عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

عطف على (ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) ، أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف وأقل من الثلث ، وهو الوجه الأول من التخيير ، قوله (وَطائِفَةٌ) عطف على ضمير الفاعل في (تَقُومُ) ، وجاز العطف للفصل ، أي تقوم أنت وتقوم طائفة (مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي من أصحابك (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يحصيهما بساعاتهما يقينا ، يعني يضبط الساعات منهما ويميز المفروض منهما (١) للقيام من غير المفروض عليكم وأنتم لا تقدرون على التمييز بينهما (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي الليل بمعرفة الساعات وضبط الأوقات فتعرفوا المفروض عليكم منهما (٢) من غير المفروض يقينا إلا بقيام جميع الليل ، وذلك يشق عليكم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي عاد بالتجاوز عنكم وترك ما فرض عليكم من قيام الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) في جوف الليل (مِنَ الْقُرْآنِ) من غير توقيت لصلوة ، فالمراد القراءة من القرآن لا غير ، قيل : من قرأ مائة آية منه ، وقيل : خمسين لم يحاجه القرآن (٣) أو المراد بالقراءة الصلوة ، لأنها بعض أركانها كما يعبر عنها بالقيام والركوع والسجود ، أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل ، وهذا ناسخ للأول ، ثم تسخا جميعا بالصلوات الخمس (٤) ، روي : أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاموا الليل كله حين علموا فرضية القيام من قوله (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) سنة حتى انتفخت أقدامهم فنزل ترخيصا لهم في ترك القيام المقدر «علم أن لن تحصوه» الآية (٥) ، قوله (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) إشارة إلى حكمة النسخ وهي تعذر القيام بأسباب ثلاثة ، و (إِنَّ) مخففة من الثقيلة ، والسين عوض من التخفيف واسمها ضمير الشأن ، أي علم الله أن الشأن سيكون منكم مرضى لا يقدرون على قيام الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ) أي يسافرون (فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ) أي يطلبون (مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي من رزقه بالتجارة وغيرها ، قال عليه‌السلام : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء» (٦)(وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وفي الآية دليل على أن كسب الحلال بمنزلة الجهاد ، المعنى : أنكم تضعفون عن قيام الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي الصلوات الخمس (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي تصدقوا من أموالكم سوى المفروض منها بنية خالصة ، قوله (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) «ما» فيه شرطية ، أي ما تعملوا من عمل صالح مما يتعلق بالنفس والمال والجهاد والتصدق على المساكين بطيبة نفس (تَجِدُوهُ) أي ثوابه (عِنْدَ اللهِ) أي في الآخرة (هُوَ خَيْراً) هو فصل بين مفعول «تجدوا» الأول وبين المفعول الثاني ، أعني خيرا وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن أفعل من أشبه المعرفة لامتناعه من التعريف كالمعرف باللام ، قوله (وَأَعْظَمَ أَجْراً) عطف على (خَيْراً) ، أي أكبر ثوابا من تجارتكم ومعاملتكم في الدنيا (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) لذنوبكم بالتوبة إليه تعالى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب (رَحِيمٌ) [٢٠] لمن أطاع ولم يعص بعد التوبة.

__________________

(١) منهما ، ح : منها ، وي.

(٢) منهما ، ح : منها ، وي.

(٣) أخذ المؤلف هذه الأقوال عن الكشاف ، ٦ / ١٧٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٤٧٥.

(٤) نقله المفسر عن الكشاف ، ٦ / ١٧٤ ؛ وانظر أيضا قتادة (كتاب الناسخ والمنسوخ) ، ٥٠ ؛ والبغوي ، ٥ / ٤٧٥.

(٥) عن الحسن ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤١٨.

(٦) انظر البغوي ، ٥ / ٤٧٥ (عن ابن مسعود) ؛ والكشاف ، ٦ / ١٧٥ (عن ابن مسعود) ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤١٩. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

٢٦١

سورة المدثر

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢))

قوله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [١] أي المتلفف بالدثار وهو ثوب فوق الشعار ، والشعار ما يلي الجسد ، نزل حين قضى النبي عليه‌السلام جواه بحراء ، بكسر الحاء ممدودا جبل بمكة ، ثم نزل في بطن الوادي فاستبطأ فيه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنوديت فرفعت رأسي فاذا في الهواء جبرائيل عليه‌السلام يقول : إنك نبي الله ، فرعبت منه فجئت إلى أهلي ـ يعني خديجة ـ فقلت : دثروني فدثروني بثوبي ، فسمعت يا أيها المدثر» (١) ، أي بثوبه على فراشه وهذا يدل على أنه أول ما نزل (٢) ، وقيل : هذا بعد فترة الوحي (٣) ، وقيل : سمع المكروه من قريش فاغتم فتلفف بثوبه مفكرا فأمر بأن لا يدفع إنذارهم لذلك بقوله (٤)(قُمْ) من مضجعك (فَأَنْذِرْ) [٢] أي خوف الكفار بالنار (٥) أن يؤمنوا بعد دعوتك إياهم إلى التوحيد وترك الشرك.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥))

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [٣] أي قم فكبر ربك ، يعني صفه بالكبرياء أو كبره (٦) للصلوة ، فالفاء في جواب الجزاء ، (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [٤] أي قم فطهر نفسك من الذنب بالتوبة أو ثيابك من النجاسة لتصلي لربك لأن الصلوة لا تصح معها (وَالرُّجْزَ) بالضم والكسر (٧) العذاب (فَاهْجُرْ) [٥] أي اقطع واترك كل ما هو سبب للعذاب من الصنم وغيره.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧))

(وَلا تَمْنُنْ) أي لا تعط (٨) شيئا قليلا (تَسْتَكْثِرُ) [٦] بالرفع نصب على الحال (٩) ، أي لا تعط مالك أحدا طالبا به أكثر منه ، قيل : هو محرم على النبي عليه‌السلام تشريفا له (١٠) ، ويجوز لغيره لقوله عليه‌السلام «المستغزر يثاب من هبته» (١١) ، والاستغزار أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب ، وقيل : هو نهي تنزيه له ولأمته (١٢)(وَلِرَبِّكَ) أي لأجل أمره (فَاصْبِرْ) [٧] على الطاعة وكل شديدة ، وفيه تعزية له ليصبر على أذى المشركين.

__________________

(١) رواه البخاري ، تفسير القرآن (تفسير سورة المدثر) ، ٧٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٢٠ ؛ والواحدي ، ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ؛ والبغوي ، ٥ / ٤٧٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٧٥.

(٢) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ١٧٥.

(٣) ولم أعثر عليه في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) نقل المؤلف هذا القول عن الكشاف ، ٦ / ١٧٥.

(٥) بالنار ، ح : النار ، وي ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٢٠.

(٦) كبره ، وي : كبر ، ح.

(٧) «والرجز» : قرأ أبو جعفر ويعقوب وحفص بضم الراء ، وغيرهم بكسرها. البدور الزاهرة ، ٣٣١.

(٨) تطه ، وي : تطعه ، ح.

(٩) هذه القراءة مأخوذة عن الكشاف ، ٦ / ١٧٦.

(١٠) أخذ المفسر هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ١٧٦.

(١١) انظر الكشاف ، ٦ / ١٧٦. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(١٢) هذا القول منقول عن الكشاف ، ٦ / ١٧٦.

٢٦٢

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

(فَإِذا نُقِرَ) أي اصبر أنت على ذلك ، فاذا نفخ (فِي النَّاقُورِ) [٨] أي في الصور (فَذلِكَ) مبتدأ ، أي زمان النفخ فيه (يَوْمَئِذٍ) أي يوم ينقر في الناقور (يَوْمٌ عَسِيرٌ) [٩] أي شديد أمره (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [١٠] أي لا يرجى أن يرجع يسيرا كما يرجى تيسير العسير في الدنيا ف (يَوْمَئِذٍ) ظرف ل (يَوْمٌ عَسِيرٌ) ، قدم عليه و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) خبر (فَذلِكَ) ، وقيل : عامل الظرف ما دل عليه الجزاء ، أي عسر الأمر على الكافرين (١) ، لأن الصفة لا تعمل فيما قبلها ، فالمعنى : إذا نقر في الناقور ، فزمان ذلك النقر يوم اشتد أمره وقت النقر ، واختلف في أن النقر فيه هو النفخة الأولى أم الثانية ، ولو قال قائل ما فائدة قوله (غَيْرُ يَسِيرٍ) و (عَسِيرٌ) قبله يغني عنه؟ أجيب بأنها إيذان على أنه يسير على المؤمن عسير على الكفار (٢).

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١))

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ) عطف على الياء المفعول ، أي اتركني واترك من خلقته (وَحِيداً) [١١] لم يشركني فيه غيري ، حال من التاء في (خَلَقْتُ) أو المعنى : ذرني وحدي معه ، فالواو بمعنى مع والمراد بيان الاقتدار على الانتقام منه فيكون حالا من الياء في (ذَرْنِي) ، يعني فوض أمره إلي فأنا أكفيك منه وهو الوليد بن المغيرة.

