عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤))

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) أي ألا يستمعون (الْقُرْآنَ) فلا يتفكرون فيه من وعده ووعيده فيعرفون الحق فيؤمون به (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [٢٤](أَمْ) فيه بمعنى بل وهمزة التقرير ، أي بل أعلى قلوبهم أقفالها ، أي أغطيتها من وصول الذكر إليها بشؤم أعمالهم القبيحة ، فلذلك لا يتدبرونه ولا يعونه وأراد بها قلوب المنافقين وأعداء الدين ، قيل : نكر ال (قُلُوبٍ) إما للدلالة على بعض القلوب وإما لأن يراد بها قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك وإما أضيفت ا ل «أقفال» إليها لإرادة الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر التي استغلقت لا تنفتح (١).

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) نزل في المنافقين (٢) أو اليهود الذين عرفوا نعت النبي عليه‌السلام فكفروا به (٣) ، أي إن الذين رجعوا إلى الكفر سرا (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي ظهر لهم حقية الإسلام فنافقوا أو ظهر لهم في التورية أن محمدا عليه‌السلام حق ودينه حق ، فرجعوا إلى الإنكار بعد العرفان ، قوله (الشَّيْطانُ) مبتدأ ، خبره (سَوَّلَ) أي زين (لَهُمُ) أعمالهم السوء ، وهما في محل الرفع خبر «إِنَّ الَّذِينَ» (وَأَمْلى لَهُمْ) [٢٥] معلوما ومجهولا (٤) ، أي مد الله في عمرهم ، يعني أمهلهم في ارتكاب معاصيهم ، ثم أخذهم أو الإملاء للشيطان بأن قال لهم لا جنة ولا نار ولا حساب أو خيل لهم تطويل مدة العمر والبقاء فارتكبوا المعاصي وتركوا الهدى.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦))

(ذلِكَ) أي الإضلال والخذلان (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أن المرتدين (قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي القرآن وهم المشركون من بني قريظة والنضير (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي أمر لمعاونة على عداوة النبي عليه‌السلام وتثبيط الناس عن الجهاد معه ، فانهم قالوا ذلك سرا فأظهره الله تعالى بدلالة قوله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) [٢٦] فيما بينهم ، قرئ بالفتح جمعا وبالكسر مصدرا (٥).

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧))

ثم خوفهم الله تعالى بقوله (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ) أي كيف يكون حالهم إذا قضيت (الْمَلائِكَةُ) أرواحهم حال كونهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [٢٧] أي ظهورهم بمقامع الحديد عند قبض الأرواح ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب الملائكة» ـ أي ملك الموت وأعوانه ـ وجهه ودبره» (٦) ، وقيل : يضربون ذلك في النار يوم القيامة (٧).

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))

(ذلِكَ) أي الضرب في الموت أو في النار (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر وتكذيب محمد عليه‌السلام (وَكَرِهُوا) أي أبغضوا (رِضْوانَهُ) أي العمل بما يرضيه (فَأَحْبَطَ) أي أبطل الله (أَعْمالَهُمْ) [٢٨] أي ثوابها.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩))

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي أظن المنافقون (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ) أي لن يظهر (اللهُ أَضْغانَهُمْ) [٢٩] أي أحقادهم وهي بعضهم ونفاقهم وعداوتهم المؤمنين والنبي عليه‌السلام.

__________________

(١) أخذ المؤلف هذه الأقوال عن الكشاف ، ٥ / ٢٦٦.

(٢) عن ابن عباس والضحاك والسدي ، انظر البغوي ، ٥ / ١٦٠.

(٣) عن قتادة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٦٠.

(٤) «وأملى» : قرأ أبو عمرو بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء ، وقرأ يعقوب بضم الهمزة وكسر اللام وإسكان الياء ، والباقون بفتح الهمزة واللام وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٥) «إسرارهم» : قرأ حفص والأخوان وخلف بكسر الهمزة ، وغيرهم بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٩٨.

(٦) انظر الكشاف ، ٥ / ٢٦٧.

(٧) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٢٤٦.

١٢١

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي لعرفناك المنافقين (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلاماتهم الخبيثة ، كررت اللام الداخلة في جواب (لَوْ) مبالغة في التعريف ، واللام في (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف ، أي والله لستعرفنهم (١) يا محمد (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي في محاورة الكلام بعد هذا اليوم ، من لحن كلامه بفتح الحاء إذا أمال عن وجهه ، وبكسرها بمعنى غني فيه ، قيل : «ما خفي على النبي عليه‌السلام شيء من أمر المنافقين بعد ما أنزل هذه الآية» (٢) ، ثم التفت إلى الخطاب تهويلا لهم بقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) [٣٠] أي احذروا أيها المنافقون من الله ، فان الله يعلم أعمالكم ، يعني قبل أن تعملوها فكيف لا يعلم بعد ما عملتم.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي لنختبرنكم عند القتال (حَتَّى نَعْلَمَ) أي نميز (الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ) نميز (الصَّابِرِينَ) على القتال عن غيرهم (وَنَبْلُوَا) أي نختبر (أَخْبارَكُمْ) [٣١] أي أخبار أعمالكم بين الناس وهي جمع خبر وهو خبر العمل والصبر ، يعني لنبلونكم حتي يظهر ما يخبر به عنكم من أفعالكم من جهاد وصبر وغيرهما ، فان الخبر بين الناس على حسب المخبر عنه إن حسنا فحسن وإن قبيحا فقبيح ، قرئ في الأفعال الثلاثة بالنون لإضافة الفعل إلى نفسه وبالياء غيبة (٣) لإسنادها إلى الله تعالى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) أي صرفوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دين الإسلام (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي خالفوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) أي حقية (٤) الإسلام وأمر النبي عليه‌السلام أنه الحق (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) أي لن ينقصوا من ملكه (شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) [٣٢] أي يبطل ثوابها في إسلامهم أو يبطل مكائدهم التي نصبوها في مشاقة الرسول فلا يصلون إلى أغراضهم في كفرهم ، قيل : هم بنو قريظة والنضير (٥) ، وقيل : هم رؤساء قريش (٦) والمطعمون يوم بدر (٧).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣))

ثم زاد النصح لهم بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) في السر كما تطيعونه في العلانية (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما يأمركم من أمر الجهاد (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [٣٣] أي حسناتكم بالرياء والسمعة وبفساد النية والعجب ، قيل : نزلت الآية في الذين قال تعالى فيهم : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا)(٨) ، روي : «أن أصحاب النبي عليه‌السلام كانوا يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم» (٩).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي وهم كفار مكة (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [٣٤]

__________________

(١) لستعرفنهم ، وي : لتعرفنهم ، ح.

(٢) عن أنس ، انظر البغوي ، ٥ / ١٦٢ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٦٧.

(٣) «ولنبلونكم» ، «نعلم» ، «ونبلوا» : قرأ شعبة بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة ، والباقون بالنون فيهن وقرأ رويس بإسكان واو «ونبلو» ، وغيره بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٩٨.

(٤) حقية ، ح و : حقيقة ، ي.

(٥) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٢٦٧.

(٦) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٦٧.

(٧) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ١٦٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٦٧.

(٨) الحجرات (٤٩) ، ١٧. عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٧.

(٩) عن أبي العالية ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٧ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٦٣ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٦٨.

١٢٢

نزل حين جاء رجل وسأل عن والده ، إنه كان محسنا في كفره ، قال هو في النار فولى الرجل يبكي فدعاه فقال له والدك ووالدي ووالد إبراهيم في النار فسكت (١) ، وقيل : نزل في رؤساء أهل بدر (٢)(فَلا تَهِنُوا) الفاء فيه في جواب شرط محذوف ، أي إذا جاهدتم الكفار فلا تهنوا ، أي لا تضعفوا عن عدوكم (وَتَدْعُوا) أي لا تدعوا (إِلَى السَّلْمِ) أي الصلح ، لأنه في حكم النهي ، يعني لا تطلبوا من الكفار الصلح ابتداء (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي والحال أنكم الأغلبون الأقهرون (وَاللهُ مَعَكُمْ) بالعون والنصرة وهذا نهي للمسلمين عن طلب صلح الكافرين ويدهم عالية عليهم ، لأن فيه ترك الجهاد (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) أي لن ينقصكم (أَعْمالَكُمْ) [٣٥] أي ثوابها أو لن يترككم منفردين بلا عمل ، من وترت الرجل ، أي قتلت حميمه وتركته منفردا ، ومنه قوله عليه‌السلام : «من فاتته صلوة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (٣) ، أي أفرد عنهما قتلا ونهبا.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦))

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) أي باطل (وَلَهْوٌ) أي فرح (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) أي إن تستقيموا على التوحيد (وَتَتَّقُوا) النفاق (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي ثواب أعمالكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) [٣٦] أي شيئا من أموالكم ، يعني لا يأمركم بالإيمان يسأل أموالكم ، بل ليثيبكم بالإيمان أو لا يسألكم الرسول على تبليغ الرسالة أجرا وجعلا أو لا يسألكم جميع أموالكم بل يسألكم الزكوة المفروضة وهي أيضا لأجلكم في الآخرة.

