عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

ترك أمر الله تعالى مفتخرين بدنياهم (وَكانُوا يُصِرُّونَ) أي يقيمون (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) [٤٦] أي على الكذب القوى بجعل الشريك لله تعالى وإنكار البعث ، وسمي الكذب حنثا لأنهم كانوا يحلفون بالله مع شركهم لا يبعث الله من يموت (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [٥٧] بعد ما صرنا ترابا وعظاما (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) [٥٨] ب (أَوَ) العاطفة وبواو العطف مع همزة الاستفهام للإنكار (١) ، وحسن العطف بلا تأكيد اكتفاء بالهمزة الفاصلة ، أي أنبعث نحن ويبعث آباؤنا الأقدمون وصاروا ترابا.

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠))

فقال تعالى (قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) [٤٩] من الأمم السالفة وهذه الأمة (لَمَجْمُوعُونَ) أي ليجمعون بعد البعث (إِلى مِيقاتِ) أي إلى (٢) وقت (يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [٥٠] يعني يوم القيامة.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥))

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن الحق (الْمُكَذِّبُونَ) [٥١] بالبعث (لَآكِلُونَ) شيئا (مِنْ شَجَرٍ) هو (مِنْ زَقُّومٍ [٥٢] فَمالِؤُنَ) أي فهم مالئون (مِنْهَا) أي من شجرة الزقوم (الْبُطُونَ) [٥٣] أي بطونهم (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) أي على الزقوم ، يعني على أثره لعطشهم (مِنَ الْحَمِيمِ) [٥٤] أي من الماء الحار (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [٥٥] بضم الشين وفتحها مصدر (٣) ، أي كشرب الإبل الهيم ، أي العطاش جمع هيمان ، أي عطشان وحسن العطف هنا لاختلاف الوصفين.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

(هذا نُزُلُهُمْ) أي المذكور من الزقوم والحميم رزقهم المعد لهم (يَوْمَ الدِّينِ) [٥٦] أي يوم الجزاء.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨))

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي أوجدناكم عن عدم أيها الكفار (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [٥٧] بالبعث ، فانكم إذا نظرتم النظر الصحيح علمتم أن القادر على ابتداء الخلق قادر على الإعادة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) [٥٨] أي تريقون من المني ، أي النطفة في أرحام النساء.

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١))

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أي المني بشرا في أرحامهن (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [٥٩] أي بل نحن نخلقه لا أنتم لعجزكم عنه (نَحْنُ قَدَّرْنا) بالتخفيف والتشديد (٤) ، أي قضينا (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) كما نشاء ، أي في حال الصغر والكبر لا اعتراض علينا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [٦٠] أي بعاجزين (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أطوع منكم بعد إماتتكم مكانكم (وَنُنْشِئَكُمْ) أي ونخلقكم (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [٦١] أي في صور غير صور الإنسان كقردة وخنازير كمن مسخ قبلكم ، إذ لم يؤمنوا برسلنا.

__________________

(١) «أو آباؤنا» : قرأ قالون وأبو جعفر وابن عامر باسكان الواو ، والباقون بفتحها ولا يخفى ما فيه من البدل لورش. البدور الزاهرة ، ٣١٢.

(٢) إلى ، ح : ـ وي.

(٣) «شرب» : قرأ المدنيان وعاصم وحمزة بضم الشين ، وغيرهم بفتحها. البدور الزاهرة ، ٣١٢.

(٤) «قدرنا» خفف الدال ابن كثير ، وشددها غيره. البدور الزاهرة ، ٣١٢.

١٨١

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤))

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ) أي الخلقة (الْأُولى) في بطون أمهاتكم (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [٦٢] أي هلا تتعظون فتؤمنون بالبعث (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) [٦٣] أي أخبروني عما تثيرون الأرض وتلقون البذر فيها (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي تنبتونه (١)(أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [٦٤] أي المنبتون ، يعني بل نحن منبتون.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥))

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) أي الزرع (حُطاماً) أي هالكا بعد ما بلغ لا يصلح للغذاء (فَظَلْتُمْ) أي فصرتم (تَفَكَّهُونَ) [٦٥] أي تعجبون من يبسه بعد خضرته وتندمون على زرعكم إياه.

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧))

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) [٦٦] بهمزتين محققتين ، إحديهما استفهام إنكار للعذاب الواقع بهم ، وبهمزة واحدة (٢) إخبار باضمار القول ، أي قائلين (٣) إنا لمغرمون ، أي لملزمون غرامة ما أنفقنا ، أي ضمان ما زرعنا من البذر الذي أخذنا من الغير أو المغرم من ذهب ماله بلا عوض أو مهلكون لهلاك زرعنا من الغرام وهو الهلاك (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [٦٧] أي قوم ممنوعون من البخت والحظ في الزرع.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩))

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) [٦٨] من العذاب (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أي من السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) [٦٩] عليكم.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠))

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) أي مرا مالحا يحرق الفم بحيث لا تقدرون (٤) على شربه ، وحذفت اللام من (جَعَلْناهُ) اختصارا لدلالة الأولى عليها (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) [٧٠] أي هلا توحدون رب هذه النعم وهلا تطيعون أمره.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢))

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [٧١] أي تخرجونها بالقدح من الزند والخشب (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) وهي (٥) المرخ (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) [٧٢] أي بل نحن الخالقون لمنفعة الخلق.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣))

(نَحْنُ جَعَلْناها) أي النار (تَذْكِرَةً) أي للعظة والعبرة من نار جهنم (وَمَتاعاً) أي بلغة ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) [٧٣] أي للذين خلت بطونهم من الطعام ، يعني للمنتفعين (٦) بها من الناس عند الاحتياج ، من أقويت بمعنى جعت (٧) أو للمسافرين لنزولهم القواء وهي الأرض الخالية من العمران ، من أقوى إذا نزل بالقواء وهي القفر.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥))

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٧٤] أي نزه ربك العظيم عما يقول الكفار في شأنه تعالى ، فانهم لا يؤمنون به

__________________

(١) أي تنبتونه ، وي : أي أتنبتونه ، ح.

(٢) «إنا» : قرأ شعبة بهمزتين محققتين ، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة ، وغيره بهمزة واحدة مكسورة محققة. البدور الزاهرة ، ٣١٣.

(٣) قائلين ، وي : قائلون ، ح.

(٤) تقدرون ، وي : يقدرون ، ح.

(٥) وهي ، و : وهو ، ح و؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٢٩٩.

(٦) للمنتفعين ، وي : المنتفعين ، ح.

(٧) جعت ، ح و : جعلت ، ي.

١٨٢

تعالى (فَلا أُقْسِمُ) أي فأقسم ، ف «لا» زائدة لتأكيد القسم أو للنفي تعظيما للمقسم به (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [٧٥] أي بمساقطها (١) لغروبها أو منازلها أو بنجوم القرآن ، وهو نزوله منجما ، آية بعد آية أو سورة بعد سورة ، وقرئ «بموقع (٢) النجوم» ، والمراد منه الجمع كما ذكر (٣).

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧))

(وَإِنَّهُ) أي القسم بالقرآن (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [٧٦] أي لقسم عظيم لو تعلمون ذلك ، فقوله (٤)(لَوْ تَعْلَمُونَ) اعتراض بين الموصوف والصفة في اعتراض بين القسم وجوابه ، لأن جواب القسم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [٧٧] أي شريف على الله تعالى لكثرة ما فيه من التقديس والتنزيه والمواعظ والأحكام.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠))

قوله (فِي كِتابٍ) صفة «قرآن» ، أي في لوح (مَكْنُونٍ) [٧٨] أي مستور من خلق الله (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [٧٩] صفة (كِتابٍ) ، أي لا يطلع على المكتوب في اللوح إلا الملائكة المطهرون من الذنب ، وهم المقربون عند الله تعالى ، وإن جعل صفة ل «قرآن» (٥) فالمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن المكتوب في المصاحف (٦) إلا المطهرون من الأحداث خبر في معنى النهي (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [٨٠] أي هو منزل من الله الذي خلق الخلق ورباهم ، فوجب الإيمان به.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١))

قوله (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) أي بالقرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [٨١] أي مكذبون أو متهاونون غير متصلبين في تلاوته والعمل به بالإخلاص ، وأصل الدهن تليين جانب الدين والملين يري أنه على دينه وليس عليه وهو المنافق.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي شكر رزقكم ، يعني المطر (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [٨٢] أي تجعلون شكر رزقكم (٧) التكذيب ، نزل حين قال الكفار مطرنا بنوء كذا (٨) ، فنسبوا المطر إلى غير رازقهم وهو النوء.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤))

(فَلَوْ لا) أي هلا ترجعونها ، أي النفس وهي الروح ، وهذا حث على رجعها إظهار لعجزهم ، يعني هلا ترجعون الروح إلى الجسد (إِذا بَلَغَتِ)(٩) الروح وقت النزع (الْحُلْقُومَ) [٨٣] أي الحلق (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [٨٤] إليه ولا تنفعونه (١٠) يا حاضري الميت.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦))

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي إلى الميت (مِنْكُمْ) علما وقدرة أو بملائكة الموت التي تقبض (١١) روحه (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) [٨٥] من حضر الموت أو لا تعلمون (١٢) بقربنا إليه إن كنتم غير مدينين ، (فَلَوْ لا) الثانية زيدت لتأكيد الحث في قوله (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) [٨٦] أي غير مبعوثين يوم القيامة.