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤))

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) [١٢] أي مالا (٣) كثيرا متصلا لا ينقطع كالزروع والضروع والجارات ، قيل : «كان له أربعة آلاف» (٤) أو «تسعمائة ألف مثقال فضة» (٥)(وَبَنِينَ شُهُوداً) [١٣] أي وجعلته له بنين حضورا معه لا يغيبون عنه في التجارات والمحافل ، وكانوا عشرة يستأنس بهم ولا يحزن بفراقهم (وَمَهَّدْتُ) أي بسطت (لَهُ) في العمر والعيش والولد (تَمْهِيداً) [١٤] أي بسطا وافرا.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧))

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) [١٥] ذلك له (٦) ليفتخر به ويعصيني ، قوله (كَلَّا) ردع لما طمعه ، أي (٧) لا أزيد له ماله وعمره وولده ، قيل : هلك عامة ماله وولده بعد ذلك (٨)(إِنَّهُ) أي الوليد (كانَ لِآياتِنا) أي للقرآن (عَنِيداً) [١٦] أي معاندا مكذبا (سَأُرْهِقُهُ) سأكلفه في النار (صَعُوداً) [١٧] أي جبلا من نار يصعد عليه سبعين خريفا ، ثم ينحط منه إلى أسفله كذلك أبدا.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠))

(إِنَّهُ) أي الوليد (فَكَّرَ) في شأن محمد عليه‌السلام لما سمع قراءته القرآن ، فقال لقومه : إنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأقربائه (وَقَدَّرَ) [١٨] في نفسه ما يقوله وهيأه من الأوصاف الشنيعة طعنا في القرآن ، فقال هو سحر منقول عن السحرة فسمعه قومه فرضوا عنه فقال تعالى (فَقُتِلَ) أي لعن (كَيْفَ قَدَّرَ [١٩] ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) [٢٠] تعجيبا من تقديره وإصابته (٩) الغرض الذي كان ينتحيه قريش ، وذلك حين اجتمعوا في نواحي مكة في أيام الموسم فتدبروا في أمر محمد عليه‌السلام فتكلم كل بما عنده من الوصف بالجنون والكهانة والشعر فرد ذلك كله ، ثم سألوا عنه ففكر زمانا ثم رجع إليهم فقال إني فكرت في أمر محمد عليه‌السلام فاذا هو ساحر وما

__________________

(١) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ١٧٧.

(٢) على المؤمن عسير على الكافر ، وي : على المؤمنين علسير على الكافرين ، ح.

(٣) مالا ، ح : ـ وي.

(٤) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٧٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٢١.

(٥) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٧٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٧٧.

(٦) له ، وي : ـ ح.

(٧) أي ، ح و : أن ، ي.

(٨) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٤٢٢.

(٩) إصابته ، وي : إصابة ، ح.

٢٦٣

يقوله سحر مؤثر ، فأخبر تعالى عن حاله بقوله (إِنَّهُ فَكَّرَ) الآية.

(ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣))

(ثُمَّ نَظَرَ) [٢١] فيما يبطل به القرآن أو نظر في وجوه قومه ، (ثُمَّ عَبَسَ) أي قبض وجهه ضيقا بما يقول من الحيل في حق القرآن ، وقيل : عبس وجهه بكراهة شديدة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)(وَبَسَرَ) [٢٢] أي زاد في التقبض (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أعرض عن الإيمان (وَاسْتَكْبَرَ) [٢٣] عن اتباع محمد عليه‌السلام ، و (ثُمَّ) الداخلة في تكرير الدعاء للدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى (٢).

(فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦))

(فَقالَ إِنْ هذا) أي ما هذا الذي يقوله محمد (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [٢٤] أي يروى عن السحرة ، يعني يرويه محمد عن صاحب اليمامة وهو مسيلمة الكذاب ، وإنما أدخل الفاء في (فَقالَ) دون «ثم» لأن الكلمة الشنعاء لما خطرت (٣) بباله استعجل أن ينطلق بها من غير تلبث ، ثم قال من غير توسط (٤) حرف العطف بين الجملة دلالة على أن الثانية بمنزلة التأكيد للأولى (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [٢٥] لا وحي من الله ، فقال تعالى (سَأُصْلِيهِ) أي سأدخله (سَقَرَ) [٢٦] اسم من أسماء النار.

(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩))

قوله (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) [٢٧] تعظيم لشأن تلك النار ، ثم بين بقوله (لا تُبْقِي) لحما إلا أكلته ، ثم يعود كما كان (وَلا تَذَرُ) [٢٨] أي لا تتركهم تلك النار إذا أعيدوا فيها خلقا جديدا (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) [٢٩] أي هي محرقة لبشرة الجلد وهي ظاهره.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

(عَلَيْها) أي على النار (تِسْعَةَ عَشَرَ) [٣٠] من الملائكة مسلطون من رؤساء الخزنة ، وأما الزبانية فلا يحصى عددهم ، قيل : أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصي ، أي القلاع يخرج لهب النار من أفواههم نزعت منهم الرحمة يدفع أحدهم سبعين ألفا يرميهم حيث أراد من جهنم (٥).

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

وقال رجل من المشركين وكانت له قوة شديدة وهو أبو الأشد بن أسيد بن كلدة أنا أكفيكم تسعة عشر فنزل تجهيلا له (٦)(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) غلاظا شدادا لا يغلبهم أحد من غير جنسهم وليسوا كما يتوهم الكفار (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) يعني تسعة عشر لأنفس العدة (إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي بلاء وضلالا للكافرين بأن يقولوا لم كانوا تسعة عشر (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اللام فيه للتعليل وهو لا يقتضي كون ما دخل غرضا ، أي ليطمئن قلوب اليهود صدق محمد عليه‌السلام ، لأن عددهم في التورية تسعة عشر (وَيَزْدادَ) أي وليزداد (الَّذِينَ آمَنُوا) بالقرآن من أهل الكتاب (إِيماناً) أي تصديقا لموافقته كتابهم ، وأكد الاستيقان بقوله (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) لأن إثبات اليقين ونفي الريب آكد وأبلغ في وصفهم لسكون النفس ، أي لا

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٥ / ٤٨١.

(٢) الأولى ، وي : الأول ، ح.

(٣) خطرت ، و : أخطرت ، ي ، خطر ، ح ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٧٩.

(٤) توسط ، وي : توسيطه ، ح.

(٥) نقله المفسر عن البغوي ، ٥ / ٤٨٢.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٤٢٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٨٠.

٢٦٤

يشكوا في ذلك (وَالْمُؤْمِنُونَ) من غيرهم في عدد الملائكة (وَلِيَقُولَ) في الزمان المستقبل بعد الهجرة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك في المدينة وهم المنافقون (وَالْكافِرُونَ) أي المشركون بمكة (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) أي أي شيء الذي أراده بالعدد المخصوص (مَثَلاً) تمييز ل «هذا» وسماه مثلا ، لأن مثل هذا القول في الغرابة مما تسير به الركبان سيرها بالأمثال في البلاد ، ولا يشكل التعليل باللام في (لِيَقُولَ) لأنها أفادت معنى العلة وهي لا يقتضي كونها غرضا (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإضلال لمنكري العدد المخصوص (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي يوفقه للإيمان به ، قوله (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي الله تعالى يعلم جنوده لفرط كثرتها وقوتها لا غير ، رد لقول أبي جهل حيث قال : ما كان لمحمد أعوان إلا تسعة عشر (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى) أي ما الآيات المذكورة أو ما ذكر (سَقَرُ) إلا عظة (لِلْبَشَرِ) [٣١] ليؤمنوا.

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥))

قوله (كَلَّا) إنكار أن يكون الآيات أو ذكر (سَقَرُ) ذكرى لهم ، لأنهم لا يتذكرون لشدة عنادهم ، قوله (وَالْقَمَرِ) [٣٢] قسم أقسم بالقمر (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [٣٣] بسكون الذال من إذ وأفعل ، وقرئ إذا دبر بفتح الذال منه وفعل كأقبل وقبل بمعنى واحد (١) ، يقال دبر الليل النهار إذا خلفه وأدبر كذلك ، (وَالصُّبْحِ) أي أقسم بالصبح (إِذا أَسْفَرَ) [٣٤] أي ظهر ، قوله (إِنَّها) جواب القسم ، أي إن «سَقَرُ» (لَإِحْدَى الْكُبَرِ) [٣٥] أي البلايا العظام جمع الكبرى.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

قوله (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) [٣٦] حال من «إحدى» ، أي ذات إنذار للخلق أو منذرة لهم وذكر لكونه بمعنى العذاب ، قوله (لِمَنْ شاءَ) بدل من (لِلْبَشَرِ) ، أي نذير لمن شاء (مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ) إلى الخير أو إلى الجنة (أَوْ) أن (يَتَأَخَّرَ) [٣٧] إلى الشر أو إلى النار.

