عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

الله أنه رسوله (١) ، ثم قالوا (أَجَعَلَ) بزعمه (الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) في القول كيف يتسع إله واحد لحاجاتنا (٢)(إِنَّ هذا) أي الذي يقوله محمد (لَشَيْءٌ عُجابٌ) [٥] أي بليغ في العجب.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦))

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي ذهب أشراف قريش عن مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب الحاضر عنده ، وقد جاؤا إلى أبي طالب في مرضه للشكاية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يسب أصنامنا فسأله كيف تشتم لأصنامهم با ابن أخي؟ قال : يا عم إني أدعوهم على كلمة واحدة يملكون بها العرب ويؤدي إليهم العجم الجزية ، فقال : وما هي؟ قال : «لا إله إلا الله» ، فقاموا عن مجلسه وانطلقوا نافرين عنها قائلين ، أي قائلا بعضهم لبعض (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى) عبادة (آلِهَتِكُمْ) فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد (إِنَّ هذا) الأمر (لَشَيْءٌ يُرادُ) [٦] أي يريده الله ويمضيه ولا ينفع فيه إلا الصبر.

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧))

(ما سَمِعْنا بِهذا) أي بهذا التوحيد كائنا (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) قالوه استهزاء بالتوحيد ، يعني لم نسمع من أهل الكتاب اليهود والنصارى ولا من الكهنة أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله (إِنْ هذا) أي ما القول بالتوحيد (إِلَّا اخْتِلاقٌ) [٧] أي كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨))

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي قالوا حسدا يغلي في صدورهم على ما أوتي من بينهم أأنزل على محمد القرآن من بين أشرافنا ورؤسائنا ، يعني أخص بشرف النبوة ونزول الكتاب عليه من بيننا ونحن أحقاء به فقال تعالى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ) أي لم يصدقوا برسولي ، بل هم مستمرون في ريب (مِنْ ذِكْرِي) أي من القرآن الذي أنزلته عليه حسدا منهم ، قوله (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) [٨] أي عذابي تهديد لهم ، يعني لم يذوقوه بعد ، فاذا ذاقوه زال عنهم الشك والحسد وصدقوه مضطرين إلى التصديق وحينئذ لا يرحمون.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩))

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) أي أهم (٣) يملكون خزائن الرحمة من النبوة وغيرها حتى يخصوا بها من يشاؤنه ويصرفوها عمن يشاؤنه كقوله تعالى (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)(٤)(الْعَزِيزِ) أي القاهر على خلقه (الْوَهَّابِ) [٩] أي الكثير المواهب المصيب بها من يشاء على ما يقتضيه حكمته.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠))

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ليختاروا النبوة بعض صناديدهم ويرفعوها (٥) عن محمد عليه‌السلام وإنما يختار الذي يملك الرحمة خزائنها وهو الله تعالى ، قوله (فَلْيَرْتَقُوا) جزاء شرط محذوف بدلالة ما قبله ، أي إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة رحمة ربك فليرتقوا ، أي ليصعدوا (فِي الْأَسْبابِ) [١٠] أي المعارج والطرق الموصلة إلى السماء فيأتوا بالوحي إلى من يختارون وهو بيان لعجزهم وتهكم شديد بهم.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

ثم سلى نبيه عليه‌السلام بقوله (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ) أي مكسور ومغلوب عن قريب (مِنَ الْأَحْزابِ) [١١] أي المتحزبين على الرسل فلا يضيق صدرك ولا تبال بما يقولون فاني ناصرك و (ما) في (جُنْدٌ ما) زائدة بمعنى القلة وهو مبتدأ (٦) ، خبره (مَهْزُومٌ) ، وهنالك إشارة إلى مكان قولهم العظيم ومعاداة الرسول أو (٧) إلى يوم بدر وهو

__________________

(١) رسوله ، وي : رسول الله ، ح.

(٢) لحاجاتنا ، ح و : لحاجتنا ، ي.

(٣) أي أهم ، وي : أي هم ، ح.

(٤) الزخرف (٤٣) ، ٣٢.

(٥) ويرفعوها ، ح و : ويرفعونها ، ي.

(٦) و ، + و.

(٧) أو ، ح و : و ، ي.

٢١

استحقار لهم وخساءة عن قولهم العظيم.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣))

ثم ذكر المتحزبين على الرسل فقال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ) أي لك يا محمد أسوة حسنة باخوتك من الأنبياء في تكذيبهم أقوامهم وصبرهم عليه (وَ) كذب أيضا (فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) [١٢] أي ذو بناء محكم أو (١) ذو الملك الثابت الشديد أو ذو الجنود التي تثبته كالأوتاد للخيام ، وقيل : كان يتد بأربعة أوتاد من يغضب عليه ويعذبه بأنواع العذاب حتى يموت (٢)(وَ) كذبت أيضا (ثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الغيضة وهم قوم شعيب (أُولئِكَ) أي المذكورون هم (الْأَحْزابُ) [١٣] الذين جعلوا الجند المهزوم كمشركي قريش الذين وجد منهم التكذيب ، وإنما سموا أحزابا لأنهم تحزبوا على أنبيائهم أي تجمعوا.

(إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦))

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم ، أي ما كل واحد من الأحزاب إلا كذب رسلي (فَحَقَّ) أي وجب لذلك (عِقابِ) [١٤] أي أن أعاقبهم حق العذاب.

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) أي قومك يا محمد (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي النفخة الأولى (ما لَها مِنْ فَواقٍ) [١٥] أي من (٣) توقف مقدار فواق بالفتح والضم (٤) ، وهو ما بين حلبتي الحالب وهو عبارة عن الزمان اليسير.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي صحيفة أعمالنا ننظر فيها (٥)(قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [١٦] أي في الدنيا ، وأصل ال «قط» القطع وهو النصيب ، قالوا ذلك استهزاء لقول النبي عليه‌السلام حين قال لقريش : «من لم يؤمن بالله أعطي كتابه بشماله» (٦) (٧) ، وقيل : قالوا ذلك لما نزل (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ)(٨) الآية (٩).

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧))

ثم عزى الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يا محمد فيك مما يؤذيك واترك الشكوى فاني ناصرك ، قوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) الآية أمر الله نبيه بذكر داود بعد ما أمره بالصبر على تكذيبهم ، أي صن نفسك أن تزل فيما كلفت من تحمل أذاهم واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة اليسيرة فلقي ما لقي من توبيخ الله إياه ونسبته إلى البغي والظلم (ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة في العبادة ، لأنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وينام من الليل النصف الأول ويقوم ثلثه وينام سدسه مع سياسة الملك (إِنَّهُ أَوَّابٌ) [١٧] أي رجاع إلى مرضاة الله بالتوبة مما يكره.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ) بيان لفضله تعالى (مَعَهُ) أي إنا ذللناها (يُسَبِّحْنَ) ولم يقل مسبحات للدلالة على حدوث تسبيح الجبال مع دواد (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) [١٨] أي في أول النهار وآخره ، قيل : «العشي» وقت العشاء و (الْإِشْراقِ) وقت إضاءة الشمس وهو صفاء نورها وذهاب صفرتها (١٠).

__________________

(١) أو ، و : أي ، ي ، و ، ح.

(٢) اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٩٠.

(٣) من ، و : ـ ح ي.

(٤) «فواق» : ضم الفاء الأخوان وخلف ، وفتحها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٧١.

(٥) ننظر فيها ، ح : ـ وي.

(٦) انظر السمرقندي ، ٣ / ١٣١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٧) انظر السمرقندي ، ٣ / ١٣١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٨) الإنشقاق (٨٤) ، ١٠.

(٩) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ١٣١.

(١٠) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٩١.

٢٢

قوله (وَالطَّيْرَ) نصب عطف على (الْجِبالَ) ، وقوله (مَحْشُورَةً) نصب على الحال ، أي مجموعة (كُلٌّ لَهُ) أي كل واحد من الجبال والطير لأجل داود وتسبيحه (أَوَّابٌ) [١٩] أي رجاع بصوته ، يعني كان داود إذا سبح سبحت الجبال وجمعت له الطير مسبحات معه لله تعالى.

(وَشَدَدْنا) أي قوينا (مُلْكَهُ) بالعدل أو بالحفظ عليه والحراسة يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل أو بهيبة وضعت له في قلوب الناس ، روي : أن غلاما ادعى على رجل بقرة عنده فلطم الغلام لطمة وعجز الغلام عن إقامة البينة فأوحى الله إليه أن اقتل المدعى عليه فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا أتقتل رجلا للغلام؟ فقال : هذا أمر الله تعالى بذلك فأخبر المدعى عليه ، فقال الرجل : صدقت يا نبي الله قتلت أباه اغتيالا فقتله فعظمت هيبته في قلوب الناس ، وقالوا : لا نعمل شيئا إلا علمه (١)(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوة أو التكلم بالحق (وَفَصْلَ الْخِطابِ) [٢٠] أي البيان الشافي في كل قصد أو القضاء بالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، لأنه يقطع الخصام بين الناس أو قول الشخص بعد حمد الله ، أما بعد ثم ذكره ما يريد لأنه يفصل بين كلامين.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣))

قوله (وَهَلْ أَتاكَ) ظاهر (٢) الاستفهام للدلالة على أن هذا الخبر العجيب مما يشتهر ويفشى لكل أحد ويشوق إلى استماعه والمراد تحقيقه ، ولذلك قيل (هَلْ) بمعنى «قد» (نَبَأُ الْخَصْمِ) أي خبر الخصوم (٣) ، مفرد يعم القليل والكثير والذكر والأنثى ، والمراد هنا الملكان اللذان وقع التحاكم بينهما ومن يصحبهما من الملائكة.

