عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

سورة النازعات

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤))

(وَالنَّازِعاتِ) أي بحق الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد (غَرْقاً) [١] أي نزعا بشدة (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) [٢] أي الملائكة التي تنشط أرواح الكفار من بين الجلد والأظفار ، والنشط الإخراج ، من نشط الدلو إذا أخرجه من البئر (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) [٣] أي الملائكة التي تسرع لقبض أرواح المؤمنين بسهولة (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) [٤] الفاء فيها وفي ما بعدها كما في المرسلات (١) ، أي الملائكة التي تسبق إلى ما أمروا من الوحي وغيره.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧))

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [٥] أي الملائكة التي تدبر أمر الدنيا والخلائق ، وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام ، وجواب القسم محذوف ، أي لتبعثن بقرينة قوله (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) [٦] وهو ظرف للمحذوف ، أي لتبعثن يوم تزلزل (٢) النفخة الأولى ، أي تتحرك الأرض بسببها ، وصفت بما يحدث من أجلها ، إذ يموت كل الخلائق بالزلزلة لشدة النفخة ، ومحل (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [٧] نصب على الحال من الراجفة والرادفة هي النفخة الثانية ، لأنها ردفت الأولى التي تميت وهي تنشرهم ، وبينهما أربعون سنة ، فالمعنى : لتبعثن يا أهل مكة في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان ، أي في بعضه ، وهو وقت النفخة الأخرى.

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩))

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) مبتدأ نكرة ، صفتها (واجِفَةٌ) [٨] أي خائفة ، خبره الجملة من (أَبْصارُها) أي أبصار أصحاب القلوب (خاشِعَةٌ) [٩] أي ذليلة لهول ما ترى.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١))

(يَقُولُونَ) أرباب القلوب والأبصار في الدنيا استهزاء وإنكارا للبعث (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) أي لمرجوعون (فِي الْحافِرَةِ) [١٠] أي إلى أول أمرنا ، وهو حيوتنا بعد موتنا ، يقال رد فلان في حافرته إذا رجع من حيث جاء ، قوله (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) [١١] بالألف وحذفها (٣) ، فيه زيادة استبعادهم للبعث ، وعامل الظرف محذوف ، أي أنبعث إذا كنا عظاما بالية متفتتة.

__________________

(١) انظر سورة المرسلات (٧٧) ، ٢.

(٢) تزلزل ، وي : تتزلزل ، ح. الأرض ، + ح.

(٣) «أئذا» : قرأ نافع والشامي والكسائي ويعقوب بالاخبار ، والباقون بالاستفهام. وكل من استفهم فهو على أصله من التسهيل والتحقيق وغيرهما فقالون والبصري وأبو جعفر بالتسهيل والإدخال ، وورش ورويس وابن كثير بالتسهيل من غير إدخال وهشام بالتحقيق مع الإدخال قولا واحدا ، والباقون بالتحقيق بلا إدخال. البدور الزاهرة ، ٣٣٦.

٢٨١

(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢))

(قالُوا) أي منكرو البعث استهزاء (تِلْكَ) أي رجعتنا هذه (إِذاً) أي إن صح أنا نبعث (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) [١٢] أي رجعة ذات خسران لتكذيبنا بها والمراد أربابها.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣))

قوله (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ) جواب لهم يتعلق بمحذوف ، أي لا تستصعبوها ، فانما هي ، أي الرادفة التي يعقبها البعث زجرة ، أي صيحة (واحِدَةٌ) [١٣] لا تكرر لشدتها ، يعني سهلة هينة في قدرته تعالى يريد النفخة الثانية.

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [١٤] أي إذا نفخت تلك النفخة ، فاذا كل الخلائق على وجه الأرض أحياء بعد ما كانوا في بطنها أمواتا ، وسميت الأرض ب «الساهرة» لمنام الخلق وسهرهم عليها.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠))

قوله (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) [١٥] عظة لهم بمصيبة فرعون بسبب إنكار البعث وتكذيب الرسل ، أي قد أتاك خبر موسى عليه‌السلام (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي المطهر (طُوىً) [١٦] اسم الوادي ، فقال له (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [١٧] أي علا وتكبر في كفره (فَقُلْ) له بالاستفهام الذي معناه العرض (هَلْ لَكَ) رغبة (إِلى أَنْ تَزَكَّى) [١٨] بتشديد الزاء وتخفيفها (١) ، أي تتطهر من الشرك بأن تشهد أن «لا إله إلا الله» ، (وَأَهْدِيَكَ) أي أرشدك (إِلى رَبِّكَ) أي إلى معرفته بالبراهين (فَتَخْشى) [١٩] أي تخاف الله وعذابه فتسلم ، قيل : من خشي الله أتى منه كل خير ، ومن أمن من الله اجترأ على كل شر (٢)(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) [٢٠] أي قلب العصا حية أو العصا واليد ، وكانت هي الأصل والآية الأخرى كالتبع ، فلذا وحدت الآية.

(فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

(فَكَذَّبَ) فرعون موسى (وَعَصى) [٢١] الله تعالى (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الإيمان به (يَسْعى) [٢٢] في هلاك موسى (فَحَشَرَ) أي جمع السحرة وجنوده فأمر مناديا (فَنادى) [٢٣] أي قام بنفسه للنداء من مجلسه (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [٢٤] لا رب فوقي (فَأَخَذَهُ اللهُ) أي عاقبه (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) [٢٥] أي عقوبتهما ، يعني عذب هنا بالغرق ، وفي الآخرة بالحرق (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في هلاك فرعون وقومه (لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [٢٦] أي لعظة لمن يخاف الله ويسلم.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩))

ثم خاطب أهل مكة بالموعظة فقال (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وإنشاء بعد الموت (أَمِ السَّماءُ) أشد ، والحال أنه قد (بَناها) [٢٧] أي السماء (رَفَعَ سَمْكَها) أي سقفها بلا عمد (فَسَوَّاها) [٢٨] أي جعلها مستوية بلا عيب (وَأَغْطَشَ) أي أظلم (لَيْلَها وَأَخْرَجَ) أي أبرز (ضُحاها) [٢٩] أي نور شمسها ، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس سراجها.

__________________

(١) «تزكى» : قرأ المدنيان والمكي ويعقوب بتشديد الزاي ، وغيرهم بتخفيفها. البدور الزاهرة ، ٣٣٦.

(٢) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٢٠٦.

٢٨٢

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤))

قوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) نصب بفعل يفسره (دَحاها) [٣٠] أي دحى وبسط الأرض بعد خلق السماء ليستقر عليها ، ثم فسر البسط بقوله (أَخْرَجَ) ولذلك لم يعطف بالواو أو حال بتقدير قد أخرج (مِنْها ماءَها) بتفجير عيونها (وَمَرْعاها) [٣١] أي نباتها للدواب والأنعام (وَالْجِبالَ أَرْساها) [٣٢] أي أثبتها على وجه الأرض لتسكن ، قوله (مَتاعاً) مفعول له ، أي للتنعيم والنفع (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [٣٣] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) [٣٤] أي الصيحة العظمى ، وهي النفخة الثانية ، من طم الشيء إذا علا فوق كل شيء.