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨))

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [٣٨] أي كل نفس كافرة محبوسة بعملها السوء في النار ، وال (رَهِينَةٌ) مصدر بمعنى الرهن وليس التاء فيه للتأنيث بل للاسمية ، لأنه قصد الصفة لقيل رهين ، إذ هو بمعنى مفعول ، يستوي فيه المذكر والمؤنث.

(إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١))

قوله (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [٣٩] استثناء منقطع ، أي لكن أصحاب اليمين الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق ليسوا مرتهنين بأعمالهم ، قوله (فِي جَنَّاتٍ) حال من «أَصْحابَ الْيَمِينِ» (يَتَساءَلُونَ) [٤٠] بينهم فيها (عَنِ) حال (الْمُجْرِمِينَ) [٤١] فيسأل المؤمنون المسؤولون عنهم لمن (٢) في النار إذا خرج الموحدون منها مع علمهم بحالهم توبيخالهم وتخسيرا حين نظروا إلى النار.

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨))

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [٤٢] أي ما أدخلكم فيها أو التقدير فيقولون لهم قلنا لهم ما سلككم في سقر ، فهو

__________________

(١) «إذ أدبر» : قرأ نافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف باسكان الذال في «إذ» و «أدبر» بهمزة مفتوحة وإسكان الدال بعدها وورش على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الذال وحذف الهمزة ، والباقون بفتح ذال «إذ» وألف بعدها ، و «دبر» بحذف الهمزة قبلها وفتح الدال. البدور الزاهرة ، ٣٣١.

(٢) لمن ، ح و : من ، ي.

٢٦٥

حكاية قول المسؤلين عنهم على سبيل الاختصار (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [٤٣] أي المقرين بالصلوة (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [٤٤] أي لا نؤدي الزكوة إلى المساكين لعدم إقرارنا بها (وَكُنَّا نَخُوضُ) في الباطل (مَعَ الْخائِضِينَ) [٤٥] المستهزئين بالحق (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [٤٦] أي يوم البعث والحساب (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) [٤٧] أي الموت والقيامة ، قيل : يحتمل أن يكون سبب السلوك فيها مجموع هذه الأربع وأن يكون البعض منها سببا للبعض منهم ، وإنما أخر التكذيب وهو أعظمها ، لأن في تأخيره تعظيما كما في قوله () [١] (٢) ، فقال تعالى إقناطا لهم عن الشفاعة المأمولة لهم (فَما تَنْفَعُهُمْ) يوم القيامة (شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [٤٨] من الملائكة والأنبياء والصالحين.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١))

(فَما لَهُمْ) أي أي حال للمشركين (عَنِ التَّذْكِرَةِ) أي عن (٣) العظة بالقرآن (مُعْرِضِينَ) [٤٩] حال من الضمير في «لَهُمْ» (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) [٥٠] أي طالبة للنفرة لشدة خوفها (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [٥١] أي من أسد ، شبههم بالحمر الوحشية المستنفرة من السبع في تنفرهم عن الإيمان وتكذيب القرآن لعدم عقلهم وقرئ بفتح الفاء (٤) ، أي استنفرها غيرها.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢))

قوله (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) نزل حين قال الكفار لا نؤمن بك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤ ، وروي أنهم قالوا ليصبح عند رأس كل منا كتاب من الله إلى فلان بن فلان على التعيين حتى نؤمن بك يا محمد (٥) ، فقال تعالى :

هم لا يؤمنون بل يريد كل امرئ منهم (أَنْ يُؤْتى صُحُفاً) أي قراطيس (مُنَشَّرَةً) [٥٢] أي مكشوفة مكتوبة فيها جرمه وتوبته وأمنه من النار.

(كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤))

قوله (كَلَّا) ردع لقولهم ، أي لا يكون هذه الإرادة أبدا (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) [٥٣] أي عذابها لعدم إيمانهم بها (كَلَّا) أي حقا (إِنَّهُ) أي القرآن (تَذْكِرَةٌ) [٥٤] أي عظة بليغة كافية للخلق.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

(فَمَنْ شاءَ) أن يذكره (٦) ويتعظ به (ذَكَرَهُ) [٥٥] أي قرأه واتعظ به.

(وَما يَذْكُرُونَ) أي وما يتعظون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ذلك لهم بالقسر والإلجاء ، لأنه معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) أي الله تعالى أهل أن يتقى منه ويوحد بالدلائل ويطاع ولا يعصى (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [٥٦] أي وأهل أن يغفر لمن تاب عن الشرك واتقاه.

__________________

(١) البلد (٩٠) ، ١٧.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٦ / ١٨٢.

(٣) عن ، وي : ـ ح.

(٤) «مستنفرة» : فتح الفاء المدنيان والشامي ، وكسرها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٣١.

(٥) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٤٢٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٤٨٦ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٨٣.

(٦) أن يذكره ، وي : أن يذكر ، ح.

٢٦٦

سورة القيامة

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢))

(لا أُقْسِمُ) أي أقسم (بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [١] لعظمتها بحكم زيادة (لا) لتأكيد القسم كما مر في الواقعة (١)(وَ) كذا في (لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [٢] وهي التي تلوم نفسها بايمانها وإن اجتهدت في الإحسان لكرامتها عند الله ، إذ الكافر لا يعاتب نفسه بمضي الدهور عليه لعدم إيمانه ، وجواب القسم محذوف بدلالة ما بعده ، أي لتبعثن يوم القيامة.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤))

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ)(٢) الذي ينكر البعث وهو عدي ابن أبي ربيعة ، قال لرسول الله : يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون؟ وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أو من به أو يجمع الله العظام ، فقال الله تعالى أيظن منكر البعث (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [٣] بعد موته فقال تعالى (بَلى) وهو للإيجاب (٣) بعد النفي ، أي نحن نجمعها (قادِرِينَ) حال من الضمير في «نَجْمَعَ» (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [٤] أي أن نعيد عظام أنامله ونؤلفها كما كانت بعد ما رمت وبليت.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦))

قوله (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) بالتكذيب ، عطف على (يَحْسَبُ) داخلا تحت الاستفهام ، ويجوز أن يكون إضرابا عن المستفهم عنه إلى شيء آخر ، أي يقصد بتكذيبه (لِيَفْجُرَ) أي ليعدل عن الحق ويكثر ذنوبه (أَمامَهُ) [٥] أي فيما بين يديه من الأوقات من غير خوف من البعث (يَسْئَلُ أَيَّانَ) أي متى (يَوْمُ الْقِيامَةِ) [٦] سؤال استهزاء.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩))

(فَإِذا بَرِقَ) بكسر الراء وفتحها (٤) ، أي دهش وتحير عند الموت (الْبَصَرُ) [٧] أي عينه مما يشاهد من أحوال الفزع أو عند البعث خوفا (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) [٨] أي ذهب ضوؤه ، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [٩] فطلعا من المغرب أو سوى بينهما في عدم النور ، وقيل : «يجمعان فيقذفان في البحر ليكونا نار الله الكبرى» (٥).

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢))

(يَقُولُ الْإِنْسانُ) المنكر للبعث (يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) [١٠] أي الفرار ، قوله (كَلَّا) ردع عن طلب الفرار (لا

__________________

(١) انظر سورة الواقعة (٥٦) ، ٧٥.

(٢) أي ، + ي.

(٣) للإيجاب ، وي : الإيجاب ، ح.

(٤) «برق» : فتح الراء المدنيان ، وكسرها الباقون. البدور الزاهرة ، ٣٣٢.

(٥) عن عطاء بن يسار ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٨٩.

٢٦٧

وَزَرَ) [١١] أي قال تعالى لا ملجأ يومئذ يتحصن به من العذاب (إِلى رَبِّكَ) لا إلى غيره (يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [١٢] أي مستقر الخلائق يحاسبون ويجازون فيه ، يعني أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره ، لأن أمور العباد ترجع إلي لا حكم لأحد فيه كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)(١).

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤))

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ) أي يخبر كل (٢) إنسان (يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ) من خير وشر عمله في الدنيا (وَ) بما (أَخَّرَ) [١٣](٣) من حسنة وسيئة سنهما (٤) وعمل بهما بعده (٥) وإن لم ينبأ حقيقة يعلمه أيضا لقوله تعالى (٦)(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [١٤] أي شاهد على نفسه بما عمل ، يعني جوارحه تشهد عليه بما فعل وما قال فيحاسب به ، والتاء في ال (بَصِيرَةٌ) للمبالغة كعلامة.

(وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

قوله (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [١٥] شرط ، جوابه محذوف ، أي لو تكلم بكل معذرة ليتخلص ما قبلت منه وهي اسم جمع لها ، وقيل : «ال (مَعاذِيرَهُ) الستور» (٧) ، أي لو أرخى عليه الستور وأغلق الباب لم ينفعه ذلك.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦))

قوله (لا تُحَرِّكْ بِهِ) أي بالقرآن (لِسانَكَ) نهي للنبي عليه‌السلام عن (٨) قراءة الوحي حين يقرأه جبرائيل عليه‌السلام وأمر بالإنصات له ، أي لا تحركه (٩)(لِتَعْجَلَ بِهِ) [١٦] أي بالقرآن حذرا أن يفوتك شيء منه ، بل أعجل بالعمل بما فيه لخوف القيامة بعد أن يقضي عليك وحيه ، نزل حين كان يعجل به للحفظ عند نزوله لئلا ينسي (١٠) ، يعني لا تقرأه حتى يفرغ جبرائيل من قراءته عليك.

