عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

لنأخذنه أخذا شديدا يوم القيامة ولنطرحنه في النار إن لم يتب ولم يسلم قبل الموت.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨))

قوله (١)(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) [١٧] أي مجلسه الذي اجتمع فيه القوم والمراد أهله ، نزل حين نهاه أبو جهل عن الصلوة فانتهره عليه‌السلام انتهارا ، فقال أبو جهل : أتنهر فو الله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا ورجالا مردا وإنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني (٢) ، فقال تعالى فليدع أهل مجلسه الكفرة حتى يعينوه وينتصر بهم (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [١٨] لإهلاكه عيانا وهم ملائكة غلاظ خلقوا للعذاب يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم من الزبن وهو الدفع.

(كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(كَلَّا) أي ليرتدع عن فعله ويتب ، وقيل : (كَلَّا) تنبيه للنبي عليه‌السلام (٣) ، أي تنبه يا محمد أنت (لا تُطِعْهُ) أي أبا جهل في ترك الصلوة واثبت و «استقم كما أمرت» (٤) على الإيمان والصلوة وسائر الطاعات (وَاسْجُدْ) أي صل لله تعالى (وَاقْتَرِبْ) [١٩] أي اطلب التقرب إلى ربك تعالى بالأعمال الصالحة التي يحبها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (٥) ، وروي «إذا سجد» (٦).

__________________

(١) قوله ، وي : ـ ح.

(٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٩٥ ؛ والواحدي ، ٣٧٣ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٠٠ ـ ٦٠١.

(٣) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

(٤) هود (١١) ، ١١٢.

(٥) رواه مسلم ، الصلوة ، ٢١٥ ؛ وأبو داود ، الصلوة ، ١٥٢ ؛ والنسائي ، التطبيق ، ٧٨ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٢ / ٤٢١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٩٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٠١.

(٦) انظر الكشاف ، ٣ / ٢٤٥. ولم أعثر عليه بهذا اللفظ في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

٣٢١

سورة القدر

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١))

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [١] أي أنزلنا القرآن فيها ، وجاء بضميره وإن لم يجر له ذكر لشهرته ، أي أنزله جبرائيل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح إلى بيت العزة في السماء الدنيا باملائه على السفرة ، ونسب الإنزال إلى نفسه تعالى تشريفا له ، ثم أنزله جبرائيل عليه‌السلام نجوما إلى الأرض على رسول الله في عشرين أو في ثلاث وعشرين سنة ، وكان ابتداء نزوله في القدر ، ومعناه : ليلة تقدير الأمور وقضائها ، قيل : سميت بها لأن الله تعالى يقدر في تلك الليلة ما هو كائن من السنة إلى السنة من الأجل والرزق والموت وغير ذلك (١) ، وهي موجودة في رمضان كل سنة ، والأكثر أنها في العشر الأواخر منه في الأوتار ، وأخفيت ليجتهد في العبادة ليالي رمضان طمعا في إدراكها وتكثيرا لثواب (٢) العبادة فيها.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣))

قوله (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [٢] تعظيم لها ، يعني لم تبلغ أنت بمراتبك (٣) غاية فضلها ، ثم بين للنبي عليه‌السلام علو قدرها بقوله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي قيامها والعبادة فيها (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [٣] أي من قيامها وصيامها ليس فيها ليلة القدر ، قالت عائشة رضي الله عنه : «يا رسول الله لو وافيت ليلة القدر ـ أي وجدتها ـ فما أقول؟ ـ ف (ما) استفهام ـ قال : قولي اللهم إنك عفو فاعف عني» (٤).

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤))

ثم بين ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية بقوله (تَنَزَّلُ) أي تتنزل (الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي جبرائيل إلى الأرض (فِيها)(٥) من غروب الشمس إلى طلوع الشمس (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمره تعالى ، متعلق ب (تَنَزَّلُ) أو حال ، ومفعوله (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [٤] أي كل خير وشر قدره الله ، وهم يصلون ويسلمون على كل قائم أو قاعد يذكر (٦) الله تعالى فيها.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

قوله (سَلامٌ هِيَ) مبتدأ وخبر ، أي تلك الليلة ذات سلامة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شرا أو سميت سلاما لكثرة السّلام فيها من الملائكة على المؤمنين (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [٥] أي يسلم الملائكة من غروب الشمس إلى مطلع الفجر ، ف (حَتَّى) متعلقة ب (سَلامٌ) ، قيل : ذكر للنبي عليه‌السلام رجل من بني إسرائيل كان على عاتقه السلاح ألف شهر في سبيل الله بالصوم حتى مات فتمنى أن يكون ذلك لأمته ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر ذكرت (٧) ، يعني العمل فيها وثوابه ، ثم قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (٨).

__________________

(١) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٣ / ٤٩٦.