__________________

(١) بمساقطها ، ح ي : لمساقطها ، و.

(٢) «بمواقع» : قرأ الأخوان وخلف باسكان الواو ، وغيرهم بفتحها وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٣١٣.

(٣) كما ذكر ، وي : ـ ح.

(٤) فقوله ، ح و : قوله ، ي.

(٥) لقرآن ، ح : قرآن ، وي.

(٦) المكتوب في المصاحف ، ي : ـ ح و.

(٧) تجعلون شكر رزقكم ، ح : ـ وي.

(٨) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٣٣٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣١٩.

(٩) أي ، + ح.

(١٠) ولا تنفعونه ، ح و : ولا تنتفعونه ، ي.

(١١) تقبض ، ي : يقبض ، ح و.

(١٢) ولا تعلمون ، وي : ولا يعلمون ، ح.

١٨٣

(تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))

فقوله (تَرْجِعُونَها) جواب «لو لا» الأولى ، يعني هلا تردون الروح إلى الجسد عند بلوغه الحلقوم بشرط كونكم غير مبعوثين في زعمكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٨٧] فيما تدعون أن ليس ... ثم قابض للروح (١) وباعث بعد الموت.

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩))

قوله (فَأَمَّا إِنْ كانَ) بيان أحوال الأصناف الثلاثة التي ذكرت في أول السورة ، أي إن كان الميت (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [٨٨] أي السابقين إلى رحمته تعالى (فَرَوْحٌ) أي فله استراحة من كل تعب ، وروي بضم الراء (٢) ، أي حيوة طيبة دائمة (وَرَيْحانٌ) أي رزق دائم أو هو ما يشم بعينه ، وقيل : الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار (٣)(وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [٨٩] لا انقطاع لها.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢))

(وَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [٩٠] فَسَلامٌ) أي فيقال له عند الموت ، وفي القبر وعلى الصراط وعند الميزان سلام (لَكَ) يا صاحب اليمين (مِنْ) إخوانك (أَصْحابِ الْيَمِينِ) [٩١] يعني إخوانك يسلمون عليك فيكون السّلام بشارة له أنه من أهل الجنة (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) بالبعث (الضَّالِّينَ) [٩٢] عن الهدى.

(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥))

(فَنُزُلٌ) أي فله نزل ، يعني ما يعد للنازل بالمكان (مِنْ) شراب (حَمِيمٍ [٩٣] وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [٩٤] أي دخولها وهي ما عظم من النار (إِنَّ هذا) أي الذي ذكر من خبر القرآن (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [٩٥] أي لحقيقة (٤) اليقين الذي هو علم بلا شك لا خلف فيه.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

(فَسَبِّحْ) أي فيا محمد أنت سبح (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٩٦] بقولك سبحان الله العظيم أو نزهه عما يقول المشركون من الشرك والسوء ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» (٥) ، وعنه عليه‌السلام : «من قرأ سورة الواعقة ليلا ونهارا لم تصبه فاقة أبدا» (٦) ، يعني فقرا.

__________________

(١) إلى الجسد ، + ح.

(٢) «فروح» : قرأ رويس بضم الراء ، وغيره بفتحها. البدور الزاهرة ، ٣١٣.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) لحقيقة ، وي : حقيقة ، ح.

(٥) روى ابن ماجة نحوه ، الأدب ٥٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٠٥.

(٦) انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٢٠ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٠٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

١٨٤

سورة الحديد

مكية أو مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

(سَبَّحَ لِلَّهِ) عدي باللام كما عدي بنفسه ، أي أوجد التسبيح لأجل عظمة الله وجلاله كل (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والنيرات والإنس والجن وغيرهما ، وجاء ب (ما) تغليبا للكثرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الكلام أربع : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، لا يضرك بأيهن بدأت» (١)(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يعجز عما أراد (الْحَكِيمُ) [١] في أمره وفعله.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢))

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرف فيهما (٢) كيف يشاء (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٢] فيقدر على البعث والحساب بعد الموت.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣))

(هُوَ الْأَوَّلُ) أي قبل كل شيء (وَالْآخِرُ) أي بعد كل شيء (وَالظَّاهِرُ) أي الغالب على كل شيء (وَالْباطِنُ) أي العالم باطن كل شيء ، يقال بطن الشيء إذا علم باطنه ، المعنى : ان الله هو المستمر الوجود والجامع للظهور والخفاء علما وقدرة ، فالصفات الأربع في الحقيقة صفتان ، عطف إحديهما على الأخرى بالواو الوسطى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [٣] من أمور الدنيا والآخرة.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤))

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وما بينهما من السحاب والرياح وغيرهما (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لا في ساعة واحدة ليدل على التأني (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه لا بوصف الاستقرار (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) أي ما يدخل (فِي الْأَرْضِ) من الأموات والكنوز والماء (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات والأقوات والكنوز والأموات يوم البعث (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من المطر والثلج والبرد وغير ذلك (وَما يَعْرُجُ) أي ما يصعد (فِيها) من الملائكة والأرواح وأعمال العباد (وَهُوَ) أي الله (مَعَكُمْ) علما بكم وبأعمالكم لا يخفى عليه شيء منكم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ) في الأرض (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٤] فيجازيكم به ثوابا وعقابا.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خزائنهما (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [٥] أي عواقبها (يُولِجُ اللَّيْلَ) أي يدخله

__________________

(١) أخرجه البخاري ، الأيمان ، ١٩ ؛ ومسلم ، الآداب ، ١٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٢١.

(٢) فيهما ، وي : فيها ، ح.

١٨٥

(فِي) مكان (النَّهارِ) بمعنى يأتي بالليل إذا (١) ذهب النهار (وَيُولِجُ النَّهارَ) أي يدخله (فِي) مكان (اللَّيْلَ) يعني إذا جاء النهار ذهب الليل ، وقيل : المراد منه الزيادة والنقصان (٢) ، أي يدخل زيادة الليل في النهار وبالعكس وبذلك يظهر الصيف والشتاء (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [٦] أي بما في القلوب من الإيمان والكفر.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

ثم أمر الناس بالإيمان والإنفاق في سبيل الله بقوله (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا) أي تصدقوا في سبيل الله (مِمَّا جَعَلَكُمْ) الله (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي مالكين له من الأموال بفضله وأنتم وكلاؤه في الإنفاق في حقوقه أو جعلكم وارثين لها من متقدميكم وستنقل منكم إلى من بعدكم ، فاعترفوا بحالهم وأنفقوا ولا تبخلوا بالإنفاق لئلا يكون وبالا عليكم (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بالله ورسوله (وَأَنْفِقُوا) أموالهم في الطاعات (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [٧] أي عظيم في الجنة ، وفي الآية حث على التصدق والإنفاق في سبيل الخيرات.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨))

(وَما لَكُمْ) أي أي علة لكم بها (لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي لا تصدقون بوحدانية الله ، ومحله حال من معنى الفعل فيما لكم ، يعني ما لكم كافرين به تعالى (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي لتصدقوا به (وَقَدْ أَخَذَ) الله ، وقرئ مجهولا وبرفع (٣)(مِيثاقَكُمْ) أي عهدكم وإقراركم حين أخرجكم من صلب آدم في صورة الذر (٤) بالإيمان ، وركب فيكم العقل فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان ، فآمنوا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [٨] أي مصدقين بمقتضى العقل والدليل.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩))

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد عليه‌السلام (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات من الأمر والنهي (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان أو من ظلمات الجهل إلى نور العلم (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [٩] حيث هداكم إلى دينه بنور القرآن ولم يبقكم في ظلمات الشرك.