وقد روي : أنهما جبرائيل وميكائيل جاءا داود عليه‌السلام بعد ما دخل بامرأة أوريا لينبهاه على زلته بتلك المرأة ، وذلك (٤) أنه قيل يوما عنده هل يأتي على الإنسان يوم لا يذنب فيه ، فأضمر في نفسه أنه يطيق ذلك فابتلي بتلك المرأة ، وذلك أنه دخل في محرابه متعبدا وأغلق عليه بابه فجاءه الشيطان في صورة طير من ذهب ووقع بين رجليه فأراد أن يأخذه فذهب إلى كوة هناك فأراد أخذه فذهب فنظر من الكوة ، فاذا بامرأة جميلة تغتسل فعجب منها فالتفتت فابصرت ظله فنقضت شعرها فغطى جميع بدنها فازداد عجبا ، فسأل عنها فقيل هي امرأة أوريا فأحب أن يموت زوجها ليتزوج بها وكان زوجها مع ابن أخت دواد في جيش ، فأرسل إليه أن قدمه قدام التابوت وكان من تقدم قدامه لا يحل له الرجوع حتى يفتح عليه ويقتل ، فقدمه فقتل فتزوجها داود بعد انقضاء عدتها وهي أم سليمان عليه‌السلام (٥) ، وبعضهم أنكر هذا النقل لتنزه الأنبياء عن مثل هذا العمل (٦).

(إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [٢١] أي صعد جبرائيل وميكائيل بمن معهما حائط المحراب بعد أن منعوا الدخول من الباب ، و (إِذْ) ظرف ل (نَبَأُ الْخَصْمِ) على تقدير نبأ تحاكم الخصم ، لأنه لا يجوز أن يتعلق ب (أَتاكَ) ، لأن اتيان

__________________

(١) اختصره المصنف من السمرقندي ، ٣ / ١٣١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٣٦.

(٢) ظاهر ، ح : ظاهره ، وي.

(٣) والخصم ، + و.

(٤) بتلك المرأة وذلك ، ح ي : روي ، و.

(٥) اختصره من السمرقندي ، ٣ / ١٣٢ ؛ والبغوي ، ٤ / ٥٩٣ ـ ٥٩٤. وهذه القصة مذكورة في التورية ، انظر ، ٢. سمؤل) LEUMAS.II (، ١١ / ٢ ـ ٢٧. وقال فخر الدين الرازي : «والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ... أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها والرجل الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه ..». انظر مفاتيح الغيب ، ٢٦ / ١٦٥. وقال أبو إسحاق اطفيش ـ وهو محقق «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ـ : «ما أورده القرطبي هنا في حق داود عليه الصلوة والسّلام من قبيل الإسرائيليات ولا صحة لها ..». انظر الجامع لأحكام القرآن ، ١٥ / ١٦٦ (في ملاحظة هامشية أولى). وقال ابن كثير في تفسيره : «قد ذكر المفسرون ههنا قصة أكثرها مأخوذة من الإسرائيليات». انظر تفسير القرآن العظيم ، ٧ / ٥١.

(٦) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ١٣٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤٩٦.

٢٣

الخبر الرسول (١) لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بنفس النبأ ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح اتيانه الرسول عليه‌السلام فلابد من التقدير (٢) المذكور ، و (إِذْ) في (إِذْ دَخَلُوا) بدل من (إِذْ) قبله ، أي قد وصل إليك يا محمد خبر جبرائيل وميكائيل إذ صعدوا سور المحراب إذ دخلوا (عَلى داوُدَ) من غير الباب (فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ) أي لسنا ممن يخاف منه ، إنما نحن (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) أي ظلم قالوه فرضا وتصويرا للمسألة في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ) أي اقض بالعدل بيننا (٣)(وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكم ، من أشط جار (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) [٢٢] أي أرشدنا إلى أعدل الطريق والصواب ، ثم قال لهما تكلما فقال أحدهما (إِنَّ هذا أَخِي) أي على ديني وهو بدل من (هذا) ، وخبر «إِنَّ» (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي شاة ، يطلق على الذكر والأنثى ، استعيرت للمرأة من حيث التوالد والتناسل (وَلِيَ) بفتح الياء وسكونها (٤)(نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي ملكنيها (٥) أو ضمها إلي واجعلني كافلها (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [٢٣] أي غلبني في الخطبة وهي الكلام أو الجدال وإن كان الحق لي لضعفي فبعد اعتراف المدعى عليه.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

(قالَ) داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ) خصمك (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) ليضمها (إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) جمع الخليط (٦) من الخلطة ، وهي الشركة في المال ، يعني من الشركاء الذين خلطوا أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ليظلم ، واللام في جواب قسم محذوف ، قيل : الخلطة قد غلبت في الماشية ، واعتبرها الشافعي فاذا كانت للخليطين أربعون شاة فعليهما واحدة للزكوة على حسب مالهما ، ولا شيء عند أبي حنيفة رحمه‌الله (٧) ، قوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فانهم لا يظلمون استثناء من بعضهم (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) «ما» زائدة لتأكيد القلة ، أي الذين لا يظلمون من الصالحين قليلون ، فلما اعترف المدعى عليه قال له داود : لم تسأل نعجته إلى نعاجك؟ قال : لأكمل نعاجي مائة ، فقال له داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وأشار إلى طرف الأنف والجبهة ، فقال المدعى عليه : أنت أحق بذلك حيث أضفت امرأة أوريا إلى نسائك فصعدا إلى السماء حيال وجهه ويقولا قضى الرجل على نفسه فاغتم لذلك (٨) ، وإنما جاءت القصة على طريقة التعريض دون التصريح ليكون أبلغ في التوبخ بالتأمل المؤدي إلى علم المعرض به فيكون أوقع في النفس وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه وإنما جاءت على وجه التحاكم إليه ليحكم بما حكم به حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه.

وأشار إلى ذلك بقوله (وَظَنَّ داوُدُ) أي أيقن (أَنَّما فَتَنَّاهُ) بالتشديد ، أي اختبرناه بالملكين ونبهناه على خطئه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) أي سأل مغفرة ذنبه من ربه (وَخَرَّ راكِعاً) أي سقط على وجهه ساجدا عبر بالراكع عن الساجد لأنه ينحني كالساجد ، وتمسك به أبو حنيفة على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة ، والسجدة هنا واجبة عند أبي حنيفة ، وسجدة الشكر عند الشافعي ليست من عزائم السجود (وَأَنابَ) [٢٤] أي رجع عن جميع المخالفات إلى طاعة الله بالتوبة ، روي : «أن داود مكث أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه إلا لصلوة أو لحاجة ضرورية باكيا حتى نبت العشب من دمعه (٩).

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ذنبه الذي استغفر منه (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي لزيادة في القربة (وَحُسْنَ مَآبٍ) [٢٥]

__________________

(١) لأن اتيان الخبر الرسول ، و : لأن اتيانه ، ح ، لأن اتيان الرسول ، ي.

(٢) التقدير ، وي : تقدير ، ح.

(٣) بالعدل بيننا ، وي : بيننا بالعدل ، ح.

(٤) «ولي» : فتح الياء حفص ، وأسكنها غيره. البدور الزاهرة ، ٢٧٢.

(٥) ملكنيها ، و : مكنيها ، ح ي.

(٦) الخليط ، ح ي : خليط ، و.

(٧) اختصر المؤلف هذه الأقوال من الكشاف ، ٥ / ١٣٩.

(٨) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٩٦.

(٩) اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٩٧ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٤٠.

٢٤

أي حسن المرجع في الاخرة.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) أي ذا خلافة (فِي الْأَرْضِ) تدبر الناس وتصلحهم وهي النبوة ، وإنما عبرت بالخلافة لأنه أقيم مقام الخلفاء الذين قبله وكان قبله النبوة في سبط والملك في سبط آخر فأعطاهما الله تعالى لداود ، وقال (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) أي بالعدل (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي هوى النفس فتقضي بغير عدل (فَيُضِلَّكَ) الهوى (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دين الله (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) [٢٦] أي بما تركوا العمل ليوم القيامة ويوم الحساب متعلق بنسيانهم أو بقوله (لَهُمْ عَذابٌ).

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧))

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي خلقا باطلا لا لغرض صحيح أو مبطلين عابثين في موضع الحال من ضمير «خَلَقْنَا» (ذلِكَ) أي خلقها (١) باطلا (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مظنونهم مع أنهم مقرون بأن خالقهما هو الله ، لأنهم أنكروا البعث والحساب والثواب والعقاب ، فأدى إلى أنهم جعلوا كأنهم ظنوا أن خلقها عبث وباطل ولم يعلموا أن العالم أنما خلق لحكمة سبقت من ربهم ، وهي إرادة البعث والجزاء ، فمن جحد الحكمة من أصلها فقد نسب الخالق إلى السفه (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا البعث (مِنَ النَّارِ) [٢٧].