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧))

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي جميعها (فَيُحْفِكُمْ) أي فيبالغ في طلبها ، من أحفى إذا ألح وبالغ في طلب شيء (تَبْخَلُوا) بالرفع (وَيُخْرِجْ) أي الله أو البخل (أَضْغانَكُمْ) [٣٧] أي أحقادكم وبغضكم لدين يذهب بأموالكم.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) قرئ بالمد والهمزة وبمد طويل بغير همزة ف (ها) تنبيه ، وبهمزة بغير مد (٤) ف (ها) بدل من همزة الاستفهام في «أأنتم» ، و «أولاء» موصول بمعنى الذين ، أي اعلموا أيها المخاطبون أنتم الذين (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا) أي لتتصدقوا (فِي سَبِيلِ اللهِ) ما فرض عليكم من الزكوة أو لتنفقوا في الغزو للضعفاء منكم (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بالنفقة في سبيل الله من الصدقة أو الفرض (وَمَنْ يَبْخَلْ) في سبيله (فَإِنَّما يَبْخَلُ) أي يمنع الثواب (عَنْ نَفْسِهِ) أي جزاء بخله مختص بنفسه (وَاللهُ الْغَنِيُّ) عنكم وعن نفقتكم ، يعني لا يأمركم به لحاجته إليه لاستحالتها عليه ، وإنما يأمر به لحاجتكم ومنفعتكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى ما عند الله من الثواب والمغفرة والنعمة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي إن تعرضوا عن أمره وطاعته (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يهلككم ويأت قوما آخرين خيرا وأطوع منكم وهم الأنصار أو أهل اليمن (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [٣٨] أي أشباهكم في المعصية والمخالفة ، وقيل : هم الملائكة (٥) ، روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هؤلاء الآخرين وعنده سلمان الفارسي فوضع النبي عليه‌السلام يده عليه وقال : «هذا وقومه» ، يعني أبناء فارس ، ثم قال : «لو كان الإيمان معلقا بالثريا ليناله رجل من أبناء فارس» (٦).

__________________

(١) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٧.

(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٧.

(٣) رواه مسلم ، المساجد ، ٢٠٠ ، ٢٠١.

(٤) «ها أنتم هؤلاء» : قرأ قالون وأبو عمرو وأبو جعفر بألف بعد الهاء وتسهيل الهمزة مع المد والقصر إلا أبا جعفر والسوسي فبالقصر فقط وورش بتسهيل الهمزة من غير ألف قبلها وعنه أيضا إبدالها ألفا مع المد المشبع للساكنين ، وقنبل بتحقيق الهمزة من غير ألف قبلها والبزي والشامي والكوفيون ويعقوب بتحقيق الهمزة مع ألف قبلها ، وكل على أصله في المنفصل. البدور الزاهرة ، ٢٩٨.

(٥) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ٢٦٩.

(٦) أخرجه مسلم ، فضائل الصحابة ، ٢٣١ ؛ والترمذي ، المناقب ، ٧٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٤٨ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٦٤ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٦٩.

١٢٣

سورة الفتح

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١))

قوله (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [١] قيل : نزل بعد نزول قوله (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ) ما (بِي وَلا بِكُمْ)(١) ، وقال المشركون لم تتبعون رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بمن تابعه ، فلما قدم المدينة غيرهم المنافقون بذلك أيضا (٢) ، فعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الحزن وما في قلوب الكافرين من الفرح ، فجاء جبرائيل بذلك والفتح الظفر بالخير بعد انغلاقه ، أي قضينا لك الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو غيره قضاء بينا أو هو فتح مكة أو صلح الحديبية ، لأنه كان سبب الفتح كما يجيء.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢))

(لِيَغْفِرَ) أي فتحنا لك ليغفر (لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) في الجاهلية (وَما تَأَخَّرَ) بعدها إلى وقت نزول هذه الآية أو الصغائر عند من جوزها على الأنبياء عليهم‌السلام أو يغفر بسببك ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحواء وما تأخر من ذنوب أمتك (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالرسالة إلى العرب والعجم ، وبالشفاعة المطاعة ودخول الجنة والمحل الأدنى وهو القرب الأعلى (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [٢] أي يثبتك طريق الأنبياء.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ) على أعداء الدين (نَصْراً عَزِيزاً) [٣] باظهار الإسلام وقوته بحيث لا يكون بعده ضعف ولا ذل ، قيل : كيف أوقع فتح مكة علة للمغفرة وهو فعل الله تعالى؟ أجيب بأنه انما أوقع فتح مكة علة لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة لا للمغفرة فقط ، لأنها متقدمة عليه بمعنى يسرنا لك فتح مكة ليجتمع لك هذه الأمور التي هي عز الدنيا والآخرة ، ويجوز أن يكون فتح مكة سببا للمغفرة من حيث إنه جهاد للعدو (٣).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤))

وأكد الفتح بقوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي الوقار والطمأنينة ، يعني التمكن والسكون من غير اضطراب في الدين والبيعة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) بسبب الصلح والأمن بفتح مكة أو بسبب ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرائع (لِيَزْدادُوا إِيماناً) أي يقينا (مَعَ إِيمانِهِمْ) الذي هم عليه وهو التوحيد ، فكلما نزلت فريضة بعد شهادة أن «لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ازدادوا يقينا مع يقينهم ، لأنهم لما صدقوه زادهم الصلوة

__________________

(١) الأحقاف (٤٦) ، ٩.

(٢) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٩ ؛ وأنظر أيضا الواحدي ، ٣١٥ (عن ابن عباس).

(٣) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٦ / ٢.

١٢٤

ثم الزكوة ثم الصيام ثم الحج ثم الجهاد (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي جميع ما فيهما من الملائكة والجن والإنس وغيرها جنود الله يسلط بعضها على بعض كما تقتضيه (١) حكمته فلو شاء أن ينصر دينه بغيركم لفعل (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) [٤] في أمره وصنعه حيث حكم النصرة للمؤمنين.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥))

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليعرفوا نعمة الله في ذلك ويشكروها فيدخلهم ، كرر لام التعليل ، لأن الفتح علة غائية للمغفرة علة غائية للإدخال بمعنى لأجله ، أي فتحنا لك ليغفر لك الله ليدخل المؤمنين (وَالْمُؤْمِناتِ) في (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ) أي يمحو بالتجاوز (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ) أي دخولهم الجنة والتجاوز عن سيئاتهم (عِنْدَ اللهِ) أي في الآخرة (فَوْزاً عَظِيماً) [٥] أي نجاة وافرة من العذاب.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦))

قوله (وَيُعَذِّبَ) عطف على (لِيُدْخِلَ) ، أي الفتح والمغفرة لك لعذب (الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) من أهل المدينة (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) منهم ، والمراد من ظن (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) ظنهم ترك الإيمان بالله ورسوله مخافة أن لا ينصرف محمد عليه‌السلام (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ) المذمة (٢)(السَّوْءِ) بالضم والفتح (٣) ، أي عاقبة العذاب الشديد والهزيمة ، قيل : (السَّوْءِ) بالفتح غالب فيما يراد ذمه من كل شيء ، (وَالسُّوءَ) بالضم الشر الذي هو نقيض الخير (٤)(وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي انتقم منهم بالهزمية (وَلَعَنَهُمْ) في الدنيا بالقتل والطرد من الرحمة (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) جهنم في الآخرة (وَساءَتْ) جهنم (مَصِيراً) [٦] أي مرجعا ومقاما لهم يصيرون إليه في الآخرة.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له الملك والسلطان والغلبة لا لغيره (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي غالبا بالانتقام على من لم يؤمن به وبنبيه (٥) عليه‌السلام كافرا كان أو منافقا (حَكِيماً) [٧] أي حاكما في صنعه بالنصرة لنبيه ودينه.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨))

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ) أي بعثناك يا محمد (شاهِداً) تشهد بواحدانيتنا أو ببلاغ الرسالة على أمتك (وَمُبَشِّراً) لمن أطاعنا بالجنة (وَنَذِيراً) [٨] أي مخوفا لمن خالفنا بالنار.

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

(لِتُؤْمِنُوا) بتاء الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته في هذه الأفعال كلها ، أي أرسلناك لتؤمن أنت وأمتك (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فيما يأمركم وينهاكم (وَتُعَزِّرُوهُ) أي تنصروا الله في دينه على عدوه بالسيف (وَتُوَقِّرُوهُ) أي تعظموه بالخشوع في طاعته (وَتُسَبِّحُوهُ) بقول سبحان الله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [٩] أي بالغداء والعشي أو تصلوا لله بكرة الفجر وأصيل الظهر والعصر ، وقرئ الجميع بالياء على الغيبة (٦).

__________________

(١) علمه و ، + ح.

(٢) المذمة ، وي : ـ ح.

(٣) «السوء» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٩٩.

(٤) نقله المفسر عن الكشاف ، ٦ / ٣.

(٥) وبنبيه ، وي : ونبيه ، ح.

(٦) «لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ، بياء الغيبة في الأفعال الأربعة ، وغيرهما بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٢٩٩.