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠))

(وَما لَكُمْ) أي أي غرض لكم في (أَلَّا تُنْفِقُوا) أموالكم (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بموتكم وترككم الأموال بعدكم له تعالى لا وارث سواه ، فيصل إليه أموالكم ويبقى وزرها عليكم ، فانفقوا حتى ينفعكم الإنفاق في الآخرة (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ) في الفضل والثواب عند الله (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) أي فتح مكة (وَقاتَلَ) العدو قبله ، وهم الأنصار والمهاجرون ومن أنفق بعد الفتح (٥) وقاتل من غيرهم حذف للعلم به ، نزلت الآية حين وقعت بينهم منازعة في ذلك (٦) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (٧) ، أي ربعه (أُولئِكَ) أي من أنفق قبل الفتح وقاتل (أَعْظَمُ دَرَجَةً) عند الله (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) أي بعد الفتح (وَقاتَلُوا وَكُلًّا) بالرفع مبتدأ ، خبره (وَعَدَ) أي وكلهم وعده (اللهُ الْحُسْنى) أي

__________________

(١) إذا ، ح : إذ ، وي.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٣) «وقد أخذ ميثاقكم» : قرأ أبو عمرو بضم الهمزة وكسر الخاء ورفع القاف ، وغيره بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف. البدور الزاهرة ، ٣١٣.

(٤) الذر ، وي : الذرة ، ح.

(٥) الفتح ، وي : ـ ح.

(٦) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٣ / ٣٢٤.

(٧) رواه أحمد بن حنبل ، ٦ / ٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٢٤.

١٨٦

الجنة وبالنصب (١) مفعول «وَعَدَ» (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [١٠] أي عليم بما أنفقتم قبله أو بعده قليلا أو كثيرا ، رياء أو إخلاصا.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) أي يعطي فقراء الله وفي سبيله من ماله (قَرْضاً حَسَناً) أي أعطاء مرضيا بالإخلاص وطلب ثواب الله (فَيُضاعِفَهُ) وقرئ «فيضفعه» من التضعيف ، كلاهما بالرفع والنصب (٢)(لَهُ) أي للمقرض يعطيه مثل أجره ويزيده أضعافا كثيرة في الحسنات (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [١١] أي حسن في الآخرة ، قيل : نصب (فَيُضاعِفَهُ) جواب الاستفهام ورفعه بتقدير فهو يضاعفه (٣).

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

قوله (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) نصب على الظرف لقوله (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ، أي يوم تبصرهم على الصراط (يَسْعى نُورُهُمْ) أي نور أعمالهم ، محله نصب على الحال ، لأن (تَرَى) من رؤية العين ، أي ساعيا نورهم (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي أمامهم (وَبِأَيْمانِهِمْ) وشمائلهم ، أي من جميع جوانبهم فهو من قبيل الاكتفاء بالبعض ، قوله (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) مبتدأ (جَنَّاتٌ) خبره ، أي يقول لهم الملائكة : بشارتكم اليوم دخول جنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ) أي دخولهم فيها (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [١٢] أي النجاة الوافرة من عذاب النار.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣))

قوله (يَوْمَ يَقُولُ) بدل من (يَوْمَ) قبل ، أي يوم يقول (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) بقطع الهمزة ، أي أمهلونا ، وبالوصل (٤) ، أي انظروا إلينا (نَقْتَبِسْ) أي نأخذ قبسا (مِنْ نُورِكُمْ) لنمضي معكم ، وذلك إذا غشيتم ظلمة على الصراط عند سرعة الملائكة بالمؤمنين على البراق إلى الجنة كالبرق الخاطف وهولاء مشاة (قِيلَ) استهزاء بهم (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي إلى الدنيا (فَالْتَمِسُوا) أي اطلبوا (نُوراً) آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور ، وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم من النور فرجعوا (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) أي بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) أي بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار وهم يرونه (لَهُ بابٌ باطِنُهُ) أي داخله أو داخل السور من قبل المؤمنين (فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي الجنة (وَظاهِرُهُ) أي خارج السور (مِنْ قِبَلِهِ) أي من قبل الخارج وهو جهة الكفار (الْعَذابُ) [١٣] أي النار.

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤))

قوله (يُنادُونَهُمْ) حال من الضمير في (بَيْنَهُمْ) ، أي ينادونهم من خارج السور على الصراط في الظلمة (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدنيا على دينكم ظاهرا في الصلوات الخمس والجماعات (٥) في المساجد (قالُوا بَلى) قد كنتم معنا في الظاهر (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ) أي محنتم (أَنْفُسَكُمْ) بالكفر في السر وهو النفاق وأهلكتموها به (وَتَرَبَّصْتُمْ)

__________________

(١) «وكلا» : قرأ ابن عامر برفع اللام ، وغيره بنصبها. البدور الزاهرة ، ٣١٤.

(٢) «فيضاعفه» : قرأ ابن كثير وأبو جعفر بحذف الألف وتشديد العين ورفع الفاء ، وابن عامر ويعقوب كذلك ولكن مع نصب الفاء وعاصم بالألف وتخفيف العين ونصب الفاء ، ونافع وأبو عمرو والأخوان وخلف كذلك ولكن مع رفع الفاء. البدور الزاهرة ، ٣١٤.

(٣) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ٨٣.

(٤) «انظرونا» : قرأ حمزة بقطع الهمزة مفتوحة في الحالين مع كسر الظاء ، وغيره بهمزة وصل ساقطة في الدرج ثابتة مضمومة في الابتداء مع ضم الظاء. البدور الزاهرة ، ٣١٤.

(٥) والجماعات ، ح و : والجماعة ، ي.

١٨٧

أي انتظرتم موت نبيكم أو أخرتم التوبة بالتسويف (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في دين الإسلام والبعث (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) أي الأحاديث الكاذبة بطول الأمل (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي الموت ودخول النار يوم القيامة (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ) أي خدعكم به (الْغَرُورُ) [١٤] أي الشيطان.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

(فَالْيَوْمَ) أي في هذا اليوم (لا يُؤْخَذُ) بالياء والتاء (١)(مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي الفداء (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا بتوحيد الله (مَأْواكُمُ) أي مصيركم أيها المنافقون والكافرون (النَّارُ) هو (مَوْلاكُمْ) أي أولى بكم يتصرف فيكم تصرف المولى على عبيده بما كسبتم من الذنوب (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [١٥] أي المرجع هو.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦))

ونزل عتابا للمؤمنين الذين استبطأ الله قلوبهم من الخشوع للذكر وللقرآن عند قراءتهم إياه (٢)(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ألم يجئ لهم حين (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) أي تخاف وتلين (لِذِكْرِ اللهِ) أي إذا ذكر فترق فتنيب إليه بالعمل الصالح فاللام للتوقيت (وَما نَزَلَ) بالتشديد والتخفيف (٣) ، أي وأن تخشع لما نزل (مِنَ الْحَقِّ) وهو القرآن بذكر الحلال والحرام ، قيل : إن المؤمنين الذين كانوا بمكة يقرؤون القرآن كثيرا ويعملون به وهم في حال الجدب والقحط ، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت الآية (٤) ، قوله (وَلا يَكُونُوا) بالياء (٥) عطف على قوله (أَنْ تَخْشَعَ) ، أي ألم يأن لهم أن لا تكونوا (كَالَّذِينَ) أي مشبهين بالذين (أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) أي قبل القرآن وهم اليهود والنصارى في القسوة ، قوله (فَطالَ) بيان لحالهم ، أي طال (عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي الأمل أو الوقت (فَقَسَتْ) أي جفت (قُلُوبُهُمْ) بميل الدنيا والإعراض عن مواعظة تعالى واتباع الشهوات ، فلم يؤمنوا بالقرآن ولم يعملوا به إلا قليل منهم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [١٦] أي خارجون عن طاعة الله ، وقيل : هذه الآية في حق المؤمنين باللسان دون القلب (٦) ، روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال استعيذوا بالله من خشوع النفاق ، قيل : ما خشوع النفاق؟ قال أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع» (٧) ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : «استبطأ الله قلوب المؤمنين من الذكر والخشوع فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن» (٨) ، يعني بهذه الآية.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

(اعْلَمُوا) أي أنيبوا إلى الله واعلموا (أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ) أي يصلحها بالمطر (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبسها حتى ينبت فكذلك يحيي القلوب ويلينها بالذكر والقرآن حتى تتنور بأنوار الله تعالى بعد قسوتها وظلمتها (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) في القرآن (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [١٧] أي لكي تعقلوا ربكم وتوحيده وقدرته على البعث بعد الموت.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨))

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) بالتخفيف ، أي المؤمنين والمؤمنات ، وبالتشديد (٩) ، أي الذين تصدقوا بأموالهم

__________________

(١) «يؤخذ» : قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتاء الفوقية ، وغيرهم بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ٣١٤.

