عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣))

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) من الأمر والنهي وخبر الوعد والوعيد وهو كالبيان لقوله «فَما أَغْنى» (فَرِحُوا) أي الكفار رضوا (بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) بأنهم لا يعذبون ولا يحاسبون ولا يبعثون يوم القيامة ولم يلتفتوا إلى العلم الحاصل من البينات التي جاءتهم رسلهم بها (وَحاقَ) أي نزل (بِهِمْ ما) أي الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٨٣] ويقولون إنه غير نازل بهم.

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤))

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا في الدنيا بعد مجيء الرسل وإنكارهم البينات (قالُوا) بألسنتهم (آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا) أي تبرأنا (بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) [٨٤] من الأصنام فقال تعالى مخبرا عن قولهم (آمَنَّا).

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) أي تصديقهم باللسان ، أي فلم يصح أن ينفعهم وهو أبلغ من فلم ينفعهم (لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا ، قوله (سُنَّتَ اللهِ) نصب على المصدر المؤكد ، أي سننا لهم (١) سنة الله (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) أي مضت (فِي عِبادِهِ) إن الإيمان لا ينفع الكفار وقت نزول العذاب (وَخَسِرَ هُنالِكَ) أي عند العقوبة (الْكافِرُونَ) [٨٥] أي الجاحدون بآيات الله تعالى ، والمراد من (خَسِرَ هُنالِكَ) أن الخسران تبين ثمه للجميع ، إذ الكافر خاسر في كل حين لا عند العذاب فقط.

__________________

(١) لهم ، ح و : بهم ، ي.

٦١

سورة سجدة المؤمن (فصلت)

مكية

قيل : نزل أولها إلى قوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا)(١) الآية حين قالوا يا محمد فرقت قومك بأمر عظيم جئت به وعبت آلهتهم فان ترد به مالا كثيرا نعطه لك وإن ترد شرفا شرفناك علينا وإن تر جنيا نداوك منه (٢) فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤))

(حم) [١] أي ب (حم) يا محمد (تَنْزِيلٌ) أي قرآن منزل (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [٢] كِتابٌ فُصِّلَتْ) أي بينت (آياتُهُ) أي أحكامه من الحلال والحرام والمواعظ والقصص ، ف (تَنْزِيلٌ) مبتدأ موصف بما بعده ، خبره (كِتابٌ) ، قوله (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على الحال ، أي فصلت آياته في حال كونه مقروؤا عربيا ، أي بلسان العرب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [٣] متعلق لقول (فُصِّلَتْ) ، أي يدركون ما فيه بلسانهم وهم العرب ، لأنه نزل بلغتهم فيفهمونه ولو كان غير عربي لم يفهموه (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي قرآنا بشيرا للمؤمنين بالجنة ونذيرا للكافرين بالنار (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر أهل مكة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [٤] أي لا يقبلون.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥))

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) وهو أبلغ من قوله على قلوبنا أكنة لكون القلوب مظروفة ، أي في أغطية لا نفقه (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي ثقل لا نسمع (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) «مِنْ» فيه للابتداء يفيد الإحاطة بالحجاب ، أي ستر حاجز قوي يمنع الفهم وهو الخلاف في الدين (فَاعْمَلْ) يا محمد في إبطال أمرنا (إِنَّنا عامِلُونَ) [٥] في إبطال أمرك لا نؤمن ولا نتبع دينك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧))

(قُلْ) أي قال الله تعالى للنبي عليه‌السلام قل لهم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في بالبشرية وأنا (٣) فضلت عليكم من بينكم بأن (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وصح ذلك بالبراهين فصح أني نبي إذ الوحي بالرسالة مختص بالأنبياء فوجب عليكم اتباعي (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي إلى الله بالإيمان والتوحيد ولا تعدلوا عنه إلى عبادة غيره بالتعلل الكذب (وَاسْتَغْفِرُوهُ) من الشرك (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [٦] الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) بأمره تعالى ، بل هم (٤) ينكرون بها ووجه تخصيص منع الزكوة بكفرهم أن المال أحب شيء لهم فاذا بذله أحد في سبيل الله بأمره فهو

__________________

(١) فصلت (٤١) ، ١٣.

(٢) عن محمد بن القرظي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٣) وأنا ، وي : وإنما ، ح.

(٤) بل هم ، ح و : بأنهم ، ي.

٦٢

دليل قوي على صدق طوعه ونيته أو لا يؤتون الزكوة تطهييرا (١) لنفوسهم من الشرك بقول (٢) «لا إله إلا الله» (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [٧] أي بالبعث جاحدون.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [٨] أي غير مقطوع ولا منقوص في حال ضعفهم ومرضهم.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩))

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) هذا الاستفهام لزجر الكافرين عن كفرهم بالله ، أي أإنكم لتجحدون (بِالَّذِي) أي بالله الذي (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الأحد والاثنين ففي يوم الأحد بدأ خلقها وفي يوم الاثنين بسطها (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي تصفون لله شركاء في العبادة (ذلِكَ) أي خالق الأرض في يومين (رَبُّ الْعالَمِينَ) [٩] أي مالك جميع الخلائق ، قيل : لو أراد الله أن يخلقها في لحظة واحدة لفعل لكنه أراد أن يبصر الخلق وجه الإناءة والقدرة على خلقها في لحطة واحدة وفي أيام بكثرة سواء له تعالى (٣).

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠))

قوله (وَجَعَلَ فِيها) استئناف ، إذ لا يجوز عطفه على صلة الذي للفصل بينهما بقوله (وَتَجْعَلُونَ) الآية ، أي هو جعل في الأرض (رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت فيها كالأوتاد (مِنْ فَوْقِها) لا من تحتها كالأساطين أو المسامير المركوزة فيها ، بل جعلها فوق الأرض ليكون المنافع حاضرة في الجبال لطالبيها (وَبارَكَ فِيها) بكثرة (٤) المياه والأشجار والنبات (وَقَدَّرَ) أي قسم (فِيها) أي في الأرض (أَقْواتَها) أي أرزاقها جمع القوت ، يعني أقوات الأناسي والبهائم وغيرها ، قوله (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) فذلكة لحساب ما تقدم ، ومحله رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي كل ذلك ، يعني خلق الأرض وما فيها مما ذكر في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان ، ونصب (سَواءً) على المصدر ، أي استوت سواء ، يعني استواء ، قوله (لِلسَّائِلِينَ) [١٠] يتعلق بمحذوف ، أي انحصرت المدة فيها لأجل السائلين عن خلقها بما فيها ولم يقل هنا في يومين كما قال في خلق الأرض (فِي يَوْمَيْنِ) لفائدة ليست في يومين ، وهي الدلالة على كون الأيام الأربعة كاملة ، ولو قال في يومين لجاز أن يراد أكثرهما في الأولين والآخرين ، إذ قد يطلق اليومان على أكثرهما.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١))

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي صعد أمره إلى خلقها وهو قوله «كن» (وَهِيَ دُخانٌ) أي السماء كانت بخارا كهيئة الدخان فخلقها منه ، روي : أن العرش كان على الماء قبل خلق السماء والأرض ، فألقى الله الحرارة على الماء فارتفع من الماء البخار وألقى الريح على الماء فزبد الماء فخلق الأرض من الزبد والسماء من البخار (٥)(فَقالَ لَها) أي السماء (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) أي جئنا إلى ما أريد منكما من كون السماء مقرا لأهلها سقفا لأهل الأرض وكون الأرض قرارا ومهادا لهم (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي اختيارا أو اضطرابا ، وهما مصدران في موضع الحال طائعتين أو كارهتين ، وهو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك التأثير أو هو حقيقة في علمه وقدرته ، روي : «أنه قال تعالى للسماء أخرجي شمسك وقمرك ونجومك ، وللأرض أخرجي نباتك وثمارك ، فان فعلتما ذلك طوعا وإلا ألجأتكما إلى أن تفعلا ذلك كرها» (٦)(قالَتا) أي السماء والأرض (أَتَيْنا) بما فينا (طائِعِينَ) [١١] غير

__________________

(١) الزكوة تطهييرا ، ح : التطهير ، وي.