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦))

قوله (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) بدل من «إذا جاءت» ، أي يوم يتفهم (الْإِنْسانُ) بعد نسيانه ويعلم (ما سَعى) [٣٥] أي كل شيء عمله من خير وشر في الدنيا (وَبُرِّزَتِ) أي أظهرت (الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) [٣٦] أي لكل رأى.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩))

قوله (فَأَمَّا مَنْ طَغى) [٣٧] جوا ب «إذا جاءت الطامة» فالحكم هذا أما من علا وكفر (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) [٣٨] على الآخرة باتباع الشهوات (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [٣٩] أي المستقر له.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١))

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي القيام بين يدي ربه (وَنَهَى النَّفْسَ) هنا (عَنِ الْهَوى) [٤٠] المردي كاتباع الشهوات (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [٤١] أي دار القرار له ، نزلت الآيتان في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير ، فانه صحابي قتل أخاه هذا يوم أحد ، ووقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه حتى نفذت السهام في جوفه (١).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤))

قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي عن قيامها (أَيَّانَ) أي أي وقت (مُرْساها) [٤٢] أي ظهورها واستقرارها ، نزل عند سؤال أهل مكة عنها ولم يزل النبي عليه‌السلام يسأل ربه متى قيام الساعة مرة بعد أخرى فنزل قوله (٢)(فِيمَ) أي في أي شيء (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) [٤٣] أي من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به لست تعلم ذلك (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) [٤٤] أي منتهى علمها متى تكون لا يعلمه غيره فانتهى عن سؤاله بعد ذلك.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥))

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [٤٥] بتنوين (مُنْذِرُ) وتركه (٣) ، أي أنت مخوف بالقرآن من يخاف قيام الساعة وليس عليك أن تعرف متى وقتها ، وإنما قيد (مَنْ يَخْشاها) لأنه لا ينتفع بالإنذار إلا هو.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

(كَأَنَّهُمْ) أي الكفار (يَوْمَ يَرَوْنَها) أي قيام الساعة (لَمْ يَلْبَثُوا) في القبور وفي الدنيا إذا عاينوا الساعة (إِلَّا عَشِيَّةً) أي مقدار آخر النهار (أَوْ ضُحاها) [٤٦] أي مقدار ضحى العشية ، وهو أول النهار ، وإضافة ال «ضحى» إلى ضمير العشية من قبيل قولهم جاء فلان في ليلة ويومها ، يعني لما بينهما من الملابسة ، وفائدة هذه الإضافة استقلال مدة لبثهم وهي ساعة من اليوم عشيته أو ضحاه.

__________________

(١) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٠٨.

(٢) عن عائشة رضي الله عنها ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٤٥ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٠٨.

(٣) «منذر» : قرأ أبو جعفر بتنوين الراء ، وغيره بحذف التنوين. البدور الزاهرة ، ٣٣٦.

٢٨٣

سورة عبس

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢))

قوله (عَبَسَ) نزل في شأن عبد الله بن أم مكتوم وهو اسم أبيه حين أتى النبي عليه‌السلام وهو يناجي جماعة من كفار قريش يرجو إسلامهم ، وكان عبد الله أعمى فسأله عن بعض ما ينتفع من علم الله تعالى ، فأعرض عنه كراهة أن يقطع كلامه معهم (١) ، فقال تعالى (عَبَسَ) ، أي قبض محمد وجهه (وَتَوَلَّى) [١] أي أعرض (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) [٢] أي لأن جاءه ابن أم مكتوم.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤))

(وَما يُدْرِيكَ) أي أي شيء يجعلك داريا بأنه لا ينتفع بعلمك (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [٣] أي يتطهر من الذنوب بما يسمع منك (أَوْ يَذَّكَّرُ) أي يتعظ بالقرآن (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) [٤] بالرفع والنصب (٢) ، أي العظة.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧))

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) [٥] بنفسه وماله ، أي تكبر عن الإسلام وعظتك (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) [٦] أي تتعرض وتقبل بوجهك ، يعني لا ينبغي أن يفعل مثلك للغني كذا روى : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول «عبس» ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني (٣)(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) [٧] أي ليس عليك بأس ومضرة في أن لا يسلم عتبة وأصحابه.

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠))

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) [٨] أي يسرع إلى سماع العلم والعمل به (وَهُوَ يَخْشى) [٩] أي يخاف الله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [١٠] أي تتغافل وتشتغل بغيره ، يعني مثلك لا ينبغي أن يتلهى للغقير لفقره ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرم ابن أم مكتوم بعد ذلك ويقول إذا رآه : «مرحبا بمن عاتبني ربي فيه ، هل لك من حاجة» (٤).

(كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

قوله (كَلَّا) ردع عن ارتكاب المعاتب عليه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا تغفل عن الفقير ولا تقبل على المستغني عن الله (إِنَّها) أي آيات القرآن (تَذْكِرَةٌ) [١١] أي عظة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [١٢] بتذكير الضمير نظرا إلى المعنى ، أي اتعظ بالقرآن (فِي صُحُفٍ) أي هي في صحف أو حال من الضمير المفعول في «ذَكَرَهُ» (مُكَرَّمَةٍ) [١٣] أي مبجلة

__________________

(١) عن هشام بن عروة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٤٦ ؛ والواحدي ، ٣٦٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٢١ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٢) «فتنفعه» : قرأ عاصم بنصب العين ، وغيره برفعها. البدور الزاهرة ، ٣٣٧.

(٣) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ٢٠٩.

(٤) وهذا مأخوذ عن البغوي ، ٥ / ٥٢١ ؛ أو الكشاف ، ٦ / ٢٠٩.

٢٨٤

معظمة (مَرْفُوعَةٍ) في السماء السابعة ، والمراد اللوح المحفوظ (مُطَهَّرَةٍ) [١٤] عن مس غير الملائكة أو عن الكذب والعيب (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) [١٥] جمع سافر وهو الكاتب ، أي بأيدي الكتبة للسفر ، أي الكتاب ، يعني ينسخون (١) الكتب لأجلهم من اللوح المحفوظ (كِرامٍ بَرَرَةٍ) [١٦] أي مكرمين عند الله مطيعين له ، جمع بار ، وقيل : هي صحف الرسل والسفرة القراء (٢).

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨))

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي لعن كل كافر مثل عتبة وابن خلف (ما أَكْفَرَهُ) [١٧] استفهام توبيخ ، أي أي شيء حمله على الكفر مع أنه يعلم (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [١٨] الله تعالى ، وذلك دعاء عليه وهو أشنع الدعوات عندهم.

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢))

ثم بين مم خلقه فقال (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [١٩] أي فقدر خلقه في بطن أمه طورا بعد طور إلى إحيائه (ثُمَّ السَّبِيلَ) أي سبيل الخروج من بطن أمه (يَسَّرَهُ) [٢٠] أو طريق الخير والشر يسره بتمكينه وتبيينه (٣)(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [٢١] أي جعله في قبره وستره تكرمة له ، ولم يجعله (٤) ممن يلقى على وجه الأرض كالبهائم (ثُمَّ إِذا شاءَ) بعد القبر (أَنْشَرَهُ) [٢٢] للبعث.

(كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣))

قوله (كَلَّا) ردع للإنسان عما هو عليه من الجهل والكفر ، وقيل : حقا (٥)(لَمَّا يَقْضِ) أي لم يفعل بعد ولم يؤد (ما أَمَرَهُ) [٢٣] الله تعالى (٦) من الإيمان والطاعة.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤))

ثم أمر بالنظر إلى حاله ليعتبر بخلقه فيؤمن بربه فقال (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [٢٤] أي إلى مدخل طعامه ومخرجه الذي جعل سببا لحيوته أو إلى رزقه من أين يرزقه فليعتبر به.