(٢) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٣١٣.

(٣) «نزل» : قرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي ، وغيرهما بتشديدها. البدور الزاهرة ، ٣١٤.

(٤) هذا القول مأخوذ عن الكشاشف ، ٦ / ٨٤.

(٥) «ولا يكونوا» : قرأ رويس بتاء الخطاب ، وغيره بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٣١٤.

(٦) نقل المفسر هذا القول عن السمرقندي ، ٣ / ٣٢٦.

(٧) انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٢٦.

(٨) انظر البغوي ، ٥ / ٣١٣ ؛ والكشاف ، ٦ / ٨٤.

(٩) «المصدقين والمصدقات» : قرأ ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما ، وغيرهما بالتشديد ، واتفقوا على تشديد الدال. البدور الزاهرة ، ٣١٤.

١٨٨

من الرجال والنساء (وَأَقْرَضُوا) عطف على اسم الفاعل ، لأنه بمعنى الفعل ، واللام فيه بمعنى الذين ، أي أعطوا (اللهَ قَرْضاً حَسَناً) يعني تصدقوا بطيبة نفس وصحة نية على المستحقين ، قوله (يُضاعَفُ لَهُمْ) خبر (إِنَّ) ، أي يزاد لهم القرض (١) ، أي ثوابه لكل واحدة عشرة إلى سبعمائة وإلى ما لا يحصى (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [١٨] أي ثواب حسن وهو الجنة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي المؤمنون (بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي بجميعهم (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي المبالغون في الصدق ، يعني هم بمنزلة الصديقين عند الله بتضعيفه أجورهم حتى يساوي أجور (٢) الصديقين وهم أفاضل صحابة النبي عليه‌السلام أي (٣) الذين تقدموا في تصديقهم كأبي بكر رضي الله ، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم ، وهو ترغيب للمؤمنين في الطاعة ليصلوا (٤) إلى أقرب عباد الله إليه ، قوله (وَالشُّهَداءُ) عطف على قوله (الصِّدِّيقُونَ) ، أي هم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) بمنزلة الشهداء أيضا ، والجملة بعده لبيان أنهم بمنزلتهم ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، خبره (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي الذين استشهدوا في سبيل الله أو الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة عند ربهم لهم أجرهم ، أي ثوابهم (وَنُورُهُمْ) الذي في أيمانهم وشمائلهم على الصراط (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي الكافرون بالله والجاحدون بالقرآن (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [١٩] أي ملازموها.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) أي عمل باطل (وَلَهْوٌ) أي فرح يلهي عن الله (وَزِينَةٌ) فاسدة فانية (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) في الحسب والنسب (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) فازهدوا فيها ، يعني لا تميلوا إليها ، فان مثلها (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مطر نزل من السماء فنبت به الزرع والنبات (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) أي الجحاد بأنعم الله أو الزراع (نَباتُهُ) أي ما نبت بالمطر ، فالضمير لل «غَيْثٍ» (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس ويتغير (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أي بعد حضرته (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي فتاتا هالكا ، فشبه حال الدنيا بذلك النبات في سرعة زوالها مع قلة نفعها لأصحابها (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لمن افتخر بالدنيا وزينتها (٥) واختارها كالكفار (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لمن ترك الدنيا وزينتها ، واختار الآخرة عليها كالمؤمنين العارفين بأحوالهما (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) وهي ما شغل العبد عن الآخرة (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [٢٠] أي كمتاع الذي يغتر به بنو آدم وهو ما يتخذ من الزجاج والخزف ، فانه يسرع إلى الفناء ولا يبقي.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

ثم حرض الناس إلى التوبة قبل الموت بقوله (سابِقُوا) أي أسرعوا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي إلى أسبابها وهي التوبة والطاعة (وَ) إلى (جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي كعرض سبع سموات وسبع أرضين أو ألصق بعضها ببعض (٦) ولم يذكر طولهما ، لأن عرض كل شيء أقل من طوله أو العرض السعة (أُعِدَّتْ) أي هيئت (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للمؤمنين (بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ) أي الثواب الذي ذكر (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده وهو من أخلص في دينه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [٢١] أي ذو المن الجزيل لمن أطاعه.

__________________

(١) القرض ، وي : القرآن ، ح.

(٢) أجور ، ح : أجر ، وي.

(٣) أي ، ي : ـ ح و.

(٤) ليصلوا ، وي : ـ ح.

(٥) وزينتها ، وي : ـ ح.

(٦) ببعض ، و : لبعض ، ح ي.

١٨٩

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢))

ثم أرشدهم إلى الإيمان بالقدر بقوله (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كقحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار وغلاء السعر (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) كمرض ووجع وفقد ولد وخوف عدو وجوع (إِلَّا فِي كِتابٍ) حال ، أي إلا مكتوبة في اللوح (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي أن نخلق النفس أو السماء والأرض ، قال النبي عليه‌السلام : «الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن» (١)(إِنَّ ذلِكَ) التقدير في اللوح (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [٢٢] أي هين غير عاجز عنه.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣))

قوله (لِكَيْلا تَأْسَوْا) تعليل لكونها مكتوبة عليكم قبل خلقكم ، أي لئلا تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) تسخطا لقضائه تعالى ، بل تسليما له وصبرا عليه (وَلا تَفْرَحُوا) فرح تكبر ، بل فرح شكر واعترف (بِما آتاكُمْ) بالمد ، أي بما أعطاكم من حطام الدنيا ، وبالقصر (٢) ، يعني بما جاءكم منه ، فانه إلى نفاد وفناء ، قيل : المؤمن من جعل الفرح شكرا والمعصية صبرا (٣)(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) أي متكبر بطر (فَخُورٍ) [٢٣] بزينة الدنيا.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

(الَّذِينَ) أي هم الذين ، ويجوز أن يكون بدلا من «مُخْتالٍ فَخُورٍ» (يَبْخَلُونَ) أي يمسكون أموالهم عن المسمتحقين (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) وقرئ بالفتحتين (٤) ، وهو أشد البخل (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أي من يعرض عما يجب عليه ولم يخرجه من ماله (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ) بذاته عن إيمانهم ونفقتهم (الْحَمِيدُ) [٢٤] في أفعاله ، قرئ باثبات (هُوَ) وحذفه (٥).

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أي الملائكة إلى الأنبياء (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الوحي لتعليم الأمم دينهم (وَالْمِيزانَ) أي العدل أو الميزان بعينه وهو الذي أنزل على عهد نوح عليه‌السلام (لِيَقُومَ النَّاسُ) أي ليتعاملوا بينهم (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (٦)(وَأَنْزَلْنا) أي أخرجنا من المعادن (الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي قوة شديدة في الحرب ، وقيل : إن آدم عليه‌السلام نزل من الجنة مع الإبرة والمطرقة والسندان والكلبتين من الحديد (٧)(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فيما يحتاجون إليه في معائشهم كالسكين والفأس وغيرهما (وَلِيَعْلَمَ) أي وليظهر (اللهُ) في الوجود (مَنْ يَنْصُرُهُ) ينصر (وَرُسُلَهُ) باستعمال آلات الحرب كالسيف والرمح والسهم في مجاهدة أعداء الدين (بِالْغَيْبِ) أي في حال غيبتهم عنه تعالى أو حال عن الله ، أي غائبا عنهم (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ) على أعدائه لا يحتاج إلى النصرة (عَزِيزٌ) [٢٥] أي منتقم منهم بنفسه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي بعثنا (نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) إلى قومهما (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) للموعظة والهداية لمن آمن به منهم وكان فيهم يوسف وموسى وهرون وداود وسليمان وصالح (فَمِنْهُمْ) أي من ذريتهما

__________________

(١) ذكره السيوطي في الفتح الكبير ، ١ / ٥١٠. ولم أعثر عليه في كبت الأحاديث الصحيحة التي رجعتها.

(٢) «آتاكم» : قصر الهمزة أبو عمرو ، ومدها غيره. البدور الزاهرة ، ٣١٥.

(٣) ولم أجد لهذه القراءة مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٤) «بالبخل» : قرأ الأخوان وخلف بفتح الباء الموحدة والخاء ، والباقون بضم الباء وإسكان الخاء. البدور الزاهرة ، ٣١٥.

(٥) «فان الله هو الغني» : قرأ المدنيان وابن عامر بحذف لفظ «هو» ، والباقون باثباته. البدور الزاهرة ، ٣١٥.