(٢) لثواب ، وي : ثواب ، ح.

(٣) بمراتبك ، وي : لمراتبك ، ح.

(٤) رواه ابن ماجة ، الدعاء ، ٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦٠٦.

(٥) أي ، + ح.

(٦) يذكر ، وي : يذكرون ، ح.

(٧) عن مجاهد ، انظر الواحدي ، ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٩٦.

(٨) رواه مسلم ، المسافرين ، ١٧٥ ، ١٧٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦٠٦.

٣٢٢

سورة البينة

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١))

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى (وَ) من (الْمُشْرِكِينَ) وهم عبدة الأوثان (مُنْفَكِّينَ) أي زائلين عن كفرهم وشركهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [١] أي الحجة الواضحة من الله ، وهي تفرق (١) بين الحق والباطل ، قيل : هذا حكاية قول الكفار ، لأنهم كانوا يقولون قبل بعثة النبي عليه‌السلام لا ننفك عن ديننا هذا حتى يبعث النبي الموعود في التورية والإنجيل وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكى الله عنهم أنهم تمسكوا بدينهم إلى بعثته عليه‌السلام فآمن من آمن من الطائفتين وكفر من كفر منهما راجعا عن قوله (٢).

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣))

قوله (رَسُولٌ) بدل من (الْبَيِّنَةُ) أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي رسول (مِنَ اللهِ يَتْلُوا) أي يقرأ (صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [٢] أي مضمون قراطيس منزهة من الباطل وهو القرآن (فِيها) أي في تلك الصحف (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [٣] أي أحكام مستقيمة لا عوج فيها لأنها ترشد إلى الصواب والصلاح.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤))

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ما اختلفوا في دينهم أو في (٣) شأن محمد عليه‌السلام (٤) والقرآن (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [٤] وهو محمد عليه‌السلام أو القرآن ، يعني اختلافهم انما وقع بعد ظهور الحق عن الباطل ، وإنما أفرد أهل الكتاب بالذكر بعد الجمع بينهم وبين المشركين أولا ، لأنهم كانوا عالمين بالرسول ونعته في كتبهم ، فاذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في الوصف بالتفرق.

(وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥))

(وَما أُمِرُوا) أي ما أمرهم بما في القرآن بارسال محمد عليه‌السلام (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي إلا لأجل أن يعبدوه أو اللام بمعنى الباء ، أي بأن يعبدوا الله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي لا يشركون معه أحدا في العبادة (حُنَفاءَ)

__________________

(١) تفرق ، وي : يفرق ، ح.

(٢) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٤٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٩٨.

(٣) في ، ح : ـ وي.

(٤) عليه‌السلام ، ح : ـ وي.

٣٢٣

أي مستقيمين راسخين في الدين (وَ) بأن (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) وقيل : ما أمروا في كتابيهما التورية والإنجيل إلا بذلك ولكنهم حرفوا وبدلوا (١)(وَذلِكَ) أي الذي أمروا به من الإيمان والعبادة الخالصة (دِينُ الْقَيِّمَةِ) [٥] أي الملة المستقيمة في جميع الكتب المنزلة من الله تعالى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الكافرين (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أبدا (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [٦] أي شر الخليقة عند الله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي المؤمنين بمحمد عليه‌السلام والصالحين في العمل (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [٧] أي أفضل الخليقة عند الله ، قرئ في الموضعين بالهمزة على الأصل ، وبالتاء المشددة (٢) ، قيل : المؤمن أكرم على الله من الكعبة (٣) ، سئل عن الحسن عن قوله (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أهم خير أم الملائكة؟ قال : ويلك أين تعدل الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟» (٤).

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

قوله (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بيان لثوابهم في الآخرة وهو (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من الخمر والعسل واللبن والماء العذاب (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) قوله (رَضِيَ اللهُ) خبر عنهم ، أي رضي الله (عَنْهُمْ) بسبب طاعته (٥)(وَرَضُوا عَنْهُ) بسبب ثوابه (ذلِكَ) أي هذا الثواب الحسن والرضا من الله تعالى (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [٨] أي خاف مقام ربه فأطاعه ولم يعصه.

__________________

(١) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٦ / ٢٤٧.

(٢) «البرية» معا : قرأ نافع وابن ذكوان بياء ساكنة بعد الراء وبعد الياء همزة مفتوحة وحينئذ يكون المد متصلا وكل فيه على أصله ، والباقون بياء مشددة مفتوحة بعد الراء بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء قبلها فيها. البدور الزاهرة ، ٣٤٦.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية والحديثية التي راجعتها.

(٤) انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٩٩.

(٥) طاعته ، وي : طاعتهم ، ح.