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩))

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك لتحفظه (١١)(وَقُرْآنَهُ) [١٧] أي وقراءته عليك ، يعني وجريانه على لسانك (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي إذا قرأ جبرائيل عليك (فَاتَّبِعْ)(١٢) أي استمع (قُرْآنَهُ) [١٨] أي (١٣) قراءته ، وقيل : «اتبع حلاله وحرامه» (١٤) ، يعني ميز بينهما بأخذ حلاله وترك حرامه (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [١٩] أي بأن نبينه لك حتى تفهمه فكان جبرائيل عليه‌السلام إذا أتاه بالوحي أطرق فاذا ذهب عنه قرأه كما وعده تعالى ، قوله (كَلَّا) ردع للنبي عليه‌السلام عن عادة العجلة وحث على التأني والتؤدة وقد بالغ فيه باتباعه.

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١))

قوله (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) [٢٠] كأنه قال يا بني آدم أنتم لا تتركون العجلة بل لأنكم خلقتم من عجل تعجلون في كل شيء يهمكم ، فلذلك تحبون العاجلة وعملها (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) [٢١] بالتاء والياء في الفعلين (١٥) ، أي تتركون العمل لها ، وفيه توبيخ لهم بحب عمل الدنيا وترك الاهتمام بالآخرة.

__________________

(١) المؤمن (٤٠) ، ١٦.

(٢) كل ، وي : لكل ، ح.

(٣) في الدنيا (و) بما (أخر) ، ح و : في الدنيا بما قدم (وأخر) ، ي.

(٤) سنهما ، وي : سنها ، ح.

(٥) بعده ، وي : ـ ح.

(٦) تعالى ، ح : ـ وي.

(٧) عن الضحاك ، انظر الكشاف ، ٦ / ١٨٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٢٦ ؛ والبغوي ، ٥ / ٤٩١.

(٨) عن ، وي : ـ ح.

(٩) تحركه ، و : تحرك ، ح ي.

(١٠) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ؛ والبغوي ، ٥ / ٤٩١.

(١١) لتحفظه ، ح و : لتحفظ ، ي.

(١٢) قرآنه ، + ح.

(١٣) (قرآنه) أي ، وي : ـ ح.

(١٤) عن محمد بن كعب ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٢٧.

(١٥) «تحبون» ، «وتذرون» : قرأ المكي والبصريان والشامي بياء الغيبة فيهما ، والباقون بتاء الخطاب كذلك. البدور الزاهرة ، ٣٣٢.

٢٦٨

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) هذا بيان حال الخلق يوم القيامة ، قيل : المراد من الوجه هنا الجملة (١) ، أي وجوه منهم يومئذ (ناضِرَةٌ) [٢٢] أي مسرورة حسنة مضيئة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [٢٣] لا إلى غيره أو إلى ثوابه (وَوُجُوهٌ) منهم (يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) [٢٤] أي عابسة مسودة (تَظُنُّ) أي تستيقن (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) [٢٥] أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر ، من فقر إذا كسر.

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦))

قوله (كَلَّا) ردع عن حب العاجلة وترك الآخرة ، أي ارتدعوا عن ذلك وتأهبوا للموت فانكم تنقلون إلى مصيركم ثم من لذاتكم الفانية هنا (إِذا بَلَغَتِ) أي الروح (التَّراقِيَ) [٢٦] جمع الترقوة وهي العظام المكتنفة لعقدة الصدر الملاقية للحلقوم ، وهي عبارة عن حال الإشراف على الموت.

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠))

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) [٢٧] أي من يرقيه من الأطباء ليشفي مما هو فيه (وَظَنَّ) أي تيقن (أَنَّهُ الْفِراقُ) [٢٨] أي أنه يفارق الدنيا (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) [٢٩] أي التوت ساقه بساقه عند الموت (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [٣٠] أي إلى حكم ربك يساق العبد من الثواب والعقاب يوم القيامة ، وهذا المعنى جواب (إِذا) بدلالة «إلى ربك يومئذ المساق».

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣))

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [٣١] أي لم يصدق بتوحيد الله ولم يصل الإنسان في قوله «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» (وَلكِنْ كَذَّبَ) بالتوحيد والقرآن (وَتَوَلَّى) [٣٢] أي أعرض عن الإيمان (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) [٣٣] أي أي يتبختر في مشيته إعجابا لنفسه.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥))

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [٣٤] هذا وعيد على إثر وعيد ، أي العذاب الذي تكره أولى لك ، أي أحرى بك فأولى ، أي فهو أولى لك من غيرك (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [٣٥] ، من الولي (٢) وهو القرب ، قيل : هو في شأن أبي جهل (٣) ، وقيل : في غيره وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره (٤).

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩))

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) أي كل إنسان منكر للقرآن والبعث (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) [٣٦] أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) [٣٧] بالتاء والياء (٥) ، أي تراق في الرحم فيستدل بذلك على أن الله قادر على البعث (ثُمَّ كانَ) أي صار المني (عَلَقَةً فَخَلَقَ) الله منها الإنسان (فَسَوَّى) [٣٨] أي عدل أعضاءه أو جعله معتدل القامة (فَجَعَلَ مِنْهُ) من المني (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [٣٩] وهو ماء واحد.

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

(أَلَيْسَ ذلِكَ) أي فقال هذه الأشياء (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [٤٠] يوم القيامة ، وهو استفهام على سبيل التقرير ، روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ هذه الآية قال : «سبحانك اللهم بلى» (٦).

__________________

(١) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ١٨٧.

(٢) الولي ، ح و : المولى ، ي.

(٣) عن الزجاج ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٢٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٤٩٣.

(٤) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ١٨٨.

(٥) «يمنى» : قرأ حفص ويعقوب بياء الغيبة ، وغيرهما بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٣٢.

(٦) انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٢٨.

٢٦٩

سورة الإنسان (وسورة الدهر)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢))

(هَلْ أَتى)(١) ، (هَلْ) فيه بمعنى قد بتقدير همزة الاستفهام معها تقديره : أقد أتى أو الاستفهام على بابه والمراد التقرير ، أي ألم يأت (عَلَى الْإِنْسانِ) هو آدم (حِينٌ) أي مدة (مِنَ الدَّهْرِ) قيل : هو أربعون سنة (٢)(لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [١] حال من (الْإِنْسانَ) ، أي حال كونه منسيا لا يعرف باسمه ولا يعلم لغير الله ما المراد من خلقته ، وذلك حين كان ملقى بين مكة والطائف زمانا طويلا أو المراد جنس الإنسان ، لأنهم كانوا نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء لا يعرفون ، ويعضده قوله (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي بين آدم (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) جمع مشيج ، أي مختلط من الماءين ، ماء الرجل وماء المرأة ، إذ لا يكون الولد إلا منهما ، وصف المفرد بالجمع لأنها صارت اسما واحدا بعد الجمع أو هي بدل من (نُطْفَةٍ) لا وصف لها ، لأن المراد منها الألوان والأطوار العارضة على النطفة بأن يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ، قوله (نَبْتَلِيهِ) حال مقدرة ، أي خلقناه مبتلين ، يعني مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [٢] ليسمع (٣) الهدى ويبصر الحق تحقيقا للابتداء.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))

(إِنَّا هَدَيْناهُ) أي بينا الإنسان (السَّبِيلَ) أي طريق الهدى والضلالة ، قوله (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [٣] حالان من الهاء في (هَدَيْناهُ) ، أي إما بأن يشكر فيؤمن أو يضل فيكفر ، ثم أتبع الفريقين الوعيد والوعد بقوله (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي للذين كفروا بعد تبيين الطريقين في الآخرة (سَلاسِلَ) بالتنوين وغيره (٤) يسحبون بها في النار (وَأَغْلالاً) في أعناقهم تشد فيها السلاسل بأيديهم (وَسَعِيراً) [٤] أي ونارا موقدة يعذبون بها.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

(إِنَّ الْأَبْرارَ) المطيعين الشاكرين (يَشْرَبُونَ) أي يبدؤون الشرب (مِنْ كَأْسٍ) أي خمر من قدح مملوء (كانَ مِزاجُها) أي ما تمزح به الخمر (كافُوراً) [٥] وهو اسم عين في الجنة يمزج الكأس بمائها ، قوله (عَيْناً) بدل من «كافُوراً» (يَشْرَبُ)(٥) الخمر من القدح (بِها) أي بمائها (عِبادُ اللهِ) أي أولياؤه في الجنة (يُفَجِّرُونَها) أي يجرونها من منازلهم وقصورهم حيث شاؤا (تَفْجِيراً) [٦] أي إجراء يسيرا كيف أحبوا كما يفجر الرجل في الدنيا نهره كيف أحب.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً

__________________

(١) أي ، + ح.

