما دام جديدا ، فاذا وسخ ترك التسبيح ، والتراب يسبح ما لم يبتل ، فاذا ابتل ترك التسبيح ، وإن الماء يسبح ما دام جاريا فاذا ركد ترك التسبيح ، وكذا كل حيوان يسبح ما دام يصوت وإذا سكت ترك التسبيح» (٩)(وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأنه ليس بلغتهم أو الخطاب للمشركين (١٠) ، أي لا تعلمون أيها المشركون تسبيح ما عدا من يسبح بألسنتكم لتستوضحوا الدلالة على خالقكم الذي هو الله يجعلكم له شريكا مع إقراركم بأنه خالق السموات والأرض إذا سئلتم عن خالقها لعدم الإقرار الثابت في قلوبكم التي يورث النظر الصحيح على وحدانيته ، والحال أن هذا التسبيح مما يفقهه كل ذي عقل ونظر صحيح (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) حيث لم يعجل بعقوبة من اتخذ معه شريكا (غَفُوراً) [٤٤] لمن تاب منهم إلى التوحيد.

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥))

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) أي إذا شرعت يا محمد في قراءته (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث (حِجاباً مَسْتُوراً) [٤٥] يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به والحجاب الأكنة ، والمستور بمعنى الساتر ك «مأتي» بمعنى الآتي في قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)(١١) ، وقيل : مستورا عن أعين الناس فلا يرونه (١٢) ،

__________________

(١) «كَما يَقُولُونَ» : قرأ حفص وابن كثير بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ١٨٦.

(٢) وفي وصف العلو بالكبر المبالغة في البراءة مما قالوه من المحال ، ب س : ـ م.

(٣) «تسبح» : قرأ المدنيان والمكي والشامي وشعبة بياء التذكير ، وغيرهم بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ١٨٦.

(٤) ووحدانيته ، س : ـ ب م.

(٥) وحكمته ، ب م : ـ س.

(٦) ينطق ، ب س : تنطق ، م.

(٧) انظر البغوي ، ٣ / ٤٩٩.

(٨) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٩٩.

(٩) عن المقداد بن معد يكرب ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٩٩.

(١٠) لأنه ليس بلغتهم أو الخطاب للمشركين ، ب س : ـ م.

(١١) مريم (١٩) ، ٦١.

(١٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٥٠٠.

١٩

روي : أنه لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(١) جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي عليه‌السلام مع أبي بكر ، فلم تره فقالت لأبي بكر : أين صاحبك؟ لقد بلغني أنه هجاني ، فقال أبو بكر : والله ما ينطق بالشعر ، ولا يقوله ، فرجعت ، وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه ، فقال أبو بكر : ما رأتك يا رسول الله ، قال : لا ، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني منها (٢).

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦))

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي أغطية كراهة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) حتى لا يرغبوا في الحق (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي ثقلا وصمما لئلا يسمعوه (وَإِذا ذَكَرْتَ) يا محمد (رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) أي تقول لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن ، ووحده مصدر ساد مسد الحال من (رَبَّكَ) بمعنى واحدا وحده (وَلَّوْا) أي أعرضوا (عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [٤٦] أي نافرين متباعدين عن الإيمان ، جمع نافر كقعود جمع قاعد ، وذلك حين قال لهم النبي عليه‌السلام : «قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتذلل لكم بها العجم» (٣).

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧))

ثم نزل تهديدا لهم وتسلية للنبي عليه‌السلام (٤)(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ) أي بالأمر الذي يستمعون القرآن ملتبسين (بِهِ) من اللغو والهزء والمكاء وغيرها وهو في موضع الحال ، ويجوز أن يكون الباء صلة ، أي يطلبون سماعه ، وقوله (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) ظرف ل (أَعْلَمُ) ، أي أعلم (٥) وقت استماعهم (إِلَيْكَ) بما يستمعون به وأنت تقرأ القرآن (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) جمع نجي ، أي متناجون في أمرك بأن قال بعضهم هذا مجنون ، وبعضهم هذا ساحر ، وأبدل من (إِذْ هُمْ (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) أي المشركون وهم الوليد بن المغيرة وأصحابه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [٤٧] أي مطبوبا مغلوب العقل أو له سحر وهو الرئة ، يعنون أنه بشر مثلكم معلل بالطعام والشراب يأكل ويشرب.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

(انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي الأشباه حيث قالوا ساحر أو مجنون (فَضَلُّوا) أي أخطؤا في المقالة وتحيروا في الطريق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي لا يجدون (سَبِيلاً) [٤٨] أي وصولا إلى طريق الحق.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠))

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا) أي صرنا (عِظاماً وَرُفاتاً) أي حطاما كالفتات بعد الموت وهو ما يكسر ويبلى من كل شيء (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي لمحيون في الآخرة (خَلْقاً جَدِيداً) [٤٩] والاختلاف في قوله (أَإِذا) و (أَإِنَّا) مثل ما ذكر (٦) في الرعد من القراءة (قُلْ) لهم يا محمد توبيخا وتعجيزا (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) [٥٠] في القوة.

(أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١))

(أَوْ خَلْقاً) آخر (مِمَّا يَكْبُرُ) أي يعظم (فِي صُدُورِكُمْ) كالسماء والأرض والجبال وغيرها مما لا يقبل الحيوة ثم انظروا باستدلال العقل هل نحن قادرون على أن نجعل الروح في ذلك بعد أن أحييناكم وأوجدناكم من

__________________

(١) تبت (١١١) ، ١.

(٢) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٢٧٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٠٠.

(٣) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٢٧١.

(٤) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٥) اعلم ، س م : ـ ب.

(٦) ذكر ، ب س : ذكرنا ، م.

٢٠