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

(أَنَّا صَبَبْنَا) بفتح «أن» بدل اشتمال من الطعام ، وبكسر «إن» (٧) تفسير للنظر ، أي انا صببنا (الْماءَ) من السماء (صَبًّا) [٢٥] أي المطر على الأرض (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) بالنبات والشجر (شَقًّا [٢٦] فَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (حَبًّا) [٢٧] كالحنطة والشعير مما يتغذى به (وَعِنَباً وَقَضْباً) [٢٨] أي قتا وكراثا وسائر البقول التي تقضب ، أي تقطع من أصلها (وَزَيْتُوناً) أي شجرته (وَنَخْلاً [٢٩] وَحَدائِقَ) أي بساتين (غُلْباً) [٣٠] أي عظاما ، جمع غلباء وهي الغليظة الطويلة من الشجر ، والغرض تكاثفها وكثرة أشجارها وكبرها (وَفاكِهَةً) لكم (وَأَبًّا) [٣١] أي عشبا لمصالحكم أو مرعى لدوابكم ، روي : أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن «الأب» فقال : «أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم به» (٨)(مَتاعاً) أي منفعة (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [٣٢] لتؤمنوا وتشكروا فتنجوا من العذاب يوم القيامة.

__________________

(١) ينسخون ، وي : ينتسخون ، ح.

(٢) نقله المصنف عن الكشاف ، ٦ / ٢٠٩.

(٣) وتبيينه ، وي : أو تبيينه ، ح.

(٤) ولم يجعله ، وي : ولم يجعل له ، ح.

(٥) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٢٣.

(٦) تعالى ، ح : ـ وي.

(٧) «أنا» : قرأ الكوفيون بفتح الهمزة في الحالين ورويس بفتحها وصلا وكسرها ابتداء ، والباقون بكسرها في الحالين. البدور الزاهرة ، ٣٣٧.

(٨) انظر الطبري ، ١ / ٧٨ ؛ والسمرقندي ، ١ / ٧٣ ؛ والبغوي ، ٥ / ٥٢٤.

٢٨٥

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧))

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) [٣٣] بيان حال يوم القيامة ، أي (١) إذا جاءت الصيحة التي تصخ الأسماع ، أي تصمها لشدتها وهي النفخة الثانية ، ثم وصف ذلك اليوم فقال (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) [٣٤] لاشتغاله بنفسه وبما هو فيه (وَ) من (أُمِّهِ وَأَبِيهِ [٣٥] وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَبَنِيهِ) [٣٦] وإنما قدم الأخ لرعاية الترقي من الأبعد إلى الأقرب والأحب ، والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله (لِكُلِّ امْرِئٍ) أي لكل إنسان (مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ) أي شغل (يُغْنِيهِ) [٣٧] أي يشغله عن الاهتمام بشأن غيره.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) [٣٨] أي مضيئة مشرقة من أثر الوضوء ومن قيام الليل وطول السجود فيه (٢) وغبار الجهاد (ضاحِكَةٌ) أي معجبة (مُسْتَبْشِرَةٌ) [٣٩] أي مفرحة بحسن ثوابه وهم المؤمنون المطيعون.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) [٤٠] أي غبار أسود من دخان جهنم يعلوها (تَرْهَقُها) أي تغشيها (قَتَرَةٌ) [٤١] أي كسوف وسواد مع الغبرة كالدخان ، ولا ترى أوحش من اجتماعها بالسواد في رجل كالزنجي إذا غبر وجهه (أُولئِكَ) أي المخصوصون بهذا الوصف (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [٤٢] أي الفسقة والظلمة.

__________________

(١) أي ، وي : ـ ح.

(٢) فيه ، وي : ـ ح.

٢٨٦

سورة التكوير (كورت)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢))

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن ينظر إلي يوم القيامة فليقرأ» (١)(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [١] رفعت (الشَّمْسُ) بعد (إِذَا) بفعل محذوف (٢) يفسره (كُوِّرَتْ) ، لأن (إِذَا) تستدعي الفعل لما فيه من معنى الشرط ، أي لففت وذهبت (٣) بنورها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [٢] أي تساقطت على الأرض.

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥))

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) [٣] أي قلعت عن الأرض وسيرت في الهواء كالسحاب (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) [٤] أي النوق العوامل التي أتت على حملها عشرة تركت بلا راع أو عطل حلبها ما أصابهم من شدة الأمر (وَإِذَا الْوُحُوشُ) أي كل دواب البر (حُشِرَتْ) [٥] أي جمعت بعد البعث حتى الذباب من كل ناحية ليقتص بعض من بعض ، ثم تصير ترابا إلا ما فيه سرور لبني آدم كالطاوس وغيره.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦))

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [٦] مشددا ومخففا (٤) ، أي أوقدت فصارت نارا يعذب بها الكفار أو يبست بغور مائها بالكلية فلا يبقى فيها قطرة ، فهذه الأشياء الستة قبل النفخة الثانية.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧))

ثم ذكر الأشياء التي يقع بعدها بقوله (وَإِذَا النُّفُوسُ) أي الأرواح (زُوِّجَتْ) [٧] أي قرنت بأجسادها عند (٥) البعث أو نفوس المؤمنين بالحور ونفوس الكافرين بالشياطين أو قرن الصالح بالصالح والطالح بالطالح.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩))

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) أي المدفونة حية (سُئِلَتْ) [٨] لم دفنت تبكيتا لقاتلها ، لأن العرب كانوا يدفنون بناتهم أحياء خوف العار والفقر في الجاهلية (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [٩] سؤال بالغيبة بناء على الاخبار عنها ، هذا إذا سئلت عن غيرها ولو حكي ما خوطبت به لقيل قتلت بكسر التاء.

__________________

(١) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٢ / ٤٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٥١.

(٢) محذوف ، ح : ـ وي.

(٣) ذهبت ، ح : ذهب ، وي.

(٤) «سجرت» : خفف الجيم المكي والبصريان ، وشددها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٣٨.

(٥) عند ، وي : بعد ، ح.

٢٨٧

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠))

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [١٠] مخففا ومشددا (١) ، أي صحف الأعمال فتحت وبسطت فيقع صحيفة المؤمن في يده وصحيفة الكافر في يده في الأولى مكتوب في جنة عالية في الثانية في سموم وحميم ، وقيل : هي غير صحف الأعمال (٢).

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣))

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) [١١] أي أزيلت ونزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الذبيحة (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) [١٢] بالتشديد والتخفيف (٣) ، أي أوقدت بغضب الله للكافرين ليدخلوها (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) [١٣] أي قربت برحمة الله للمؤمنين ليدخلوها.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ) جواب جميع (إِذَا) المذكورة ، أي علمت كل نفس ، لأن كل نفس تعلم (ما أَحْضَرَتْ) [١٤] من خير وشر عند ذلك ، وتركت لفظة الكل للمبالغة وهي إظهار براءته من بيان الكثرة ودعوتها ، وتقليل كثير ما عنده ، فجاء بلفظ التقليل ، ففهم منه معنى الكثرة على اليقين ، وهذا باب واسع عنهم ، ومنه قولهم : رب فارس عندي بلفظ التقليل في محل التكثير.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩))

والفاء في (فَلا أُقْسِمُ)(٤) جواب شرط محذوف هو إذا كان الأمر كما سمعتم يا أهل مكة فما لكم لا تؤمنون بالقرآن ، وخبره أنا أقسم ف «لا» زائدة (بِالْخُنَّسِ) [١٥] أي التي تخنس ، أي ترجع وتخفى بالنهار وتظهر بالليل (الْجَوارِ) أي النجوم السيارة لأنهن تجرين في السماء (الْكُنَّسِ) [١٦] أي المستترة في منازلها كالظبي المستتر في كناسه ، أي في بيته ، قيل : هي النجوم الخمسة الكبار : زخل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد (٥)(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) [١٧] أي أقبل بظلامه (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [١٨] أي استضاء وارتفع ضوءه بطلوع الفجر ، فشبه ذلك بالتنفس مجازا ، وجواب القسم (إِنَّهُ) أى إن القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [١٩] على الله وهو جبرائيل عليه‌السلام (٦) ، يعني هو ينزله.