(٢) بقول ، و : بقولهم ، ي ، بقوله ، ح.

(٣) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٤) بكثرة ، ح و : لكثرة ، ي.

(٥) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ١٧٨.

(٦) ذكر مقاتل نحوه ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٧٨.

٦٣

كارهين وإنما جمعا (١) جمع العقلاء ، لأنه لما جعلهما في محل الخطاب والإجابة جمعهما جمع العقلاء الذكور فقال طائعين ولم يقل طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى ، لأنهما سموات وأرضون.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

(فَقَضاهُنَّ) أي تمم خلق السماء بمعنى السموات (سَبْعَ سَماواتٍ) نصب على الحال أو بدل من «هن» ، أي قضى سبع سموات (فِي يَوْمَيْنِ) الخميس والجمعة ، وفرغ منها في آخر ساعة منه وخلقه تعالى السماء في أقل من يومين تبرز فائدة قوله في أربعة أيام سواء (وَأَوْحى) أي أمر بالوحي (فِي كُلِّ سَماءٍ) أي أهلها (أَمْرَها) أي بالذي أمرهم به من الأوامر كما أراد منهم أن تطيعوه أو ما دبره من الأمور مثل خلق الملائكة والنيرات (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بالنجوم (وَحِفْظاً) أي وحفطناها حفظا عن استراق السمع بالشهب التي تصدر عن النجوم (ذلِكَ) أي الذي ذكره من صنعه (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في ملكه (الْعَلِيمِ) [١٢] بخلقه.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣))

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي أعرض كفار مكة عن الإيمان بما جئتم به (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) أي خوفتكم (صاعِقَةً) أي عذابا (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [١٣] يعني أنه يصيبكم مثل ما أصابهم كما شاهدتم في سفركم إلى الشام من آثارهم.

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤))

قوله (إِذْ جاءَتْهُمُ) ظرف لمضاف (صاعِقَةً) بتقدير الحذف ، أي أنذرتكم وقوع صاعقة إذ جاءتهم (الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي من قبل عاد وثمود كهود وصالح جاءا داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي من بعد عاد وثمود مكان الرسل قد جاؤوهم ودعوهم إلى الإيمان أو جاؤوهم من كل جانب للإنذار حرصا على إيمانهم أو خوفوهم بعذابي الدنيا والآخرة بقولهم (٢)(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي أن لا تطيعوا غيره في التوحيد ، ف «أن» هي المفسرة أو مخففة ، أصله بأنه لا تعبدوا غيره فأجابهم قوم عاد وثمود (قالُوا) استهزاء برسلهم (لَوْ شاءَ رَبُّنا) هدايتنا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) فآمنا بهم لا آدميا (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [١٤] لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ، فالخطاب يكون بجميع الرسل تغليبا للحاضرين على الغائبين.

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥))

(فَأَمَّا عادٌ) الفاء هي الفاء الفصيحة ، لأن الله يريد أن يبين هلاك قوم عاد وثمود فقال أما عاد ، أي قومه (فَاسْتَكْبَرُوا) أي تعظموا عن الإيمان (فِي الْأَرْضِ) بالاستيلاء على أهلها (بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي ظلما بقوتهم وعظم أجسادهم (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) أي نحن ندفع العذاب عنا لو نزل بنا حين خوفوا به فقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلموا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ) وقواهم وأرسل عليهم العذاب (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وهي الصلابة في البنية ، وتستعمل القدرة في الله ونقيضها الضعف في العبد فكيف يكذبون (وَكانُوا بِآياتِنا) أي ببراهيننا التي آتاهم بها هود (يَجْحَدُونَ) [١٥] أنها من الله.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦))

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي باردة محرقة ببردها كالنار بحرها (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي مشؤمات

__________________

(١) جمعا ، ح و : جمعها ، ي.

(٢) بقولهم ، وي : بقوله ، ح.

٦٤

بكسر الحاء جمع نحس اسم فاعل ، وقرئ بسكونها (١) مصدر نحس أو تخفيف نحس ، قوله (لِنُذِيقَهُمْ) يتعلق ب «أرسلنا» ، أي لنعذبهم (عَذابَ الْخِزْيِ) أي الذل (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أي عذابهم فيها (أَخْزى) أي أشد من عذابهم في الدنيا (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) [١٦] أي لا يمنعون من عذاب الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧))

(وَأَمَّا ثَمُودُ) أي قومه (فَهَدَيْناهُمْ) أي بيناهم طريقي الهدى والضلال (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) أي اختاروا الضلال (٢) وهو الكفر (عَلَى الْهُدى) وهو الإيمان (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي المهين المذل (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [١٧] من الكفر والمعاصي.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بصالح النبي عليه‌السلام (وَكانُوا يَتَّقُونَ) [١٨] من عذابنا أو من عقر الناقة أو من الشرك.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩))

قوله (وَيَوْمَ يُحْشَرُ) بيان لأحوال الكفار يوم القيامة ، أي اذكر يوم يجمع (أَعْداءُ اللهِ) وهم المشركون والمنافقون (إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [١٩] أي يجمعون بحبس أولهم ليلحق بهم آخرهم ، من وزع الشيء إذا كفه (٣).

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠))

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها) «ما» زائدة ، أي إذا جاؤا النار (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) أي آذاهم بما سمعت (وَأَبْصارُهُمْ) بما نظرت (وَجُلُودُهُمْ) أي جوارحهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [٢٠] أي بجميع ما عملوا في الدنيا ، وذلك حين قال لهم الخزنة إذا عاينوا النار أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء الله؟ فقالوا عند ذلك والله ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتستنطق (٤) جوارحهم.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١))

(وَقالُوا) أي الكفار (لِجُلُودِهِمْ) أي لجوارحهم توبيخا (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فعنكن نناضل ، يعني ندافع (قالُوا) أي الجلود معتذرين (٥)(أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ذي نطق (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في الدنيا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [٢١] أي رجعتم في الآخرة فليس إنطاقنا بعجب من قدرة الله الذي قدر على خلقكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه وعلى إنطاق كل شيء من الحيوان كما أراد به.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢))

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) أي ولم تكونوا تمتنعون بالحجب عند ارتكاب الفواحش في الدنيا (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي مخافة شهادة جوارحكم عليكم في الآخرة ، لأنكم ما أبقيتم بالبعث (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ) عند استتاركم بالحجب والحيطان (أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [٢٢] من الخفيات من قبائح

__________________

(١) «نحسات» : أسكن السين نافع وابن كثير والبصريان ، وكسرها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٨٣.

(٢) الضلال ، وي : الضلالة ، ح.

(٣) كفه ، وي : كفهم ، ح.

(٤) تستنطق ، ح : يستنطق ، وي.

(٥) معتذرين ، وي : متعذرين ، ح.

٦٥

أعمالكم.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))

(وَذلِكُمْ) أي ذلك الظن (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) أي أهلككم ، لأنه سوء الظن لا حسنه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكيا عن الله تعالى : «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» (١) ، قيل : «إن المؤمن أحسن الظن بالله فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن فأساء العلم» (٢)(فَأَصْبَحْتُمْ) أي صرتم (مِنَ الْخاسِرِينَ) [٢٣] أي المغبونين.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

قوله (فَإِنْ يَصْبِرُوا) جواب لقول بعضهم (٣) بعضا عند دعوة الرسول إياهم إلى التوحيد اصبروا على آلهتكم ، يعني إن يصبروا على ذلك (فَالنَّارُ مَثْوىً) أي مأوى (لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي إن يطلبوا العتبى ، يعني الرجوع عن الإساءة وطلب الرضا يوم القيامة أو (٤) الرجوع إلى (٥) الدنيا لإصلاح العمل (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [٢٤] أي المجابين إلى الرجوع.