(٢) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٤٢٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٤٩٥.

(٣) ليسمع ، وي : يسمع ، ح.

(٤) «سلاسلا» : قرأ المدنيان وهشام وشعبة والكسائي بالتنوين وصلا وبابداله ألفا وقفا ، والباقون بحذف التنوين وصلا. البدور الزاهرة ، ٣٣٢.

(٥) أي ، + ي.

٢٧٠

وَأَسِيراً (٨))

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨))

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) هذا بيان أعمال صالحة (١) لهم استحقوا بها ذلك الثواب ، أي يتمون نذورهم إذا نذروا في الطاعة دون المعصية (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ) أي عذابه (مُسْتَطِيراً) [٧] أي ظاهرا مستزادا ، من استطار الحرق إذا انتشر وهو يوم القيامة (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي على اشتهائه أو على حب الله (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [٨] أي الذي أسر من دار الشرك أو الذي حبس في السجن ، روي : أن الآية نزلت في شأن علي وفاطمة ، كانا صائمين صوم النذر فانهما نذرا أن يصوما ثلاثة أيام إن عوفي الحسن والحسين من مرضهما فعوفيا ولم يكن عندهما شيء فاستقرض علي رضي الله عنه ثلاثة أصوع شعير من يهودي ، فطحنا وخبزا فجاء سائل فأعطياه بعض الطعام ، ثم جاءهما يتيم فأعطياه من ذلك الطعام ، ثم جاءهما أسير فأعطياه الباقي (٢) فمدحهما الله تعالى بذلك.

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠))

قوله (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) على إرادة القول وهو بيان للفقراء إخلاصهم المنوي في الإطعام خوفا من الله بقولهم ما نطعمكم إلا لوجه الله (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) أي مكافاة على ذلك في الدنيا (وَلا شُكُوراً) [٩] بأن تشكروا لنا على ذلك وتمدحونا ، ويجوز أن يكون قولهم لطفا وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله وأن يكون منعا عن المجازاة بمثله أو بالشكر ، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله ، يدل عليه قولهم (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) أي تعبس فيه الوجوه من شدته فالوصف فيه مجاز (قَمْطَرِيراً) [١٠] أي شديد العبوس ، روي : أن الكافر تعبس وجهه يومئذ حتى يسيل بين عينيه عرق مثل القطران (٣).

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

(فَوَقاهُمُ) أي دفع (اللهُ) عنهم (شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي عذابه (وَلَقَّاهُمْ) أي أعطاهم (نَضْرَةً) أي حسن الوجوه وبشاشتها (وَسُرُوراً) [١١] أي فرحا في قلوبهم في مقابلة العبوس في وجوه الكافرين والحزن في قلوبهم (٤)(وَجَزاهُمْ) أي أعطاهم الثواب (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على الفقر والمشقة في الدنيا (جَنَّةً) بالدخول فيها (وَحَرِيراً) [١٢] بالتزين بلبسه فيها ، وذكر الحرير مع الجنة يشير إلى إطباق الجزاء بالعمل ، لأن الله تعالى جزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مآكل هني وحريرا فيه ملبس بهي.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣))

قوله (مُتَّكِئِينَ) حال من «هم» في (جَزاهُمْ) ، أي ناعمين (فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي في الجنة على السرر في الحجال ، قوله (لا يَرَوْنَ) حال من ضمير (مُتَّكِئِينَ) ، أي غير رائين (فِيها شَمْساً) أي شدة الحر (وَلا زَمْهَرِيراً) [١٣] أي شدة البرد ، قيل : إن الجنة مضيئة غنية عن شمس وقمر (٥).

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤))

قوله (وَدانِيَةً) مفرد ، عطف على جملة (لا يَرَوْنَ فِيها) ، لأنها حال مثلها لكونها في حكم المفرد ، ودخلت الواو بينهما للجمع ، أي وجزاهم جنة جامعين فيها بين العبد عن الحر والقر وبين دنو الظلال أو عطف على (جَنَّةً) ، أي وجزاهم جنة أخرى قريبة (عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي ظلال شجرها ، يعني لا يزول ولا يبعد الظلال عنهم كما يبعد في الدنيا بزوال الشمس أو قريب بعض الظلال بالبعض لالتقاء الأشجار وازدحام الأوراق (وَذُلِّلَتْ) نصب على الحال من (دانِيَةً) ب «قد» مقدرة ، أي تدنو ظلالها وقد سخرت وقربت (قُطُوفُها) أي

__________________

(١) أعمال صالحة ، وي : أعمالهم الصالحة ، ح.

(٢) عن مجاهد وابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٩٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٣٠ ؛ والواحدي ، ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

(٣) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ١٩١.

(٤) في مقابلة العبوس ... والحزن في قلوبهم ، وي : ـ ح.

(٥) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ١٩٢.

٢٧١

ثمارها المجتنية ، جمع قطف وهو ما يقطف من الثمار (تَذْلِيلاً) [١٤] أي تسخيرا ينالها القائم والقاعد والنائم.

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦))

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) أي كيزان مدورة الرأس لا عرى لها (كانَتْ قَوارِيرَا) [١٥] نصبه خبر «كان» ، وكرر تقريرا لصفائها بقوله (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) بتنوينهما وتركه فيهما وبتنوين الأول وتركه وكذلك الثاني (١) ، أي تكونت الآنية بتكوين الله بقوله (كُنْ فَيَكُونُ)(٢) حقيقة القوارير أصلها من فضة تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفتي الجوهرتين المتباينتين من صفاء القارورة وشفيفها وبياض الفضة وحسنها ، قوله (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) [١٦] صفة ل (قَوارِيرَا) ، أي الذين يسقونهم جعلوها على قدر ري شاربيها بأمر ربهم فهو ألذ لهم وأخف عليهم أو قدر الشاربون في أنفسهم أن تكون تلك القوارير على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجأت كما قدروا.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) [١٧] ليس فيه لذغة واحتراق ، قوله (٣)(عَيْناً) بدل من «زنجبيلا» ، أي هو عين (فِيها) أي في الجنة (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [١٨] لسهولة المساغ في الحلق ، يقال ماء سلسبيل إذا ذهب سريعا في الحلق لعذوبته.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي لا يموتون وعلى سن واحد لا يتغيرون كولدان الدنيا ثم وصفهم في الحسن وانتشارهم في الخدمة بقوله (إِذا رَأَيْتَهُمْ) في الجنة (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) [١٩] من سلكه على البساط.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ) أي إذا أوجدت الرؤية في الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [٢٠] أي واسعا ، قيل : أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه (٤)(عالِيَهُمْ) أي عليهم (ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) يعني على أهل الجنة ثياب من هذين النوعين الشريفين ، قرئ «خضر» بالرفع صفة (ثِيابُ) ، وبالجر صفة (سُندُسٍ) ، وبرفع (إِسْتَبْرَقٌ) عطف على (ثِيابُ) ، وبالجر عطف على (خُضْرٌ) صفة (سُندُسٍ)(٥)(وَحُلُّوا) أي ألبسوا في الجنة (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وفي موضع آخر قال (مِنْ ذَهَبٍ)(٦) إيذانا بأنهم يحلون من الجنسين معا ومفترقا (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [٢١] أي طاهرا من الأيدي الوسخة أو لا يصير بولا ولكن يصير رشحا يخرج من أبدانهم ريحه أطيب من ريح المسك ، ويقال لهم ثمه (إِنَّ هذا) النعيم (كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي ثوابا لأعمالكم (وَكانَ سَعْيُكُمْ) أي عملكم في الدنيا (مَشْكُوراً) [٢٢] أي مقبولا مرضيا ، قيل :

__________________

(١) «قواريرا ، قوارير» : قرأ المدنيان وشعبة والكسائي بالتنوين فيهما وبابداله ألفا وقفا ، وقرأ ابن كثير وخلف في اختياره بالتنوين في الأول وبتركه في الثاني ووقفا على الأول بالألف وعلى الثاني بحذفها مع إسكان الراء ، وأبو عمرو وابن عامر وروح وحفص بترك التنوين فيهما ووقفوا على الأول بالألف وعلى الثاني بحذفها مع إسكان الراء إلا هشاما فوقف على الثاني بالألف أيضا ، وقرأ حمزة ورويس بترك التنوين فيهما وإذا وقفا حذفا الألف فيهما مع إسكان الراء. البدور الزاهرة ، ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٢) البقرة (٢) ، ١١٧ ؛ ال عمران (٣) ، ٤٧ ، ٥٩ ؛ الأنعام (٦) ، ٧٣ ؛ النحل (١٦) ، ٤٠ ؛ مريم (١٩) ، ٣٥ ؛ يس (٣٦) ، ٨٢ ؛ المؤمن (٤٠) ، ٦٨.

(٣) قوله ، وي : ـ ح.

(٤) نقله المصنف عن الكشاف ، ٦ / ١٩٣.