١٢٥

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) أي بيعة الرضوان بالحديبية تحت الشجرة ، وخبر «إِنَّ» (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي كانما يبايعون الله ، لأنها بأمره تعالى نحو من يطع الرسول فقد أطاع الله أو يبايعون لله ، أي لأجله وطلب رضوانه وكانت الشجرة أم غيلان (١) أو السمرة (٢) ، وهم يومئذ ألف وخمسمائة وأربعون رجلا ، قوله (يَدُ اللهِ) مبتدأ ، خبره (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي يده بالنصرة فوق أيديهم بالطاعة (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض العهد والبيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ) أي يرجع وبال نقضه (عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ)(٣) ، من البيعة (٤) بضم الهاء وكسرها في «عليه» (٥) ، أي أتمه بحفظه ولم ينقضه (فَسَيُؤْتِيهِ) بالنون والياء (٦)(أَجْراً عَظِيماً) [١٠] أي الجنة فما فوقها.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١))

قوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) نزل حين أراد النبي عليه‌السلام أن يسير من المدينة إلى مكة عام الحديبية لزيارة الكعبة ، وطلب ناسا من الأعراب ليرتحلوا معه ، وكانت منازلهم بين مكة والمدينة فتخلوا عنه جبنا واعتلوا بالأموال والأولاد (٧) ، فأخبر الله رسوله قبل ذلك أنه إذا رجع إليهم استقبلوه بالعذر وهم كاذبون بقوله «سيقول لك المخلفون» (مِنَ الْأَعْرابِ) عن الحديبية إذا رجعت إليهم (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) أي خفنا عليهم الضيعة (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله في التخلف ليغفر لنا تخلفنا عنك (يَقُولُونَ) أي يظهرون (بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) لأنهم لا يبالون باستغفارك استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم وهم كاذبون في اعتذارهم (قُلْ) يا محمد (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي من يقدر أن يمنع عنكم من عذاب الله شيئا (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) بفتح الضاد وضمها (٨) ، أي قتلا وهزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي نصرة وغلبة ، المعنى : لا يقدر على دفع ضر ولا جلب نفع إلا الله تعالى (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [١١] أي عالما بتخلفكم عني وبنياتكم (٩).

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢))

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ) أي منعكم من السير معه أنكم ظننتم أن لن يرجع الرسول (وَالْمُؤْمِنُونَ) من الحديبية (إِلى أَهْلِيهِمْ) بالمدينة (أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ) أي زين الشيطان التخلف (فِي قُلُوبِكُمْ) وحسنه (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) أي حسبتم الظن القبيح (وَكُنْتُمْ) أي وصرتم (قَوْماً بُوراً) [١٢] أي هلكى بتخلفكم فأكذبهم الله تعالى في اعتذارهم ، و (بُوراً) جمع بائر وهو الهالك.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣))

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) في السر والعلانية معا (فَإِنَّا أَعْتَدْنا) أي هيأنا (لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) [١٣] أي نارا مسعرة ، يعني موقدة.

__________________

(١) عن محمد بن الحسن ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٥٣.

(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٥٣.

(٣) أي ، + ح.

(٤) من البيعة ، وي : بالغلبة ، ح.

(٥) «عليه» : قرأ حفص بضم هاء الضمير وصلا ، والباقون بكسرها ولا يخفى إسكانها وقفا للجميع. البدور الزاهرة ، ٢٩٩.

(٦) «فسيؤتيه» : قرأ المدنيان والمكي والشامي وروح بالنون ، وغيرهم بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ٢٩٩.

(٧) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٢٥٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٦٩ ـ ١٧٠ ؛ والكشاف ، ٦ / ٤.

(٨) «ضرا» : قرأ الأخوان وخلف بضم الضاد ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٩٩.

(٩) وبنياتكم ، وي : ونياتكم ، ح.

١٢٦

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له نفاذ الأمر فيهما (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) على الذنب الكبير لمن تاب (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) على الذنب الصغير لمن أصر (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن تاب (رَحِيماً) [١٤] لمن أطاع.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) عن الحديبية (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) أي إلى (١) غنائم خيبر (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا) أي اتركونا (نَتَّبِعْكُمْ) في هذا الغزو (٢)(يُرِيدُونَ) حال من (الْمُخَلَّفُونَ) ، أي يقصدون (أَنْ يُبَدِّلُوا) أي يغيروا (كَلامَ اللهِ) أي ما قال الله لرسوله وهو لا تأذن لهم في غزوة أخرى لغنائم خيبر أو قوله لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) في السير إلى خيبر (كَذلِكُمْ) أي كقولي لكم (قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل عودنا من الحديبية (فَسَيَقُولُونَ) للمؤمنين لم ينهكم الله عن ضمنا معكم في السير إلى غزوة أخرى (بَلْ تَحْسُدُونَنا) على ما نصيب معكم من الغنائم ، فلذلك قلتم هذا القول ففي هذا الإضراب رد كون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد للمؤمنين ، فقال الله تعالى (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) أي لا يعقلون من الدين (إِلَّا قَلِيلاً) [١٥] منهم وهم (٣) المخلصون ، وفي هذا الإضراب إعراض (٤) عن وصفهم بنسبة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بشيء هو أكبر من ذلك وهو الجهل في الدين.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦))

ثم أمر نبيه عليه‌السلام أن يخبر بعده لهم بما (٥) سيقع منهم من الإطاعة والعصيان بقوله (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) عن الحديبية (مِنَ الْأَعْرابِ) اختيارا مخافة القتال (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) أي حرب (شَدِيدٍ) قيل : هم بنو حنيفة (٦) أو أهل فارس (٧) أو هوازن (٨) ، قاتلهم أبو بكر بعد النبي عليه‌السلام ، قوله (تُقاتِلُونَهُمْ) حال مقدرة وعطف عليه (أَوْ يُسْلِمُونَ) أي ينقادون للإسلام بترك الشرك وهو معطوف على (تُقاتِلُونَهُمْ) ، والمراد أحدهما إما المقاتلة منكم أو الإسلام منهم ، أي من مشركي العرب لا الصلح معهم ، والمعنى : انكم تقاتلونهم أو هم يدخلون في دين الله ولم تأخذوا منهم الجزية (فَإِنْ تُطِيعُوا) أيها المخلفون ، أي إن تحسنوا القتال وتخلصوا لله تعالى في ذلك الحرب (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن الجهاد (كَما تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الإجابة (مِنْ قَبْلُ) أي حين دعيتم إلى الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [١٦] أي مؤلما دائما.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

قوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) نزل في شأن الضعفاء والعجزة عن الجهاد ، إذ قالوا كيف إذا دعينا إلى قتال الكفار ولا نستطيع الخروج فيعذبنا الله تعالى لقوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) الآية (٩) ، فقال ليس على الأعمى حرج ، أي إثم في التخلف (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في السر والعلانية

__________________

(١) إلى ، ح و : ـ ي.

(٢) في هذا الغزو ، ح و : في هذه الغزوة ، ي.

(٣) وهم ، ح و : وهو ، ي.

(٤) إعراض ، وي : الإعراض ، ح.

(٥) بما ، ح ي : ما ، و.

(٦) عن الزهري ومقاتل ، انظر البغوي ، ٥ / ١٧٢.

(٧) عن ابن عباس ومجاهد وعطاء ، انظر البغوي ، ٥ / ١٧١.

(٨) عن سعيد بن جبير ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٥٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٧٢.

(٩) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٥٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٧٢.

١٢٧

(يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ) أي ومن يعرض عن طاعة الله ورسوله بالتخلف (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) [١٧] قرئ بالنون وبالياء (١).

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨))

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين نزلوا معكم في الحديبية (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يعني السمرة ، فانه بايعهم تحتها بعد ما أرسل عثمان إلى مكة ليستأذن منهم حتى يخلوا (٢) بينه وبين بيت الله ، ثم سمع النبي عليه‌السلام أن عثمان قد قتل في مكة حين ذهب إليها رسولا من النبي عليه‌السلام على أن يحاربوا قريشا وأن لا يفروا وعلى الموت ، وقال عليه‌السلام : «إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله وحاجة المؤمنين» ، ثم وضع إحدى يديه على الأخرى وقال «هذا بيعة عثمان» (٣)(فَعَلِمَ) الله (ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ) الله (السَّكِينَةَ) أي الطمأنينة (عَلَيْهِمْ) أي على قلوبهم بسبب الصلح (وَأَثابَهُمْ) أي أعطاهم جزاء عن ذلك (فَتْحاً قَرِيباً) [١٨] يعني فتح خيبر بعد انصرافه من مكة ، ثم صالحهم النبي عليه‌السلام حين أتاه عثمان بالصلح وانصرف إلى خيبر بعد أن نحر بالحديبية وحلق.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

(وَمَغانِمَ) أي وأثابهم مغانم (كَثِيرَةً) من أموال اليهود (يَأْخُذُونَها) أي يغتنمونها بعد القتل والأسر وكانت ذات عقار وأشجار فقسمها عليهم (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) بالنقمة من الأعداء (حَكِيماً) [١٩] يحكم بالقتل والأسر وأخذ الغنيمة للمؤمنين من الكافرين.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠))

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) أي تغتنمونها وهي ما أصابوا مع رسول الله وبعده إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنيمة خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) بالصلح وهو صلح النبي عليه‌السلام بأهل مكة لينفعكم بها (وَلِتَكُونَ) هذه (٤) الكفة أو الغنيمة المعجلة من فتح خيبر (آيَةً) أي عبرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) على صدقك إذا وجدوا وعد الله بها صادقا ، لأن صدق الاخبار عن الغيب معجزة على صدقه ، لأن المسلمين كانوا ثمانية آلاف وأهل خيبر كانوا سبعين ألفا (وَيَهْدِيَكُمْ) أي يثبتكم (صِراطاً مُسْتَقِيماً) [٢٠] أي على دين الإسلام بصدق وعده.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١))

قوله (وَأُخْرى) مبتدأ و (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) صفته و (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) خبره ، ويجوز أن يكون عطفا على (مَغانِمَ كَثِيرَةً) أو على (هذِهِ) ، أي وعدكم الله غنيمة أخرى لم تقدروا عليها ، يعني ما ملكتموها بعد وهي فتح مكة أو غنائم هوازن قد علم الله أنها ستكون لكم بالفتح ومعلومه واقع ضرورة (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [٢١] من أمر الفتح وغيره.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢))

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كفار مكة يوم الحديبية ولم يصالحوا أو أسد وغطفان من اليهود في معاونة

__________________

(١) «يدخله» ، «يعذبه» : قرأ المدنيان والشامي بالنون فيهما والباقون بالياء التحتية فيهما. البدور الزاهرة ، ٢٩٩.