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ) أي لما صمموا على الكفر في الدنيا خذلناهم وسلطنا عليهم (قُرَناءَ) أي الشياطين وألزمناهم (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي رغبوهم إلى الدنيا واتباع الشيطان (وَ) زينوا (ما خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة بقولهم لا بعث ولا حساب كما كان آباؤهم عليه (وَحَقَّ) أي وجب (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بالعذاب وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ)(٦) ، قوله (فِي أُمَمٍ) حال ، أي وجب العذاب عليهم كائنين في جملة أمم (قَدْ خَلَتْ) أي مضت بالهلاك (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من (٧) قبل مشركي مكة (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ) أي جميعهم (كانُوا خاسِرِينَ) [٢٥] بالعقوبة الأبدية.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧))

قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) نزل في أبي جهل وأصحابه (٨) ، أي قال الكافرون (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) أي لا تنصتوا إلى قراءته إذا تلا محمد عليه‌السلام (٩) وأصحابه القرآن (وَالْغَوْا فِيهِ) أي عارضوا (١٠) باللغو وهو كلام لا يفهم ، يعني أكثروا الصياح بالهذيان وارفعوا الأصوات بالأشعار (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [٢٦] محمدا على قراءته فيسكت ، فقال تعالى (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) هو القتل ببدر وعذاب النار في الآخرة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [٢٧] أي أقبح جزاء أعمالهم.

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨))

(ذلِكَ) أي العذاب الشديد (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) قوله (النَّارُ) عطف بيان لل «جَزاءُ» (لَهُمْ فِيها) أي في النار (دارُ الْخُلْدِ) أي الإقامة ، ومعنى ظرفية النار ل (دارُ الْخُلْدِ) وهي دار الخلد أنها في نفسها دار الخلد كقوله تعالى (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(١١) ، أي في نفس رسول الله بمعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أسوة حسنة لا غير (جَزاءُ) أي يجزون جزاء (بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) [٢٨] أي بالقرآن ينكرون فيغلبون فيه.

__________________

(١) رواه الدارمي ، الرقاق ، ٢٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٨١.

(٢) عن الحسن ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٨١.

(٣) بعضهم ، ح و : بعض ، ي.

(٤) إلى ، + ي.

(٥) إلى ، وي : على ، ح.

(٦) هود (١١) ، ١١٩ ؛ السجدة (٣٢) ، ١٣.

(٧) من ، ي : ـ ح و.

(٨) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ١٨٢.

(٩) عليه‌السلام ، ح : ـ وي.

(١٠) عارضوا ، ح ي : عارضوه ، و.

(١١) الأحزاب (٣٣) ، ٢١.

٦٦

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) في النار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ) أي بصرنا الصنفين (١) اللذين (أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي إبليس وقابيل ، لأنهما سنا الكفر والمعاصي أو شيطان الجن وشيطان الإنس (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) في النار (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [٢٩] فيها جزاء لإضلالهما إيانا.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا) من المؤمنين (رَبُّنَا اللهُ) أي عرفوه وأقروا بوحدانيته (ثُمَّ اسْتَقامُوا) على المعرفة والإقرار أو على طاعته بالإخلاص سرا وجهرا ، فلم يروغوا روغان الثعلب ولا يخافون ولا يرجون أحدا دونه ، قال سفيان بن عبد الله قلت يا رسول الله : أخبرني بأمر أعتصم به ، قال عليه‌السلام : «قل ربي الله ثم استقم» (٢) ، أي اخلص العلم (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت بالبشرى أو عند الخروج من القبر (أَلَّا تَخافُوا) أي بأنه لا تخافوا ، والهاء ضمير الشأن أو يقولون لا تخافوا أمامكم من العذاب الذي تقدمون عليه فانا نؤمن منكم منه ونغفر ذنوبكم (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتم من أمر الدنيا فنحن نخلفكم فيه بالحفظ (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [٣٠] في الدنيا.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) أي أحباؤكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بايمانكم بربكم (٣)(وَفِي الْآخِرَةِ) باعترافكم بالبعث ، روي : أن ملكا ينزل من السماء فيقول للمؤمن أتعرفني؟ فيقول : لا ، فيقول : أنا الذي كتبت عملك وبشره بالجنة (٤)(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي ما تتمنى قلوبكم في الجنة بحسن أعمالكم (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) [٣١] أي ما (٥) تطلبون (نُزُلاً) أي رزقا مهيئا (مِنْ غَفُورٍ) للمذنبين (رَحِيمٍ) [٣٢] للمطيعين ، ونصب (نُزُلاً) حال من (ما تدعونه) وإن كان مصدرا ، أي معدا أو مفعول مطلق ، أي أنزلنا إنزالا و (مِنْ غَفُورٍ) نعته.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣))

(وَمَنْ) استفهام على سبيل التقرير والتحريض على دعوة الخلق إلى الإسلام ، أي ليس رجل (أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) قيل : نزل في المؤذنين (٦) أو في كل مؤمن أجاب دعوة الله ودعا إليه (٧)(وَعَمِلَ صالِحاً) بينه وبين الله بالعلم (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [٣٣] أي معتقدين الإسلام ، لأنه لا يقبل طاعة بغير دين الإسلام.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤))

قوله (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ) أي الإيمان (وَلَا السَّيِّئَةُ) و (لا) زائدة ، أي الشرك أو لا تستوي الطاعة والمعصية ، فيه ترغيب وترهيب ، قوله (ادْفَعْ) فيه زيادة ترغيب بما هو استئناف كلام ، كان قائلا قال كيف أصنع؟ فقيل : ادفع (بِالَّتِي) أي بالخصلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) من غيرها السيئة ، أي (٨) بالصبر الغضب وبالحلم الجهل وبالعفو

__________________

(١) الصنفين ، ح ي : الصفين ، و.

(٢) أخرجه الترمذي ، الزهد ، ٦٠ ؛ وابن ماجة ، الفتن ، ١٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٩٩.

(٣) بربكم ، ح و : ربكم ، ي.

(٤) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) ما ، ح : ـ وي.

(٦) عن عائشة ، انظر البغوي ، ٥ / ٦٧ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٩٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٨٣.

(٧) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٥ / ٦٦ ـ ٦٧.

(٨) أي ، وي : ـ ح.

٦٧

الإساءة ، قيل : وضع (أَحْسَنُ) موضع الحسنة ليكون أبلغ في الدفع ، لأن من دفع بالأحسن هان عليه بما هو دونه (١)(فَإِذَا) هي للمفاجاة ، والفاء في جواب شرط محذوف و (الَّذِي) مبتدأ ، خبره (كَأَنَّهُ) ، أي إذا صنعت ذلك فاذا الرجل الذي كان (بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) من جهله صار (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ) أي صديق (حَمِيمٌ) [٣٤] أي قريب ، المعنى : إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق القريب في محنته وخلوصه ، قيل : نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب ، وكان عدوا موذيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار وليا صادقا (٢).

(وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥))

(وَما يُلَقَّاها) أي ما يعطي التي هي أحسن ، يعني هذه الخصلة الحسنى المقابلة بالإساءة لا يعطاها (٣)(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على أمر الله ونهيه (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ) أي ذو ثواب (عَظِيمٍ) [٣٥] وهو الجنة ، كرر (وَما يُلَقَّاها) باستثنائه لزيادة الترغيب.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) أي إن يصرفك (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي نازغ بوسوسته عما وصيت به من الدفع بالإحسان الأساءة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شره ولا تطعه فهو يعصمك (إِنَّهُ) أي الله (هُوَ السَّمِيعُ) بالاستعاذة (الْعَلِيمُ) [٣٦] بوسوسة الشيطان فيدفعه عنك.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧))

(وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن علامات وحدانيته تعالى لمن يستدل عليها بصنعه تعالى (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فاعرفوه ربا لكم بذلك واعبدوه (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) أي لا تعبدوها (وَلا) تسجدوا (لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) وأطيعوه (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [٣٧] بعبادتهما فلا تعبدوا غيره ولا تسجدوا ، والضمير في (خَلَقَهُنَّ) باعتبار الآيات أو بأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الإناث.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨))

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا عن امتثال أمره في ترك السجود لغيره (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ) أي يصلون لله (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [٣٨] أي لا يملون عن التسبيح والعبادة والذكر ، وهو محل السجدة عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، لأنه تمام المعنى ، وتعبدون عند الشافعي رحمه‌الله لذكر لفظ السجدة قبلها.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) أي يابسة لأنبت فيها فذلت بفقده وفقد المطر (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) أي علت لإرادة أن تنبت (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) بعد موتها ، أي بعد (٤) يبسها (لَمُحْيِ الْمَوْتى)(٥) للبعث في الآخرة (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٣٩] من الإبداء والإعادة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١))

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي يميلون في أدلتنا عن الحق بالتكذيب (لا يَخْفَوْنَ) أي لا يستترون (عَلَيْنا)

__________________

(١) هذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٥ / ٢٠٠.