(٥) «خضر وإستبرق» : قرأ نافع وحفص برفع الراء والقاف ، وابن كثير وشعبة بخفض الأول ورفع الثاني ، وأبو جعفر والبصريان والشامي برفع الأول وخفض الثاني ، والأخوان وخلف بخفضهما. البدور الزاهرة ، ٣٣٣.

(٦) الكهف (١٨) ، ٣١ ؛ الحج (٢٢) ، ٢٣ ؛ فاطر (٣٥) ، ٣٣ ؛ الزخرف (٤٣) ٥٣.

٢٧٢

هذه البشارة إذا أرادوا أن يدخلوا الجنة (١).

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤))

ثم حثه على التبليغ بالتبشير والإنذار والصبر على أذى الأعداء بقوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [٢٣] أي إني مختص بتنزيل القرآن عليك تنزيلا منجما لحكمة داعية إليه ، يعني أنزله جبرائيل عليه‌السلام عليك بالدفعات تثبيتا لفؤادك (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الصادر عن الحكمة عليك بتبليغ الرسالة بالبشارة والإنذار وتحمل أذاهم وترك التضجر من تأخر الظفر عليهم (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي من الكفار (آثِماً) أي راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه وهو عتبة بن ربيعة ، وكان ركابا لأنواع الفسوق سوى الكفر (أَوْ كَفُوراً) [٢٤] أي فاعلا لما هو كفر داعيا إليه وهو الوليد بن المغيرة ، وكان شديد الشكيمة في كفره وعتوه ، وكان كل منهما يدعو النبي عليه‌السلام إلى ما ارتكبه ببذل الأموال وتزويج أكرم البنات له ، ومعنى (أَوْ) هنا لأحد الأمرين ، أي لا تطع أحدهما وهو أنهى من قوله ولا تطعهما جميعا ، فلذلك لم يذكر الواو.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦))

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي صل أو سبح (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [٢٥] أي دم على الصلوة المفروضة في هذين الوقتين ، يعني صلوة الفجر وصلوة الظهر مع العصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي بعض الليل صل لله صلوة المغرب والعشاء (وَسَبِّحْهُ) أي بعد المكتوبة صل متهجدا (لَيْلاً طَوِيلاً) [٢٦] ثلثيه أو نصفه أو ثلثه ، قيل : هذا للنبي عليه‌السلام خاصة حتما ولأصحابه مستجابة (٢).

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧))

(إِنَّ هؤُلاءِ) أي كفار مكة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي يختارون الدنيا على الآخرة (وَيَذَرُونَ) أي يتركون (وَراءَهُمْ) أي خلفهم (يَوْماً ثَقِيلاً) [٢٧] أي شديدا لا يهتمون له وهو يوم القيامة ، إذ لا يؤمنون.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨))

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا) أي قوينا (أَسْرَهُمْ) أي خلقهم أو أعضاءهم ومفاصلهم بالأعصاب ليطيعوني فلم يطيعوني (وَإِذا شِئْنا) إهلاكهم بالعذاب هنا (بَدَّلْنا) أي جعلنا (أَمْثالَهُمْ) في الخلقة (تَبْدِيلاً) [٢٨] أي بدلا منهم في الطاعة ، و (إِذا) ههنا وقعت مع (إِنْ) كقوله تعالى و (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ)(٣).

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩))

(إِنَّ هذِهِ) أي هذه السورة (تَذْكِرَةٌ) أي عظة (فَمَنْ شاءَ)(٤) أن يتعظ (٥)(اتَّخَذَ)(٦)(إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [٢٩] بأن يتقرب إليه الطاعة لما بينا له طريق الهدي فيها.

(وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠))

(وَما تَشاؤُنَ) بالتاء والياء (٧) ، أي ما تشاءون الاتعاظ (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) نصب على الظرف ، أي وقت مشية الله بتوفيقهم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بهم قبل خلقهم (حَكِيماً) [٣٠] يحكم بالهداية لأهلها.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في الإسلام أو في جنته وهم المؤمنون ، قوله (وَالظَّالِمِينَ) نصب بفعل يفسره ما بعده ، وهو (أَعَدَّ لَهُمْ) أي هيأ للعاصين في الآخرة (عَذاباً أَلِيماً) [٣١] أي وجيعا دائما.

__________________

(١) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٤٣٢.

(٢) هذا القول منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٤٣٣.

(٣) النساء (٤) ، ١٣٣ ؛ الأنعام (٦) ، ١٣٣ ؛ إبراهيم (١٤) ، ١٩ ؛ فاطر (٣٥) ، ١٦.

(٤) اتخذ ، + ح.

(٥) أن يتخذ ، وي : أي يتخذ ، ح.

(٦) اتخذ ، وي : ـ ح.

(٧) «تشاءون» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة ، وغيرهم بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٣٣.

٢٧٣

سورة المرسلات

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١))

(وَالْمُرْسَلاتِ) أي بحق الملائكة التي أرسلت (عُرْفاً) [١] للإحسان لمن آمن بالله تعالى بالانتقام له من الكفار أو أرسلت لأمر الله بالمعروف ، ف «عرفعا» مفعول له أو أرسلت متتابعة كشعر عرف الفرس يتلو بعضهم بعضا فهو نصب على الحال.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣))

(فَالْعاصِفاتِ) أي الملائكة التي تعصف ، أي تسرع روح الكافر إلى النار بعد القبض (عَصْفاً) [٢] أي إسراعا شديدا ، الفاء لتعقيب العصف بالإرسال ، أي أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيها (وَالنَّاشِراتِ) أي الملائكة التي تنشر كتب الأعمال يوم البعث (نَشْراً) [٣] لأربابها.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥))

(فَالْفارِقاتِ) أي الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام (فَرْقاً) [٤] بالوحي ، وكذلك الفاء ف ي «الفارقات» ، أي نشرن ففرقن (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) [٥] أي الملائكة التي تلقي الذكر إلى الأنبياء ، ف (ذِكْراً) مفعول به.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧))

قوله (عُذْراً أَوْ نُذْراً) [٦] بسكون الذال وضمها فيهما (١) مفعول لهما ، أي إعذارا للمحقين أو إنذارا للمبطلين ، وكذا الفاء ف ي «الملقيات» ، أي فرقن فالقين ، المعنى : أنه تعالى أقسم بالملائكة المذكورة العظيمة الشأن أن وعده حق ، فجواب القسم (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) [٧] أي الذي توعدونه يا كفار مكة من البعث والجزاء الكائن (٢) نازل بكم فآمنوا قبل وقوعه.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠))

(فَإِذَا النُّجُومُ) أي فذلك الوعد يقع في الوقت الذي (طُمِسَتْ) [٨] أي محيت النجوم وانعدمت بالكلية أو ذهب نورها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) [٩] أي شقت من خوف الله تعالى (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) [١٠] أي أقلعت من أصولها حتى سويت بالأرض.

__________________

(١) «عذرا» : قرأ روح بضم الذال ، وغيره بسكونها. البدور الزاهرة ، ٣٣٤. «نذرا» : قرأ أبو عمرو وحفص والأخوان وخلف باسكان الذال ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٣٣٤.

(٢) الكائن ، وي : ـ ح.

٢٧٤

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤))

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [١١] بالهمزة المبدلة من الواو ، وقرئ بالواو (١) ، أي جمعت لوقت يحضرون فيه للشهادة على أممهم وهو يوم القيامة ، قوله (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) [١٢] تعظيم لل (يَوْمُ) وتعجيب من هوله ، أي الرسل لأي يوم أجل وأخر اجتماعهم ليشهدوا على أممهم ، قوله (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) [١٣] بيان ليوم التأجيل ، أي ليوم يفصل فيه بين الخلائق وهو يوم القضاء (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) [١٤] أي ما أعلمك أي يوم يوم الفصل ، فيه زيادة تعظيم وتهديد.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥))

(وَيْلٌ) أي شدة العذاب (يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [١٥] أي للذين أنكروا البعث ، ف (وَيْلٌ) مبتدأ نكرة مخصصة بمعنى الدعاء كسلام عليكم.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩))

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) [١٦] أي المكذبين (٢) قبلكم لأنبيائهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) [١٧] ف (ثُمَّ) للاستئناف (٣) لا للعطف ، أي بعد إهلاكنا الأولين نتبعهم الآخرين المكذبين في الإهلاك كما أهلكنا قوم نوح وعاد ، وأتبعناهم قوم شعيب ولوط في الإهلاك (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الفعل بالمكذبين (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) [١٨] أي الذين أجرموا بتكذيب الرسل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [١٩] كرره مبالغة في التهديد (٤).