(٦) بالعدل ، ح ي : العدل ، و.

(٧) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٨٦.

١٩٠

(مُهْتَدٍ) أي موحد عامل بالكتاب (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [٢٦] أي تاركون العمل بالكتاب.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

(ثُمَّ قَفَّيْنا) أي أتبعنا (عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) واحدا بعد واحد (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) على أثرهم (وَآتَيْناهُ) أي أعطيناه (الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ) المؤمنين (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في دينه (رَأْفَةً) أي شفقة (وَرَحْمَةً) أي مودة بينهم ، يعني يواد ويحب بعضهم بعضا بالإيمان به لم يكونوا يهودا ولا نصارى ، قوله (وَرَهْبانِيَّةً) عطف على (رَحْمَةً) ، أي وجعلنا في قلوبهم زهادة منسوبة إلى الرهبان وهو الخائف ويروى بضم الراء (١) ، و (ابْتَدَعُوها) صفة ل (رَهْبانِيَّةً) ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل يفسره (ابْتَدَعُوها) ، أي اخترعوا تلك الرهبانية من تلقاء أنفسهم (ما كَتَبْناها) أي لم نفرضها (عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي لكنهم ابتدعوها لطلب رضاء الله فهو استثناء منقطع ، ويجوز أن يكون متصلا ، أي إلا ليبتغوا بها رضوان الله (فَما رَعَوْها) أي لم يحفظها المقتدون بهم بعدهم كما أوجبوا على أنفسهم (حَقَّ رِعايَتِها) أي بكمالها بل قصروا فيها ورجعوا عنها ودخلوا في دين ملوكهم ولم يبق على دين عيسى إلا القليل ، قيل : إن ملوكهم بعد عيسى بدلوا الإنجيل والتورية وهموا بقتل علمائهم لئلا ينكروا عليهم أفعالهم فهربوا واعتزلوا في الغيران ودخلوا الصوامع وطال عليهم الأمد فرجع بعضهم عن دين عيسى عليه‌السلام فمنهم من تهود ومنهم من تنصر ومنهم من آمن بمحمد عليه‌السلام (٢)(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) بمحمد ، أي أعطيناهم (أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي من العيسيين (فاسِقُونَ) [٢٧] أي خارجون عن الإيمان به والرهبانية ولم يتبعوهم فيها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بموسى وعيسى (اتَّقُوا اللهَ) أي أطيعوه (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) أي بمحمد عليه‌السلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) أي من فضله لإيمانهم بموسى وعيسى وبمحمد عليهم الصلوة والسّلام (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) على الصراط المظلم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ) للمذنبين بعد التوبة (رَحِيمٌ) [٢٨] للمطيعين.

(لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أي ليعلم بزيادة «لا» للتأكيد تعليل للغفران والرحمة بالمؤمنين بمحمد عليه‌السلام من أهل الكتاب ، يعني غفور رحيم بالمؤمنين بمحمد عليه‌السلام ليعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) الذين كفروا بمحمد عليه‌السلام بعد الإيمان بموسى وعيسى (أَلَّا يَقْدِرُونَ) «أَنَّ» مخففة من الثقيلة بمعنى أن الشأن هم لا يقدرون (عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي لا ينالون شيئا من فضله تعالى من الكفلين والنور ومغفرة الذنوب بدون الإيمان بمحمد عليه‌السلام ولا ينفعهم إيمانهم بمن قبله من الأنبياء ولم يكسبهم فضلا قط (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) أي وليعلموا أن كل الفضل في تصرفه وملكه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي من كان أهلا لذلك لا اعتراض عليه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [٢٩] أي العطاء الكبير كالنبوة والمعرفة والإيمان والثواب في الآخرة ، روي : أن أهل الكتاب افتخروا على المسلمين وقالوا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم فما فضلكم علينا فنزلت (٣).

__________________

(١) هذه القرآءة مأخوذة عن الكشاف ، ٦ / ٨٧.

(٢) لعل المؤلف اختصره من السمرقندي ، ٣ / ٣٣٠ ؛ والكشاف ، ٥ / ٣١٩.

(٣) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٦ / ٨٨.

١٩١

سورة المجادلة

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١))

قوله (قَدْ سَمِعَ اللهُ) نزل حين جاءت خولة بنت ثعلبة إلى النبي عليه‌السلام فقالت : إن زوجي ظاهر مني ثم ندم ، فقال عليه‌السلام : «ما أراك إلا قد حرمت عليه» (١) ، لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فهتفت بصوتها داعية إلى الله تعالى في إصلاح شأنها فقال تعالى (قَدْ سَمِعَ اللهُ) ، ومعنى (قَدْ) فيه التوقع ، لأن رسول الله عليه‌السلام والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتهما (٢) ، أي قد علم وأجاب (قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) أي كلام المرأة التي تخاصمك (فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي) أي تتضرع المرأة (إِلَى اللهِ) مخافة فرقتها من زوجها (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أي مراجعتكما الكلام (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بمقالتها (بَصِيرٌ) [١] بأمرها وأمر زوجها.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢))

قوله (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) مبتدأ ، من ظاهر ، وقرئ «تظاهرون» بالتشديد من تظاهر و «تظهرون» بالتشديد وفتح الياء والهاء (٣) من اظهر ، ومعنى الجميع قال لها أنت علي كظهر أمي ، أي الذين يجعلون (مِنْكُمْ) الظهار (مِنْ نِسائِهِمْ) وقوله (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) خبر المبتدأ و (ما) بمعنى ليس ، و (أُمَّهاتِهِمْ) بكسر التاء خبرها ، والتميمي لم يعمل ما فكسر التاء عنده بتقدير الباء ، والمعنى : ما هن كأمهاتهم في الحرمة بالظهار (إِنْ) أي ما (أُمَّهاتِهِمْ) في الحقيقة (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي من قص الكتاب بأمومتهن كالمرضعات وزوجات النبي عليه‌السلام في الحرمة (وَإِنَّهُمْ) أي المظاهرين (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً) في الشرع (مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي قولا منحرفا عن الحق (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) أي متجاوز (٤) عما سلف من الظهار (غَفُورٌ) [٢] لمن تاب عنه بجعل الكفارة رافعة للحرمة وعدم الحكم بالفرقة بينهما.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣))

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يقولون لهن أنتن علينا كظهر أمنا أو شبهوهن بعضو من أعضائهن التي

__________________

(١) عن عكرمة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٣٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٣٧ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٢٣.

(٢) مجادلتهما ، ح و : مجادلتها ، ي.

(٣) «يظاهرون» معا : قرأ نافع والمكي والبصريان بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحها من غير ألف بعد الظاء ، وعاصم بضم الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسرها وألف بعد الظاء ، وقرأ أبو جعفر والشامي والأخوان وخلف بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها مع تخفيف الهاء وفتحها. البدور الزاهرة ، ٣١٥.

(٤) متجاوز ، وي : مجاوز ، ح.

١٩٢

يحرم النظر إليه من الأم كالفخذ والبطن (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي إلى الجماع الذي حرموه على أنفسهم بشيء قالوه من لفظ الظهار تنزيلا للمقول منزلة المقول فيه وهو الجماع ، ف «ما» بمعنى شيء موصوف ب (قالُوا) أو بمعنى الذي أو اللام في (لِما) بمعنى إلى بتقدير المضاف ، أي يعودون إلى رفع ما قالوه أو العود بمعنى الندم واللام بمعنى عن (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) مؤمنة أو كافرة عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، ولا تجزى إلا المؤمنة عند الشافعي رضي الله عنه كما في كفارة القتل ، أي فكفارتهم عتق رقبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي من قبل (١) أن يجامعها الزوج المظاهر ، والجملة خبر «الَّذِينَ» (ذلِكُمْ) أي الحكم بالكفارة (تُوعَظُونَ بِهِ) لتنزجروا عن الظهار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [٣] من الوفاء وغيره ، قال الشافعي لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها وقال أبو حنيفة رحمه‌الله لو وضع المظاهر مكان الأم ذات رحم محرم منه من نسب أو رضاع أو صهر كان ظهارا (٢).