(٢) عن مقاتل بن حيان ، انظر البغوي ، ٥ / ٦٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٠٠.

(٣) يعطاها ، وي : يعطيها ، ح.

(٤) بعد ، ح : ـ وي.

(٥) أي ، + ي.

٦٨

ولا يهربون منا ، قوله (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) معذبا (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) نزل في أبي جهل وأصحابه ومحمد عليه‌السلام ومؤمنيه وعيدا ووعدا (١) ، ثم قال لكفار مكة توبيخا وتهديدا (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٤٠] أي عالم أي عالم بعملكم من الخير والشر فيجازيكم به ، وأبدل من «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ» (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي بالقرآن من قومك ، وخبر (إِنَّ) طعنوا به محذوفا ، وقوله (لَمَّا جاءَهُمْ) ظرف له ، أي طعنوا به حين جاءهم (وَإِنَّهُ) أي والحال أن القرآن (لَكِتابٌ عَزِيزٌ) [٤١] محمى بحماية الله تعالى عن الاختلاف والتناقض والباطل.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) أي لا يصل إليه شيء يبطله أو يغيره (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي من كل وجه ، وهو مثل في أن الباطل لا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يتصل إليه ، وأما من تأوله من المبطلين فقد قيض الله قوما من العلماء عارضوه (٢) بابطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم ، وهذا كقوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣) ، فلم تزده (٤) معارضتهم إلا إعجازا ، لأنه (تَنْزِيلٌ) أي منزل (مِنْ حَكِيمٍ) أي من عليم بأمره (حَمِيدٍ) [٤٢] أي محمود في فعله فلا طعن فيه أحد إلا محق وهلك.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))

(ما يُقالُ) أي ما يقول (لَكَ) كفار قومك يا محمد من التكذيب بما جئتهم به والطعن (إِلَّا) مثل (ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) من التكذيب والطعن (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) لمن تاب عن ذلك (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) [٤٣] لمن لم يتب عنه.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))

قوله (وَلَوْ جَعَلْناهُ) نزل حين قالوا حسدا هلا نزل القرآن بلغة العجم (٥) ، فقال تعالى لو جعلناه ، أي القرآن (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) بلسان العبرانية مثلا (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بينت ولخصت بلسان نفهمه ، أي بالعربية (ءَ أَعْجَمِيٌّ) أي القرآن (وَعَرَبِيٌّ) أي والرسول أو المرسل إليه عربي وهو جماعة العرب فكان تكذيبهم أشد ، قرئ بهمزتين ، إحديهما استفهام ، أي لا يستفهموا منكرين وبهمزة واحدة (٦) إخبارا بأن القرآن أعجمي ، والمرسل أو المرسل إليه عربي ، فبأي طريقة جاءتهم الآيات أنكروا وطعنوا ، لأنهم تابعون أهواءهم لا الحق ، وقيل : ال (أَعْجَمِيٌّ) بسكون العين من لا يفصح ، أي لا يفهم كلامه وإن كان عربيا وليس بنسبة (٧) ، والياء لتأكيد معنى الصفة كأحمري في أحمر (قُلْ) يا محمد (هُوَ) أي القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) من الضلالة (وَشِفاءٌ) لما في الصدور ، أي القلوب من الشكوك والجهل ، قوله (٨)(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) عطف على قوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، أي هو للذين لا يصدقون به (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي ثقل منه لا يسمعونه ولا يقبلونه ، ويجوز أن يكون في محل الرفع مبتدأ ، وخبره (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) بتقدير منه (وَهُوَ) أي القرآن (عَلَيْهِمْ) أي على الذين لا يؤمنون به (عَمًى)

__________________

(١) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ٣ / ١٨٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٩.

(٢) عارضوه ، وي : عارضوهم ، ح.

(٣) الحجر (١٥) ، ٩.

(٤) تزده ، ح و : نزده ، ي.

(٥) نقله عن الكشاف ، ٥ / ٢٠١.

(٦) «أأعجمي» : قرأ قالون وأبو عمرو وأبو جعفر بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع إدخال ألف بينهما ، وابن كثير وابن ذكوان وحفص ورويس بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية من غير إدخال ، ولورش وجهان ، أحدهما كابن كثير والآخر إبدالها حرف مد مع الإشباع للساكنين ، وهشام باسقاط الأولى وتحقيق الثانية. البدور الزاهرة ، ٢٨٤.

(٧) أخذ المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ٢٠٢.

(٨) قوله ، ح : ـ وي.

٦٩

أيضا ، يعني ذو عمى وهو عمى القلب ، أي عميت قلوبهم عنه لا يبصرونه ولا يفهمونه (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [٤٤] في الآخرة إلى النار بأقبح أسمائهم يا كافر يا فاجر يا منافق هلموا إلى النار ذليلين.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي قال بعضهم صدق وبعضهم كذب كما اختلف في القرآن (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير العذاب (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لحكم (١) بين العباد هنا ولهلك المكذبون كما هلك من قبلهم (وَإِنَّهُمْ) أي قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من العذاب بعد البعث (مُرِيبٍ) [٤٥] أي موقع الريبة أو ظاهر الشك.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) أي ثوابه لها (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي عذابه عليها (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [٤٦] أي لا يعذبهم بلا ذنب.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧))

قوله (إِلَيْهِ) أي إلى الله (يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) نزل حين سئل (٢) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة (٣) ، أي إليه علمها متى تكون ، لا يعرفه (٤) غيره (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ) بالجمع والإفراد (٥) ، أي وإليه علم ما يخرج ، أي تطلع ثمرة (مِنْ أَكْمامِها) أي من أوعيتها ، جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمر (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) أي لا تحمل انثى حملا (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) تعالى فيعمله (٦) على أي وصف خلق في الرحم وعلى أي وصف وجد في كل زمان ومكان ، وكم أجله وما رزقه وما عاقبته من الرحمة والثواب لمن آمن وأطاع ومن الجزاء والعذاب لمن أشرك وأصر (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي اذكر يا محمد يوم ينادي الله الكفار (٧) وهو يوم القيامة (أَيْنَ شُرَكائِي) بزعمكم (قالُوا آذَنَّاكَ) أي أعلمناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) [٤٧] يشهد أن لك شريكا ، قيل : (آذَنَّاكَ) يدل على سبق الإخبار بالإيذان فلم سئلوا؟ أجيب بأنه يجوز أن يعاد عليهم أين شركائي إعادة للتوبيخ ، ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان لا إخبارا عنه بمعنى نعلمك (٨).

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

(وَضَلَّ) أي غاب يومئذ (عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي يعبدونه في الدنيا وهي الأصنام (وَظَنُّوا) أي أيقنوا أو علموا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) [٤٨] أي مخلص ومفر من النار.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠))

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) قيل : هذا أيضا من صفة الكافر (٩) ، أي لا يمل الكافر (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي من سؤاله وهو

__________________

(١) لحكم ، وي : يحكم ، ح.

(٢) عن ، + ح.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٠٢.

(٤) لا يعرفه ، ح و : لا يعرفها ، ي.

(٥) «ثمرات» : قرأ المدنيان والشامي وحفص بألف بعد الراء على الجمع ، وغيرهم بحذف الألف على الإفراد. البدور الزاهرة ، ٢٨٤.

(٦) فيعلمه ، وي : ـ ح.

(٧) الكفار ، وي : الكافرين ، ح.

(٨) نقل المفسر هذه الأقوال عن الكشاف ، ٥ / ٢٠٣.

(٩) هذا القول مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٢٠٣.