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤))

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [٢٠] أي ضعيف وهو النطفة (فَجَعَلْناهُ) أي المني (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [٢١] أي في موضع قرار محروز محفوظ ، وهو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) [٢٢] أي حال كونه مقدرا من الطول والقصر وغيرهما من الأوصاف كما نشاء في بطن الأم أو مؤخرا إلى مقدار من الزمان معلوم وهو وقت الولادة (فَقَدَرْنا) على خلقكم وإنشائكم إذا شئنا (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [٢٣] على ذلك نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [٢٤] أي لمنكري البعث.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩))

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) [٢٥] أي ما يكفت ، أي يضم ويجمع (أَحْياءً وَأَمْواتاً) [٢٦] مفعول بهما ل (كِفاتاً) ، يعني جعلنا الأرض أوعية للأموات إذا كانوا في قبورهم ، وللأحياء إذا كانوا في منازلهم ، وتنكيرهما للتفخيم ، أحياء لا يعدون وأمواتا لا يحصون (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا (شامِخاتٍ) أي عاليات (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [٢٧] أي عذبا من السماء والأرض (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [٢٨] انْطَلِقُوا) أي يقال لهم يوم القيامة اذهبوا (إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ) من العذاب (تُكَذِّبُونَ) [٢٩] في الدنيا.

__________________

(١) «أقتت» : قرأ أبو عمرو وصلا ووقفا بواو مضمومة في مكان الهمزة مع تشديد القاف ، وأبو جعفر بواو كذلك مع تخفيف القاف ، والباقون بهمزة مضمومة مع تشديد القاف. البدور الزاهرة ، ٣٣٤.

(٢) المكذبين ، وي : للمكذبين ، ح.

(٣) للاستئناف ، ح : للاستفهام ، وي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٩٧.

(٤) في التهديد ، وي : للتهديد ، ح.

٢٧٥

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١))

قوله (انْطَلِقُوا) تكرير للتأكيد وقطع لرجاهم (١) ، أي اذهبوا (إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) [٣٠] وهو دخان جهنم ، لأنه إذا ارتفع افترق ثلاث فرق فوق رؤوس الكفار لعظمته والمؤمنون في ظل العرش ، وقيل : يخرج من جهنم لسان من نار يتشعب ثلاث شعب فيظل نوره المؤمنين ودخانه المنافقين ولهبه الصافي الكافرين (٢) ، قوله (لا ظَلِيلٍ) نعت «ظل» ، أي لا ظل يظلهم من حر ذلك اليوم (وَلا يُغْنِي) أي لا يرد عنهم شيئا (مِنَ اللهَبِ) [٣١] أي من لهب النار ، وهذا الوصف تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم (٣) يخالف ظل المؤمنين.

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤))

(إِنَّها) أي النار (تَرْمِي بِشَرَرٍ) جمع شررة ، وهي ما تطاير من النار (كَالْقَصْرِ) [٣٢] أي كالبناء العظيم ، شبهه بالقصر ثم شبهه بالجمالات تفخيما له بقوله (كَأَنَّهُ) أي كأن جميع الشرر من النار (جِمالَتٌ صُفْرٌ) [٣٣] جمع جمالة ، وقرئ بها (٤) وهي جمع جمل والمراد منها الإبل السود (٥) ، لأن العرب تسمي السود (٦) من الإبل الصفر ، وهي التي يضرب لونها إلى الصفرة ، ووجه التشبيه بالقصور العظم والارتفاع وبالجمال (٧) العظم والطول واللون ، وهذا شبيه بما يشاهد بينهم ولكن شرار جهنم أعظم مما شبه به (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [٣٤] أي لمنكري البعث.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨))

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) [٣٥] أي يقال لهم هذا يوم لا يتكلمون ، يعني في بعض المواضع لا ينطقون خوفا ودهشا (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) في الاعتذار (فَيَعْتَذِرُونَ) [٣٦] عطف على (لا يؤذون) أي فلا يعتذرون أو استئناف ، أي فهم لا يعتذرون (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [٣٧] ويقال أيضا (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي القضاء بين الخلائق لدخول الجنة والنار (جَمَعْناكُمْ) أيها المكذبون من هذه الأمة (وَالْأَوَّلِينَ) [٣٨] من المكذبين قبلكم فتحاسبون جميعا.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥))

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) أي حيلة تدفعون بها العذاب عنكم (فَكِيدُونِ) [٣٩] أي فاحتالوا لأنفسكم مما وعدتكم به من العذاب ، والأمر للتقريع على كيدهم لدين الحق وأهله وإظهار عجزهم لهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [٤٠] إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من الشرك والعصيان (فِي ظِلالٍ) أي ظلال الأشجار والقصور دائما (وَعُيُونٍ) [٤١] جارية ، (وَفَواكِهَ) متنوعة (مِمَّا يَشْتَهُونَ) [٤٢] ويقال لهم في الآخرة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) من الطعام والشراب فيها (هَنِيئاً) أي سائغا لا أذى فيه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٤٣] أي بسبب عملكم الصالح في الدنيا (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [٤٤] أي المؤمنين الصالحين ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [٤٥].

__________________

(١) لرجاهم ، ح و : لرجاء ، ي.

(٢) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٥ / ٥٠٥.

(٣) بأن ظلهم ، ح و : بظلهم ، ي.

(٤) «جمالت» : قرأ رويس بضم الجيم ، وغيره بكسرها ، وقرأ حفص والأخوان وخلف بغير ألف بعد اللام على التوحيد ، وغيرهم باثباتها على الجمع. البدور الزاهرة ، ٣٣٤.

(٥) السود ، وي : الأسود ، ح.

(٦) تسمي السود ، وي : سمى الأسود ، ح.

(٧) وبالجمال ، وي : وبالجمالات ، ح.

٢٧٦

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧))

قوله (كُلُوا) استئناف لخطاب الكفار ، أي كلوا (١) في الدنيا كالبهائم (وَتَمَتَّعُوا) أي تنعموا (قَلِيلاً) أي زمانا يسيرا بالتكذيب وعدم الإيمان ، وقيل : يقال لهم كلوا وتمتعوا في الآخرة تجهيلا لهم وتوبيخا فانهم استحقوا العذاب به ، وعلل ذلك بقوله (٢)(إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [٤٦] بالشرك والمعاصي ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [٤٧].

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) أي صلوا لله (لا يَرْكَعُونَ) [٤٨] أي لا يصلون له ، نزل في شأن ثقيف حيث قالوا لا ننحني في الصلوة فانها مذلة علينا (٣) ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» (٤) ، أو قيل لهم : تواضعوا لقبول وحيه واتباع دينه وهم لا يقبلون ذلك للاستكبار (٥)(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [٤٩] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي سوى القرآن (يُؤْمِنُونَ) [٥٠] أي يصدقون ، المعنى : أن القرآن من بين الكتب السماوية آية مبصرة ومعجزة باهرة ، فحين لم يؤمنوا به (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ، يعني لم يؤمنوا بالكتب الباقية.

__________________

(١) أي كلوا ، ح و : ـ ي.

(٢) اختصره المصنف من الكشاف ، ٦ / ٢٠٠.

(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٣٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٠٠.

(٤) روى أبو داود نحوه ، الخراج ، ٢٦ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٤ / ٢١٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٠٠.

(٥) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٠٠.

٢٧٧

سورة النبأ (والمعصرات)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣))

(عَمَّ) أصله عما استفهام لتفخيم المستفهم عنه ، ثم حذفت الألف فرقا بينه وبين الخبر وهو كثير ، ويستعمل الأصل قليلا ، ومعنى (عَمَّ) عن أي شيء عظيم الشأن (يَتَساءَلُونَ) [١] أي أهل مكة يسأل بعضهم بعضا أو يسألون من المؤمنين عن شأن محمد عليه‌السلام ، وخبره عن البعث على طريق الاستهزاء أو الضمير للمؤمنين والكافرين جميعا يسأل المؤمن لازدياد العلم والكافر للاستهزاء (عَنِ النَّبَإِ) بيان لشأن المستفهم عنه أو بدل منه ، والمراد ب «النَّبَإِ» (الْعَظِيمِ) [٢] بالبعث (الَّذِي هُمْ فِيهِ) أي في البعث (مُخْتَلِفُونَ) [٣] أي يختلف المؤمنون بالتثبيت والكافرون للإنكار.

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥))

قوله (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [٤] ردع لقولهم ووعيد (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [٥] وعيد آخر ، وجاء ب (ثُمَّ) ليؤذن أن الوعيد الثاني أشد من الأول وأن مدته أطول ، أي سيعرفون عند الموت بالمعاينة ، ثم في الآخرة بالمشاهدة وشدة المعاقبة.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧))

ثم أشار إلى قدرته بالبعث ورفع إنكارهم عنها بقوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [٦] أي فراشا مبسوطا للأناسي للسير والسكون (١)(وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [٧] لتثبت بها الأرض وتستقر.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١))

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [٨] أي ذكرا وأنثى (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) [٩] أي راحة لأبدانكم (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) [١٠] أي سكنا تسكنون فيه وتتسترون به (٢)(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [١١] أي ذا معاش أو مطلبا للعيش.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣))

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) [١٢] أي سبع سموات قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الأزمان (وَجَعَلْنا) في السموات (سِراجاً وَهَّاجاً) [١٣] أي منيرا وقادا بمعنى جامعة النور والحرارة وهو الشمس.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي السحائب التي تعصر الرياح الماء منها فتمطر (ماءً ثَجَّاجاً) [١٤] أي سيالا ، قيل : إن الماء ينزل من السماء على السحاب ، ثم تعصر الرياح الأربعة السحاب فيسيل الماء منه إلى الأرض (٣) ، ثم علل الإنزال فقال (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي بالماء (حَبًّا) كالحنطة والشعير للأناسي (وَنَباتاً) [١٥] كالتبن ، الحشيش

__________________

(١) السكون ، ح ي : السلوك ، و.