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

قوله (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جواب لظنهم خلقها باطلا ، أي بل أنجعل المؤمين الصالحين (كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أي كالمشركين (٢) في الثواب (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [٢٨] أي أنجعل المتقين من الشرك كالضالين بالكفر ، يعني مستوين فلا ثواب ولا عقاب لأحد منهم ، يعني لو بطل البعث والجزاء كما يظن الكفار لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد واتقى وفجر ، ومن سوى بينهما كان سفيها ولم يكن حكيما عليما والله منزه عن ذلك ، وفيه وعيد شديد للكافرين ليتعظوا به ويؤمنوا ، وأكد ذلك بقوله (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي القرآن كتاب منزل منا (إِلَيْكَ مُبارَكٌ) لمن سمعه وآمن به ولمن قرأه وعمل به ولمن عظمه واتعظ به كثير الخير دائم البركة لمن تكفر وأحضر قلبه فيه أنزلناه إليك بجبرائيل (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي لينظروا في معانيها ويفهموا من الله أوامره ونواهيه ويحفظوا آدابه وشرائعه وأدركوا ما المراد منه (وَلِيَتَذَكَّرَ) أي وليتعظ بالقرآن (أُولُوا الْأَلْبابِ) [٢٩] أي ذووا العقول من الناس بعظاته ، واللب جوهر العقل وأولو الألباب هم الذين يأخذون من كل قشر لبابه ويطلبون من ظاهر الحديث سره.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١))

(وَوَهَبْنا) أي أعطينا (لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) لنا سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) [٣٠] أي مقبل إلى الله بطاعته معرض عن مخالفته أو رجاع في الذكر والتسبيح كل وقت (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ) أي على سليمان في آخر النهار ، و «العشي» ما بعد الزوال (الصَّافِناتُ) جمع صافنة ، وهي القائمة على ثلث باقامة الأخرى على طرف الحافر (الْجِيادُ) [٣١] جمع جواد وهو السابق من الخيل ، وإنما وصفها بالصفون والجودة ليجمع بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية ، وكان له ألف فرس عراب فعرضت عليه بعد أداء صلوة الظهر يريد جهادا ، وجعل ينظر إليها ويتعجب من حسنها ويمسحها بيده إعجابا بها حتى شغلته عن صلوة العصر وغربت الشمس فتنبه لصلوة

__________________

(١) خلقها ، وي : خلقا ، ح.

(٢) كالمشركين ، ح : المشركين ، وي.

٢٥

العصر بعد الغروب فندم.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢))

(فَقالَ) اعترافا بذنبه (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي الخيل وسميت به ، لأن الخير معقود بنواصي الخيل ، قوله (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يتعلق ب (أَحْبَبْتُ) بتضمين فعل يتعدى (١) ب (عَنْ) ، أي اشتغلت حب الخيل عن ذكر ربي ، يعني صلوة العصر (حَتَّى تَوارَتْ) الشمس (بِالْحِجابِ) [٣٢] أي غابت ، وفي إضمار الشمس دليل في الكلام ، وهو ذكر العشي.

(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

قوله (رُدُّوها عَلَيَّ) استئناف ، تقديره : فماذا حال سليمان عند فوت الصلوة باشتغال الدنيا في حال كونه نبيا من أنبياء الله؟ فأجيب به وهو يتعلق بمحذوف ، أي قال سليمان لخدمه ردوا الخيل إلي فردت عليه (فَطَفِقَ) يمسح (مَسْحاً) بالسيف (بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [٣٣] جمع الساق والعنق ، أي يضربها ويقطعها به ، قيل : ذبحها للأكل صدقة ، وإنما قطع أرجلها لأن ذلك كان مباحا في ذلك الوقت ، وفعله استهانة بمال الدنيا لمكان فرض الله تعالى (٢) ، روي : أنه قتل منها تسعمائة فرس وهي التي عرضت عليه وبقي مائة لم تعرض عليه ، فجميع خيل الدنيا من تلك المائة (٣).

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي ابتليناه بعد ما غزا صيدون مدينة حصينة كانت في البحر وقتل ملكها وأخذ بنتها الجرادة فاصطفاها لنفسه لحسنها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها ، فعملت تمثال أبيها في بيتها باذن سليمان وكانت تسجد له مع جواريها بكرة وعشيا أربعين يوما فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج إلى الخلاء للطهارة ووضع خاتمه عند أم ولد له اسمها أمينة كما كانت عادته من قبل ، وكان ملكه في خاتمه فأتاها صخر الجني في صورة سليمان فأعطته الخاتم فلبسه وجلس على كرسي سليمان يحكم بين الناس ، وعكف عليه الطير والجن والإنس ، وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته وكان يدور على البيوت يتكفف ، وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب ، ثم جاء إلى الصيادين يخدمهم كل يوم بسمكتين يشتري خبزا بالواحدة ويأكله بالأخرى ، فيوما شق بطن إحديهما فوجد فيه الخاتم الذي ألقاه الجني في البحر ، لأن علماء بني إسرائيل أنكروا حكم الجني لما سمعوا من نساء سليمان أنه يدخل بهن حالة الحيض ولا يغتسل من جنابته فأحدقوا به وقرأوا التورية فطار الجني وألقى الخاتم في البحر وابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان ، فلما تختم به وقع ساجدا لله ورجع إليه ملكه وجاب صخرة لصخر الجني فجعله فيها وأوثقها بالحديد والرصاص وقذفه في البحر ، وكانت فتنته بعد عشرين سنة من ملكه وملك بعدها عشرين سنة (٤) ، فالمعنى : اختبرنا سليمان بزوال ملكه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وهو صخر الجني حاكما بين الناس والجسد في اللغة بالبدن الذي لا يأكل ولا يشرب ، وقيل : نفذ حكمه في

__________________

(١) يتعدى ، ح و : ـ ي.

(٢) أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ١٣٥ ؛ والبغوي ، ٤ / ٦٠٤ مختصرا.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) اختصره المؤلف من البغوي ، ٤ / ٦٠٥ ـ ٦٠٨ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٤٢ ـ ١٤٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٣٦. وقال الزمخشري : «ولقد أبى العلماء المتقون قبوله ، وقالوا هذا من أباطيل اليهود والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل ..». انظر الكشاف ، ٥ / ١٤٣. وقال ابن كثير بعد أن حكى مثل هذه الراية : «إسناده إلى ابن عباس قوي ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس ـ إن صح عنه ـ من أهل الكتاب ... وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين ، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب ، والله أعلم بالصواب». انظر تفسير القرآن العظيم ، ٧ / ٦٠. وقال ابن كثير أيضا : «ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين ههنا آيارا كثيرة عن جماعة من السلف ، وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات ، وفي كثير منها نكارة شديدة». انظر البداية والنهاية ، ٢ / ٢٤.

٢٦

كل شيء إلا في نساء سليمان (١) ، وروي : أنه ولد لسليمان ولد ، فخاف عليه من الشياطين فجعله في السحاب وجعل من الغذاء يغذوه فيه فعاتبه الله تعالى على ذلك وألقاه على كرسيه ميتا (٢) ، وقيل : كان له ابن عنده فجاء ملك الموت ليزور سليمان فرآه ابنه فخافه وتغير لونه ، فأمر سليمان الريح أن تحمل ابنه فوق السحاب وقد دنا أجله فقبض ابنه وألقي على كرسيه فتنبه على خطئه في عدم توكله على ربه في شأن ابنه فاستغفر ربه (٣)(ثُمَّ أَنابَ) [٣٤] أي رجع إلى الله وطاعته ولما تاب الله عليه طلب دلالة على قبول توبته وإظهار معجزته على نبوته لا بخلا على غيره لأن النبي منزه عن البخل بما في يده من حطام الدنيا فضلا عما يملك بعد عدمه.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧))

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي) أي لا يكون (لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي من دوني حتى يكون معجزة لي وآية لنبوتي فلم يكن ذلك حسدا وبخلا ، وقيل : سأل ذلك شفقة على غيره من المؤمنين (٤) ، لأن كثرة الدنيا تشغل عن الله تعالى فلا يقوم لسياسة الملك مع القيام بحقوق ربه ، وقيل : هب لي ملكا لا أسلبه ولا يقوم فيه غيري مقامي كما سلبته من قبل وقام فيه غيري مقامي (٥)(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [٣٥] أي أنت المعطي الملك لمن يسأل (٦) ولمن لا يسأل فزيد في ملكه الريح والشياطين فقال تعالى (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) أي تجري بأمر سليمان لينة مطيعة (حَيْثُ أَصابَ) [٣٦] أي أراد (وَ) سخرنا له (الشَّياطِينَ) وأبدل منها (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) [٣٧] منهم وكانوا يبنون الأبنية العجيبة له ويغوصون في البحر ويستخرجون اللؤلؤ من البحر له.

(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨))

قوله (وَآخَرِينَ) عطف على («كُلَّ بَنَّاءٍ) ، أي سخرنا شياطين آخرين (مُقَرَّنِينَ) أي مشدودين موثقين (فِي الْأَصْفادِ) [٣٨] أي في الأغلال ، جمع صفد وهو القيد فكان (٧) يأخذه مردة الشياطين ويجمع أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع وهي الأغلال ويتركهم كذلك للكف عن الفساد.

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

ثم قال تعالى له (هذا عَطاؤُنا) الذي لا يقدر عليه غيرنا من الملك والمال والبسط (فَامْنُنْ) أي أعط منه من شئت (أَوْ أَمْسِكْ) عن الإعطاء إن شئت (بِغَيْرِ حِسابٍ) [٣٩] أي لا حساب عليك في ذلك من الإعطاء والمنع فكان إن أعطي أجر وإن منع لم يأثم بخلاف غيره ، ويجوز أن يتعلق (بِغَيْرِ حِسابٍ) بقوله (هذا عَطاؤُنا) ، أي عطاؤنا كثير لا يقدر أحد ، أي يحصيه ويحسبه ، (وَإِنَّ لَهُ) أي لسليمان (عِنْدَنا لَزُلْفى) أي لقربى (وَحُسْنَ مَآبٍ) [٤٠] أي حسن (٨) مرجع.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١))

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) هو عطف بيان ، أمر الله نبيه عليه‌السلام بأن يذكر أيوب وصبره على أنواع محنه وبلائه بعد ذكر سليمان وشكره على وفور نعمه وآلائه ليتأسي بهما الصابرون والشاكرون ، قوله (إِذْ نادى رَبَّهُ) بدل من (أَيُّوبَ) بدل اشتمال ، أي إذ دعا ربه (أَنِّي) أي بأني (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) أي أصابني (بِنُصْبٍ) أي بعناء وبلاء وهو الأمراض (وَعَذابٍ) [٤١] وهو هلاك المال والولد.