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١))

(ذِي قُوَّةٍ) أي ذي شدة في قوته لقلع مدائن قوم لوط بجناحه ، قوله (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [٢٠] نعت ل (رَسُولٍ) ، أي له منزلة ومكانة عند الله العظيم فمكانته بحسب ممكنه (مُطاعٍ) أي جبرائيل عليه‌السلام (٧) ، مطاع يطيعه الملائكة المقربون في السموات يصدرون عن أمره ويرجون إلى رأيه (ثَمَّ أَمِينٍ) [٢١] أي جبرائيل أمين في السماء بما استودعه الله تعالى من تبليغ الرسالة والوحي كما أن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمين في الأرض بما استودعه جبرائيل عليه‌السلام.

__________________

(١) «نشرت» : شدد الشين المكي والبصري والأخوان وخلف ، وخففها الباقون. البدور الزاهرة ، ٣٣٨.

(٢) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢١٣.

(٣) «سعرت» : شدد العين المدنيان ورويس وابن ذكوان وحفص ، وخففها الباقون. البدور الزاهرة ، ٣٣٨.

(٤) في ، + وي.

(٥) أخذه المفسر عن البغوي ، ٥ / ٥٢٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢١٣.

(٦) عليه‌السلام ، ح : ـ وي.

(٧) عليه‌السلام ، ح : ـ وي.

٢٨٨

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤))

قوله (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [٢٢] عطف على جواب القسم ، أي أقسم بالأشياء المذكورة أن صاحبكم الذي يدعوكم إلى الإيمان بالقرآن ليس بمجنون كما زعمتم ، فهو رد لقولهم إنك لمجنون (وَلَقَدْ رَآهُ) أي رأى محمد جبرائيل عليهما‌السلام (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [٢٣] صورته الأصلية بالأفق الأعلى بجانب الشرق (وَما هُوَ) أي ما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)(عَلَى الْغَيْبِ) أي على الوحي من الله (بِضَنِينٍ) [٢٤] بالضاد ، أي ببخيل يكتم شيئا مما أوحي إليه ، وقرئ بالظاء (٢) ، أي بمتهم فينقص شيئا من الوحي أو يزيد عليه ، قيل : لابد للقارئ أن يفصل بين الضاد والظاء بالمخرج ، إذ لو استوى الحرفان لما اختلف المعنى ولما ثبت القراءتان عند أئمة السبعة (٣).

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

(وَما هُوَ) أي القرآن ليس (بِقَوْلِ شَيْطانٍ) مسترق للسمع (رَجِيمٍ) [٢٥] أي مرجوم مطرود (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [٢٦] أي تعرضون عن القرآن أيها الكافرون بالله ، وفيه شفاء لما في الصدور من الجهل والعمى (إِنْ هُوَ) أي ما القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) أي عظة (لِلْعالَمِينَ) [٢٧] أي للجن والإنس ، قوله (لِمَنْ شاءَ) بدل من (لِلْعالَمِينَ) ، أي عظة لمن شاء (مِنْكُمْ) يا كفار مكة (أَنْ يَسْتَقِيمَ) [٢٨] بالدخول في دين الحق واتباعه ، فقال المشركون بعد نزول هذه الآية الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فقال تعالى (وَما تَشاؤُنَ) أي الاستقامة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [٢٩] بتوفيقه ، فأعلمهم بذلك أن الأمور كلها بمشية الله تعالى في التوفيق والخذلان.

__________________

(١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وي : ـ ح.

(٢) «بضنين» : قرأ المكي والبصري ورويس والكسائي بالظاء ، والباقون الضاد. البدور الزاهرة ، ٣٣٨.

(٣) لعله اختصره من الكشاف ، ٦ / ٢١٤.

٢٨٩

سورة الإنفطار (انفطرت)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [١] أي انشقت لخوف الله تعالى (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [٢] أي سقطت على الأرض (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [٣] أي أجري بعضها في بعض أو فتحت ليختلط العذاب بالملح ويزول البرزخ بينهما فيصير كلها بحرا واحدا (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) [٤] أي بحثت (١) وجعل أعلاها أسفلها وأخرج ما فيها من الموتى ، قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ) جواب (إِذَا) والمعطوف عليها ، أي علمت كل نفس (ما قَدَّمَتْ) أي ما عملت من خير وشر (وَ) ما (أَخَّرَتْ) [٥] بعدها من سنة حسنة أو سيئة.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨))

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أي الكافر (ما غَرَّكَ) استفهام لإنكار الاغترار بالله ، أي أي شيء خدعك (بِرَبِّكَ) حتى أقدمت على المعصية وكفرت بربك (الْكَرِيمِ) [٦] أي المتجاوز لمن تاب عن الذنب ، فان الاغترار بكرم الكريم كفران النعمة ، لأنه (الَّذِي خَلَقَكَ) من النطفة بعد أن لم تكن شيئا (فَسَوَّاكَ) أي سوى أعضاءك وركب فيك العقل وأنطق لسانك (فَعَدَلَكَ) [٧] مخففا ، أي جعلك (٢) معتدل القامة ، بعني قائما لا كالبهائم ، ومشددا (٣) من التعديل ، أي جعلك في أحسن تقويم ، يعني في أحسن صورة ، فحقه أن لا تغتر يا إنسان بتكرم ربك عليك حيث خلقك حيا لينفعك فتوقع نفسك في معصيته وعدم الإيمان.

ثم بين التعديل بقوله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ) «ما» زائدة ، أي في أي صورة شاء من حسنة أو قبيحة أو طويلة أو قصيرة ، والجار متعلق بقوله (رَكَّبَكَ) [٨] أي وضعك ومكنك في بعض الصور ، ويجوز أن يكون محل الجار والمجرور نصبا على الحال ، أي حاصلا في بعض الصور.

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢))

قوله (كَلَّا) ردع لغرور الإنسان وعدم إيمانه ، قوله (بَلْ تُكَذِّبُونَ) ابتداء كلام ، أي أنتم يا كفار مكة لا تؤمنون بالله ولا بالبعث بل تكذبون (بِالدِّينِ) [٩] أي بالحساب والجزاء (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [١٠] من الملائكة لأعمالكم (كِراماً) على الله (كاتِبِينَ) [١١] أي يكتبون أعمال بني آدم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [١٢] وتقولون من الخير والشر ، وهم لا يفارقون عنكم إلا في حالة الغائط والجنابة والكذب.

__________________

(١) بحثت ، وي : بعثت ، ح.

(٢) جعلك ، وي : جعل ، ح.

(٣) «فعدلك» : خفف الدال الكوفيون ، وشددها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٣٩.

٢٩٠

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨))

(إِنَّ الْأَبْرارَ) أي الصالحين الصادقين في الدين (لَفِي نَعِيمٍ) [١٣] في الجنة ، (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [١٤] يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (يَوْمُ الدِّينِ) [١٥] أي يوم الحساب والجزاء (وَما هُمْ عَنْها) أي عن الجحيم (بِغائِبِينَ) [١٦] أي لا يغيبون عنها ، يعني لا بد من دخولهم (١) إياها ولا يخرجون عنها أبدا.