(٢) تتسترون ، وي : تسترون ، ح.

(٣) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ٦ / ٢٠٢.

٢٧٨

للبهائم (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [١٦] أي بساتين ملتفة الأشجار بعضها في بعض ، جمع لف بمعنى ملتف ، يعني خلق هذه الأشياء كلها من العدم لمنافعكم فهو قادر على أن يبعثكم بعد موتكم فلا وجه لإنكاره ، إذ هو اختراع كهذه الاختراعات.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢))

ثم بين البعث فقال (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) بين الخلائق (كانَ مِيقاتاً) [١٧] أي ميعادا للأولين والآخرين للثواب والعقاب ، قوله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ) ، أي يوم ينفخ إسرافيل في القرن (فَتَأْتُونَ) من قبوركم إلى المحشر (أَفْواجاً) [١٨] أي جماعات مختلفة (١) ، قيل : يبعث الناس بعضهم على صورة القمر ليلة البدر ، وبعضهم على صورة القرد ، وبعضهم على صورة الخنزير ، وهم المخلصون والنمامون وأكالون للسحت (٢)(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) مخففا ومشددا (٣) ، أي شقت لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) [١٩] أي ذات أبواب ، أي طرق لا يسدها شيء (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) عن أماكنها (فَكانَتْ سَراباً) [٢٠] أي فصارت هباء يرى في الهواء كالسراب في الدنيا.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) [٢١] أي طريقا يرصد فيه ، أي ترقب الملائكة منه الخلائق ليفصلوا بينهم أو ممرا يمر عليها المؤمن ليدخل الجنة والكافر ليدخل النار (لِلطَّاغِينَ مَآباً) [٢٢] أي كانت جهنم مرجعا للمتكبرين عن الإيمان.

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦))

(لابِثِينَ) وقرئ «لبثين» (٤) ، أي ماكثين (فِيها أَحْقاباً) [٢٣] جمع حقب وهو ثمانون سنة ، كل يوم منها مقدار ألف سنة مما يعد أهل الدنيا ، والمراد منه التأبيد (لا يَذُوقُونَ فِيها) أي في جهنم (بَرْداً) ينفعهم من حرها أو نوما يستريحون به (وَلا شَراباً) [٢٤] يشربون تلذذا بل ما شاء الله من أنواع العذاب ، يعني لا راحة لهم فيها أبدا (إِلَّا حَمِيماً) أي ماء حارا قد انتهى حره (وَغَسَّاقاً) [٢٥] بالتشديد والتخفيف (٥) ، من غسق إذا سال ، يعني إلا ما يسيل من صديد أهل النار ، والاستثناء منقطع ، لأن حر النار ضد البرد ، أي لكنهم يذوقون فيها حميما وغساقا ، ثم أشار إلى السبب بقوله (جَزاءً وِفاقاً) [٢٦] أي يجزون جزاء موافقا لأعمالهم ، لأنه لا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار فوافق الجزاء العمل.

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨))

قوله (إِنَّهُمْ كانُوا) تعليل لاستحقاقهم الجزاء الموافق ، أي لأنهم كانوا (لا يَرْجُونَ) أي لا يخافون (حِساباً) [٢٧] أي حساب البعث أو لا يأملون ثواب الحسنات ليؤمنوا (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي القرآن (كِذَّاباً) [٢٨] أي تكذيبا ، مصدر فعل مشددا وقد يجيء مخففا مصدر كذب.

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) أي بينا في اللوح المحفوظ بالكتابة كل عمل من معاصيهم نسوه ونحن لا ننساه ، قوله (كِتاباً) [٢٩] نصب على الحال من ضمير المفعول ، أي مكتوبا في اللوح ، وهذه الآية اعتراض.

ثم أشار إلى المسبب عن كفرهم بقوله (فَذُوقُوا) العذاب (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [٣٠] فوق عذابكم.

__________________

(١) مختلفة ، ح و : مختلفات ، ي.

(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ٦ / ٢٠٢.

(٣) «وفتحت» : خفف التاء الكوفيون ، وشددها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٣٥.

(٤) «لابثين» : قرأ حمزة وروح بغير ألف بعد اللام ، وغيرهما بالألف. البدور الزاهرة ، ٣٣٥.

(٥) «وغساقا» : شدد السين حفص والأخوان وخلف ، وخففها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٣٥.

٢٧٩

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤))

ثم بين حال المتقين في الآخرة فقال (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) [٣١] أي موضع الفوز ، يعني الظفر بالمطلوب وهو الجنة أو النجاة من النار ، قوله (حَدائِقَ) بيان (مَفازاً) أو بدل منه ، أي بساتين محوطة بالجدر فيها نخل وثمار (وَأَعْناباً) [٣٢] أي كروما (وَكَواعِبَ) أي جواري متفلكات الثديين (أَتْراباً) [٣٣] أي مستويات في السن والميلاد (وَكَأْساً دِهاقاً) [٣٤] أي مملوءة أو متتابعة.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦))

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي قولا باطلا (وَلا كِذَّاباً) [٣٥] بالتخفيف والتشديد (١) ، أي تكذيبا حال شربها ، يعني لا يكذبون أو لا يكذب بعضهم بعضا عند شرب الخمر كما كان في الدنيا ، ثم أشار إلى السبب بقوله (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي ثوابا من الله (عَطاءً حِساباً) [٣٦] أي كثيرا مما عملوا.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧))

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالرفع ، أي هو خالقهما (وَما بَيْنَهُمَا) وبالجر بدل من «ربك» (٢) ، قوله (الرَّحْمنِ) بالرفع والجر (٣) صفة «رَبِّ» (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ) أي من الله (خِطاباً) [٣٧] لله بالشفاعة إلا باذنه ، يعني ليس في أيدي أهل السموات والأرض حكم من الله في أمر الثواب والعقاب ليتصرفوا فيه الزيادة والنقصان إلا بأن يأذن لهم فيه.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩))

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) أي ملك عظيم لم يخلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه أو جبرائيل عليه‌السلام (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي صفوفا ، وقيل : «الروح خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون وليسوا بناس ولا ملائكة يقومون صفا» (٤)(لا يَتَكَلَّمُونَ) أي كل الخلائق من أقربهم منه تعالى وأشرفهم عنده معرفة وطاعة ، وغيرهم من أهل السموات والأرض لا يتكلمون بالشفاعة خوفا من عذابه تعالى (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) بالشفاعة (وَقالَ صَواباً) [٣٨] أي حقا بأن قال في الدنيا «لا إله إلا الله» وعمل بمقتضاه فيها (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) أي الثابت وقوعه وهو يوم البعث (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) [٣٩] أي مرجعا بالتوحيد والطاعة.

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

قوله (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) زيادة تخويف لهم ليؤمنوا ، أي إنا خوفناكم (عَذاباً قَرِيباً) أي بعذاب قريب ، لأن كل آت قريب وهو يوم القيامة ، وبينه قوله (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي ما عملت من الخير والشر ، و (ما) استفهام منصوب ب (قَدَّمَتْ) أو موصولة منصوب ب (يَنْظُرُ) ، والمراد من (الْمَرْءُ) الكافر أو عام ، يعني ينظر المؤمن بعمله وحسابه اليسير ، والكافر بعمله وحسابه العسير (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [٤٠] ولم أر حسابا ، وذلك حين رأى أن الله تعالى يقول للبهائم والسباع بعد القضاء بين الخلائق بالعدل كوني ترابا فتكون (٥) ، فعند ذلك يتمنى (٦) الكافر أن يكون ترابا أو يتمنى أن لا يبعث بعد كونه ترابا في الأرض أو الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم فيتمنى كونه ترابا احتقره بقوله (خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٧).

__________________

(١) «وكذابا» : خفف الكسائي ذاله ، وشددها غيره. لبدور الزاهرة ، ٣٣٥.

(٢) «رب السموات» : قرأ المدنيان والمكي والبصري برفع ياء «رب» ، وابن عامر وعاصم ويعقوب بخفض الباء ، والأخوان وخلف بخفضها. البدور الزاهرة ، ٣٣٥.

(٣) «الرحمن» : قرأ المدنيان والمكي والبصري برفع نون «الرحمن» ، وابن عامر وعاصم ويعقوب بخفض النون ، والأخوان وخلف برفعها. البدور الزاهرة ، ٣٣٥.

(٤) ذكر مجاهد وقتادة وأبو صالح نحوه ، انظر البغوي ، ٥ / ٥١٣.

(٥) فتكون ، وي : فتكونون ، ح.

(٦) يتمنى ، وي : ليتمنى ، ح.

(٧) ص (٣٨) ، ٧٦.

٢٨٠