(٢) به ، + ح.

(٣) روى أبو داود نحوه ، الجهاد ، ١٥١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٥٦.

(٤) هذه ، ح : ـ وي.

١٢٨

أهل خيبر (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) أي لانصرفوا منهزمين (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) أي قريبا ينفعهم (وَلا نَصِيراً) [٢٢] أي ناصرا يمنعهم من الهزيمة.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣))

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلُ) أي قبلك ، يعني سن الله غلبة رسله (١) سنة وهي قوله «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا رسولي» (٢) (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [٢٣] أي تغييرا.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ) أي منع (أَيْدِيَهُمْ) أي أيدي المشركين من أهل مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) أي عن أهل مكة (بِبَطْنِ مَكَّةَ) أي بالحديبية أو بالتنعيم (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) لأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد هبط عليه قوم خرجوا من مكة يوم الحديبية متسلحين يريدون غرته ، فدعا عليهم فأخذت أبصارهم فأخذوا سلما ، وخلى النبي عليه‌السلام سبيلهم بأمره تعالى ، وقيل : جاؤا ورموا المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوا بيوت مكة (٣)(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [٢٤] أي بحرب بعضكم بعضا ، قرئ بالياء والتاء (٤).

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥))

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي منعوكم عن دخوله والتطوف به (وَالْهَدْيَ) أي وصدقوا الهدي وهو ما يهدى إلى البيت لينحر في محله وهو الحرم (مَعْكُوفاً) حال من (الْهَدْيَ) ، أي محبوسا عن دخول مكة وهي سبعون بدنة ، قوله (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) بدل من (الْهَدْيَ) بدل اشتمال ، أي صدوا أن يبلغ الهدي محله ، أي مكان حلوله ووجوبه كمحل الدين ، يعني مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو منى للحاج والصفا للمعتمر ، قيل : إن النبي عليه‌السلام قد نحر بالحديبية ، لأن محل هدي المحصر حيث أحصر ، وعليه الشافعي رحمه‌الله ، وقيل : بعض الحديبية من الحرم ، فمحل هديه الحرم لكنه ليس بمعهود للنحر ، وبذلك تمسك أبو حنيفة رحمه‌الله على أن المحصر محل هديه الحرم (٥)(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) بمكة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) صفة (رِجالٌ) و (نِساءٌ) ، وقوله (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل اشتمال من (رِجالٌ) و (نِساءٌ) والوطئ الإهلاك بغفلة ، قوله (فَتُصِيبَكُمْ) بالنصب عطف على (تَطَؤُهُمْ) ، أي فتلزمكم (مِنْهُمْ) أي لأجل قتلهم (مَعَرَّةٌ) أي مشقة وإثم ودية (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير معرفة منكم بهم أو يصيبكم منهم تعيير من المشركين بذلك القتل ، المعنى : لو لا جماعة مؤنون مختلطون بالمشركين بمكة لا تعرفونهم ولا تميزونهم من الكافرين فتقتلونهم معهم فيلزمكم بذلك إثم وكفارة ودية ، وقول المشركين أنهم قتلوا أهل دينهم كما قتلونا من غير تمييز ، وجواب (لَوْ لا) محذوف وهو لما كف الله أيديكم عنهم لدلالة الكلام السابق عليه ولكن منعناكم عن دخول مكة خوفا على المؤمنين ، قوله (لِيُدْخِلَ اللهُ) تعليل لمعنى (٦) الآية السابقة الدالة عليه كأنه قال كان الكف والمنع من التعذيب ليدخل الله (فِي رَحْمَتِهِ) أي في توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم (٧) أو ليدخل في الإسلام من مشركيهم (مَنْ يَشاءُ) الله ممن رغب فيه منهم ، ثم أكد مضمون ذلك بقوله (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي لو تميز بعضهم من بعض ، يعني

__________________

(١) رسله ، ح و : رسوله ، ي.

(٢) المجادلة (٥٨) ، ٢١.

(٣) هذا منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٢٥٧.

(٤) «تعملون» : قرأ أبو عمرو بالياء التحتية ، وغيره بالتاء الفوقية. البدور الزاهرة ، ٣٠٠.

(٥) نقل المؤلف هذه الآراء عن الكشاف ، ٦ / ٧.

(٦) لمعنى ، و : بمعنى ، ح ي.

(٧) لمؤمنيهم ، ح : مؤمنينهم ، وي.

١٢٩

المؤمنين (١) من الكافرين (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالسيف (مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [٢٥] أي وجيعا.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اذكر وقت جعل الكافرين يعني أهل مكة (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) أي الأنفة وأبدل منها (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) حيث قالوا حين نزل النبي عليه‌السلام بالحديبية برسالة جماعة منهم إليه قتل محمد آباءنا وإخواننا ثم أتانا ليدخل علينا في منازلنا ، والله لا ندخله علينا لئلا يقول المسلمون دخلنا البيت على رغم أنفهم فليرجع عنا من هذا العام على أن نخلي بينه وبين البيت من العام القابل ثلاثة أيام ، فسمع ذلك منهم رسول الله عليه‌السلام أو هي إنكارهم رسالته ومنعهم من كتابة (٢) «بسم الله الرحمن الرحيم» في كتاب المصالحة حيث قال عليه‌السلام لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة» ، فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب باسمك اللهم هذا ما صالح محمد بن عبد الله ، فقال عليه‌السلام : «اكتب ما يريدون» ، فهم المسلمون أن يمنعوا ذلك (٣)(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي طمأنينته (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي لم يلحقهم الحمية ، يعني حمية الإسلام ، بل حلموا وتوقروا وسكنوا ، لأنه تعالى أراد ذلك منهم لحكمة يعلمها (وَأَلْزَمَهُمْ) أي ألهمهم (كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي الوفاء بالعهد وأضافها إلى التقوى ، لأنه سبب التقوى وأساسها (وَكانُوا) أي كان المسلمون (أَحَقَّ بِها) أي بكلمة التقوى ، يعني يحفظ العهد من كفار مكة (وَ) كانوا (أَهْلَها) أي أهل هذه الكلمة في علم الله تعالى (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [٢٦] أي بمن كان أهلا للإيمان وغيره.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

قوله (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ) نزل حين رأى النبي عليه‌السلام في النوم قبل الخروج إلى الحديبية أنه يدخل مع أصحابه المسجد الحرام محلقين ومقصرين ، فأخبر الناس بذلك فاستبشروا وظنوا أن يكون في ذلك العام ، فلما صدهم المشركون من دخول مكة قال المنافقون منهم ابن أبي والله ما دخلنا وما حلقنا وما قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام (٤) ، فحقق الله تعالى ذلك بقوله لقد صدق الله (رَسُولَهُ الرُّؤْيا) التي رآها في المنام (بِالْحَقِّ) أي ملتبسة (٥) بالوقوع وهو يتعلق ب (صَدَقَ) أو ب (الرُّؤْيا) حالا منها ، يعني لم تكن أضغاث أحلام لتكذب ، وتفسيرها (لَتَدْخُلُنَّ) أي والله لتدخلن أيها المؤمنون (الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) في العام الثاني (إِنْ شاءَ اللهُ) أي باذنه ، والاستثناء في خبر الله لتعليم العباد لأن يقولوا في عداوتهم مثله اقتداء بسنة الله وتأدبا بأدبه ، ويجوز أن يريد لتدخلن جميعا إن شاء الله ولم يمت منكم أحد (٦)(آمِنِينَ) من العدو (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) أي جميع شعورها (٧)(وَمُقَصِّرِينَ) أي بعض شعورها (لا تَخافُونَ) أبدا من العدو (فَعَلِمَ) الله تعالى من الحكمة والصواب (ما لَمْ تَعْلَمُوا) أنتم منه (٨) وهو أن الخير (٩) في الصلح وتأخير الدخول وقوعه في السنة الثانية فلذلك وقع في أنفسكم ما وقع (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي قبل دخول مكة (فَتْحاً قَرِيباً) [٢٧] وهو فتح خيبر في ذلك العام ، فواعد لهم هذا الفتح لنفعهم ثم دخول مكة فتحققت الرأيا في العام القابل.