ثم عظم شأن ذلك اليوم بقوله (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) [١٧] يعني أمر يوم الدين ما لا يدركه فهمك ولا فهم أحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) [١٨] أي أنت لا تدري أي يوم هو ما لم تعاينه ، وإنما كرره لزيادة التهويل ، و (ثُمَّ) فيه لاستبعاد الإدراك منه لهوله وشدته.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

قوله (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو ، وبالنصب (٢) على إضمار اذكر أو يدانون ، لأن الدين يدل عليه أو يكون بدلا من (يَوْمُ الدِّينِ) الأول ، أي يقوم لا تنفع (نَفْسٌ) كافرة (لِنَفْسٍ شَيْئاً) من المنفعة بالشفاعة وغيرها أو هو عام في كل نفس ، يعتضده قوله (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [١٩] أي الحكم النافذ بالقهر والغلبة في الثواب والعقاب لله تعالى يوم القيامة لا لغيره.

__________________

(١) دخولهم ، وي : دخول ، ح.

(٢) «يوم» : رفع الميم المكي والبصريان ، ونصبها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٣٩.

٢٩١

سورة المطففين

قيل : مكية وقيل : مدنية (١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣))

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [١] أي للباخسين في الكيل والوزن ، وكان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكتالون ، وكشف المطففين بوصفهم وهو (الَّذِينَ) أي هم الذين (إِذَا اكْتالُوا) أي اشتروا (عَلَى النَّاسِ) أي من الناس (يَسْتَوْفُونَ) [٢] أي يتمون الكيل والوزن (وَإِذا كالُوهُمْ) أي باعوهم الطعام بالكيل (أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي باعوهم أياه بالوزن (يُخْسِرُونَ) [٣] أي ينقصون الكيل والوزن ، وإنما لم يقل إذا اكتالوا أو اتزنوا كما قال «وإذا كالوهم أو وزنوهم» ، لأن المطففين كانوا لا يأخذون المكيل والموزون إلا بالمكيال لغرض التطفيف.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥))

قوله (أَلا يَظُنُّ) استفهام للتوبيخ وإنكار للتطفيف دخل على النفي ، وليس (أَلا) هنا للتنبيه لفساد المعنى ، أي ألا يستيقن (أُولئِكَ) المطففون (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) [٤] فيتركون التطفيف (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [٥] وهو يوم البعث.

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

قوله (يَوْمَ) نصب على الظرف ، أي مبعوثون يوم (يَقُومُ النَّاسُ) من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [٦] أي لأجل أمره تعالى وجزائه ، قيل : يقوم الناس يومئذ مقدار نصف يوم (٢) هو خمسمائة عام ، «وذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس وإن الكافر ليلجم بعرقه حتى بقول أرحني ولو إلى النار» (٣) وكذلك المطفف.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨))

قوله (٤)(كَلَّا) ردع للمطففين عن (٥) عدم ظنهم بالبعث (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي ما يكتب من أعمالهم (لَفِي سِجِّينٍ) [٧] أي محروز فيه ليناقشوا عليه ، قيل : «هو صخرج تحت الأرض السابعة السفلي فيها أرواح الكفار» (٦) ، «فعيل من السجن» (٧) وهو الحبس في مكان مظلم وحش ، وهو مسكن إبليس وذريته استهانة به ، منصرف لأن فيه علة واحدة ، وهي العلمية ثم فخم شأنه بقوله (وَما أَدْراكَ) أي أي شيء أعلمك (ما سِجِّينٌ) [٨] يعني ليس السجين مما كنت تعلمه.

(كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠))

ثم فسر فقال (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [٩] أي هو ديوان مكتوب فيه ما هم عاملون من الشر وما إليه صائرون من النار ، لا يقال يلزم منه أن يكون كتاب الفجار في كتاب مرقوم لأنا نقول إن سجينا ديوان جامع لأعمال الشياطين

__________________

(١) أخذ المؤلف هذين القولين عن البغوي ، ٥ / ٥٣٤.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٤٥٦. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٣) عن ابن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٥٦.

(٤) قوله ، وي : ـ ح.

(٥) عن ، وي : على ، ح.

(٦) عن عبد الله بن عمرو وقتادة ومجاهد والضحاك ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٣٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٥٧ (عن قتادة ومجاهد).

(٧) عن الزجاج ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٥٧.

٢٩٢

وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، فيكون أعمال الفجار مثبتة فيه ، فالغرض من الكتاب المرقوم هو المكتوب فيه دون العمل ، وهو في سجين تحت الأرض السفلي وإنما سمي الكتاب المرقوم سجينا لأنه سبب الحبس أو لأنه مطروح في سجين ، وقيل : تقديره وما أدريك ما كتاب سجين (١) ، وقيل : تقديره إن كتاب الفجار كتاب مرقوم في سجين على التقديم والتأخير ، كذا قاله الواحدي في تفسيره (٢)(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [١٠] بالبعث.

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

ثم وصفهم للذم لا للبيان بقوله (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [١١] أي بيوم الجزاء (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) أي ما يجحد بيوم الدين (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) أي متجاوز الحد في الظلم (أَثِيمٍ) [١٢] أي عاص لربه وهو الوليد بن المغيرة وأصحابه (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (قالَ) هي (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [١٣] أي أحاديثهم الكاذبة.

(كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤))

قوله (كَلَّا) ردع له عن قوله «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (بَلْ رانَ) أي غلب وختم (عَلى قُلُوبِهِمْ) حتى اسودت وقست (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [١٤] من الأعمال الخبيثة فلا تقبل الخير ولا تميل إليه ، قيل : «الرين هو الصدأ يغشي على القلب كما يغشي الحديد» (٣) ، قيل : الرين زمام الغفلة فمن تيقظ وتذكر أمن الرين والقسوة ، ودواءه إدمان الصوم فإن لم يزل فليترك الإدام (٤).

(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

(كَلَّا) أي حقا (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [١٥] أي لا يرونه يوم القيامة أو ممنوعون عن رحمته (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) [١٦] أي داخلوها (ثُمَّ يُقالُ) لهم ، أي يقول الخزنة (هذَا) العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [١٧] في الدنيا وتقولون إنه غير كائن.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١))

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) أي ما كتب من أعمالهم (٥) الحسنة (لَفِي عِلِّيِّينَ) [١٨] وهو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الجن والإنس منقول من جمع علي وزنه فعيل من العلو وهو في السماء السابعة وأرواح المؤمنين الصالحين فيه (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) [١٩] أي ما كتاب عليين تعظيم له وتعجيب ، ثم فسره فقال (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [٢٠] أي هو مكتوب في أشرف مكان (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [٢١] أي يسكن فيه الكروبيون تكريما له وتعظيما.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥))

(إِنَّ الْأَبْرارَ) أي الصالحين (لَفِي نَعِيمٍ) [٢٢] أي لفي تنعم في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) أي على السرر في الحجال (يَنْظُرُونَ) [٢٣] إلى ما أعطوا من النعيم وإلى الكفار كيف يعذبون في النار (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [٢٤] أي أثر الجنة وبهجتها (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي من خمر خالصة لا غش فيها (مَخْتُومٍ) [٢٥] أي ختم على إنائها فلا يفك ختمه إلا الأبرار.

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) انظر الوجيز للواحدي ، مكتبة سليمانية (قسم فاتح) ، الرقم ، ٤٨٨ ، ورقة ، ٢٥١ أ(١٥٢).

(٣) قال الزجاج نحوه ، انظر القرطبي ، ١٩ / ٢٦١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٥٧.

(٤) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) أعمالهم ، وي : أعمال ، ح.