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥))

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة (فَصِيامُ) أي فعليه صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي لا يفصل بينهما (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي المظاهر والمظاهر منها ، فالآية دلت على أن المظاهر لا يحل له أن يجامع المظاهر منها قبل الكفارة ، وإنه لو أفطر يوما من الشهرين بغير عذاب كالمرض وغيره أو نسي النية استأنف الشهرين (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصيام (فَإِطْعامُ) أي فعليه إطعام (سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين مد من طعام بلده الغالب للقوت عند الشافعي رضي الله عنه وهو رطل وثلاث رطل بالبغدادي ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه نصف صاع من بر وصاع من غيره ، فلو شرع المظاهر في صيام الشهرين ، ثم جامع فيهما ليلا فالشافعي رضي الله عنه لا يستأنف الشهرين ، وأبو حنيفة يستأنفهما سواء كان عمدا أو نسيانا ، قيل : لو امتنع المظاهر من الكفارة جاز للمرأة أن ترافعه وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه حتى يوفي (٣) ، قيل : إنما لم يذكر من قبل أن يتماسا عند الكفارة بالإطعام للدلالة على أن التكفير به قبل الجماع وبعده سواء بخلاف الأولين ، فان التكفير يجب تقديمه على الجماع فيهما (٤)(ذلِكَ) أي المذكور من أمر الكفارة لذنوبكم (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي لإيمانكم بوحدانية الله ونبوة رسوله وتصديقكم بأمرهما (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي هذه فرائض الله وأحكامه التي لا يجوز تعديها (وَلِلْكافِرِينَ) بهما وبأحكامهما (عَذابٌ أَلِيمٌ [٤] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي الذين يشاقونهما في أحكامهما (كُبِتُوا) أي أخذوا وأهلكوا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم وهما المعادون الله ورسوله ، من الكبت وهو الغيظ والإهلاك والإذلال (وَقَدْ أَنْزَلْنا) أي ذلوا وغلبوا والحال «أَنْزَلْنا» (آياتٍ بَيِّناتٍ) تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به وهو القرآن فلم يؤمنوا به (وَلِلْكافِرِينَ) بهذه الآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) [٥] يذهب بعزهم وكبرهم.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))

قوله (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ) ظرف ل (مُهِينٌ) أو نصب بأذكر مضمرا لتعظيم اليوم ، أي اذكر يوم يبعث (اللهُ) الخلائق (جَمِيعاً) من قبورهم من الأولين والآخرين (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من خير وشر ليعلموا ثبوت الحجة عليهم (أَحْصاهُ) أي حفظ (اللهُ) عليهم عملهم (وَنَسُوهُ) أي وهم نسوا عملهم لتهاونهم به (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [٦] أي عالم بأعمالهم جميعا.

__________________

(١) من قبل ، ح : ـ وي.

(٢) وهذه الأقوال منقولة عن الكشاف ، ٦ / ٨٩ ـ ٩٠.

(٣) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ٨٩.

(٤) نقل المفسر هذا القول مختصرا عن الكشاف ، ٦ / ٩٠.

١٩٣

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

(أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي سرهما (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) من «كان» التامة ، أي ما يقع تناجي ثلاثة أنفس وهو التكلم بالسر فيما بينهم بالسوء (إِلَّا هُوَ) أي الله (رابِعُهُمْ) أي عالم بما يقولون (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى) أي ولا أقل (مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) أي عالم بهم وبأحوالهم (أَيْنَ ما كانُوا) من الأرض (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) من خير وشر ، قيل : نزل ذلك حين تناجى نفر من الكفار عند الكعبة وكانوا متحلقين على هذين العددين ثلاثة وخمسة ، فقال بعضهم لبعض لا ترفعوا أصواتكم حتى لا يسمع رب محمد كلامكم (١)(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [٧] من السر والعلانية.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨))

ولما تناجى المنافقون واليهود فيما بينهم دون المؤمنين ، فإذا رأى المؤمن أنهم تناجوا يظن أنهم يريدون قتله فيترك الطريق خوفا منهم ، فنهاهم النبي عليه‌السلام عن التناجي فلم ينتهوا نزل (٢)(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) أي عن قول السر فيما بينهم (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي إلى قول السر (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ) أي بالكذب (وَالْعُدْوانِ) أي بالجور والظلم (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي بخلاف أمر الرسول ، لأنه نهاهم فلم ينتهوا (وَإِذا جاؤُكَ) أي اليهود (حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) بأن قالوا السام عليك مكان السّلام (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم (لَوْ لا) أي هلا (يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) في محمد إن كان نبيه من السب قال تعالى (حَسْبُهُمْ) أي كافيهم (جَهَنَّمُ) يعني مصيرهم إلى جهنم (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [٨] هي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩))

ثم قال خطابا للمنافقين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) باللسان دون القلب (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا) فيما بينكم (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا) أي تكلموا في السر (بِالْبِرِّ) وهو الطاعة (وَالتَّقْوى) وهي ترك المعصية ، وقيل : خطاب للمخلصين (٣) ، أي لا تكونوا كالمنافقين (وَاتَّقُوا) أي اخشوا من التناجي كتناجي اليهود والمنافقين (اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [٩] بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم من التناجي وغيره.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

(إِنَّمَا النَّجْوى) أي إن التناجى بالشر (مِنَ الشَّيْطانِ) أي من تزيينه (لِيَحْزُنَ) معلوما من حزن أو من أحزن ، والضمير للتناجي ، أي ليغيظ (الَّذِينَ آمَنُوا) بذلك (وَلَيْسَ) التناجي (بِضارِّهِمْ) أي لا يضر المؤمنين (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بقضائه ، يعني بأن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة ، وكانوا يوهمون المؤمنين في نجويهم أن غزاتهم غلبوا وإن أقاربهم قتلوا أو لا يضر الحزن الذي زينهم الشيطان بسببه وهو التناجي بالشر لا بمشيته ولا يشاؤه ، ثم أمر المؤمنين بأن يتوكلوا عليه بقوله (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [١٠] أي المخلصون في دينهم.

__________________

(١) قد أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٣٣٥.

(٢) عن ابن عباس ومجاهد ، انظر الواحدي ، ٣٣٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٣٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٢٨.

(٣) أخذ المصنف هذا القول عن السمرقندي ، ٣ / ٣٣٦.

١٩٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) أي توسعوا بجلوسكم (فِي الْمَجالِسِ) وقرئ في «المجلس» (١) ، أي مجلس النبي عليه‌السلام أو مجلس الذكر حتى يجلس من جاءكم ، قال عليه‌السلام : «لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا» (٢) ، وجواب الشرط (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) في أرض الجنة أو في القبر ، قيل : نزلت الآية في ثابت بن قيس وكان في أذنيه وقر ، فحضر مجلس النبي عليه‌السلام وقد أخذوا مجالسهم فبقي قائما ، قال عليه‌السلام : «رحم الله من وسع لأخيه» (٣)(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) بكسر الشين وضمها (٤) ، أي قوموا للصلوة أو الجهاد أو من مجلس النبي عليه‌السلام أو لكل أمر من أمور الله ورسوله (فَانْشُزُوا) أي فقوموا (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بطاعتهم الله ورسوله (مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي يرفع الله العالمين منهم خاصة على غيرهم من المؤمنين (دَرَجاتٍ) أي رفع درجات في الدنيا والآخرة ، قيل : هذه الآية ترغب المؤمنين على العلم (٥) ، فان الله يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات ، ما بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ، الحضر العدو ، وتضمير الفرس تسمينه بالعلف والماء في موضع أربعين يوما ، ويسمى الموضع والمدة ضمارا ومنها الشفاعة كشفاعة الأنبياء في الخبر «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (٦) ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : «خير سليمان بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم ، فأعطي المال والملك معه» (٧) ، ومنها أن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن السماء والأرض والحوت لتدعو له ، ومنها قوله عليه‌السلام : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (٨)(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [١١] من التفسيح في المجلس وطاعة الله ورسوله وطلب العلم الشريف وغير ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي إذا كلمتموه سرا (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) أي قدامه إذا أردتم مناجاته (صَدَقَةً) على مستحقها (ذلِكَ) أي التقديم (خَيْرٌ لَكُمْ) لطاعتكم من إمساكه (وَأَطْهَرُ) لذنوبكم وقلوبكم (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدقون به (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمناجاتكم النبي عليه‌السلام بلا تقديم الصدقة (رَحِيمٌ) [١٢] بكم حيث أباح لكم السؤال من النبي عليه‌السلام ، والآية نزلت حين أكثر الناس عليه السؤال حتى أسأموه وملوه ، فأمرهم الله تعالى بتقديم الصدقة عند المناجاة فانتهوا عن ذلك فغدرت الفقراء على سماع كلام النبي عليه‌السلام ومجالسته (٩) ، قيل : لم يناجه بعد نزولها إلا على رضي الله عنه قدم دينارا تصدق به وكلم النبي عليه‌السلام في عشر كلمات ثم أنزلت الرخصة بقوله (١٠)(أَأَشْفَقْتُمْ) أي خفقتم الفقراء يا أهل الغنا (أَنْ) أي بأن (تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) وبخلتم فلو فعلتم لكان خيرا لكم (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به من

__________________

(١) «المجالس» : قرأ عاصم بفتح الجيم وألف بعدها على الجمع وغيره باسكان الجيم على الإفراد. البدور الزاهرة ، ٣١٦.