__________________

(١) المؤمنين ، ح : المؤمنون ، وي.

(٢) كتابة ، و : كتابه ، ح ي.

(٣) نقله المفسر عن الكشاف ، ٦ / ٨.

(٤) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٢٥٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٨٩ ؛ والكشاف ، ٦ / ٨.

(٥) ملتبسة ، وي : ملتبسا ، ح.

(٦) أحد ، ح : أحدا ، وي.

(٧) شعورها ، وي : شعرها ، ح.

(٨) منه ، وي : منهم ، ح.

(٩) الخير ، وي : الخبر ، ح.

١٣٠

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي بالتوحيد وهو شهادة أن «لا إله إلا الله» (وَدِينِ الْحَقِّ) وهو دين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) قبل أن تقوم (١) الساعة فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [٢٨] أي شاهدا بأن محمدا رسول الله وإن لم يشهد كفار مكة وهو جواب لقولهم إنا لا نعرف أنك رسول الله ولا نشهد ، وذلك حين أراد أن يكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ومنعوه فقال تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي المؤمنون الذين مع محمد عليه‌السلام (أَشِدَّاءُ) لله (عَلَى الْكُفَّارِ) بالغلظة لا يرحمونهم لأنهم أعداء الله (رُحَماءُ) أي متحابون في الله (بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي يكثرون الصلوة لله تعالى (يَبْتَغُونَ) أي حال كونهم يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي ثوابه في الآخرة (وَرِضْواناً) أي ورضاه عنهم (سِيماهُمْ) أي علامتهم هنا (فِي وُجُوهِهِمْ) يعني ثابتة في وجوههم (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) في الدين وهو استنارتها من كثرة الصلوة وسهر الليل ، وقيل : هو صفرة الوجوه (٢) بلا آفة وقبول طباع المسلمين أو غلظة جلد الجبهة التي يحدث من وضعها على الأرض من غير رياء ونفاق نعوذ بالله منه أو في الآخرة ، فالأثر نور وبياض يعرفون به فيها (ذلِكَ مَثَلُهُمْ) أي المذكور صفتهم (فِي التَّوْراةِ) قوله (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) مبتدأ ، خبره (كَزَرْعٍ) ويجوز أن يكون عطفا على (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ، و (كَزَرْعٍ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هم كزرع (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) وهو فراخ الزرع وسنبله (فَآزَرَهُ) مدا وقصرا (٣) ، أي قواه وأعانه (فَاسْتَغْلَظَ) أي صار من الرقة إلى الغلظة (فَاسْتَوى) أي استقام (عَلى سُوقِهِ) أي على أصوله وهي جمع ساق وهو قصبة الزرع ، المعنى : أن فراخ الزرع إذا قوى فساوى الزرع ارتفاعا (يُعْجِبُ) ذلك الزرع (الزُّرَّاعَ) الذين زرعوه إذا نظروا إلى زرعهم ، فكذلك النبي عليه‌السلام تبعه أبو بكر رضي الله عنه بزرع حبة الإيمان في أرض قلبه ثم تبعه واحد بعد واحد من الصحابة كذلك حتى كثروا بعد أن كانوا قليلا وقووا بعد أن كانوا ضعفاء ، ففرح رسول الله عليه‌السلام بذلك ، قوله (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لكثرتهم وتقويهم ، لأن أهل مكة كانوا يكرهون ما رأوا من كثرة المسلمين وقوتهم ، قوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) زيادة لغيظهم بما أعد للمؤمنين في الآخرة مع هذه العزة في الدنيا ، قوله (مِنْهُمْ) يجوز أن يكون (مِنَ) في لبيان الجنس ، ويجوز أن يكون بمعنى اللام متعلقا ب (مَغْفِرَةً) ، أي لهم وهم أصحاب محمد عليه‌السلام ، أي وعد لهم (مَغْفِرَةً) لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) [٢٩] أي ثوابا وافرا في الجنة ، روي عن قتادة فيهم أنه قال : «مكتوب في الإنجيل يخرج قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (٤) ، وعن عكرمة رضي الله عنه : «أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضي الله عنهم أجمعين» (٥).

__________________

(١) تقوم ، ح و : يقوم ، ي.

(٢) عن الضحاك ، انظر البغوي ، ٥ / ١٩٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٥٩.

(٣) «فآزره» : قرأ ابن ذكوان بقصر الهمزة ، وغيره بمدها. البدور الزاهرة ، ٣٠٠.

(٤) انظر البغوي ، ٥ / ١٩١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٠.

(٥) انظر الكشاف ، ٦ / ١٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٥٩ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٩١.

١٣١

سورة الحجرات

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١))

نزل قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي عليه‌السلام صلوة العيد (١) ، أي يوم النحر فأمرهم النبي عليه‌السلام أن يذبحوا آخر ، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله إلا أن تزول الشمس فانه لا ذبح بعد الزوال ، بل يعطى للفقراء حيا ، وعند الشافعي رحمه‌الله يجوز الذبح إذا قضى من الوقت مقدار الصلوة (٢) أو هو عام في كل قول وفعل في مجلس النبي عليه‌السلام أن لا يسبقوه بالجواب والسؤال والعمل قبل إذنه عليه‌السلام ، يعني أيها المؤمنون لا تعجلوا بتقديم أمر (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) وهو مجاز ، أي بين يدي أمرهما ، يعني لا تفعلوا أمرا إذا أمرتم به قبل الوقت الذي أمرتم به فيه ولم يذكر المفعول ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم فيه منهيا عنه ، وقيل : «قدم» بمعنى تقدم (٣) ، أي لا تسبقوا في فعل المأمور به قبل إذنهما (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمر الله ورسوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقولكم (عَلِيمٌ) [١] بحالكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا) نزل فيمن رفع صوته لدى النبي عليه‌السلام ، وهو ثابت بن قيس وكان في أذنه وقر وكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلم رسول الله عليه‌السلام فيتأذى بصوته (٤) ، وقيل : نزل فيمن كان يرفع صوته من المنافقين (٥) ، فخاطب المؤمنين بالنهي ليندرج المنافقون تحت النهي ليكون الأمر أغلظ وأشق عليهم ، أي لا تعلوا (أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إذا نطق ونطقتم ، بل اخفضوا الصوت لديه ولا تجاوزوا الحد الذي يبلغه صوته (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) أي لا تدعوا له باسمه (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي كما يدعو بعضكم بعضا باسمه ، ولكن عظموه وقولوا يا رسول الله ويا نبي الله ، ولا تقولوا يا محمد ويا أحمد ، وقيل معناه : لا تجهروا له بالقول إذا كان صامتا ولكن تعمدوا في مخاطبته القول اللين كمخاطبة المهيب المعظم ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم (٦)(أَنْ تَحْبَطَ) أي خافة أن تبطل (أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [٢] أن ذلك يحبطها لاستخفاف النبي عليه‌السلام لأن مستخفه يكفر به ، فقوله (أَنْ تَحْبَطَ) مفعول له يتعلق بالنهي الثاني عند البصري مقدرا إضماره في الأول ، وبالعكس عند الكوفي ، وأيا ما كان يرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر يؤدي إلى حبوط العمل.

__________________

(١) عن الحسن ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٦٠ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٩٥ ؛ والكشاف ، ٦ / ١١.

(٢) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ١٢.

(٣) هذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٦ / ١١.

(٤) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٦ / ١٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٦١ ؛ والواحدي ، ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٥) عن الحسن ، انظر الكشاف ، ٦ / ١٣.

(٦) هذا المعنى مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ١٢.