٢٩٣

(خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

(خِتامُهُ مِسْكٌ) بكسر الخاء اسم (١) لما يختم به الشيء ، أي يمزج بالكافور ويختم بالمسك ، وقرئ «خاتمه» بفتح التاء بعد الألف وهو آخره (٢)(وَفِي ذلِكَ) أي في مثل هذا الثواب (فَلْيَتَنافَسِ) أي فليرغب (الْمُتَنافِسُونَ) [٢٦] أي الراغبون (وَمِزاجُهُ) أي مزاج الرحيق (مِنْ تَسْنِيمٍ) [٢٧] علم لعين في الجنة ، من تسنم إذا ارتفع ، أي من مائه وهو من أشرف شراب الجنة ويسمى به (٣) ، لأنه يتسنم عليهم في الأنصاب من الأعلى في إنائهم كما (٤) روي أنها تجري (٥) في الهواء متسنمة فينصب في أوانيهم من فوق (٦) ، أصله من سنام البعير وهو المرتفع منه ، قوله (عَيْناً) نصب على المدح أو على الحال (يَشْرَبُ بِهَا) أي منها (الْمُقَرَّبُونَ) [٢٨] صرفا ويمزج لأصحاب اليمين.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠))

ونزل في الكفار واستهزائهم بالمؤمنين (٧)(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي أشركوا من أهل مكة كأبي جهل وأتباعه (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [٢٩] أي يستهزؤون (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) [٣٠] أي يتطاعنون فيهم أو يشيرون بأعينهم أو بالحاجب والشفتين.

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣))

(وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي إذا رجع الكفار (إِلى أَهْلِهِمُ) ومنازلهم (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [٣١] وقرئ «فاكهين» (٨) ، أي معجبين فرحين بما هم فيه من الشر ، وقيل : جاء علي رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا الأصلع فضحكوا منه فنزلت قبل أن يصل علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩). (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي رأوا المؤمنين (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ) أي ضعفاء المؤمنين (لَضالُّونَ) [٣٢] لإيمانهم بمحمد فقال (١٠) تعالى تهكما بالكفار (وَما أُرْسِلُوا) أي الكافرون (عَلَيْهِمْ) أي على المؤمنين (حافِظِينَ) [٣٣] ليحفظوا عليهم أعمالهم ، يعني لا حكم لهم على المؤمنين.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إذا دخلوا الجنة (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [٣٤] أي يستهزؤون بهم ، وقيل : «هذا كله في المنافقين يقال لهم يوم القيامة اخرجوا من النار إلى الجنة فاذا انتهوا إلى أبواب الجنة أغلقت دونهم ، يفعل لهم ذلك مرارا والمؤمنين يضحكون» (١١)(عَلَى الْأَرائِكِ) أمنون في الجنة (يَنْظُرُونَ) [٣٥] نصب على الحال من (يَضْحَكُونَ) ، يعني يضحكون منهم ناظرين إليهم من أبواب الجنة وإلى ما هم فيه من الهوان بعد العزة ومن العذاب بعد النعيم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا ، ويقال يوم القيامة لهم بالاستفهام تقريرا للجزاء وتوبيخا (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) أي ألم يجاز الكفار جزاء (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [٣٦] في الدنيا من التكذيب والاستهزاء بالمؤمنين.

__________________

(١) اسم ، و : ـ ح ي.

(٢) «ختامه» : قرأ الكسائي بفتح الخاء وألف بعدها وبعد الألف تاء مفتوحة فميم مضمومة ، وغيره بكسر الخاء وتاء مفتوحة بعدها ألف وبعد الألف ميم مضمومة. البدور الزاهرة ، ٣٣٩.

(٣) يسمى ، وي : تسمى ، ح.

(٤) كما ، ح : ـ وي.

(٥) تجري ، ي : يجري ، ح و.

(٦) اختصره من البغوي ، ٥ / ٥٤٠.

(٧) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ٣ / ٤٥٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٨) «فكهين» : حذف الألف بعد الفاء حفص وأبو جعفر ، وأثبتها الباقون. البدور الزاهرة ، ٣٣٩.

(٩) قد أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ٢١٩.

(١٠) الله ، + ح.

(١١) ذكر أبو صالح نحوه ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٤١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢١٩.

٢٩٤

سورة الانشقاق (انشقت)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦))

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [١] نزل لتهديد كفار مكة وتحقيق البعث (١) ، معناه إذا انفجرت لهيبة ربها بالغمام ، قيل : «تنشق من المجرة التي في السماء» (٢)(وَأَذِنَتْ) أي سمعت وأطاعت (لِرَبِّها) أي لخالقها (وَحُقَّتْ) [٢] أي وجب لها أن تسمع وتطيع لخالقها (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) [٣] أي بسطت وزيد في سعتها كما يمد الأديم أو كشفت بالمد عن ما تحتها (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الموتى والكنوز إلى فوقها (وَتَخَلَّتْ) [٤] عن كل ما فيها عاية الخلو (وَأَذِنَتْ) أي أجابت الأرض باخراج النبات (لِرَبِّها) أي لأمره لها (وَحُقَّتْ) [٥] أي وجب لها أن تطيع لربها ، وجواب (إِذَا) محذوف وهو بعث الناس وحوسبوا ، وقيل : الجواب (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) بتقدير الفاء (٣) ، أي فيا أيها الإنسان (إِنَّكَ كادِحٌ) أي ساع باجتهاد في العمل (إِلى رَبِّكَ) أي إلى وقت لقائه وهو الموت (كَدْحاً) أي سعيا قويا (فَمُلاقِيهِ) [٦] أي فأنت ملاق له لا محالة ، والضمير يجوز أن يعود إلى (رَبِّكَ) ويجوز أن يعود إلى (كَدْحاً) ، أي أنت ملاق جزاء كدحك من خير وشر.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩))

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) أي أعطي (كِتابَهُ) أي كتاب كدحه (بِيَمِينِهِ) [٧] وهو المؤمن (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) [٨] أي سهلا بلا مناشة (وَيَنْقَلِبُ)(٤) أي (٥) المؤمن بعد الحساب (إِلى أَهْلِهِ) من الحور العين أو إلى فريق المؤمنين في الجنة (مَسْرُوراً) [٩] أي مفرحا بما أعد الله له في الجنة.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣))

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) [١٠] بشماله وهو الكافر فيأخذ بها كتابه ويمناه مغلولة في عنقه ، فاذا رأى ما فيه من الشر (فَسَوْفَ يَدْعُوا) أي ينادي (ثُبُوراً) [١١] أي هلاكا ، يعني يقول يا ويلا ويا ثبورا على نفسي (وَيَصْلى) مخففا معلوما ، ومشددا مجهولا (٦) ، أي يدخل (سَعِيراً) [١٢] أي نارا وقودا (إِنَّهُ) أي الكافر (كانَ فِي أَهْلِهِ) أي في عشيرته (مَسْرُوراً) [١٣] بارتكاب الذنوب ونيل مشتهاه في الدنيا بدون عمل الآخرة.

__________________

(١) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

(٢) ذكر علي رضي الله عنه نحوه ، انظر الكشاف ، ٦ / ٢١٩.

(٣) أخذ المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٥ / ٥٤٢.

(٤) وينقلب ، + ي.

(٥) أي ، ح : ـ وي.

(٦) «ويصلى» : قرأ نافع والمكي وابن عامر والكسائي بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ، وغيرهم بفتح الياء وإسكان الصاد وتخفيف اللام. البدور الزاهرة ، ٣٤٠.