(٢) روى مسلم نحوه ، السّلام ، ٢٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٣٧ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٣١.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٣٣٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

(٤) «انشزوا» : قرأ المدنيان والشامي وحفص بخلف عنه بضم الشين ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٣١٦.

(٥) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٩٢.

(٦) أخرجه ابن ماجة ، الزهد ، ٣٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٩٢.

(٧) انظر الكشاف ، ٦ / ٩٢.

(٨) رواه الترمذي ، العلم ، ١٩ ؛ وابن ماجة ، المقدمة ، ١٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٩٢.

(٩) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٣٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٣٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ٩٢ ـ ٩٣.

(١٠) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٣٣٧.

١٩٥

الصدقة فيما مضى وشق عليكم (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي تجاوز عنكم وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة عليكم ، أي لا تفرطوا فيهما وفي سائر الطاعات فهو كفارة ذلك ، نسخت آية النجوى بعد عشر ليال (١) ، وقيل : بعد ساعة من نهار بالزكوة (٢)(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [١٣] من النجوى والتصدق وغيرهما من الخير والشر.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥))

قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) نزل حين تواد المنافقون اليهود واتخذوهم أولياء (٣) ، أي ألم تنظر إلى الذين توادوا (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود (ما هُمْ) أي المنافقون (٤)(مِنْكُمْ) في الحقيقة (وَلا مِنْهُمْ) أي ولا من اليهود في العلانية ، يعني (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ)(٥)(وَيَحْلِفُونَ) أي المنافقون (عَلَى الْكَذِبِ) وهو قولهم والله إنا مسلمون على سبيل الادعاء (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [١٤] أنهم كاذبون في حلفهم والحال أفادت أن كذبهم عن تعمد فيكون حلفهم كيمين الغموس ، وروي أن النبي عليه‌السلام قال لأصحابه : «يدخل عليكم الان رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان» ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق ، فقال له النبي عليه‌السلام : «علام تشمتني أنت وأصحابك» ، فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه‌السلام : «فعلت» ، فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت (٦)(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة وهو أشد العذاب (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [١٥] من الولاية بأعداء الله تعالى.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦))

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي أحلافهم الكاذبة (جُنَّةً) أي ترسا ليأمنوا بها عن القتل والسبي والنهب (فَصَدُّوا) أي صرفوا المسلمين بحلفهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الجهاد بهم أو من لقوا عن الدخول في الإسلام (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [١٦] يهانون به لكفرهم وصدهم.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧))

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً) قليلا من الإغناء (أُولئِكَ) أي الكاذبون في حلفهم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [١٧] لا يخرجون عنها.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨))

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي المنافقين واليهود (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي لله تعالى كذبا في الآخرة على أنهم مسلمون (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا أنهم مسلمون (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من الهدى أو من نفع أيمانهم الكاذبة كما انتفعوا هنا بها دفعا عن القتل والنهب (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [١٨] في إسلامهم وحلفهم ، لأنهم كافرون في السر.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

(اسْتَحْوَذَ) أي استولى وغلب (عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) وملكهم لطاعتهم له في كل ما يريده منهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ

__________________

(١) عن مقاتل بن حيان ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٣٣.

(٢) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٣٤.

(٣) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٣٣٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٣٤.

(٤) المنافقون ، وي : المنافقين ، ح.

(٥) النساء (٤) ، ١٤٣.

(٦) عن السدي ومقاتل ، انظر الواحدي ، ٣٤٠ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٣٤.

١٩٦

اللهِ) أي توحيده وطاعته أو أن يذكروه أصلا لا بالقلب ولا باللسان (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي جنده وأتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [١٩] أي الغابنون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠))

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يعادون ويخالفون أمرهما (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) [٢٠] أي المغلوبين والأسفلين في دركات النار.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١))

(كَتَبَ اللهُ) في اللوح المحفوظ (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) بالحجة في الدنيا والآخرة أو بالسيف لمن أرسل للحرب أو بالحجة لمن أرسل لغير الحرب أو بهما لمن أرسل لهما (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ)(١) لا يغلبه أحد (عَزِيزٌ) [٢١] أي منتقم ممن يعاديه.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

قوله (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) نزل في حاطب ابن أبي بلتعة (٢) ، وقيل : نزل في قتل أبي عبيدة ابن الجراح وأبي بكر حين بارز ابنه في الحرب ومصعب حيث قتل أخاه عبيد بن عمير بأحد وعمر حيث قتل خاله العاص بن عشام ببدر وعلي وحمزة حيث قتلا الوليد وشيبة (٣) ، أي لا تجد قوما من المؤمنين (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي أعداءهما ، يعني من صح إيمانه لا يتخذ الكافرين أولياء بل يقتلهم ويقصدهم بالسوء (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) كأبي عبيدة بن الجراح (أَوْ أَبْناءَهُمْ) كأبي بكر (أَوْ إِخْوانَهُمْ) كمصعب بن عمير (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) كعمر وعلي وحمزة (أُولئِكَ) أي المذكورون (كَتَبَ) أي أثبت (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) يعني التصديق (وَأَيَّدَهُمْ) أي قواهم (بِرُوحٍ مِنْهُ) أي بعونه أو بجبرائيل أو برحمته أو بالقرآن (وَيُدْخِلُهُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي في الجنان (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بايمانهم وطاعتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بالثواب لهم في الجنة (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جنده في نصرة دينه (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٢٢] أي الذين ناجوا في الآخرة وظفروا بالجنة وبفضل الله تعالى ، وروي : أن أبا قحافة سب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط منها ، فقال له رسول الله عليه‌السلام «أو فعلته» قال : نعم ، قال : «لا تعد» ، قال : والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته فنزلت (٤).

__________________

(١) أي ، ح : ـ وي.

(٢) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٣ / ٣٣٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٣٥.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٩٥.

(٤) عن ابن جريج ، انظر الواحدي ، ٣٤١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٩٥.

١٩٧

سورة الحشر

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢))

(سَبَّحَ لِلَّهِ) أي نزه الله تعالى أو صلى له كل (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي أهلهما كالملائكة والإنس والجن (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) [١] في أمره ، قيل : نزلت هذه السورة حين عاهد بنو النضير النبي عليه‌السلام على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه الغير ، فلما انهزم المؤمنون بأحد نقضوا العهد وحالفوا الكفار ، فأخبر جبرائيل النبي عليه‌السلام بذلك فسار بأصحابه عليهم فقالوا اخرجوا من المدينة فقالوا الموت أولى بنا من ذلك ، فأرسل إليهم ابن أبي وأصحابه من المنافقين بالخفية لا تخرجوا من حصنكم ، فانا معكم ننصركم إن قوتلتم وإن خرجتم خرجنا معكم ، فحصنوا أزقتهم وجعلوا لها أبوابا للقتال ، فحاصرهم النبي عليه‌السلام إحدى وعشرين يوما فرعبت قلوبهم وطلبوا الصلح من النبي عليه‌السلام فأبى عليهم عليه‌السلام إلا الجلاء ، فخرجوا من المدينة إلى أريحاء وأذرعات وخرج ابن أخطب إلى خيبر وبعضهم إلى الحيرة مدينة بقرب كوفة (١) ، فقال تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم بنو النضير (مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) واللام للتوقيت ، أي عند أول حشرهم إلى الشام ، لأنهم سألوا النبي عليه‌السلام إلى أين نخرج ، قال إلى أرض المحشر وهو الشام ، قيل : هذا أول حشرهم ، وآخره يوم القيامة (٢)(ما ظَنَنْتُمْ) أيها المؤمنون (أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم لقوتهم وكثرة منعتهم (وَظَنُّوا) أي بنو النضير (أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ) أي التي يمنعهم (حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذابه وهو الجلاء من ديارهم ، وفي تقديم الخبر على المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا دليل على فرط وثوقهم بحصانة الحصون ومنعها إياهم من الله (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي أمره بالعذاب الموعود لهم (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي لم يخطر ببالهم (وَقَذَفَ) أي أوقع وأثبت (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) بضم العين وسكونه (٣) ، أي الخوف بقتل سيدهم كعب بن الأشرف قتله أخوه غرة بالليل ، بعثه النبي عليه‌السلام ليقتله فاستخرجه من بيته بقوله إني آتيتك لأستقرض منك شيئا من التمر فخرج إليه فقتله ، ورجع إلى النبي عليه‌السلام وأخبره ففرح به لأنه أضعف قلوبهم وسلب قوتهم (يُخْرِبُونَ) بالتخفيف والتشديد (٤) ، أي يهدمون (بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) كيلا يسكنها المؤمنون (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم

__________________

(١) اختصره المؤلف عن البغوي ، ٥ / ٣٣٧ ـ ٣٣٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٦ / ٩٦.