١٣٢

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ) نزل مدحا فيمن خفض صوته عند النبي عليه‌السلام مخافة أن يحبط عمله ، وهو ثابت بن قيس لأنه كان يرفع الصوت لديه عليه‌السلام (١) ، أي أن الذين يخفضون (أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إجلالا له (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ) أي جرب وحقق (اللهِ) باختباره بالمحن والشدائد والاصطبار عليها (٢)(قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي كائنة لها مختصة بها ، واللام للاختصاص أو (امْتَحَنَ) بمعنى أخلص ، من امتحن الذهب إذا أذابه ليتميز إبريزه من خبيثه ، يعني أخلص قلوبهم ونقاها من الشهوات إظهارا للتقوى وهي صد النفس عن مرادها السوء واللام للتعليل (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [٣] أي ثواب وافر في الجنة ، روي : أن وفد بني تميم أتوا رسول الله عليه‌السلام قوت الظهيرة وهو راقد ، فجعلوا ينادونه يا محمد اخرج إلينا فاستيقظ فخرج فانزعج بهم ، فسئل رسول الله عليه‌السلام عنهم فقال : «هم حفاة بني تميم لو لا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» فنزل ذما (٣)(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) أي من خلفها ، جمع حجرة وهي أرض يحجر عليها بحائط ونحوه ، والمراد حجرات نساء النبي عليه‌السلام ، فكل من جاءه من الأعراب ينادي من خلف حجرة منها ، وجمعت تعظيما لشأنه عليه‌السلام و (مِنْ) لابتداء الغاية وخبر «إِنَّ» (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [٤] حرمة النبوة ، لأنهم نادوه من ظاهر الدار بجفاء وغلظة ، ففيه تنبيه على قدره والتأدب معه عليه‌السلام لكل حال وهو أن يجلسوا على بابه ولا يدقوا عليه بابه حتى يخرج لقضاء حاجته احتراما له عليه‌السلام.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) أي لو ثبت صبرهم (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ) الصبر (خَيْراً لَهُمْ) وأحسن لأدبهم ويعلم من (حَتَّى) الدالة على الغاية المضروبة لصبرهم أن ليس لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليها (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب عن النداء من خلف الحجرة (رَحِيمٌ) [٥] لمن أطاع الأمر ، وقيل : سبب نزول هذه الآية أن النبي عليه‌السلام بعث أسامة بن زيد إلى قبيلة بني العنبر ليغزوها فأغار عليهم وسبى ذراريهم ، فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراءهم ، فنادوه من وراء الحجرات بغلظة وكان وقت الظهيرة ، أي وقت القيلولة وهو راقد ، فلما خرج النبي عليه‌السلام كلموه في أمر الذراري فقال لواحد منهم احكم أنت فقال حكمت أن تخلي نصف الذراري وتبيع النصف منا ، ففعل النبي عليه‌السلام كذلك فنزل الآية تنبيها على أنهم لو صبروا لكان خيرا لهم (٤) ، يعني لو لم ينادوه لكان النبي عليه‌السلام يعتقهم كلهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزل حين بعث النبي عليه‌السلام الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات ، فخرجوا إليه ليعظموه فخشي منهم لما كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فرجع إلى النبي عليه‌السلام هاربا وقال إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتلي ، فهم رسول الله عليه‌السلام أن يبعث لقتالهم فجاؤا إلى المدينة وقالوا : يا رسول الله لما بلغ خبر قدوم رسولك إلينا خرجنا أن نتلقاه بالتعظيم ، فرجع عنا ونحن خشينا أن يكون رده كتاب أتاه منك ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاغتم النبي عليه‌السلام بما فعل الوليد وأرسل إليهم بعد

__________________

(١) عن أنس بن مالك ، انظر البغوي ، ٥ / ١٩٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٦١.

(٢) عليها ، ي : ـ ح و.

(٣) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ١٤.

(٤) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٩٧.

١٣٣

عودهم إلى بلادهم خالدا ، فلم ير فيهم إلا الطاعة والخير فأخبر النبي عليه‌السلام بذلك (١) ، أي يا أيها المؤمنون (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) أي بخبر كذب (فَتَبَيَّنُوا)(٢) ، من التبين (٣) ، وقرئ «فتثبتوا» (٤) من التثبت وهو طلب الثبات ، أي تعرفوا صدقه من كذبه ولا تعجلوا (أَنْ تُصِيبُوا) أي مخافة أن تصيبوا (قَوْماً بِجَهالَةٍ) أي جاهلين بحالهم ، حال من ضمير «تُصِيبُوا» (فَتُصْبِحُوا) أي فتصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ) من الخطأ بالقوم (نادِمِينَ) [٦] والندم ضرب من الغم وهو غم يصحب الإنسان يتمنى أن ما وقع منه لم يقع ، وإنما قال (إِنْ جاءَكُمْ) بحرف الشك دون إذا ليدل على أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا على هذه الصفة لئلا يطمع فاسق في مكالمتهم بكذب ما.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧))

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فعظموه وعظموا أمره بالموافقة (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) الذي تخبرونه أو يختارونه ، فان بعضهم اجتهدوا أن يعملوا بقول الفاسق وحرضوا النبي عليه‌السلام على إرسالهم لقتال نبي المصطلق ونهبهم (٥)(لَعَنِتُّمْ) أي لأثمتم ولهلكتم ، من عنت البعير إذا انكسرت رجله ، وإنما قال (يُطِيعُكُمْ) دون أطاعكم كما اقتضاه (لَوْ) ليدل على أنه كان في إرادتهم استمرار علمه على ما يستصوبونه ، لأن المضارع قد يدل على الاستمرار ، ثم استدرك عمن هو ضعيف الإيمان وقليل الموافقة لأمر النبي عليه‌السلام من الصحابة (٦) بقوله (وَلكِنَّ)(٧) وهي كلمة الاستدراك يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا وإثباتا ، وهي حاصلة هنا من حيث المعنى دون اللفظ ، أي ما وفق الله هؤلاء الذين أرادوا أن يخالفوا أمر النبي عليه‌السلام بأن ينقادوا له ويطيعوه ولكن (اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي ثبته وحسنه فيها بالآيات الواضحة والبراهين القاطعة فقبلتم ورضيتهم وشكرتم على هذه النعمة العظيمة التي لا نعمة فوقها (وَكَرَّهَ) أي بغض (إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) أي تغطية نعم الله بالجحود (وَالْفُسُوقَ) أي الخروج عن الطاعة بالكذب وغيره (وَالْعِصْيانَ) أي ترك الانقياد لأمر الشارع (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (هُمُ الرَّاشِدُونَ) [٧] أي المستقيمون على طريق الحق (٨).

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

(فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي كان ذلك التحبيب والتزيين والتكريه رحمة من الله لهم (وَنِعْمَةً) أي وكرما منه تعالى ، فنصبهما ب «كان» المحذوفة (٩) ، وقيل : مفعولا لهما بمعنى الإفضال والإنعام لفعل التحبيب والتزيين والتكريه ، وقوله (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) اعتراض بينهما (١٠)(وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل والتمايز (حَكِيمٌ) [٨] أي حاكم يحكم بالإفضال والإنعام بالتوفيق على أفاضلهم.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

قوله (وَإِنْ طائِفَتانِ) نزل حين ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وأتى إلى الأنصار ليكلمهم في أمر من أمور

__________________

(١) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٩٩ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٥.

(٢) أي ، + ح.

(٣) التبين ، وي : التبيين ، ح.

(٤) «فتبينوا» : قرأ الأخوان وخلف بتاء مثلثة فوقية مفتوحة بعد التاء وبعدها باء موحدة مفتوحة مشددة وبعدها تاء مثناة فوقية مضمومة ، والباقون بباء موحدة مفتوحة بعد التاء وبعدها ياء مثناة تحتية مفتوحة مشددة وبعدها نون مضمومة. البدور الزاهرة ، ٣٠١.

(٥) نهبهم ، وي : ـ ح.

(٦) من الصحابة ، وي : من أصحابه ، ح.

(٧) الله ، + ح.

(٨) الحق ، وي : الجنة ، ح.

(٩) فنصبهما بكان المحذوفة ، ح ي : ـ و.

(١٠) أخذ المؤلف هذه الآراء عن الكشاف ، ٦ / ١٧.

١٣٤

لا دين ، فكلمهم فبال الحمار فقال عبد الله بن أبي المنافق إليك عني فقد آذاني نتن حمارك ، فقال بعض الأنصار وهو ابن رواحة والله لبول حمار النبي عليه‌السلام أطيب ريحا منك ، فاقتتل قوم ابن رواحة وهم الأوس وقوم عبد الله بن أبي وهم الخزرج بالأيدي والنعال وأغصان النخلة (١) ، فقال الله تعالى وإن طائفتان ، أي إن اقتتل طائفتان (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حذف الفعل من «إن» الشرطية بدلالة (اقْتَتَلُوا) عليه وجمع نظرا إلى المعنى ، لأن كل طائفة جماعة وثني في قوله (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) نظرا إلى اللفظ ، فكره بعضهم الصلح فنزل (٢)(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) أي إن ظلمت إحدى الطائفتين واستطالت (عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا) الطائفة (الَّتِي تَبْغِي) أي تظلم (حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) أي إلى الصلح (فَإِنْ فاءَتْ) أي رجعت عن البغي (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي بالإنصاف (وَأَقْسِطُوا) أي اعدلوا في الحكم بين الفريقين ولا تميلوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [٩] أي العادلين ، من أقسط إذا أزال الجور ، وقسط بمعنى جار ، فهمزته للسلب ، وإنما قرن العدل بالإصلاح الثاني دون الأول لأن العدل في تضمين الجنايات والمتلفات لا في سلب الضغائن ، فالمراد بالأول إصلاح ذات البين من الاقتتال وتسكين الحقد والغضب منهما ونفي الشبهة فقط إلا إذا أصرتا فحينئذ يجب المقاتلة ولا يتجه الضمان ، والمراد بالثاني هو الإصلاح من البغي والتعدى بالضمان (٣) يتجه فيه بطريق العدل والإصلاح مختص بالمؤمنين ، يوضح ذلك قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) أي بين المتنازعين منكم ، وثني لأن النزاع لا يكون إلا بين اثنين أولا ثم يتعدى إلى الجماعة ، وقيل : المراد بال «أخوين» الأوس والخزرج (٤)(وَاتَّقُوا اللهَ) أي لا تعصوه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [١٠] فلا تعذبوا ، ودلت الآية على أن البغي لا يزيل الإيمان ، لأنهم سموا مؤمنين مع وجود البغي بالاقتتال (٥).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ) نزل حين سخر وفد تميم من فقراء المسلمين كعمار وصهيب (٦) ، أي لا تستهزئ (٧) جماعة الرجال (مِنْ قَوْمٍ) أي من جماعة مثلهم والقوم مخصوص بالرجال يوضحه قوله (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) ، وإنما نهي السخرية عن الجمع لأن السخرية تكون (٨) غالبا بين جمع ، قوله (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي أفضل وأكرم على الله من الساخرين علة للنهي الأول ، وعطف على «قَوْمٌ» (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) أي لا تستهزئ امرأة من امرأة (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) أي أفضل عند الله (٩) قدرا من الساخرات علة للنهي الثاني ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : «البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا» (١٠) ، وإنما لم يقل امرأة من رجل ولا بالعكس للإشعار بأن مجالسة الرجل والمرأة مستقبح شرعا ، لأن الإنسان انما يسخر ممن يلابسه غالبا (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تعيبوا إخوانكم المسلمين ، لأنهم كأنفسكم ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، قال عليه‌السلام : «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس» (١١) ، أي لا تعيبوا إخوانكم المسلمين لأنهم كأنفسكم (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا تسموا ولا تلقبوا بالألقاب القبيحة كالفاسق والكاذب والكافر ، من النبز وهو اللقب ، واللقب ما يسمى به الإنسان بعد اسمه

__________________

(١) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٣ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٢٤ ؛ والبغوي ، ٥ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٣.