وقد راعى الأدب في ذلك فنسب المس إلى الشيطان ولم ينسبه إلى الله وإن كان كل شيء منه تعالى ، لأنه

__________________

(١) نقله عن الكشاف ، ٥ / ١٤٣.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٣) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٣ / ١٣٦.

(٤) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ١٤٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٣٧.

(٦) يسأل ، و : سأل ، ح ي.

(٧) فكان ، وي : وكان ، ح.

(٨) حسن ، و : ـ ح ي.

٢٧

كان بسببه حيث سلطه الله عليه بقوله سلطني عليه لحسده كمال عبادته مع كثرة أمواله وأولاده كما ذكر قصته في سورة الأنبياء.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢))

قوله (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) جواب لدعاء أيوب في كشف البلاء عنه ، أي قال له جبرائيل اضرب برجلك الأرض وهي أرض الجابية بلد في الشام من إقطاع أبي تمام فركض فنبعت عين ماء ، فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ) أي ما يغتسل به وكان ماء حارا فاغتسل به وهو الذي ضربه برجله اليمنى ، ثم خرج من المغتسل صحيحا وركض برجله اليسرى فخرجت عين ماء (١) بارد فشرب منها ماء عذبا باردا ، فزال عنه كل ألم بظاهره وباطنه ، قوله (بارِدٌ وَشَرابٌ) [٤٢] خبر مبتدأ محذوف ، أي ماء بارد يشرب منه ، والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣))

(وَوَهَبْنا لَهُ) أي لأيوب (أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) وقد مر تفسيره (٢) ، قوله (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) [٤٣] مفعول لهما لقوله (وَوَهَبْنا لَهُ) ، أي وهبنا له أهله وماله لرحمة من لدنا ولتذكير أولي العقل ، لأنهم إذا سمعوا إنعامنا له لصبره على البلاء رغبهم في الصبر على الشدائد وعاقبة الصابرين من الرحمة لهم.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) وهو الحزمة من الكلأ أو العيدان (فَاضْرِبْ بِهِ) زوجتك لتبر عن يمينك (وَلا تَحْنَثْ) فيها أي لا تدع الضرب فتحنث فأخذ مائة عود من الإذخر فضربها بها ضربة واحدة ، وكان السبب في يمينه أنها سألته أن يقرب للشيطان بعناق ليبرئ من مرضه وهو الأنثى من أولاد المعز فحلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برئ ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) أي علمناه صابرا على البلاء وشكايته إلى الله لا يمنع وصفه بالصبر (٣) لأنه تمنى العافية من الله ودعاه بكشف (٤) ما به من الضر فلا يسمى (٥) ذلك جزعا ، ثم أكد ذلك بقوله (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) [٤٤] أي رجاع إلى الله بالتوبة والاستغفار.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥))

(وَاذْكُرْ عِبادَنا) أي صبرهم (إِبْراهِيمَ) عطف بيان (وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) عطفان عليه ، قرئ «عبدنا» (٦) وهو إبراهيم ، ثم أضمر واذكر في قوله (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ولم يذكر إسمعيل معهم لأنه لم يبتل كابتلائهم (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [٤٥] أي أولي القوة في العبادة وأولي البصائر في دين الله ، قيل : أكثر الأعمال تباشر بالأيدي فلذلك غلبت في كل عمل ويقال هذا مما عملت أيدينا (٧).

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦))

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي اخترناهم (بِخالِصَةٍ) أي بخصلة خالصة لا شوب فيها ، ثم فسرها بقوله (ذِكْرَى الدَّارِ) [٤٦] فهو عطف بيان لها أو بدل منها ، أي بأن يذكروا الدار الآخرة بالخلوص في العمل لها وانتفاء الكدورة عنها ، وقرئ ل «خالصة ذكرى الدار» بالإضافة (٨) من إضافة الشيء إلى ما يبينه ، لأن الخالصة تكون (٩) ذكرى وغير ذكرى فالإضافة بمعنى «من» ، أي بما خلص من ذكرى الدار لا يشوبون ذكرها بهم آخر وهو ذكر

__________________

(١) ماء ، ح ي : ـ و.

(٢) انظر سورة الأنبياء (٢١) ، ٨٤.

(٣) بالصبر ، ح ي : بالصابر ، و.

(٤) بكشف ، وي : لكشف ، ح.

(٥) يسمى ، ح ي : تسمى ، و.

(٦) «عبادنا» : قرأ ابن كثير بفتح العين وإسكان الباء على الإفراد ، وغيره بكسر العين وفتح الباء وألف بعدها على الجمع. البدور الزاهرة ، ٢٧٣.

(٧) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ١٤٦.

(٨) «بخالصة» : قرأ المدنيان وهشام بحذف التنوين ، والباقون باثباته. البدور الزاهرة ، ٢٧٣.

(٩) تكون ، ي : يكون ، ح و.

٢٨

الدنيا أو اصطفيناهم بسبب تذكرهم الآخرة والاعتداد لها وترغيب الناس فيها وتزهيدهم في الدنيا كما هو شأن الأنبياء.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧))

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [٤٧] أي المختارين للرسالة ، جمع مصطفى و (الْأَخْيارِ) جمع خير وهم رؤساء أهل الجنة.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩))

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ) ابن إبراهيم لقومك وصدق وعده (وَالْيَسَعَ) وهو خليفة إلياس (وَذَا الْكِفْلِ) وهو الذي كفل مائة نبي أطعمهم وكساهم وكتمهم من الأعداء (وَكُلٌّ) أي كل واحد منهم كان (مِنَ الْأَخْيارِ [٤٨] هذا ذِكْرٌ) أي ذكر الأنبياء ذكر جميل يذكرون به في الدنيا (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [٤٩] أي مرجع.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١))

قيل : لما أتم ذكر الأنبياء أراد أن يذكر على عقبه بابا آخر مناسبا لذكرهم (١) وهو ذكر الجنة وأهلها بقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ) وهو عطف بيان ل (حُسْنَ مَآبٍ) ، وال (عَدْنٍ) الخلد والإقامة ، قوله (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [٥٠] حال من (جَنَّاتِ عَدْنٍ) و (لَهُمُ) صلة الحال و (الْأَبْوابُ) فاعلها والرابط محذوف ، أي مفتحة الأبواب منها لهم ، يعني يفتح لهم الأبواب من جنات عدن ليدخلوها ، وإذا دخلوها جلسوا على الأرائك بالاتكاء فلذا قال (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي في الجنات وهو حال من المجرور في «لَهُمُ» (يَدْعُونَ فِيها) أي يبطلون في الجنة (بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي متنوعة (وَشَرابٍ) [٥١] متنوع.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢))

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي غاضات الأعين عن غير أزواجهن (أَتْرابٌ) [٥٢] جمع ترب ، أي وهم وهن على سن واحد فكأن التراب قد مسهم عند الولادة في وقت واحد ليكون المودة بينهما أثبت والمعاشرة أطيب.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥))

(هذا ما تُوعَدُونَ) بالتاء للخطاب (٢) ، أي يقال لهم هذا ما توعدون في الدنيا (لِيَوْمِ الْحِسابِ) [٥٣] أي لأجله.

(إِنَّ هذا) أي ما ذكرنا من الثواب (لَرِزْقُنا) أي لعطاؤنا للمتقين (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) [٥٤] الجملة حال من الرزق ، أي لا يكون له انقطاع وفناء.

(هذا) أي هذا المذكور وهو المعد للمتقين ، ثم ذكر ما هو المعد للطاغين فقال (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) أي للضالين بالكفر (لَشَرَّ مَآبٍ) [٥٥] أي مرجع في الآخرة.

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧))

قوله (جَهَنَّمَ) بدل من «شر مآب» وبيان لمرجعهم (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهادُ) [٥٦] أي موضع القرار.

قوله (هذا) مبتدأ ، خبره محذوف ، أي هذا العذاب لهم ، وقيل : خبره (٣)(فَلْيَذُوقُوهُ) والفاء زائدة ، وقيل : خبره (٤)(حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) [٥٧] و (فَلْيَذُوقُوهُ) اعتراض لاهتمام التهديد ، وال (حَمِيمٌ) الماء الحار الذي انتهى حره ،

__________________

(١) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٥ / ١٤٦.

(٢) «توعدون» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة ، وغيرهما بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٢٧٣.

(٣) أخذ المفسر هذا القول عن القرطبي ، ١٥ / ٢٢١.

(٤) هذا الرأي مأخوذ عن القرطبي ، ١٥ / ٢٢١ ؛ وانظر أيضا البيضاوي ، ٢ / ٣١٥.

٢٩

وال (غَسَّاقٌ) الماء البارد الذي انتهى برده ، وقيل : ما يسيل من جلود أهل النار (١) ، من غسق إذا سال.

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨))

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) بالإفراد ، أي ولهم عذاب آخر مثل العذاب الأول ، وبالجمع (٢) ، أي مذوقات اخر من مثل الشراب المذكور في الشدة والفظاعة ، قوله (أَزْواجٌ) [٥٨] صفة (آخَرُ) جمعا ومفردا ، والمراد الضروب أو يكون صفة للثلاثة وهي «حميم وغساق وأخر من شكله» ، أي هم يعذبون بأنواع مختلفة من العذاب الأليم.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩))

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ) أي يقول الخزنة للقادة إذا دخلوا النار مشيرين إلى الاتباع هذا جمع داخل (مَعَكُمْ) النار بالشدة مقترنين بكم في النار كما كانوا مقترنين بكم في الضلالة ، والاقتحام الدخول بالشدة ، قيل : «يضرب الزبانية المتبوعين والأتباع معا بالمقامع فيسقطون في النار» (٣) ، فثم دعا المتبوعون على أتباعهم قالوا (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا سعة عليهم في عيشهم (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) [٥٩] أي داخلوها معكم (٤) بالاستحقاق وهو تعليل كلام الرؤساء فردت الأتباع للمتبوعين.

(قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١))

(قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) يريدون أنتم أحق بهذا الدعاء لا نحن ، وعللوا ذلك بقولهم (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ) أي دين الكفر ، أي سبقتموه (لَنا) يعني بدأتم بالكفر قبلنا أو زينتموه وشرعتموه لنا أو الضمير للعذاب ، أي قدمتم العذاب لنا بعمل السوء فاتبعناكم أرادوا أنهم كانوا السبب في إغوائهم (فَبِئْسَ الْقَرارُ) [٦٠] أي بئس موضع القرار النار فثم (قالُوا) أي قال (٥) الأتباع (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي دين الكفر أو العذاب (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) أي مضاعفا (فِي النَّارِ) [٦١] ولما دخل الكفار النار وقعوا في التحير.

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣))

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى) في النار (رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ) في الدنيا (مِنَ الْأَشْرارِ) [٦٢] وعنوا بهم فقراء المسلمين كعمار وبلال وصهيب ، وقالوا (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) بقطع الهمزة (٦) للاستفهام بدلالة (أَمْ) بعده موبخين أنفسهم على استهزائهم المؤمنين في الدنيا مع إنكارهم الاستسخار بالفقراء على أنفسهم ، فلما لم يروهم في النار قالوا نحن لم نرهم لعدم دخولهم فيها (أَمْ زاغَتْ) أي مالت (عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) [٦٣] أي أبصارنا ، يعني حارت عنهم ولم نرهم وبهمزة الوصل صفة (رِجالاً) ، أي رجالا أخذناهم سخريا بالضم وهو الاستحقار ، وبالكسر (٧) هو التسخر ، يعني كنا نسخر منه ، و (أَمْ) في (أَمْ زاغَتْ) بمعنى بل ويتصل بقوله (ما لَنا لا نَرى) ، أي لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها فقسموا أمرهم بين كونهم من أهل الجنة وبين كونهم من أهل النار إلا أنه خفي عليهم مكانهم ، وقيل : جاز أن يتصل ب «اتخذنا» سواء كانت متصلة أو منقطعة بعد مضى (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) على الخبر أو الاستفهام وتقدر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير همزة (٨) ، لأن «أم» يدل عليها فلا فرق بين القراءتين في معنى (أَمْ).

__________________

(١) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٣ / ١٣٩.

(٢) «وآخر» : قرأ البصريان بضم الهمزة ، والباقون بفتحها وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٧٣.

(٣) ذكر الكلبي نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ٦١٢.

(٤) معكم ، ح : ـ وي.

(٥) قال ، و : ـ ح ي.

(٦) «اتخذناهم» : قرأ البصريان وخلف والأخوان بوصل الهمزة فيسقطونها في الدرج ويبتدئون بها مكسورة ، والباقون بهمزة قطع مفتوحة وصلا وابتداء. البدور الزاهرة ، ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٧) «سخريا» : ضم السين المدنيان والأخوان وخلف وكسرها سواهم. البدور الزاهرة ، ٢٧٤.

(٨) أخذه عن الكشاف مختصرا ، ٥ / ١٤٨.

٣٠

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

(إِنَّ ذلِكَ) أي الذي حكينا عنهم من التكالم (لَحَقٌّ) أي لواجب وقوعه يوم القيامة ، ثم بين ما هو فقال (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [٦٤] وهو بدل من ال «حق» أو من (ذلِكَ) شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين الخصمين من مثله.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧))

ثم أمر الرسول عليه‌السلام أن يقول لمشركي مكة تخويفا من عقابه بترك التوحيد بقوله (قُلْ) يا محمد (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي رسول أنذركم بعذاب الله تعالى فوحدوه لتأمنوا منه (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [٦٥] أي أنه قاهر لخلقه هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ) بالنقمة (الْغَفَّارُ) [٦٦] لمن تاب وآمن به (قُلْ هُوَ نَبَأٌ) أي القرآن خبر (١)(عَظِيمٌ) [٦٧] لأنه نازل من رب العالمين أنذركم به.

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨))

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [٦٨] أي تاركون الاستدلال به على صدقي فتؤمنون ولو مما لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة.

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

قوله (ما كانَ لِي) بفتح الياء وسكونها (٢)(مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) احتجاج من النبي عليه‌السلام لصحة نبوته بأن ما ينبئ عن الملأ الأعلى الذين هم أصحاب القصة من الملائكة وآدم وإبليس وعن تقاولهم في السماء واختصاصهم بالوحي من الله تعالى لا عن علم يؤخذ من أهل العلم أو من قراءة الكتب ، أي لم يكن لي علم بالملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [٦٩] في شأن آدم ويتكلمون حين قال الله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ مَنْ يُفْسِدُ فِيها)(٣) ، وإنما علمت ذلك بالوحي من الله تعالى لا يقال يلزم من هذا أن يكون الله من الملائكة الأعلى ، لأن التقاول كان بين الله وبينهم لأنا نقول إن مقاولة الله كانت بواسطة ملك فلا يلزم ذلك (إِنْ يُوحى) «إِنْ» نافية ، أي ما يوحى (إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [٧٠] يعني لم يوح إلي إلا أنما أنا نذير ، أي للإنذار فحذف اللام واتصل به الفعل ، فمحله نصب ، ويجوز أن يكون رفعا ، أي ما يوحى إلي إلا هذا وهو أن أنذر وأبلغ فحسب ولم أومر بغيره وأبدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١))

قوله (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [٧١] وهو آدم ، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يعلمون البشر قبل خلق آدم لوصفه تعالى إياه لهم بقوله إنه خلق من نعته كذا وكذا فاختصر على الاسم حين حكاه.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فأحييته (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [٧٢] أمرهم بالوقوع للسجدة لآدم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ) للإحاطة (أَجْمَعُونَ) [٧٣] للاجتماع ، أي سجدوا جميعا في وقت واحد وهو سجود التبجيل لا سجود العبادة (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي أبى عن السجود (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [٧٤] أي صار منهم ولم يكن كافرا قبل ذلك أو كان كافرا في علمه تعالى ، والاستثناء متصل نظرا إلى التغليب عليه فاستثنى كواحد منهم لطول الصحبة معهم.

__________________

(١) خبر ، وي : ـ ح.

(٢) «لي» : فتح الياء حفص وأسكنها غيره. البدور الزاهرة ، ٢٧٤.

(٣) البقرة (٢) ، ٣٠.

٣١

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧))

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) بالتشديد والفتح تثنية (١) ، والمراد بارادتي وحكمتي ، لأنه تعالى منزه عن الجارحة ، وقيل : معنى (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أي بغير واسطة (٢)(أَسْتَكْبَرْتَ) بهمزة الاستفهام للتوبيخ ، أي أبيت عن السجود متكبرا الآن (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [٧٥] أي ممن علوت وتكبرت قديما ، ومعنى الهمزة التقرير و (أَمْ) بمعنى بل.

(قالَ) إبليس (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)(٣) وعلله بقوله (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [٧٦] فكيف أسجد لمن هو دوني ، لأن النار تغلب الطين وتأكله وقد علم فساد قول إبليس وقياسه من قبل.

(قالَ) تعالى (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [٧٧] أي مرجوم وهو المطرود ، لأن من طرد رمي بالحجارة على أثره.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١))

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [٧٨] أي يوم الجزاء ولا يتوهم منه أن لعنة إبليس تنقطع ثمه لقوله تعالى (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(٤) ، لكن لعنة تنزل عليه تنسى (٥) عنده اللعنة الأولى فكأنها انقطعت.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي أمهلني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [٧٩] قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [٨٠] أي الممهلين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [٨١] أي عند الله تعالى لا يستقدم ولا يستأخر ، وقيل : هو الوقت الذي يقع فيه النفخة الأولى ويومه اليوم الذي وقعت النفخة جزء من أجزائه (٦).

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ) هو أقسام من إبليس بعزة الله وهي (٧) سلطانه وقهره (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [٨٢] إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [٨٣] قالَ) الله تعالى (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ) بالرفع والنصب (٨) في الأول ، أي أنا الحق أو الحق قسمي وأحق الحق ، واتفقوا في نصب الثاني بالفعل الذي بعده ، أي والحق (أَقُولُ) [٨٤] وجواب القسم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) يا إبليس (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) في دينك من ذريتك (مِنْهُمْ) أي من الناس ، قوله (أَجْمَعِينَ) [٨٥] تأكيد للضمير في (مِنْهُمْ) ، ويجوز أن يكون تأكيدا للكاف في (مِنْكَ) مع من تبعك ، أي من جميع المتبوعين والتابعين.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧))

(قُلْ) يا محمد (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي لا أطلب (٩) على الذي أنبئكم به من القرآن (مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [٨٦]) شيئا من تلقاء نفسي (إِنْ هُوَ) أي ما هو القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [٨٧] أي عظة للجن والإنس.

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أي خبر القرآن وصدقه يا كفار مكة (بَعْدَ حِينٍ) [٨٨] أي بعد مدة ، يعني (١٠) يوم بدر أو يوم الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام في الدنيا.

__________________

(١) هذه القراءة منقولة عن الكشاف ، ٥ / ١٥٠.

(٢) هذا المعنى مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ١٥٠.

(٣) أي قاله إبليس ، + و.

(٤) الأعراف (٧) ، ٤٤.

(٥) تنسى ، ح و : فنسي ، ي.

(٦) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٥ / ١٥١.

(٧) وهي ، وي : وهو ، ح.

(٨) «فالحق» : قرأ عاصم وخلف وحمزة برفع القاف ، والباقون بنصبها ، ولا خلاف بينهم في نصب «والحق». البدور الزاهرة ، ٢٧٤.

(٩) لا أطلب ، و : ـ ح ي.

(١٠) يعني ، وي : ـ ح.