٧٠

العافية في الجسد والسعة في الرزق (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أي إن (١) أصابه الفقر والشدة (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) [٤٩] أي هو يقطع الرجاء ويظهر أثره عليه من رحمة الله ولا ييأس من رحمته إلا الكافرون ، ويوضح ذلك قوله (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) أي آتيناه (رَحْمَةً) أي سعة وعافية (مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي شدة أصابته (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي أنا مستحق له بعلمي وعملي أو هذا لي لا يزول عني البتة (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) كزعم محمد (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) فرضا (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي الجنة ، يقوله استهزاء بالبعث فقال تعالى (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لنخبرنهم (بِما عَمِلُوا) من الأعمال الخبيثة (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) أي لنجزينهم (مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [٥٠] أي شديد لا يفتر عنهم.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١))

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) أي على الكفار (أَعْرَضَ) عن شكرنا وطاعتنا (وَنَأى بِجانِبِهِ) قرئ بالهمز قبل الألف وبالعكس (٢) ، أي باعد جانبه ، أي نفسه أو عطفه ، أي حرفه عن دعائنا ، يعني تكبر واستغنى عنا (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الشدة والفقر (فَذُو دُعاءٍ) أي فهو ذو دعاء (عَرِيضٍ) [٥١] أي طويل أو كثير ، قيل : هذا في شأن رجل وهو الوليد بن المغيرة (٣) ، وقوله (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) في شأن رجل آخر وهو أحد الصاحبين في سورة الكهف.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) عنادا قبل التأمل الصحيح (مَنْ أَضَلُّ) إذا نزل العذاب بكم هنا أو يوم القيامة (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) أي في خلاف (بَعِيدٍ) [٥٢] عن الحق ، يعني أعلموني من أضل منكم لإهلاككم أنفسكم بتكذيب القرآن ، فأوقع (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) موقع منكم إظهارا لعلة ضلالتهم وتوبيخا لهم مع رجاء إسلامهم.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣))

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا) أي علاماتنا الدالة على قدرتنا (فِي الْآفاقِ) أي في (٤) آفاق الأرض بقهر العرب والعجم ، وفتحها بنصر محمد عليه‌السلام ومن آمن به وفتح القرى كالخلفاء من بعده (٥) ونصار دينه في آفاق الدنيا (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) بفتح مكة بسهولة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ) أي القرآن أو الإسلام (الْحَقُّ) أي الصدق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر عقله ، وقيل : سنريهم في الآفاق بامساك المطر والنبات ، وفي أنفسهم بالمصائب ومدخل الغذاء والماء ومخرجهما (٦) ، فان كلها يدل على أن الله واحد لا شريك له وإن محمد رسول الله ينطق بالوحي فيما يقول (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [٥٣] أي ألم يكف بربك (٧) شاهدا أن القرآن حق لأنه على كل شيء شهيد أو ألم يكفهم أن ربك لا يغيب عنه شيء ما فانه بدل من ربك.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

(أَلا إِنَّهُمْ) أي اعلم يا محمد أنهم (فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) لأنهم ينكرون البعث (أَلا إِنَّهُ) أي اعلم أن ربك (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [٥٤] علما وقدرة فيعلم أعمالهم وأحوالهم فيجازيهم بكفرهم وبأعمالهم ، والإحاطة إدراك الشيء بكماله من الظاهر والباطن.

__________________

(١) إن ، ح : ـ وي.

(٢) «ونأى» : قرأ أبو جعفر وابن ذكوان بتقديم الألف على الهمزة على وزن جاء ، والباقون بتقديم الهمزة على الألف على وزن رآى. البدور الزاهرة ، ٢٨٥.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٠٣.

(٤) في ، ح : ـ وي.

(٥) بعده ، ح و : بعدهم ، ي.

(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٧) بربك ، ح : ربك ، وي.

٧١

سورة عسق وتسمّى الشورى

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) عسق (٢))

(حم) [١] أي يا محمد بحق (حم) وبحق (عسق) [٢] أي بعلوي وسنائي وقدرتي ليبعثن الخلائق بعد الموت ولينبئن بما عملوا يوم القيامة.

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

(كَذلِكَ) أي (١) مثل ذلك الوحي ، أي وحي المعاني التي في هذه السورة أو مثل هذا (٢) القرآن (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء بتكرير المعاني والألفاظ في القرآن وفي كتبهم لغرض صحيح (اللهُ الْعَزِيزُ) أي المنتقم الغالب على من لم يؤمن بالوحي إلى الأنبياء (الْحَكِيمُ) [٣] في أمره من الخلق والإماتة والبعث والثواب والعذاب ، ف (اللهُ) رفع بأنه فاعل (يُوحِي) معلوما ، وقرئ مجهولا (٣) ف (اللهُ) فاعل فعل محذوف ، يدل عليه ذلك ، أي يوحيه الله ، ويجوز أن يكون مبتدأ و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان له.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤))

و (٤) (لَهُ) أي لله (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خبره ، أي كله ملكه لا شريك له فيه (وَهُوَ الْعَلِيُّ) عن الشريك والولد (الْعَظِيمُ) [٤] في ذاته وصفاته لا شيء أعظم منه في القدرة والحكم على الخلق.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥))

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتشققن (٥)(مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي من فوق الأرضين السبع ، يعني يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية التي هي جهة العرش والكرسي وصفوف الملائكة الناطقة التسبيح والتقديس الدالة على الجلال والعظمة بسبب قول الكفار أن له شريكا أو اتخذ ولدا أو بسبب الهيبة من جلاله وكبريائه (وَالْمَلائِكَةُ) أي الملائكة الذين هم ملء السموات السبع وحافون حول العرش (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي يداومون على عبادته حامدين له خضوعا لعظمته (وَ) هم (يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين يدل عليه ويستغفرون للذين آمنوا خوفا عليهم من سخطه (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ) لذنوبهم بالتوبة (الرَّحِيمُ) [٥] بهم بالرزق والثواب.

__________________

(١) أي ، وي : ـ ح.

(٢) هذا ، ح : ـ وي.

(٣) «يوحي» : قرأ المكي بفتح الحاء وبعدها ألف رسمت ياء ، والباقون بكسر الحاء وبعدها ياء. البدور الزاهرة ، ٢٨٥.

(٤) و ، وي : ـ ح.

(٥) يتشققن ، ح ي : ينشققن ، و.

٧٢

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي شركاء فعبدوها (اللهُ حَفِيظٌ) أي رقيب (عَلَيْهِمْ) أي على أعمالهم وأحوالهم فيجازيهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [٦] أي بحفيظ عن الكفر فيؤمنوا بالخبر منك ، إنما أنت منذر فحسب وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧))

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الكاف مفعول به ل «أحينا» و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من المفعول به ، أي مثل ذلك الإيحاء البين المفهم ، أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك لتفهم ثم (لِتُنْذِرَ) أي بالقرآن (أُمَّ الْقُرى) أي مكة (وَمَنْ حَوْلَها) من العرب (وَتُنْذِرَ) هم (يَوْمَ الْجَمْعِ) أي بيوم القيامة ، وسمي ب (يَوْمَ الْجَمْعِ) لأنه يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو يجمع فيه الخلائق من السماء والأرض أو يجمع بين كل عامل وعمله (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك بأنه كائن فيتفرق الخلائق يومئذ بعد الجمع في الموقف منهم (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) وهم المؤمنون (وَ) منهم (فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [٧] وهم الكافرون.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨))

(وَلَوْ شاءَ اللهُ) مشية قسر وقدرة (لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي على ملة الإسلام (وَلكِنْ) شاء مشية حكمة واختيار ، فبني (١) أمرهم على ما يختارون ولذلك (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في جنته أو في دين الإسلام (وَالظَّالِمُونَ) أي الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ) أي صديق يشفع لهم (وَلا نَصِيرٍ) [٨] يمنعهم من عذابه تعالى.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي شركاء عبدوها من دون الله ، والاستفهام للإنكار (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) أي إذا أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بحق لا ولي سواه ، فيجب أن يتولي وحده ويعتقد أنه المولى والسيد لأنه خالقهم ورازقهم (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) بعد إماتتهم يوم القيامة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٩] من الخلق والرزق والإماتة والإحياء بعد الموت.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠))

قوله (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من أمر الدين وغيره خطاب للمؤمنين ، أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين (فَحُكْمُهُ) أي حكم ذلك المختلف فيه مفوض (إِلَى اللهِ) أي إلى علمه وقضائه فيثيب المحقين ويعاقب المبطلين ، ولا يجوز أن يراد من الاختلاف اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة ، لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول عليه‌السلام ، والأصح جوازه بدليل حكم سعد بن معاذ في يهود بني قريظة عند النبي عليه‌السلام واستحسانه (ذلِكُمُ اللهُ) أي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الذي وصف لكم بالحكم بينكم هو الله (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في رد كيد أعداء الدين (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [١٠] أي أرجع في كفاية شرهم أو أقبل إليه بالطاعة.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١))

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما (جَعَلَ) أي خلق (لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم من الناس

__________________

(١) فبني ، ح و : وبني ، ي.