(٣) بالضمان ، وي : فالضمان ، ح.

(٤) هذا القول مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ١٨.

(٥) بالاقتتال ، ح و : بالقتال ، ي.

(٦) عن الضحاك ، انظر البغوي ، ٥ / ٢٠٢.

(٧) لا تستهزئ ، ح و : لا يستهزئ ، ي.

(٨) تكون ، وي : يكون ، ح.

(٩) عند الله ، وي : ـ ح.

(١٠) انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٦٤.

(١١) ذكره العجلوني في كشف الخفاء ، ١ / ١١٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٩.

١٣٥

العلم من لفظ يدل على المدح أو الذم لمعنى فيه والمنهي عن التقليب ما يستكرهه المدعو به لكونه ذما له وشينا ، وأما ما يحبه مما يزينه فلا بأس به ، قال عليه‌السلام : «من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه» (١)(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الاسم الذي سمي به الملقب اسم الفسوق بعد إيمانه كزيد اليهودي وعمرو الناصراني أو (بَعْدَ) بمعنى مع ، لأنه نهي عن الجمع بين الفسق والإيمان ، أي لا تفسقوا بعد ما آمنتم ، قيل : نزلت الآية في أبي مالك كان على المقاسم ، فقال لعبد الله السلمي يا أعرابي ، فقال له عبد الله يا يهودي ، فأمرهما رسول الله عليه وسلم أن لا يدخلا عليه حتى يظهر توبتهما (٢)(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) من السخرية واللمز والنبز (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [١١] أي العاصون بالله ورسوله فأوثق أبو مالك وعبد الله أنفسهما حتى قبلت توبتهما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا) أي أبعدوا عنكم (كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) وهو ظنكم بأهل الخير سوء ، أي تحققوه (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي معصية يستحق عليها العقاب ، وذلك البعض كثير لأنه ظن السوء بالمؤمنين ، قيل : إن كان المؤمن موسوما بالصلاح يحتاط في ظن السوء به وإن كان فاجرا يظن به مثل الذي ظهر منه ، وأما ظن الخير والصلاح بالصلحاء والعلماء بالله فمندوب إليه (٣) ، وقيل : «الظن ظنان ، ظن إثم وهو أن يظن ويتكلم به وظن ليس بإثم وهو أن يظن ولا يتكلم به» (٤) ، فلذلك قال إن بعض الظن إثم ، أي لا جميعه (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تطلبوا ولا تتبعوا عورات الناس ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفتنوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فان من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ـ وفي رواية ـ ولو في جوف بيته» (٥) ، وما روي عنه عليه‌السلام : «احترسوا من الناس بسوء الظن» (٦) فانه محمول على حفظ المال في حرزه أو على سوء ظنكم بأنفسكم (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يذكر أحدكم أخاه بظهر الغيب مما يسوءه وهو فيه والغيبة من الاغتياب وهو ذكر السوء في الغيبة ، سئل رسول الله عليه‌السلام عن الغيبة فقال : «أن تذكر أخاك بما يكره فان كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته» (٧) ، أي قلت عليه ما لم يفعله (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) حال من اللحم أو من الأخ (فَكَرِهْتُمُوهُ) عطف على مقدر ، أي إن عرض عليكم فكرهتموه أو هي الفاء الفصيحة بمعنى فقد كرهتموه واستقر ذلك فيكم ، يعني فكما كرهتم أكل لحمه ميتا فكذلك اجتنوبوا ذكره بالسوء وهو غائب ، فان هذا نظير ذلك ، قيل : نزلت الآية في شأن زيد بن ثابت حين ذكر نفر فيه شيئا (٨) ، وقيل : في شأن سلمان وكان في سفر مع أبي بكر وعمر وكان يطبخ لهما فنزلوا منزلا فلم يتهيأ له أن يصلح لهما أمر الطعام لعدم الماء ، ثم بعثناه إلى النبي عليه‌السلام لطلب الطعام منه ، فقال له أسامة لم يبق عند النبي شيء من الطعام ، فرجع سلمان إليهما فقالا إنه لو ذهب إلى بئر كذا ليبس ماؤها (٩) ، الميت بالتخفيف (١٠) كالميت بالتشديد مثل ضيق وضيق (وَاتَّقُوا اللهَ) في الغيبة ، يعني توبوا إليه (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ) أي قابل التوب (رَحِيمٌ) [١٢] بكم بعد توبتكم.

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٦ / ١٩. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٢) هذا منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٥.

(٣) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) عن سفيان الثوري ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٦٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٢٠٤.

(٥) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ٤ / ٤٢١ ، ٤٢٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٢٠٥ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢١.

(٦) ذكره العجلوني في كشف الخفاء ، ١ / ٥٦.

(٧) روى مسلم نحوه ، البر ، ٧٠ ؛ والدارمي ، الرقاف ، ٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٢٠٥ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢١.

(٨) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٩) قد أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٢٠٤.

(١٠) «ميتا» : شدد الياء المدنيان ورويس ، وخففها الباقون. البدور الزاهرة ، ٣٠١.

١٣٦

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي من آدم وحواء ، يعني نسبة أحدكم إلى آدم وحواء كنسبة الآخر إليهما سواء بسواء فلا وجه للتفاضل والتفاخر في النسب ، نزل حين أمر النبي عليه‌السلام بلالا ليؤذن بعد فتح مكة فقال حارث بن هشام أما وجد رسول الله سوى هذا الغراب (١) ، يعني بلالا (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) أي رؤوس (٢) القبائل ، جمع شعب وهو اسم للقبيلة التي تتشعب منها القبائل كمضر وربيعة وخزيمة ، فانها شعوب القبائل (وَ) جعلناكم (قَبائِلَ) أي الأفخاذ كهاشم وبني عامر وبني سعد ، المعنى : خلقناكم من أصل واحد ثم فرقناكم (لِتَعارَفُوا) أي ليعرف بعضكم بعضا ويعطيه حقه لا للتفاخر ، ثم بين ما هو سبب الفخر فقال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) أي أشرفكم وأعزكم (عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي أخوفكم وأخشاكم وإن كان عبدا حبشيا مثل بلال لا أنسبكم للتفاخروا بالأنساب ، قيل : المتقي من انقطع عن الأكوان إلى الله تعالى خشية منه (٣) ، وقال عليه‌السلام : «من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله» (٤)(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأتقاكم (خَبِيرٌ) [١٣] بافتخاركم.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

قوله (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) نزل في جماعة من الأعراب أظهروا الإسلام ليأمنوا به على نفوسهم وأموالهم ، وقيل قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادة ومنوا بذلك على النبي عليه‌السلام وهم بنو أسد جاؤا مع أهاليهم وذراريهم يطلبون الصدقة ، وقالوا يا رسول الله نحن آمنا طوعا فأعطنا من الغنيمة أكثر مما يعطي غيرنا (٥) ، فقال الله (قُلْ) يا محمد (لَمْ تُؤْمِنُوا) حقيقة بمعنى كذبتم في إيمانكم (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي دخلنا في الإسلام مخافة ، والمراد منه لانقياد ، قيل : نظم الكلام يقتضي أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ، وإنما عدل عنه ليفيد هذا النظم تكذيب دعويهم الإيمان ودفع نسبة نفوسهم إليه وقد روعي في هذا النوع أدب حسن حيث لم يلفظه فلم يقل كذبتم ووضع (لَمْ تُؤْمِنُوا) موضعه (٦) ، ثم بين عدم إيمانهم فقال (وَلَمَّا) بمعنى لم ، أي لم (يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي حبه وفي ذكر (لَمَّا) لمعنى التوقيع إيذان بأنه قد وجد من بعضهم إيمان فلذا لم يقل لم يدخل ، قيل : ذكر (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) بعد قوله (لَمْ تُؤْمِنُوا) تكرير من غير فائدة ، أجيب بأن فائدة قوله (لَمْ تُؤْمِنُوا) تكذيب دعويهم ، وفائدة قوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطاة قلوبكم لألسنتكم ، لأن قوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) في موقع الحال من ضمير (قُولُوا) ، ففيه معنى التوقيت (٧)(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في السر كما تطيعونه في العلانية (لا يَلِتْكُمْ) أي لا ينقصكم (مِنْ أَعْمالِكُمْ) أي من ثوابها (شَيْئاً) بل يوفرها لكم ، من لات يليت ، أي نقص ، وقرئ بالهمز الساكن (٨) من ألت يألت ، أي أبطل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [١٤] إن صدقتم بقلوبكم.