٣٢

سورة الزمر

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١))

قوله (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مضاف إلى المفعول ، مبتدأ ، خبره (مِنَ اللهِ) أي تنزيل جبرائيل القرآن من عند الله (الْعَزِيزِ) المنتقم ممن لا يصدقه (الْحَكِيمِ) [١] في أمره لا كما يقوله المشركون أن محمدا تقوله (١) من تلقاء نفسه.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢))

قوله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي ملابسا بالصدق على أنه من عند الله بيان لما في الكتاب المصدر كالعنوان للكتاب ، أي أنزلنا إليك جبرائيل بالكتاب (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [٢] أي وحد الله ممحضا له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣))

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) من الهوى والشرك ومن كل شائبة كدر ليقبله لاطلاعه على الغيوب والأسرار قاطبة وأراد به قومه ، أي وحدوا الله ولا تشركوا به شيئا واعبدوه مخلصين له الدين لتتقربوا (٢) به إليه رحمة لكم لا لأن به حاجة إلى إخلاص عبادتكم ، قوله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) مبتدأ ، خبره قالوا مضمرا قبل (ما نَعْبُدُهُمْ) ، أي الكفار الذين اتخذوا (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي الهة كالأصنام وعيسى وعزير والملائكة للعبادة قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا) بالشفاعة (إِلَى اللهِ زُلْفى) أي تقريبا ، ويجوز أن يكون المراد من الذين المعبودين ، والعائد إليه محذوف ، والضمير في (اتَّخَذُوا) للعابدين وإن لم يجز ذكرهم لكونه مفهوما ، وتقديره : والذين اتخذهم الكفار آلهة من دون الله قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ) الآية ، لأنهم كانوا إذا سئلوا لم تعبدون غير الله من الأصنام وعيسى وغيره قالوا إنما نعبدهم ليشفعوا لنا ويقربونا عند الله (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي بين العابدين والمعبودين أو بين المسلمين والكافرين (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الدين فيدخل المسلمين والكافرين النار (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي لا يرشد إلى دينه وهو الإسلام (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) في أن آلهته تقربه وتشفع له (كَفَّارٌ) [٣] بالله لعبادته غيره ، وقيل : بسبب نسبة الولد إليه تعالى (٣).

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

ثم نزه الله نفسه عن الولد فقال (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى) أي لاختار (مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من خلقه ، أي من أشرف (٤) خلقه عنده ولم يخص مريم ولا عيسى بذلك (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ) أي لا شريك

__________________

(١) تقوله ، و : يقوله ، ح ي.

(٢) لتتقربوا ، ح و : ليتقربوا ، ي.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) أشرف ، وي : أشراف ، ح.

٣٣

له (الْقَهَّارُ) [٤] لجميع خلقه فهو منزه عن الصاحبة والولد كما هو منزه عن الشريك لانتفاء المجانسة بينه وبين غيره.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي للحق لا للباطل وهو إشارة إلى توحيده لأن المخلوقين عاجزون عنه (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يلف أحدهما على الآخر بتغييبه فيه أو بنقص أحدهما والزيادة في الآخر فيلف عليه كما يلف اللباس على اللابس (١)(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمصالح العباد (كُلٌّ) منهما (يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو مدة الدنيا أو إلى أقصى منازله (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْغَفَّارُ) [٥] لخلقه بتأخير العذاب فيجب أن يعبد لذلك ولأنه (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي آدم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حواء ، (ثُمَّ) فيه لترتيب الخبر لفظا لا لمعنى التراخي فيه ، إذ هما آيتان من آيات الواحدانية إلا أن إحديهما كانت أغرب وأدخل في كونها آية ، إذ لم يجر في العادة خلق انثى غير حواء من قصيرى رجل (٢) ، فعطفها (٣) على الآية الأولى ب (ثُمَّ) للدلالة على مزيتها وتراخيها عنها في كونها آية عجيبة فهو من التراخي في الحال لا من التراخي في الوجود (وَأَنْزَلَ) أي أحدث (لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي أصناف كما ذكر تفسيره في سورة الأنعام (٤)(يَخْلُقُكُمْ) أي الله يخلقكم وينشئكم (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) آخر (٥) يعني يجعلكم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ثم يكسوها لحما ثم خلقا سويا ، أي طفلا (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) أي (٦) ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، وهي وعاء الولد في الرحم (ذلِكُمُ اللهُ) أي خالق هذه الأشياء هو الله (رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي له (٧) ملك السموات والأرض (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود سواه (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [٦] أي كيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره بعد ما علمتم أنه خالق تحتاجون إليه في كل حال ولا حاجة به إليكم ، وبين ذلك بقوله (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي عن إيمانكم وعبادتكم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) رحمة لهم ، لأنه يوقعهم في العذاب والهلاك (وَإِنْ تَشْكُرُوا) أي إن تؤمنوا به وتعبدوه (٨)(يَرْضَهُ) بسكون الهاء وضمها مع المد والقصر (٩) ، أي يرض الشكر (لَكُمْ) لأنه سبب فلاحكم وفوزكم ، لا لأن (١٠) منفعة إيمانكم ترجع (١١) إليه ، لأن الغني الذي لا يجوز عليه الحاجة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم في الآخرة (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [٧] أي بما في القلوب.

__________________

(١) اللابس ، ح و : الملابس ، ي.

(٢) راجع في هذا الموضوع إلى تفسير قوله «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» ، رقم الآية (٣٤) من سورة البقرة.

(٣) بثم ، + ح.

(٤) انظر سورة الأنعام (٦) ، ١٤٣.

(٥) آخر ، وي : ـ ح.

(٦) أي ، ي : ـ ح و.

(٧) له ، ح : ـ وي.

(٨) أي إن تؤمنوا به وتعبدوه ، ح ي : أي إن يؤمنوا به ويعبدوه ، و.

(٩) «يرضه» : قرأ نافع وعاصم ويعقوب وحمزة بضم الهاء من غير صلة ، والمكي وابن ذكوان والكسائي وابن وردان وخلف في اختياره بالضم مع الصلة والسوسي وابن جماز بإسكانها ، ولدوري أبي عمرو وجهان الإسكان والضم مع الصلة ولهشام وجهان أيضا الإسكان والضم من غير صلة. البدور الزاهرة ، ٢٧٤.

(١٠) لا لأن ، ح ي : إلي لأن ، و.

(١١) ترجع ، وي : يرجع ، ح.

٣٤

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) أي إذا أصاب الكافر شدة في جسده أو في ماله وولده (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي مقبلا إليه بدعائه معرضا عن أصنامه (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أي أعطاه ربه (نِعْمَةً مِنْهُ) أي عافية مكان الشدة (نَسِيَ) أي ترك (ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) ليكشف ضره وهو الله (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أي أمثالا وشركاء (لِيُضِلَّ) أي ليصد غيره (عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن (١) دينه وهو الإسلام ، وقرئ بفتح الياء (٢) ، أي ليترك دين الله (قُلْ) يا محمد للكافر (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) أي عش زمانا (قَلِيلاً) مع كفرك (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [٨] أي من أهلها.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) بالتشديد ف «أم» منقطعة أو متصلة حذف أحد المستويين ، تقديره : الكافر خير أم من هو قانت ، أي مطيع ، وقرئ بالتخفيف (٣) فالهمزة للنداء ، فمعناه : يا من قانت (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي) الآية ، وقيل : للاستفهام و «من» مبتدأ ، خبره محذوف ، تقديره : أمن هو قانت كغيره ، حذف لدلالة ذكر الكافر قبله عليه (٤) ، و (آناءَ اللَّيْلِ) ساعات ، قوله (ساجِداً وَقائِماً) حالان من ضمير (قانِتٌ) ، أي هو في الصلوة آناء الليل (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي عذابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي مغفرته ونجاته بالجنة ، قيل : نزلت الآية في أبي بكر (٥) أو عمر أو عثمان (٦) أو سلمان (٧) أو في كل مؤمن قانت ، ثم بين أن لا مساواة بين المطيعين والطاغين بقوله (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهو وارد على سبيل التشبيه ، أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون ، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون ، قيل : نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة (٨)(إِنَّما يَتَذَكَّرُ) أي يعتبر ويتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) [٩] أي أصحاب الفهوم والأذهان في صنعي وقدرتي.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي قل يا محمد لأصحابك (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) في الأمور كلها واثبتوا على توحيده (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي عملوا طاعة الله (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي الجنة ، والظرف متعلق ب (أَحْسَنُوا) لا ب (حَسَنَةٌ) ، والسدي علقه ب (حَسَنَةٌ) وفسرها بالصحة (٩) ، وكان حق الظرف أن يتأخر ليكون صفة ل (حَسَنَةٌ) إلا أنه يقدم ليكون بيانا لمكانها (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) نزل لحث المفرطين في الإحسان على الهجرة عن أرض لا يتمكنون فيها من صرف الهمم إليه لموانع يمنعهم منه (١٠) ، أي لا عذر لهم فيه لأن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فينبغي أن يهاجروا ولا يقيموا فيها بالعجز وهم يشاهدون فيها بالمنكرات والمعاصي ولا يعتلون بأهل ولا مال اقتداء بالأنبياء والصالحين ، ويصبرون على ترك المألوفات ، قال ابن جبير رضي الله عنه : «من أمر بالمعاصي فليهرب» (١١) ، وقيل : هو للذين كانوا في بلد المشركين كمكة فأمروا بالمهاجرة عنه إليه المدينة (١٢) ، أي انتقلوا إليها

__________________

(١) عن ، ح : ـ وي.

(٢) «ليضل» : فتح الياء المكي والبصري ورويس ، وضمها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٧٥.

(٣) «أم من» : خفف الميم نافع وابن كثير وحمزة ، وشددها الباقون. البدور الزاهرة ، ٢٧٥.