٧٣

(أَزْواجاً) ذكرا وأنثى (وَمِنَ الْأَنْعامِ) أيضا من أنفسها (أَزْواجاً) ذكرا وأنثى إكراما لكم (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) هذا خطاب للناس والأنعام على تغليب المخاطبين العقلاء على غير العقلاء ، أي يخلقكم (١) ويكثركم بالتزويج في البطن أو في هذا التدبير والجعل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) الكاف زائدة وهو خبر (لَيْسَ) و (شَيْءٌ) اسمه ، أي لا يماثله شيء (٢) في ذات ولا في (٣) صفات ، وقيل : هذه الآية من باب الكناية (٤) ، أي من قولهم مثلك لا يبخل بمعنى أنت لا تبخل أو المثل بمعنى الصفة ، أي ليس كصفته شيء فلا تكون زائدة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لمقالة الأعداء (الْبَصِيرُ) [١١] بأعمالهم.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتحهما من المطر والنبات (يَبْسُطُ) أي يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يقتره على من يشاء لعلمه بمصالحهم (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [١٢] من التوسيع والتقتير ، فاذا علم أن التوسيع خير للعبد أغناه وإلا أفقره.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣))

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي بين لكم من دين الإسلام شرعة مشتركة بين الرسل الكبار للتوحيد وهي (ما وَصَّى) أي (٥) الذي وصى (بِهِ نُوحاً) أي ما أمره بعد الطوفان (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد (وَما وَصَّيْنا) أي والذي وصينا (بِهِ) من بينك وبين نوح من الأنبياء عليهم‌السلام (إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) قوله (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) بيان للمشروع المشترك فيه بينهم ، يعني وصينا جميعهم أن أقيموا دين الإسلام (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي في هذا القدر المشترك من التوحيد والإيمان برسله وكتبه والبعث والجزاء وسائر ما يكون المكلف مسلما باقامته ، وليس المراد بذلك المشروع هو الشرائع التي هي مصالح الأمم ، لأنها مختلفة بحسب اختلاف أحوالهم لقوله تعالى (٦)(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)(٧) ، ومحل (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) نصب ، بدل من (ما وَصَّى) أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أن أقيموا الدين ولا تختلفوا فيه (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أي ثقل على مشركي مكة (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يا محمد وهو دين الإسلام (اللهُ يَجْتَبِي) أي يختار (إِلَيْهِ) أي إلى دينه (مَنْ يَشاءُ) أي من كان أهلا له (وَيَهْدِي) أي يرشد (إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [١٣] أي يرجع عن الكفر ويقبل إلى الإيمان.

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

(وَما تَفَرَّقُوا) أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) في كتابهم بأن ما (٨) جاء به محمد حق أو بأن التفرق ضلال (بَغْياً) أي حسدا (بَيْنَهُمْ) لأنه كان من العرب (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير العذاب والجزاء (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ) أي لحكم (بَيْنَهُمْ) بالهلاك ، أي بين المؤمنين والكافرين (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا) أي أعطوا (الْكِتابَ) أي التورية والإنجيل وهم اليهود والناصارى (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد أنبيائهم كنوح وإبراهيم وعيسى عليهم‌السلام (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن أو من كتابهم (مُرِيبٍ) [١٤] أي ظاهر الشك.

__________________

(١) يخلقكم ، ح و : يجعلكم ، ي.

(٢) شيء ، ح و : ـ ي.

(٣) في ، و : ـ ح ي.

(٤) هذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٥ / ٢٠٨.

(٥) أي ، وي : ـ ح.

(٦) لقوله تعالى ، وي : بدليل قوله ، ح.

(٧) المائدة (٥) ، ٤٨.

(٨) بأن ما ، ح و : بأن ، ي.

٧٤

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

(فَلِذلِكَ) أي فلأجل ذلك الشك أو الافتراق (فَادْعُ) يا محمد المتفرقين (١) في الدين إلى ما وصى به الأنبياء من الاتفاق في الدين (وَاسْتَقِمْ) على دينهم وعلى الدعوة إليه (كَما أُمِرْتَ) من الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي لا تعمل بأهواء الضالين ، قوله (وَقُلْ آمَنْتُ) نزل حين دعاه كفار إلى ملة آبائه (٢) ، فقال تعالى قل آمنت (بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) منزل علي وعلى من تقدم قبلي من الأنبياء (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في الحكم إذا تخاصمتم وتحاكمتم إلى (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي خالقنا واحد لا أحيف لكم بأكثر مما (٣) افترض عليكم ، وهو قول «لا إله إلا الله» ، فلم يقبلوا منه فقال (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا ديننا ولكم دينكم ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ، وفيه دليل على أن الرجل إذا رأى منكرا أو سمعه فأنكر ولم يقبل منه لا يجب عليه أكثر من ذلك ، وهو يحفظ مذهبه ويترك مذهب من خالفه (لا حُجَّةَ) أي لا خصومة (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) في الدين ، لأن الحق قد ظهر وانقطع الكلام بيننا ، وليس ترك الخصومة للضعف لتحقق القتال وتخريب البيوت والإجلاء بعد ذلك ، بل المراد ترك الجدال في مواقف المقاولة لا المقاتلة (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة فينتقم منكم (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [١٥] أي الرجوع في الآخرة.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ) أي يخاصمون (فِي اللهِ) أي في (٤) توحيده مع أوليائه (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ) أي أطيع (لَهُ) أي لله بدعوة محمد عليه‌السلام إلى الإسلام (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي خصومتهم باطلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لا ينفعهم (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) من الله لأجل مكابرتهم عقولهم يوم القيامة (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [١٦] فيه بقبح أعمالهم في الدنيا.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧))

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِّ) أي لبيان الحق (وَ) أنزل (الْمِيزانَ) للعدل والتناصف في كتبه المنزلة وهو الأمر بالوفاء والنهي عن المنكر فاعدلوا به قبل أن يفاجئكم يوم الحساب ويوزن فيه أعمالكم ، قوله (وَما يُدْرِيكَ) نزل حين سئل النبي عليه‌السلام عن الساعة متى تكون (٥) ، فقال تعالى وما يعلمك يا محمد (لَعَلَّ السَّاعَةَ) أي البعث (٦)(قَرِيبٌ) [١٧] ولم يؤنث نظرا إلى المعنى.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا) أي بالساعة استهزاء بكم (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) أي بقيامها (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بها (مُشْفِقُونَ) أي خائفون (مِنْها) أي من قيامها وشدائدها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أي أن (٧) قيامها لواقع (٨) بلا شك (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ) أي يجادلون عنادا (فِي) مجيء (السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [١٨] عن الحق ، لأن القرآن المعجز قد صرح بقيامها ولأن العقول تشهد على أنه لا بد من دار جزاء.

__________________

(١) المتفرقين ، ح و : المفترقين ، ي.

(٢) قد أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ١٩٣.

(٣) مما ، وي : ما ، ح.

(٤) في ، ح : ـ وي.

(٥) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٥ / ٧٩.

(٦) أي البعث ، وي : ـ ح.

(٧) أن ، و : ـ ح ي.

(٨) لواقع ، ح و : الواقع ، ي.