٢٩٥

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [١٤] أي لن يرجع إلى الآخرة تكذيبا بها (بَلى) ليرجع إلى الآخرة (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) [١٥] أي عالما بأحواله وأعماله من يوم خلقه إلى يوم بعثه فيجازي عليها لا محالة.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) [١٦] أي أقسم بالبياض بعد الحمرة وبسقوطه يدخل وقت العشاء في رواية عن (١) أبي حنيفة رحمه‌الله أو أقسم بالحمرة التي تبقي بعد غروب الشمس وبسقوطها (٢) يدخل وقت الشعاء عند عامة الفقهاء (٣)(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) [١٧] أي جمع وضم في جوفه (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) [١٨] أي إذا استوى وتم نوره ، وذلك في الأيام البيض ، وجواب القسم (لَتَرْكَبُنَّ) بفتح الباء خطابا للإنسان وبضمها خطابا للجنس (٤) ، أي لتركبن أيها الناس (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [١٩] وهو ما طابق غيره بمعنى وافقه ، يعني لتحولن حالا بعد حال يوافق ما قبلها في الهول والشدة أو الخطاب للنبي عليه‌السلام ، والمعنى حينئذ : لتصعدن بعد البعث سماء بعد سماء ، والجار والمجرور صفة ل (طَبَقاً) أو حال من ضمير (لَتَرْكَبُنَّ) ، أي مجاوزين لطبق أو مجاوزا له على حسب القراءة ، و (عَنْ) بمعنى بعد ، وقيل : الحال بعد الحال هو الموت في حال النطفة ثم الحيوة ثم الموت ثم الحيوة حتى تصير إلى الله تعالى وأمره (٥)(فَما لَهُمْ) أي أي حال لكفار مكة (لا يُؤْمِنُونَ) [٢٠] بالقرآن والبعث ومحله حال.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١))

قوله (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) [٢١] أي لا يصلون أو لا يخضعون لله تعالى ، نزل حين قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «واسجد واقترب» (٦) ، فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر (٧).

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤))

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقرآن (يُكَذِّبُونَ) [٢٢] أي يجحدون به وبالبعث (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) [٢٣] أي يكتمون من الكفر والتكذيب في صدورهم وكانوا أربعة فأسلم اثنان منهم (فَبَشِّرْهُمْ) يا محمد (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [٢٤] أي وجيع دائم.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

ثم استثنى الذين آمنوا فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالقرآن ، يجوز أن يكون الاستثناء متصلا من ضمير المفعول في «بشرهم» ، أي بشرهم بالعذاب إلا الذين آمنوا منهم ، ومنفصلا ، أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأداء الفرائض والسنن (لَهُمْ أَجْرٌ) أي ثواب (غَيْرُ مَمْنُونٍ) [٢٥] أي غير مقطوع ، يعني ثوابهم دائم على طاعتهم وتبرهم على ابتلاء الله بالمرض والهرم وضعف نهوضهم في العبادة ، وقيل : لا يمن بالأجر في الجنة عليهم (٨) ، لأن المنة تكدر النعمة ، وفي الجنة لا كدورة.

__________________

(١) عن ، ح و : ـ ي.

(٢) وبسقوطها وي : وبسقوطه ، ح.

(٣) هذه الآراء مأخوذة عن الكشاف ، ٦ / ٢٢٠.

(٤) «لتركبن» : قرأ المكي والأخوان وخلف بفتح الباء الموحدة ، وغيرهم بضمها. البدور الزاهرة ، ٣٤٠.

(٥) لعل المصنف اختصره من السمرقندي ٣ / ٤٦١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٤٥.

(٦) العلق (٩٦) ، ١٩.

(٧) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٢١.

(٨) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٤٦٢.

٢٩٦

سورة البروج

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤))

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [١] أي ذات النجوم كلها أو المراد الاثنا (١) عشر برجا التي هي عظام الكواكب أو التي هي منازل القمر ، وقيل : هي قصور السماء على أبوابها (٢) ، نزلت لتثبيت المسلمين وتصبيرهم على أذى كفار قريش وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التكذيب على الإيمان (٣)(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) [٢] أي يوم البعث (وَشاهِدٍ) أي وجبرائيل عليه‌السلام (وَمَشْهُودٍ) [٣] أي ومحمد عليه‌السلام ، وقيل : الشاهد يوم الجمعة ، لأنه يشهد على كل عامل بعمله والمشهود يوم عرفة (٤) ، لأن الناس يشهدونه مواسم الحج ويشهده الملائكة أو الشاهد والمشهود الأنبياء وأممهم (٥) أو الحفظة وبنو آدم (٦) أو الأيام والليالي وبنوا آدم (٧) ، وعن الحسن رضي الله عنه : «ما من يوم إلا وينادي أني يوم جديد وإني على ما يعمل في شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة» (٨) ، وجواب القسم محذوف ، أي لتبعثن أو قوله (قُتِلَ) أي لقد لعن (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) [٤] من الخد وهو الشق في الأرض ، فكذلك لعن كفار مكة فهم أحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش كما قيل قتل أصحاب الأخدود ، وهم كانوا ثلاثة : أنطيانوس الرومي بالشام وبختنصر بفارس وبونواس اسمه يوسف بنجران ، كل واحد منهم شق شقا عظيما في الأرض (٩) ، قيل : طوله أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا (١٠) وهو الأخدود وملؤوه نارا وقالوا : من يكفر بالله وإلا ألقي فيه فمن كفر ترك ومن أبى ألقي فيه ، القرآن نزل في الأخدود الذي بنجران وكان هناك قوم آمنوا بعيسى فحفر لهم ملكهم أخدودا وأوقد فيه نارا فحرقم فيها وحرق كتبهم (١١).

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧))

قوله (النَّارِ) بالجر بدل من (الْأُخْدُودِ) بدل اشتمال (ذاتِ الْوَقُودِ) [٥] أي ما يوقد فيها من الناس (إِذْ هُمْ) أي الملك وأصحابه (عَلَيْها) أي حولها على جانب الأخدود (قُعُودٌ) [٦] على الكراسي يعذبون الناس بها (وَهُمْ) أي أصحابها (عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من التعذيب (شُهُودٌ) [٧] أي حضور ، قيل : «أنجى الله من آمن قبل وقوعه في

__________________

(١) الاثنا ، وي : اثنا ، ح ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٢١.

(٢) هذا الرأي لعطية العوفي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٦٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٢١.

(٣) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٤) هذا القول لابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٦٣ ؛ والبغوي ، ٥ / ٥٤٦.

(٥) وهذا الرأي مأخوذ عن البيضاوي ، ٢ / ٥٨٤.

(٦) نقله المصنف عن البغوي ، ٥ / ٥٤٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٢١.

(٧) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ٢٢١.

(٨) انظر الكشاف ، ٦ / ٢٢١.

(٩) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٥١.

(١٠) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٢٢٢.

(١١) اختصره المؤلف من البغوي ، ٥ / ٥٥٠ ـ ٥٥١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٦٥. «وقال القفال : ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مخلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكا كافرا كان حاكما عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم». انظر مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي ، ٣١ / ١٠٨.

٢٩٧

الأخدود ، وخرجت النار منه فأحرقت من حولها من الكفرة» (١) ، وروي : أنهم جاؤا بامرأة معها صبي لطرحها فيها فامتنعت أن تقع فيها فقال اللصبي يا أماه اصبري فانك على الحق فرمت نفسها فيها من غير رؤية (٢).