(٣) «الرعب» : ضم العين الشامي والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وأسكنها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣١٧.

(٤) «يخربون» : قرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء وغيره باسكان الخاء وتخفيف الراء. البدور الزاهرة ، ٣١٧.

١٩٨

كانوا يثقبون بيوتهم ليتمكنوا من الدخول عليهم وقتالهم ، فكأنهم أمروهم به (فَاعْتَبِرُوا) بمصابحهم من الله من غير قتال وتسليط المؤمنين عليهم (يا أُولِي الْأَبْصارِ) [٢] أي يا أصحاب البصيرة في أمر الله تعالى.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤))

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ) أي حكم (اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي الخروج عن (١) وطنهم إلى الشام (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي كقريظة الذين هم إخوانهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ [٣] ذلِكَ) أي الذي أصابهم من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوا أمرهما ولم يرضوا دين الإسلام (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) أي يخالف أمره (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [٤] إذا عاقب أحدا.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

ونزل حين يخرج المسلمون بقطع نخلهم ليغيظوا بهم وقت محاصرتهم قوله (٢)(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) أي نخلة واللينة جميع ضروب النخل سوى العجوزة والبرنية ، وهما أجود النخل استبقوهما لأنفسهم وأصلها لونة من اللون ، وقيل : اللينة النخلة الكريمة (٣) ، كأنهم اشتقوها من اللين ، وقيل : «هم قطعوا منها ما كان موضعا للقتال» (٤) ، ومحل (ما) الشرطية نصب ب (قَطَعْتُمْ) و (مِنْ لِينَةٍ) بيان لها ، أي أي شيء قطعتم من اللينة (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) فلم تقطعوها ، وأنث الضمير الراجع إلى (ما) ، لأنه في معنى اللينة ، وجواب الشرط قوله (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فقطعها بأمره ومشيته فلا جناح عليكم فيه (وَ) فعل الله ذلك (لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) [٥] أي ليذل الناقضين للعهد وهم بنو النضير من اليهود.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

ونزل حين ترك بنو النضير ديارهم وضياعهم وذهبوا وطلب المسلمون قسمتها كخيبر قوله (٥)(وَما أَفاءَ اللهُ) أي الذي رد الله (عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي من أموال الكفار المخرجين من ديارهم (فَما أَوْجَفْتُمْ) من الإيجاف وهو السير السريع ، أي ما أسرعتم (عَلَيْهِ) أي على طلبه (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي إبل ، و (مِنْ) زائدة بعد النفي ، أي لم تقاسوا مشقة شديدة على أخذ أموال اليهود ، بل مشيتم مشيا ففتحها الله في أيديكم فلم يكن ذلك غزوة بايجاف الخيل والركاب ، فجعله الله فيئا يختص به النبي عليه‌السلام فقسمها بين المهاجرين ، قوله (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ) عطف عل ى «ما أوجفتم» ، أي ما حصلتموه بالقهر والغلبة ولكنه تعالى يسلط (رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) إهلاكه وأخذ ماله ، ومحمد عليه‌السلام منهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٦] أي يقدر على التسليط وغيره.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

ثم بين ما يصنع النبي عليه‌السلام بالفيء بترك حرف العطف فيه بقوله (ما أَفاءَ) أي الذي رد (اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من بني النضير وفدك وبني قريظة وخيبر (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) أراد بهما النبي عليه‌السلام (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي أمره الله أن يضع الفيء حيث يضع الخمس من

__________________

(١) عن ، وي : من ، ح.

(٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٤٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٤٠ ؛ والواحدي ، ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٣) أخذ المفسر هذا المعنى عن الكشاف ، ٦ / ٩٧.

(٤) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٦ / ٩٧.

(٥) قد أخذه عن البغوي ، ٥ / ٣٤٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٤٤.

١٩٩

الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة ، قوله (كَيْ لا يَكُونَ) متعلق بالقسمة ، أي قسم الله بينهم كيلا يكون الفيء (دُولَةً) بالنصب خبر (يَكُونَ) ، وبالرفع فاعل (يَكُونَ) التامة مع تأنيثها ودالها بالضم (١) ، أي شيئا متداولا ، وروي بالفتح بمعناه أو الضم للأغنياء والفتح للفقراء (٢) ، قوله (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) ظرف ل (دُولَةً) ، أي لئلا يختص بها الأغنياء ويتداولونها بينهم ولا يصيب للفقراء منها شيء كما كان الرؤساء منهم يستأثرون الغنيمة ، وهي الدولة الجاهلية (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) أي ما أعطاكموه أيها المؤمنون من الفيء وغيره (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي امتنعوا عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) من مخالفته (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [٧] لمن عصاه.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

قوله (لِلْفُقَراءِ) بدل من (لِذِي الْقُرْبى) لا من «لله وللرسول» ، لأنه يلزم الفساد لفظا ومعنى ، أما لفظا فلأنه الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف تعظيم الله والرسول ، وأما معنى فلأنه يلزم دخول الرسول في زمرة الفقراء ، وكان عليه‌السلام يتعوذ من الفقر (٣) ولأن الله تعالى أخرج رسوله من الفقراء في قوله وينصرفون الله ورسوله فلا يكون للرسول عليه‌السلام من الفيء شيء وليس كذلك ، أي الفيء للفقراء (الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا) أي أخرجهم أهل مكة (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) قوله (يَبْتَغُونَ) حال ، أي يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي رزقا من الجنة (وَرِضْواناً) أي رضا الله تعالى في دينه (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي دينهما بالسيف (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [٨] في إيمانهم وجهادهم فطابت نفوس الأنصار بذلك ، فقالوا هذا كله لهم وديارنا وأموالنا أيضا لهم فأحبوهم لله ولرسوله.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩))

فأثنى الله تعالى الأنصار بقوله (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) أي وطنوا دار المدينة وهي دار الهجرة ونزلوا بها في المدينة (وَ) تبوأ (الْإِيمانَ) أي أخلصوا الإيمان فيها (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل هجرة النبي عليه‌السلام إليهم وأصحابه ، فبنوا المساجد قبلهم بسنتين في المدينة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من المؤمنين (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي حسدا وبخلا (مِمَّا أُوتُوا) أي أعطي المهاجرون لقسم النبي عليه‌السلام أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا (وَيُؤْثِرُونَ) أي الأنصار (عَلى أَنْفُسِهِمْ) في القسمة من الفيء المهاجرين ، يعني يتركون الفيء لهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي حاجة إلى ما يؤثرون به ، والجملة حال من الفاعل في (يُؤْثِرُونَ) ، أي مفروضا خصاصتهم ، ثم أشار تعالى إلى الثناء على الأنصار وعلى مثلهم بقوله (وَمَنْ يُوقَ) أي يمنع (شُحَّ نَفْسِهِ) أي بخلها وقهرها (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٩] في الآخرة من النار بدخول الجنة ، روي عنه عليه‌السلام : «لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» (٤).

__________________

(١) «كي لا يكون دولة» : قرأ أبو جعفر وهشام بخلف عنه «يكون» بتاء التأنيث و «دولة» برفع التاء ، والوجه الثاني لهشام التذكير في «يكون» مع رفع «دولة» أيضا فيكون له في «يكون» التأنيث والتذكير ، وفي «دولة» الرفع فقط ، والباقون بياء التذكير في «يكون» ونصب التاء في «دولة» ، ولا يجوز في قراءة ما تأنيث «يكون» مع نصب «دولة». البدور الزاهرة ، ٣١٧.

(٢) وهذا القول مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٩٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٤٤.

(٣) روى النسائي في سننه (الاستعاذة ، ١٤): «اللهم إني أعوذ بك من القلة والفقر والذلة ..».

(٤) أخرجه النسائي ، الجهاد ، ٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٤٧.

٢٠٠