٧٥

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))

ثم وصف الله بما يوجب الإيمان به فقال (١)(اللهُ لَطِيفٌ) أي ساتر للعيوب (٢) كأنه لم يرها وغافر للذنوب كأنها لم يعلمها بار (بِعِبادِهِ) من البر والفاجر ومن لطفه بهم أنه (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) ما يشاء في الوقت الذي يشاء من أصناف البر فيظهر لبعضهم صنف من البر لم يظهر مثله لآخر على حسب اقتضاء الحكمة ، فاندفع به سؤال من قال (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) يناقض قوله (الله لطيف بعاده) بناء على أن المفهوم من الأول البعض ومن الثاني الجميع (وَهُوَ الْقَوِيُّ) أي القادر المتين على كل شيء من إيصال الرزق إلى جميع خلقه وغيره (الْعَزِيزُ) [١٩] أي (٣) المنيع الذي لا يغلبه أحد.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي يريد بعمله ثواب الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي في ثواب حرثه بتضعيف الحسنة إلى العشرة وإلى ما شاء الله (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) أي يريد بعمله ثواب الدنيا (نُؤْتِهِ مِنْها) ما قسم له بلا تضعيف (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [٢٠] لأنه لم يعمل لله تعالى ، قيل : حرث الدنيا القناعة وحرث الآخرة الرضا (٤).

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١))

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) الاستفهام للإنكار ، أي ألهم آلهة دون الله (شَرَعُوا) أي بينوا شريعة (لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) الفاسد وهو الشرك وإنكار البعث وعمل الدنيا دون الآخرة (ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي ما لم يأمر به فانه منزه عن أن يأذن في عمل الباطل (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي كلمة الحكم السابق بتأخير العذاب عن هذه الأمة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بالعذاب (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي المشركين (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٢١] في الآخرة.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))

(تَرَى الظَّالِمِينَ) أي المشركين يوم القيامة (مُشْفِقِينَ) أي خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) في الدنيا من القبائح (وَهُوَ) أي جزاء كسبهم (واقِعٌ) أي نازل (بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صدقوا بالقرآن وأدوا الفرائض والسنن (٥)(فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي في بساتينها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الكرامة (ذلِكَ) أي الثواب (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [٢٢] أي المن العظيم من الله.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الذي أعد لهم في الجنة هو (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في الدنيا قرئ «يبشر» بضم الياء والتشديد وبفتح الياء والتخفيف (٦) ، قوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) نزل حين سأل المشركون أيبتغي محمد على تبليغ الرسالة أجرا من الناس (٧) أو نزل حين حاءت الأنصار ببعض أموالهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا

__________________

(١) ثم وصف الله بما يوجب الإيمان به فقال ، وي : ـ ح.

(٢) للعيوب ، وي : العيوب ، ح.

(٣) أي ، ح و : ـ ي.

(٤) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) والسنن ، وي : ـ ح.

(٦) «يبشر» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والأخوان بفتح الياء وإسكان الباء وضم الشين مخففة ، والباقون بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة. البدور الزاهرة ، ٢٨٦.

(٧) عن قتادة ، انظر الواحدي ، ٣١٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢١١.

٧٦

استعن بهذا المال في سبيل الله ودينه (١) ، فقال الله تعالى قل لا أسألكم (عَلَيْهِ) أي على ما جئت به من الحق (أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) منكم ، أي أن تؤدوا قرابتي وتصلوها وتكفوا عن الأذى ، ولم يقل إلا المودة للقربى باللام ، لأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها للمبالغة والقربى بمعنى القرابة كالبشرى بمعنى البشارة ، روي : أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : «علي وفاطمة وابناهما» (٢) ، ويدل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : «شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسد الناس في فقال أما ترضى أن تكون رابع أربعة ، أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا؟» (٣) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي» (٤)(وَمَنْ يَقْتَرِفْ) أي يكتسب (حَسَنَةً) أي طاعة (نَزِدْ لَهُ) أي يزد الله تعالى (فِيها حُسْناً) بالتضعيف ، أي للواحدة عشرا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب عن السيئة (شَكُورٌ) [٢٣] يقبل اليسير ويعطي الجزيل.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤))

(أَمْ يَقُولُونَ) أي المشركون والميم صلة بعد ألف الاستفهام (افْتَرى) أي اختلق محمد (عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة القرآن إليه تعالى ، فنزل تسلية لنبيه عليه‌السلام (٥)(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ) أي يربط (عَلى قَلْبِكَ) بالصبر فلا يدخل فيه الحزن ولا يضيق من أذاهم (وَ) من عادته أنه (يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أي الشرك وهو كلام مستأنف غير معطوف على (يَخْتِمْ) ، وسقوط الواو كسقوطها في (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ)(٦) على أنها ثابتة في بعض المصاحف (وَيُحِقُّ) أي و (٧) يثبت (الْحَقَّ) أي الإسلام (بِكَلِماتِهِ) أي بآياته المنزلة على الأنبياء بوحيه وحكمه بالنصر للمرسلين كقوله ان (لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)(٨)(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [٢٤] أي بما يضمره بالقلوب فيجازي كلا بعمله.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥))

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) قبل التوبة (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [٢٥] من الخير والشر فلا تغفلون عنه ، قرئ بالياء والتاء (٩).

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

(وَيَسْتَجِيبُ) أي يجيب دعاء (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي سؤالهم من المغفرة والرحمة (وَيَزِيدُهُمْ) على أعمالهم (مِنْ فَضْلِهِ) أي من الثواب أكثر مما سألوا (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [٢٦] أي دائم لا يفتر عنهم.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧))

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) أي لو وسعه عليهم (لَبَغَوْا) أي لطغوا (فِي الْأَرْضِ) بطلبهم منزلة بعد منزلة وملبسا بعد ملبس ومركبا بعد مركب ونحو ذلك ، قيل : قد ترى الناس يبغي بعضهم على بعض وهو مبسوط له الرزق وقد يكون البغي بدون البسط ، فلا معنى للشرط أجيب بأن الحكم للغالب ، فإن البغي مع الفقر أقل ومع

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٣١٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢١١.

(٢) انظر الكشاف ، ٥ / ٢١١.

(٣) انظر الكشاف ، ٥ / ٢١١.

(٤) انظر الكشاف ، ٥ / ٢١١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٥) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٦) الإسراء (١٧) ، ١١.

(٧) و ، ح : ـ وي.

(٨) الصافات (٣٧) ، ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٩) «تفعلون» : قرأ حفص والأخوان وخلف بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٢٨٦.

٧٧

البسط أكثر (١)(وَلكِنْ يُنَزِّلُ) من أرزاقهم (بِقَدَرٍ) أي بتقدير (ما يَشاءُ) مصلحة (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ) أي عالم بصلاح كل واحد منهم (بَصِيرٌ) [٢٧] بعمله من الصلاح والفساد فيفقر ويغني ويبسط ويقبض بالحكة.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨))

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي المطر (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي يئسوا منه (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي مطره على أي بلد أراد أن ينشره (وَهُوَ الْوَلِيُّ) أي مولى المطر ومتصرفه (الْحَمِيدُ) [٢٨] أي المحمود في صنعه لا قبح فيه ، لأنه بالحكمة.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠))

(وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن علامات وحدانيته (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَ) خلق (ما بَثَّ) أي نشر (فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي مما يتحرك على وجه الأرض من الحيوانات وقال فيهما وإن كان في أحدهما ، لأنه من قبيل نسبة الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه كما قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ) ، أي (٢) من أحدهما (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) أي الله (٣) على إحيائهم (إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) [٢٩](وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي من مرض وشدة وهلاك وتلف في أنفسكم وأموالكم (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) من الذنوب بالفاء وبتركها (٤) ، قيل : هذا يختص بالمذنبين وأما غيرهم كالأنبياء والأطفال والمجانين إلا أصابهم شيء من ألم أو غيره فلرفع درجاتهم ولمصالحهم (٥)(وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [٣٠] أي ما عفا الله عنه فهو كثير ، روي : «أنه ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب وهو أعظم المصائب» (٦).