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

(وَما نَقَمُوا) أي ما أنكروا (مِنْهُمْ) أي من المؤمنين (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) أي إلا إيمانهم (بِاللهِ الْعَزِيزِ) في ملكه (الْحَمِيدِ) [٨] في فعله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [٩] أي حاضر عالم بما فعلوا ، وهو يجازيهم عليه وهذا وعيد لهم.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي عذبوهم بالإحراق (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [١٠] أي عذاب أشد من عذابهم الأول باحراق المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ) أي هذا الثواب هو (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [١١] أي النجاة العظيمة.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦))

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) أي أخذه للعقوبة من كفر به (لَشَدِيدٌ [١٢] إِنَّهُ) أي الله (هُوَ يُبْدِئُ) الخلق بعد العدم (وَيُعِيدُ) [١٣] أي ثم يعيدهم أحياء بعد الموت فلا يعجزه ما يريد (وَهُوَ الْغَفُورُ) للمذنبين بعد التوبة (الْوَدُودُ) [١٤] أي المحب لأوليائه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [١٥] بالجر صفة (الْعَرْشِ) ، أي الشريف وبالرفع صفة ل (ذُو)(٣)(فَعَّالٌ) أي هو فعال (لِما يُرِيدُ) [١٦] من الإبداء والإعادة والإعزاز والإهانة لأنه لا يعجزه شيء.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨))

(هَلْ أَتاكَ) أي قد أتاك (حَدِيثُ الْجُنُودِ) [١٧] أي قصتهم ، قوله (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) [١٨] بدل من (الْجُنُودِ) ، أي قوم فرعون وقوم ثمود كيف أهلكهم الله تعالى ، إذ لم يؤمنوا بموسى وصالح عليهما‌السلام ، فهذا تنبيه لكفار مكة بما جرى لهم قبلهم ليؤمنوا بمحمد عليه‌السلام.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠))

فلما لم يؤمنوا أضرب عنهم بقوله (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد عليه‌السلام (فِي تَكْذِيبٍ) [١٩] للقرآن (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [٢٠] أي مشتمل عليهم قدرة وعلما لا عاصم لهم منه تعالى أينما كانوا.

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

ثم أضرب عن تكذيبهم بالقرآن فقال (بَلْ هُوَ) أي ما كذبوا به (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) [٢١] أي عظيم القدر عند الله ، وقيل : شريف أشرف من كل كتاب سماوي ثابت (٤)(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [٢٢] من استراق الشياطين والتغيير ، روي : «أن الله جعل اللوح من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء عن يمين العرش ينظر الله فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد» (٥) ، وذلك ليعلم الخلق أن كل شيء عنده بمقدار ، روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها قال : «إن بين يدي الله لوحا ، فيه مائة وخمس عشرة شريعة ، يقول الله فيه وعزتي لا يجيئني عبد مؤمن بواحدة منهن إلا دخلته جنتي» (٦).

__________________

(١) قال النحاس نحوه ، انظر القرطبي ، ١٩ / ٢٩٤.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٤٦٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٤٩ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٢٢.

(٣) «المجيد» : قرأ الأخوان وخلف بخفض الدال ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ٣٤٠.

(٤) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٤٦٦.

(٥) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٦٦.

(٦) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

٢٩٨

سورة الطارق

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١))

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) [١] نزل حين كان أبو طالب عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانحط من السماء نجم فامتلأ ما حوله نورا ، ففزع أبو طالب وقال : يا محمد أي شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا نجم رمى به وهو آية من آيات الله» ، فعجب به أبو طالب (١) ، أي أقسم بالسماء والطارق وهو الطالع ليلا ، أي النجم.

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤))

قوله (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) [٢] تعظيم (٢) له وتعجيب بالاستفهام (٣) ، لأنه أبهمه أولا ثم فسره بقوله (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [٣] أي المضيء ، وسمي به لثقبه الظلام بضوءه إظهارا لفخامة شأنه ، وجواب القسم (إِنْ) أي ما (كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها) أي إلا عليها (حافِظٌ) [٤] من الملائكة يحفظ عليها أعمالها من خير وشر أو الحافظ الله تعالى لأنه رقيب على كل شيء ، ف (إِنْ) نافية و (لَمَّا) بالتشديد بمعنى إلا ، وبالتخفيف (٤) «ما» زائدة للتوكيد واللام فارقة بين إن الخفيفة (٥) والثقيلة ، والمعنى : كل نفس لعليها حافظ ، و (كُلُّ) مبتدأ والجملة الاسمية بعده خبره.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨))

قوله (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) توصية للناس من ربه بعد تنبيهه على أن عليها حافظا يحفظ عمله بالنظر في أول أمر خلقته حتى يعلم أن من خلقه من العدم قادر على إعادته بعد موته ، وجزائه ليعمل عملا يسره في عاقبته ولا يحزنه ، أي لينظر الإنسان نظر اعتبار (مِمَّ) أي من أي شيء (خُلِقَ) [٥] وجواب (مِمَّ) قوله (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [٦] يعني (٦) مدفوق ، أي منصب في رحم الأم (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) أي ينزع من بين الظهر (وَالتَّرائِبِ) [٧] جمع تريبة وهي موضع القلادة من الصدر ، فالمراد من ذلك ماء الرجل وماء المرأة ، لأن الولد يكون منهما (إِنَّهُ) أي الله تعالى (عَلى رَجْعِهِ) أي بعثه (لَقادِرٌ) [٨] لا يشكل عليه ولا يعجز عنه.

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

قوله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [٩] ظرف ل «قادر» أو العامل اذكر ، أي يوم يختبر ، يعني تظهر فيه ضمائر القلوب من العقائد والنيات أو السرائر هي فرائض الأعمال من وضوء وغسل جنابة (٧) وصلوة وصيام وصدقة بأن يسأل

__________________

(١) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٥٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٦٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٢٤.

(٢) تعظيم ، ح و : تغليظ ، ي.

(٣) بالاستفهام ، ح و : للاستفهام ، ي.

(٤) «لما» : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر بتشديد الميم ، وغيرهم بتخفيفها. البدور الزاهرة ، ٣٤٠.

(٥) الخفيفة ، ح و : المخففة ، ي.

(٦) يعني ، ح و : بمعنى ، ي.

(٧) جنابة ، ح و : ـ ي.

٢٩٩

عنها ، فلو شاء لقال فعلت وما فعل (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) أي وليس لمنكر البعث قوة يدفع العذاب عن نفسه (وَلا ناصِرٍ) [١٠] ينصره ، أي يمنعه منه.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦))

قوله (وَالسَّماءِ) قسم آخر ، أي بخالق السماء (ذاتِ الرَّجْعِ) [١١] أي ذات المطر المرجوع بعد المطر ، وسمى العرب المطر رجعا لإرادة التفاؤل ليرجع أو لأن الله يرجعه وقتا فوقتا (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) [١٢] أي ذات الشق عن النبات والثمار ليكون قوتا لبني آدم ، وفيه إيماء إلى المنة عليهم ، أقسم الله بهما وجوابه (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [١٣] أي لقول (١) جد يفصل بين الحق والباطل على الحقيقة (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) [١٤] أي باللعب ، يعني لم ينزل بالباطل.

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) [١٥] أي إن الكافرين يمكرون لك (٢) مكرا في دار الندوة لإطفاء نور الحق أو يصنعون كيد الشرك والمعصية (وَأَكِيدُ كَيْداً) [١٦] أي وأصنع لهم جزاء كيدهم بامهالي لهم إلى وقت الانتقام بالسيف هنا (٣) وبالنار يوم البعث.

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي أجلهم بالصبر ولا تدع بهلاكهم استعجالا ، وكرر الإمهال لزيادة التسكين والتصبير منه بقوله (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [١٧] أي أجلهم وخل عنهم الجدال زمانا قليلا ، يعني إلى وقت الموت ، فان أجل الدنيا كله قليل ، و (رُوَيْداً) اسم فعل بمعنى أمهل أو مهل (٤) وهما بمعنى الإنظار ، ووضع هنا موضع المصدر ، أي إمهالا يسيرا.

__________________

(١) لقول ، ح : قول ، وي.

(٢) لك ، ح و : بك ، ي.

(٣) هنا ، ح و : ـ ي.

(٤) أو مهل ، ح و : ـ ي.

٣٠٠