__________________

(١) عن مقاتل ، انظر ٥ / ٢٠٦.

(٢) رؤوس ، وي : رأس ، ح.

(٣) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) انظر الكشاف ، ٦ / ٢٢. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٥) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٦٦ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٢ ـ ٢٣ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٢٧.

(٦) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٢٢.

(٧) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٢٢. كأنه قيل لهم ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطاة قلوبكم لألسنتكم لأن قوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم في موقع الحال من ضمير قولوا ففيه معنى التوقيت ، وي : وهو قوله أسلمنا لأنه كلام واقع موقع الحال وقوله لم تؤمنوا يفيد مجرد تكذيب دعويهم وليس فيه تكرير ، ح.

(٨) «لا يلتكم» : قرأ البصريان بهمزة ساكنة بعد الياء وأبدل همزه مطلقا السوسي وحده ، والباقون بترك الهمز. البدور الزاهرة ، ٣٠٢.

١٣٧

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧))

ثم بين المصدقين بقلوبهم من المؤمنين فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في الإيمان (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا في إيمانهم باعتراضهم الشيطان من الإنس والجن ، وعطف ب (ثُمَّ) التي هي كلمة التراخي على الإيمان مع وجوب كون عدم الارتياب مقارنا للإيمان إشعارا باستقراره (١) في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضبا جديدا (وَجاهَدُوا) الأعداء (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [١٥] في إيمانهم وبعد نزوله أتوا النبي عليه‌السلام فحلفوا بالله أنهم لمؤمنون في السر كما في العلانية ، فقال تعالى يا محمد (قُلْ) لهم (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) الذي أنتم عليه (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي سر أهلهما (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [١٦] من التصديق في قلوبكم وغيره ، فقالوا يا رسول الله جئناك بأهالينا وأولادنا للإسلام فأمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام أن ينفي منة الأعراب عليه فقال تعالى (٢)(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ) أي يعتد (عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) أي وفقكم (لِلْإِيمانِ) على ما زعمتم أنكم أرشدتم إليه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [١٧] أي مخلصين في قلوبكم ذلك الادعاء ، لأنكم إذا أخلصتم في الإيمان اعترفتم أن المنة لله ورسوله عليكم بالإيمان لا لكم.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يعلم سر أهلهما من الصدق والكذب وغيرهما فلا يخفى عليه ما في ضمائركم وظواهركم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [١٨] بالياء والتاء (٣) ، أي بأعمالكم الحسنات والسيئات فيجازيكم عليها ، وفيه تهديد شديد.

__________________

(١) باستقراره ، ح و : باستقرار ، ي.

(٢) تعالى ، ي : ـ ح و.

(٣) «تعملون» : قرأ المكي بياء الغيبة ، وغيره بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٠٢.

١٣٨

سورة ق

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١))

قوله (ق) بمعنى قف وتبصر أو قسم الله تعالى به (١) ، أي بحق القائم بالقسط أو «جبل محدق بالدنيا من زبرجدة خضراء لكل بلد وقرية منها عرق وملك موكل عليها واضع كفه به ، فاذا أراد الله إهلاك قوم حرك عرقه فخسف بهم» (٢) ، يعني بحق «ق» (وَ) بحق (الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [١] أي الشريف على غيره من الكتب ، والجواب محذوف ، أي لتبعثن يوم القيامة ، لأن أهل مكة أنكروا البعث ولم يؤمنوا بمحمد عليه‌السلام وما جاءهم (٣) به من الآيات.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣))

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) أي من (٤) مجيء نذير (مِنْهُمْ) أي من أهل مكة (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا)(٥) أي أمر محمد (شَيْءٌ عَجِيبٌ) [٢] وهو كونه رسولا من الله مخبرا بالبعث بعد الموت وهو من نسبهم وقالوا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أي أنرجع بعد الموت إلى الحيوة (ذلِكَ) أي الرجع بعد الموت (رَجْعٌ بَعِيدٌ) [٣] في غاية من الوهم والعادة ، أي لا يكون أبدا بعدما صرنا ترابا ، فناصب الظرف محذوف وهو أنرجع بدلالة ما بعده.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤))

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ) أي تأكل (مِنْهُمْ) أي من لحومهم وعروقهم وما بقي منهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» (٦) ، أي عجزه ، والعجب بسكون الجيم عظم يبقى من البدن فاذا أراد الله الإعادة ركب على ذلك العظم سائر البدن وإحيائه (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) [٤] أي حافظ لما كتب فيه من البدن أو العود والجزاء والحساب وغيرها أو هو محفوظ أن يناله بسوء وهو اللوح.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))

(بَلْ كَذَّبُوا) إضراب آخر للدلالة على أن تكذيبهم أمر محمد الثابت بالمعجزات أفظع من تعجبهم (٧) أن جاءهم نذير منهم ، أي لم يعترف أهل مكة بأمر (٨) البعث وأمر محمد والقرآن بل كذبوا (بِالْحَقِّ) أي بما هو حق واقع لا

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٢١١.

(٢) عن عكرمة والضحاك ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٦٨ ؛ والبغوي ، ٥ / ٢١١.

(٣) جاءهم ، وي : جاء ، ح.

(٤) من ، وي : ـ ح.

(٥) هذا ، + ح.

(٦) رواه مسلم ، الفتن ، ١٤١ ـ ٤٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٤.

(٧) تعجبهم ، وي : تعجيبهم ، ح.

(٨) بأمر ، ح و : أمر ، ي.

١٣٩

شك فيه (١) ، لأنه واضح بالدلائل القطعية والمراد منه نبوته أو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) أي حين مجيئه إياهم (فَهُمْ) أي قريش في شأن محمد والقرآن (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) [٥] أي في قول مضطرب ، لأنهم قالوا مرة هو ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن ومرة مجنون وللقرآن شعر وسحر وكهانة ، المعنى : أنهم لم يثبتوا على حال في شأنهما.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦))

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) أي أنكروا البعث فلم ينظروا (إِلَى) خلق (السَّماءِ) الذي يدل على قدرته على البعث (٢) بعد الموت ، وهو أعظم خلقه فيعتبرون حين أنكروه ، قوله (فَوْقَهُمْ) ظرف ل (يَنْظُرُوا) أو حال من «السَّماءِ» (كَيْفَ بَنَيْناها) بلا عمد (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [٦] أي من شقوق وخلل ، يعني هي سليمة من كل عيب.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨))

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها على وجه الماء منصوب بفعل يفسره ما بعده (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي الجبال الثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف (بَهِيجٍ) [٧] أي حسن يسر به من الثمار والنبات. قوله (تَبْصِرَةً) مفعول له ، أي خلقها الله تعالى للاعتبار بالبصيرة (وَذِكْرى) أي لعظة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [٨] أي رجاع إلى توحيد الله وطاعته.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أي كثير الخير والبركة ، لأنه يحيى به كل شيء (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [٩] أي حب الزرع والنبت الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي أنبتنا به النخل حال كونها طوالا في السماء مواقير بالحمل (لَها طَلْعٌ) أي ثمر كثير أو الكفرى وهي أول ما يخرج من النخل مثل لسان البقر فيه ثمر (نَضِيدٌ) [١٠] أي نضد وركب بعضه فوق بعض.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ) مفعول له ، أي ليكون طعاما للخلق (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بالماء (بَلْدَةً مَيْتاً) أي يابسة لا نبات فيها ، فهذا كله بيان بركات المطر ، قوله (كَذلِكَ) مرفوع المحل خبر المبتدأ وهو (الْخُرُوجُ) [١١] من القبر ، يعني مثل ذلك الإحياء يخرجون من القبور ، روي : أنهم لما ماتوا بقيت الأرض خالية ميتة فأمطرت السماء أربعين ليلة كمني الرجال يدخل في الأرض فينبت لحومهم وعروقهم وعظامهم ، ثم يحييهم ويخرجهم من تحت الأرض (٣).

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤))

قوله (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) الآية فيه تسلية للنبي عليه‌السلام ليصبر على أذى كفار قريش ، أي كذبت قبل قريش (قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ) وهو بئر قريب من اليمامة (٤)(وَثَمُودُ [١٢] وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) [١٣] أي قومه.

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي قوم شعيب (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو تبع الحميري وكان رجلا صالحا يعبد الله تعالى وترك دين قومه ، وقيل : كان اسمه أسعد وكنيته أبو كرب (٥)(كُلٌّ) أي كل قوم المذكورين (كَذَّبَ الرُّسُلَ) كما كذبك

__________________

(١) فيه ، وي : ـ ح.

(٢) على البعث ، ح و : بالبعث ، ي.

(٣) هذا منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٢٧٠.

(٤) راجع في هذا الموضوع إلى تفسير قوله «وَعاداً وَثمودا وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً» ، رقم الآية (٣٨) من سورة الفرقان.

(٥) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٢٧٠.

١٤٠