(٤) نقل المؤلف هذه الأقوال عن الكشاف ، ٥ / ١٥٦.

(٥) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٣٠٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٧.

(٦) عن ابن عمر ، انظر الواحدي ، ٣٠٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٧.

(٧) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٥ / ٧.

(٨) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ١٥٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٠٥ (عن مقاتل) ؛ والبغوي ، ٥ / ٧ (عن الكلبي).

(٩) انظر الكشاف ، ٥ / ١٥٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٧.

(١٠) اختصره من الكشاف ، ٥ / ١٥٦.

(١١) انظر البغوي ، ٥ / ٧.

(١٢) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ١٥٦.

٣٥

واعملوا لآخريكم (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على ترك الأهل والمال والأوطان وتلقي البلاء والشدة منه (أَجْرَهُمْ) في الآخرة (بِغَيْرِ حِسابٍ) [١٠] أي بغير مكيال هو حال من ال «أجر» ، يعني موفرا.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢))

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [١١] أي التوحيد (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [١٢] في زماني أو من أهل بلدي ، وقيل : مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة (١) ، وجاز العطف بين الأمرين مع اتحاد اللفظ لاختلاف جهتيهما ، لأن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء آخر والأمر به ليكون المأمور أسبق في الدين شيء آخر (٢) فلا يكونان واحدا يمنع العطف.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥))

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي إن أشركته (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [١٣] أي من أن ينزل علي عذاب يوم القيامة ، ثم أمره أن يهددهم بقوله (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) قدم المفعول لإفادة التخصيص (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) [١٤] أي توحيدي من الشرك والرياء ، فاقتدوا بي في هذا الإخلاص وإن لم تقتدوا بي (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) من الآلهة وفي تخييرهم توبيخ وتهديد شديد لهم ، قيل : منسوخ بآية السيف (٣) ، لا يقال في القولين تكرير (٤) ، أي في قوله (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) الآية وقوله من قبل (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) الآية ، لأنه في الأول مأمور من الله باحداث عبادته بالإخلاص وفي الثاني إخبار عن نفسه أنه يخص الله بعبادته دون غيره فلا تكرير ، إذ الكلام أولا واقع في نفس الفعل وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذا رتب عليه قوله (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) ، ونزل حين قال المشركون للنبي عليه‌السلام خسرت بأن خالفت دين آبائك (٥)(قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي الكاملين في الخسران (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بفوات الجنة ودخول النار (وَ) خسروا (أَهْلِيهِمْ) وهم المعدون لهم في الجنة من الحور والولدان لو آمنوا بعدم وصولهم إليهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ) أي الخسران (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [١٥] أي الظاهر في غاية الفظاعة حيث خسروا أهليهم في الجنة.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) أي أطباق (مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي فرش من النار (ذلِكَ) أي الذي ذكرت من العذاب (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) المؤمنين ليتقوه واجتنبوا مما يوقعهم في ذلك العذاب ، ويدل عليه قوله (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) [١٦] أي لا تتعرضوا لما يوجب سخطي.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨))

ونزل في أبي ذر وسلمان وزيد بن عمرو وفي كل موحد في الجاهلية (٦)(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا) أي امتنعوا وبعدوا عن عبادتهم (الطَّاغُوتَ) وهو الوثن ، قوله (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل من «الطَّاغُوتَ» (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أي رجعوا إلى عبادة الله ، وقوله (لَهُمُ الْبُشْرى) خبر المبتدأ وهو (الَّذِينَ) والبشري البشارة بالثواب عند حضور الموت وحين يحشرون (فَبَشِّرْ عِبادِ [١٧] الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) من الله بالياء وتركها (٧) أراد من هؤلاء العباد الذين

__________________

(١) نقل المصنف هذا المعنى عن الكشاف ، ٥ / ١٥٦.

(٢) آخر ، ح : ـ وي.

(٣) وهذا الرأي مأخوذ عن القرطبي ، ١٥ / ٢٤٣ ؛ وانظر أيضا هبة الله بن سلامة ، ٧٧.

(٤) تكرير ، وي : تكريرا ، ح.

(٥) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٦) عن ابن زيد ، انظر الواحدي ، ٣٠٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٩.

(٧) «عباد» : قرأ السوسي بزيادة ياء بعد الدال مفتوحة وصلا ساكنة وقفا ، وقرأ يعقوب باثبات الياء وقفا ، والباقون بحذفها مطلقا. البدور الزاهرة ، ٢٧٥.

٣٦

اجتنبوا الطاغوت وأنابوا إلى الله لا غيرهم ، لأنه تعالى يريد أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة فوضع الظاهر موضع المضمر ، وأراد (١) أن يكونوا نقادا في الدين من حيث التمييز بين الحسن والأحسن ، أي إذا اعترضهم أمران واحد ومندوب اختاروا الواجب وكذا المباح والمندوب حرصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا ، والمراد من (الْقَوْلَ) القرآن وغيره ، أي يستمعونهما (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي القرآن أو يستمعون القرآن فيتبعون أحسن ما فيه من أحكامه نحو القصاص والعفو فيأخذون العفو لقوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٢)(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي وفقهم الله لأخذ عزائم القرآن ، وهي أحسن من المندوبات وهذه أحسن من المباحات (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [١٨] أي ذووا العقول الكاملة.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩))

(أَفَمَنْ حَقَّ) أي وجب (عَلَيْهِ) من الكفار (كَلِمَةُ الْعَذابِ) وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(٣) ، و (مَنْ) شرط والفاء عطف على مقدر والهمزة للإنكار ، تقديره : أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه العذاب على معنى الشرط ، وجزاؤه محذوف وهو فأنت تهديه بدلالة قوله (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [١٩] وقيل : جزاؤه (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ) ، وكررت الهمزة لتأكيد معنى الإنكار والاستبعاد ووضع (مَنْ فِي النَّارِ) موضع الضمير جعل استحقاقهم النار كأنهم فيها في الدنيا (٤) ، وجعل إنذار النبي عليه‌السلام إياهم كانقاذهم منها ، والمعنى : أنت لا تقدر على هداية الكفار المستحقين دخول النار بتحصيل للإيمان فيهم.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

ثم ذكر حال المتقين بعد ذكر حال الكافرين فقال (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) أي وحدوه وأطاعوه (لَهُمْ غُرَفٌ) أي علالي (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) في الجنة (مَبْنِيَّةٌ) كبناء المنازل في الأرض بعضها فوق بعض (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من (٥) تحت الغرف الفوقانية والتحتانية (الْأَنْهارُ) من غير تفاوت بين العلو والسفل ، قوله (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أي وعده الله وعدا في القرآن (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ [٢٠] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي من السماء (ماءً) وهو المطر (فَسَلَكَهُ) أي أدخله (يَنابِيعَ) عيونا ومجاري (فِي الْأَرْضِ) فكل ماء في الأرض من السماء (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) من أخضر وأحمر وأصفر وغيرها (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يتم ويشتد (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أي يابسا بعد خضرته أو متغيرا عن حاله (ثُمَّ يَجْعَلُهُ) أي ثم ترى يجعله (حُطاماً) أي فتاتا متكسرا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من صنع الله (لَذِكْرى) أي لعظة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) [٢١] أي لذوي العقول.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢))

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ) أي وسع الله (٦)(صَدْرَهُ) أي قلبه (لِلْإِسْلامِ) أي لقبول التوحيد (فَهُوَ عَلى نُورٍ) أي على هدى وشريعة واضحة (مِنْ رَبِّهِ) وجواب الشرط محذوف وهو كمن قسا قلبه وطبع عليه وتقدير الهمزة للإنكار وفاء العطف : أاستوى المؤمن والكافر (فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ) الآية (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي العذاب الشديد لمن قست ويبست قلوبهم (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي من سماع القرآن ، لأن الكفار كانوا إذا سمعوا القرآن وإنذاره ازدادوا كفرا وإعراضا عن ذكر الله (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٢٢] أي في خطأ ظاهر.

__________________

(١) وأراد ، ح : ـ وي.

(٢) البقرة (٢) ، ٢٣٧.

(٣) هود (١١) ، ١١٩ ؛ السجدة (٣٢) ، ١٣.

(٤) اختصره المصنف من الكشاف ، ٥ / ١٥٨.

(٥) من ، وي : ـ ح.

(٦) الله ، ح : ـ وي.

٣٧

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣))

روي : أن المومنين قالوا لمن آمن من أهل الكتاب أخبرنا عن التورية ، فان فيها علم الأولين والآخرين فنزل (١)(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وقيل ملت الصحابة ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا حديثا فنزل ذلك (٢) ، أي أنزل إليكم القرآن وهو أحسن من سائر الكتب ، لأنها نسخت به (٣) ، قوله (كِتاباً) بدل من (أَحْسَنَ) أو حال منه (مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والنظم والصحة والحكم ، يعني لا يختلف ولا ينتقض بعضه ببعض ، قوله (مَثانِيَ) صفة (مُتَشابِهاً) ، جمع مثنى ، أي ثني فيه ، يعني كرر الوعد والوعيد والأمر والنهي والثواب والعقاب والقصص ، وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة فما لم يتكرر عليها لم يعمل عملها (٤) ولم يرسخ فيها أو لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل ، وإنما صح وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب ذو فضول من سور وآيات وأحكام ومواعظ وقصص وأمثال كما أن الإنسان ذو عظام وعروق وأعصاب ، قوله (تَقْشَعِرُّ) وصف ثالث ل «الكتاب» ، والاقشعرار الرعدة في الجلود والأعضاء من الخوف ، المعنى ترتعد وتنقبض (مِنْهُ) أي من سماع القرآن وآيات وعيده (جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) خوفا وإجلالا لله تعالى ، قيل : إنما ذكرت الجلود وحدها ، لأن ذكر الخشية هنا أغنى عن ذكر القلوب لكونها محل الخشية ، وإنما قرنت القلوب بها في قوله (ثُمَّ تَلِينُ) أي تطمئن وتسكن (جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) ورحمته لزوال الخشية ومجيء الرجاء في قلوبهم مكانها بعد الاقشعرار (٥) ، يعني تقشعر جلودهم عند الوعيد بآية العذاب وتلين عند الوعد بآية الرحمة والمغفرة وإنما اقتصر بذكر الله من ذكر الرحمة لما تحقق أن رحمته سابقة على غضبه ، فاذا ذكر الله لم يخطر بالبال من صفاته إلا كونه رحيما ، قيل : «هذا الوصف نعت أولياء الله تعالى» (٦)(ذلِكَ) أي الكتاب الذي ذكر (هُدَى اللهِ) أي سبب توفيقه (يَهْدِي بِهِ) أي بالقرآن (مَنْ يَشاءُ) إلى دينه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [٢٣] أي من (٧) موفق يهديه بعد خذلان الله تعالى.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤))