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين (فِي الْأَرْضِ) من عذاب الله حتى يجزيكم به (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي عذابه (مِنْ وَلِيٍّ) أي صديق يشفع (وَلا نَصِيرٍ) [٣١] أي مانع يمنع من عذابه تعالى.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢))

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) بالياء وبغيره (٧) ، أي السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [٣٢] أي كالجبال الرواسي.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣))

(إِنْ يَشَأْ) الله (يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ) أي يصرن (رَواكِدَ) أي ثوابت وسواكن (عَلى ظَهْرِهِ) أي على ظهر الماء في البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي لعلامات لوحداينته (لِكُلِّ صَبَّارٍ) يصبر على طاعة الله (شَكُورٍ) [٣٣] لنعمه.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤))

قوله (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) عطف على جواب الشرط وهو (يُسْكِنِ) ، أي إن يشأ الله يهلكهن ، أي السفن بالإغراق (بِما كَسَبُوا) أي بسبب كسبهم من الشرك والمعاصي (وَيَعْفُ) عطف على (يُوبِقْهُنَّ) ، أي يتجاوز (عَنْ كَثِيرٍ) [٣٤] فلا يجازيهم ، ومعنى إدخال العفو في حكم الإيباق بالجزم أنه إن شاء يهلك ناسا بذنوبهم وينج ناسا على طريق العفو عنهم.

__________________

(١) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٥ / ٢١٣.

(٢) و ، + ي.

(٣) الله ، وي : ـ ح.

(٤) «فبما» : قرأ المدنيان والشامي بغير فاء قبل الباء ، والباقون بالفاء. البدور الزاهرة ، ٢٨٧.

(٥) أخذ المؤلف هذا المعنى عن الكشاف ، ٥ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٦) ذكر الضحاك نحوه ، انظر القرطبي ، ١٦ / ٣٠.

(٧) «الجوار» : أثبت الياء وصلا نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وفي الحالين ابن كثير ويعقوب ، وحذفها الباقون مطلقا. البدور الزاهرة ، ٢٨٧.

٧٨

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

قوله (وَيَعْلَمَ) بالنصب عطف على تعليل محذوف وهو كثير في القرآن ، تقديره : لينتقم منهم وليعلم (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) أي في القرآن بالتكذيب (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) [٣٥] أي مهرب من عذابنا ، وبرفعه استئناف (١).

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦))

قوله (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) شرط ، جزاؤه (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما أعطيتم من شيء من أموال الدنيا فهو زينة الحيوة الدنيا ويتمتع به زمانا يسيرا ثم يزول (وَما عِنْدَ اللهِ) أي في الآخرة من الثواب (خَيْرٌ) من حطام الدنيا (وَأَبْقى) أي أدوم (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٣٦] أي يفوضون أمورهم إليه.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧))

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) عطف على المؤمنين ، وكذلك ما بعده للمدح بجمع الصفات العظام ، أي وللذين يجتنبون (كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي الشرك وغيره من النفاق والرياء (وَالْفَواحِشَ) وهي التي توجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة (وَإِذا ما غَضِبُوا) على أحد (هُمْ يَغْفِرُونَ) [٣٧] أي يتجاوزون عنه ، وجعل (هُمْ يَغْفِرُونَ) جملة اسمية وقعت جوابا ل (إِذا) لإفادة التخصيص ، أي هم الأحقاء بالغفران في حال الغضب.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨))

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي أطاعوه فيما يدعوهم إليه من الإيمان به والأمر والنهي (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي الصلوات الخمس في مواقيتها (وَ) الذين (أَمْرُهُمْ شُورى) أي ذو شورى مصدر بمعنى التشاور ، يعني لا ينفرد واحد منهم برأي دون صاحبه ، وكانوا قبل مقدم رسول الله عليه‌السلام المدينة إذا كان بينهم أمر اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم بذلك وهم طائفة الأنصار (بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [٣٨] أي يتصدقون في سبيل الله.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي الظلم الذي يؤدي إلى الفساد (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [٣٩] أي ينتقمون من المشركين ولا يعتدون عما أمرهم الله به من الانتقام ، وهذه الآية لا تنافي آية (يَغْفِرُونَ)(٢) ، لأن ذلك عند الاقتدار على الانتقام مع عدم الفساد ، روي : «أنهم قوم كانوا يكرهون أن يستذلوا ويحبون العفو إذا قدروا» (٣).

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠))

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) أي عقوبة مظلمة صادرة من ظالم عقوبة به (مِثْلُها) أي مثل مظلمته ، يعني يجب إذا قوبلت الإساءة أن يقابل بمثلها من غير زيادة ، سميت الثانية سيئة للمشاكلة (فَمَنْ عَفا) أي من تجاوز عن مظلمته (وَأَصْلَحَ) الود بينه وبين خصمه بالعفو (فَأَجْرُهُ) أي ثوابه (عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [٤٠] أي البادين بالظلم ، روي : «أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا من عفا» (٤) ، فيقال له ادخل الجنة باذن الله.

__________________

(١) «ويعلم» : قرأ المدنيان والشامي برفع الميم ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٨٧.

(٢) الشورى (٤٢) ، ٣٧.

(٣) روى سفيان عن منصور عن إبراهيم ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٩٨ ؛ والبغوي ، ٥ / ٨٧.

(٤) عن محمد بن المنكدر ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٨٧ (عن الحسن).

٧٩

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢))

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ) أي اقتص (بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي ظلم الظالم إياه أو بعد ظلم المظلوم (فَأُولئِكَ) أي المنتصرون (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [٤١] أي عيب ولا طعن (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي يبدونهم بالظلم (وَيَبْغُونَ) أي يطلبون (١)(فِي الْأَرْضِ) تكبرا (بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٤٢] أي وجيع.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

(وَلَمَنْ صَبَرَ) عن مظلمة ولم يقتص من صاحبه (وَغَفَرَ) أي تجاوز عنه وفوض أمره إلى الله (إِنَّ ذلِكَ) أي صبره وتجاوزه عنه (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [٤٣] أي من معزوماتها التي أمر الله بها على سبيل الندب ، قيل : العفو مندوب إليه لكن قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو إليه وذلك إذا احتج إلى قطع مادة الأذى (٢).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤))

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي يخذله الله عن الهدى (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ) أي نصير أو قريب يمنعه عنه ويرشده إلى دينه (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد خذلانه تعالى إياه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) أي المشركين والعاصين (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي النار في الآخرة (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) أي رجوع إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) [٤٤] أي من حيلة فنؤمن ونطيع ولا نعصي.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥))

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار (خاشِعِينَ) أي خاضعين مما يلحقهم (مِنَ الذُّلِّ) حياء (يَنْظُرُونَ) إلى النار (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي بعين ضعيفة خوفا كنظر المقتول إلى السياف (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي المظلومون منهم (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا) أي يخسرون (أَنْفُسَهُمْ) بظلمهم غيرهم في الدنيا (وَأَهْلِيهِمْ) وهم الحور والولدان وما يتعلق بهم في الجنة من الثواب لو آمنوا ولم يظلموا أحدا حتى صارت حساناتهم للمظلوم ، وهم دخلوا النار مكانه (يَوْمَ الْقِيامَةِ) قيل : هذا قول المؤمنين لهم في الدنيا (٣) ، وقيل : في الآخرة حين رأوا الظالمين يدخلون النار (٤) ، فقال تعالى تصديقا لمقالتهم (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) [٤٥] أي دائم لا يزول.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

(وَما كانَ لَهُمْ) أي للظالمين يوم القيامة (مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ) أي يمنعونهم من العذاب (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من قبله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن الهدى (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) [٤٦] إلى الهدى.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧))

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي أجيبوا ربكم أيها الناس في الإيمان وفيما أمركم به من الطاعة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا رجعة له إذا جاء ، يعني لا يرد الله ذلك اليوم بعد حكمه بوقوعه ، ف (مِنَ اللهِ) صلة (لا مَرَدَّ لَهُ) ، ويجوز أن يكون صلة (يَأْتِيَ) ، أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر على رده أحد (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي حرز يحرزكم من عذابه (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) [٤٧] أي إنكار لأعمال خبيثة صدرت عنكم لأنكم تعترفون ثمه (٥) بذنوبكم.

__________________

(١) أي يطلبون ، ح و : أي يبطلون ، ي.

(٢) نقله المفسر عن الكشاف ، ٥ / ٢١٦.

(٣) هذا الرأي منقول عن السمرقندي ، ٣ / ١٩٩.

(٤) أخذ المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٣ / ١٩٩.

(٥) ثمه ، ح : ثم ، و ، ـ ي.

٨٠