(أَفَمَنْ يَتَّقِي) روي : أن الكفار إذا كان يوم القيامة غلت أيديهم إلى أعناقهم فألقوا في النار منكوسين فلا يستطيعون أن يدفعوا النار إلا بوجوههم وهو اتقاؤهم (٨) ، أي أيستوي الآمن من النار والمعذب فيها (٩) فمن يدخل النار فيتقي (بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) أي أشده كمن أمن منه بدخول الجنة لأنه لا يصل النار إلى وجهه ، يعني ليسا سواء (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ) أي قال الخزنة (لِلظَّالِمِينَ) أي للعاصين (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [٢٤] أي جزاءه من الكفر والمعاصي.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل أهل مكة من الكافرين أنبياءهم (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [٢٥] أي من جهة لا يتوهمون أن العذاب يأتيهم منها لشدة غفلتهم (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) أي الذل من القتل والمسخ وغيرهما (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أشد مما عذبوا في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [٢٦] ولكنهم ما علموا.

__________________

(١) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ١٤٨.

(٢) عن ابن مسعود ، انظر الكشاف ، ٥ / ١٥٩.

(٣) هذا القول منقول عن السمرقندي ، ٣ / ١٤٨.

(٤) لم يعمل عملها ، ح ي : لم تعمل عمله ، و.

(٥) اختصره من الكشاف ، ٥ / ١٦٠.

(٦) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٥ / ١٢.

(٧) من ، ح و : ـ ي.

(٨) اختصره المفسر من البغوي ، ٥ / ١٣ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٦٠.

(٩) فيها ، ح و : بها ، ي.

٣٨

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧))

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا) أي بينا (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل شبه بين ، بعضه مفسرا وبعضه مبهما (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [٢٧] أي لكي يتعظوا.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

قوله (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال مؤكدة من الكتاب أو بدل منه أو نصب ب «يَتَذَكَّرُونَ» (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي غير ذي اختلاف فيه ولا تناقض ولكنه مستقيم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [٢٨] أي لكي يتقوا الشرك.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩))

(ضَرَبَ اللهُ) للكافرين (١)(مَثَلاً) أي شبها يعبد آلهة له (رَجُلاً) بدل من (مَثَلاً) ، أي بين رجلا (فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي متنازعون لسوء أخلاقهم يأمره (٢) بعضهم بأمر وينهاه الآخر منه (٣) ، يقال تشاكس إذا اختلف وتنازع (وَرَجُلاً) أي وبين له أيضا رجلا (سَلَماً) أي خالصا (لِرَجُلٍ) واحد لا ينازعه أحد فيه ، وقرئ «سلما» بفتح اللام (٤) ، أي ذا سلامة من الشرك ، المعنى : أن الله ضرب مثلا عبدا بين موالي مخلتفين يتنازعون بالأمر والنهي وعبدا خالصا لرجل لا شركة له لأحد (هَلْ يَسْتَوِيانِ) في صفة العبودية والرجولية (مَثَلاً) وهو تمييز ميز بالواحد دون مثلين لإرادة الجنس ، والاستفهام للإنكار ، أي لا يستويان لأن الكافر كعبد له موال (٥) وهم آلهته اشتركوا فيه ، فعرضت لكل واحد منهم إليه حاجة في وقت واحد (٦) فهو متحير لا يدري أي مواليه يرضى ، والمؤمن كعبد له مولى واحد فهو قائم بصدد خدمته لا يتحير في إرضائه بخدمته (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي قولوا الحمد لله على تفضيل من اختاره لنفسه على من شغله بعبودية ما دونه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) من الكفار (لا يَعْلَمُونَ) [٢٩] أي عبادة رب واحد خير من عبادة آلهة شتى.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

قوله (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [٣٠] نزل حين قال كفار مكة نتربص بمحمد حتى يموت (٧) ، فقال تعالى إنك ستموت وإنهم سيموتون فلا شماتة بالموت ، وإنما سماهم «ميتين» لأن كل واحد يموت لا محالة فهم الآن في حساب الأموات (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بعد البعث (تَخْتَصِمُونَ) [٣١] أي تتحاكمون وتتكلمون بحججكم الكافر مع المؤمن والظالم مع المظلوم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم القيامة» (٨) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال الخصومة بين الناس حتى الروح والجسد» (٩) ، فالاية محمولة على اختصام الجميع ولا يشكل بقوله تعالى (لا) تخصموا (لَدَيَ)(١٠) لأن في القيامة ساعات كثيرة وأحوالا مختلفة مرة يختصمون ومرة لا يختصمون (١١) ، وقيل : قوله تعالى (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)(١٢)

__________________

(١) للكافرين ، ح ي : للكافر ، و.

(٢) يأمره ، و : يأمر ، ح ي ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٤٩.

(٣) منه ، ح ي : منهم ، و.

(٤) «سلما» : قرأ المكي والبصريان بألف بعد السين مع كسر اللام ، والباقون بحذف الألف وفتح اللام. البدور الزاهرة ، ٢٧٥.

(٥) موال ، ح و : موالي ، ي.

(٦) واحد ، وي : ـ ح.

(٧) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ١٥٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٦١.

(٨) روى البخاري نحوه ، المظالم ، ١٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٥.

(٩) انظر السمرقندي ، ٣ / ١٥٠. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كانت ... حتى الروح والجسد ، ح ي : ـ و.

(١٠) ق (٥٠) ، ٢٨.

(١١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم القيامة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال الخصومة بين الناس حتى الروح والجسد ، + و.

(١٢) ق (٥٠) ، ٢٨.

٣٩

في حق المشركين وقوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) في أهل القبلة في مظالم كانت بينهم (١).

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢))

(فَمَنْ) أي أي رجل (أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بنسبة الولد والشريك إليه (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي بالقرآن (إِذْ جاءَهُ) يعني لا أحد أظلم منه (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي منزل (لِلْكافِرِينَ) [٣٢] به.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣))

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) أي بالقرآن وهو محمد عليه‌السلام (وَصَدَّقَ بِهِ) أي والذي أقر بصدق ما جاء به (٢) محمد عليه‌السلام ، وهو كل من آمن به واتبعه ، حذف (الَّذِي) من الثاني بدلالة الأول (أُولئِكَ) أي هولاء المصدقون بالقرآن (هُمُ الْمُتَّقُونَ) [٣٣] من الشرك والمعاصي.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤))

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) أي ما يريدون (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في الجنة (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) [٣٤] أي ثواب المطيعين بالإخلاص.

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

(لِيُكَفِّرَ اللهُ) أي قال الله تعالى ذلك ليكفر الله أي يمحو (عَنْهُمْ) ويغفر لهم (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي أقبح أعمالهم (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) أي ثوابهم (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [٣٥] أي يجزيهم بأحسن أعمالهم ولا يجزيهم بأسوئها ، كأنهم ليسوا ذوي زلل وخطايا ، وإضافة ال «اسوء» وال «أحسن» ليست للتفضيل بل من باب إضافة الشيء إلى ما هو بعضه ، يعني أن العقاب والثواب لأجل الأسوء والأحسن من الأعمال والباقي تبع لهما.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦))

قوله (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) نزل حين قال كفار قريش يا محمد لا تزال تطعن آلهتنا فاحذر كيلا يصيبك منها سوء (٣) ، فقال تعالى أليس الله بكاف عبده محمدا من شر كل ذي شر فلا تخف (وَ) هم (يُخَوِّفُونَكَ) يا محمد (بِالَّذِينَ) أي بالآلهة الذين يعبدونهم (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله تعالى ، وهي الأصنام بقولهم لك لعلها تقتلك أو تخبلك ، المعنى : أن الأنبياء قبلك قصدوا بالسوء فكفاهم الله ذلك ويكفيك من كل سوء كما كفاهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [٣٦] أي مرشد يرشده.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي خاذل يخذله (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) في ملكه (ذِي انْتِقامٍ) [٣٧] من عدوه.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي كفار مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي خلقهما الله (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) أي ما تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) من الآلهة (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ) أي ببلاء ومرض في جسدي وضيق في معيشتي أو بعذاب في الآخرة ، وإنما فرض الإرادة في نفسه بقوله (إِنْ أَرادَنِيَ) دونهم بقوله إن إرادكم لأنهم خوفوه بمضرة الأوثان وتخبيلها ، فأمر بأن يقررهم أولا بأن خالق العالم هو الله تعالى وحده ، ثم يقول لهم تبكيتا فان أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضر من الفقر والمرض وغيرهما من النوازل (هَلْ هُنَّ) أي الأصنام

__________________

(١) أخذ المصنف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٣ / ١٥٠.

(٢) بصدق ما جاء به ، و : بصدق ما جاء ، ي ، بما جاء به ، ح.

(٣) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٣ / ١٥١.

٤٠