٣٢٤

سورة الزلزلة (الزلزال)

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢))

قوله (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) أي حركت لقيام الساعة (زِلْزالَها) [١] أي تحريكها الشديد حتى ينهدم كل ما عليها ، فالإضافة للتفخيم ، أي زلزالها الذي يستوجبه في الحكمة ومشية الله ، وهو الزلزال العظيم الذي ليس بعده زلزال ، نزل حين سئل النبي عليه‌السلام متى يكون قيام الساعة (١) ، فبين تعالى أن زلزلتها (٢) من أشراط الساعة يكون عند النفخة الأولى (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ) أي أظهرت (أَثْقالَها) [٢] أي ما فيها من الكنوز والأموات.

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥))

(وَقالَ الْإِنْسانُ) أي الكافر (ما لَها) [٣] أي ما للأرض زلزلت حتى ألقت ما فيها على وجه التعجب ، لأنه كان لا يؤمن بالبعث ، فأما المؤمن فيقول : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)(٣) ، وأبدل من «إذا» (يَوْمَئِذٍ) والعامل في «إذا» (تُحَدِّثُ) أي تخبر الخلق بانطاق الله إياها (أَخْبارَها) [٤] أي بكل ما عمل بنو آدم عليها من خير وشر بأن تشهد الأرض (٤) على كل عبد وأمة أنه عمل على كذا وكذا في يوم كذا وكذا (٥) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تشهد الأرض على كل أحد بما عمل على ظهرها» (٦) ، وقيل : تحديث الأرض مجاز عن إحداث الله فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان (٧) ، والأول أظهر لقوله (٨)(بِأَنَّ رَبَّكَ) أي تحدث بسبب أن ربك يا محمد (أَوْحى لَها) [٥] أي ألهمها بأن تخبر (٩) بما عمل عليها.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦))

قوله (يَوْمَئِذٍ) بدل من الأول (يَصْدُرُ) أي يرفع (النَّاسُ) بعد الخروج من القبور أو العرض من موقف الحساب (أَشْتاتاً) أي متفرقين ، فالمؤمنون بيض الوجوه والكافرون سود الوجوه فزعين أو المؤمنون آخذون

__________________

(١) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٥٠٠.

(٢) زلزلتها ، ح و : زلزالها ، ي.

(٣) يس (٣٦) ، ٥٢.

(٤) الأرض ، ح : ـ وي.

(٥) في يوم كذا وكذا ، وي : ـ ح.

(٦) أخرجه الترمذي ، تفسير القرآن ، ٨٨ (تفسير سورة إذا زلزلت الأرض) ؛ وأحمد بن حنبل ، ٢ / ٣٨٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٤٨.

(٧) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٢٤٨.

(٨) لقوله ، وي : بقوله ، ح.

(٩) تخبر ، ح ي : يخبر ، و.

٣٢٥

ذات اليمين إلى الجنة مكرمين والكافرون آخذون ذات الشمال إلى النار مهانين ، قوله (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [٦] يتعلق ب (يَصْدُرُ) ، أي ليروا جزاء أعمالهم من الثواب والعقاب ، روي عن النبي عليه‌السلام : «ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه ، فان كان محسنا يقول لم لا ازدت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول لم لا رغبت عن المعاصي؟» (١) وهذا عند معاينة الثواب والعقاب.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

(فَمَنْ يَعْمَلْ) من فريق السعداء (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي مقدار نملة صغيرة (خَيْراً يَرَهُ) [٧] أي ثوابه في الآخرة (وَمَنْ يَعْمَلْ) من فريق الأشقياء (مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [٨] أي عقابه في الآخرة ، يعني كل واحد منهم يره بعد صدورهم عن الموقف إلى الجنة وإلى النار ، قيل : «عجل ثواب خير الكافر في الدنيا فلم يبق له عند الله مثقال ذرة من خير إذا مات ، وعجل عقوبة المؤمن في الدنيا فاذا مات ليس له عند الله مثقال ذرة من شر» (٢) ، وروي : أن عائشة رضي الله عنها تصدقت بعنبة وقالت : «إن فيها مثاقيل كثيرة» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأزواجه : «لا تحقر إحديكن لجارتها ولو فرسن شاة» (٤) ، أي كراعها.

__________________

(١) انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٠٠ ـ ٥٠١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٢) عن محمد بن كعب القرظي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٠١.

(٣) انظر البغوي ، ٥ / ٦١٢.

(٤) رواه البخاري ، الهبة ، ١ ؛ ومسلم ، الزكوة ، ٩٠.

٣٢٦

سورة العاديات

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١))

قوله (وَالْعادِياتِ) نزل حين بعث النبي عليه‌السلام سرية إلى غزوة بني كنانة فأبطأ عليه خبرهم ، فقال المنافقون هم قتلوا في ذلك فاغتم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره الله تعالى بانزال جبرائيل عليه‌السلام بهذه السورة (١) ، وهو قسم ، أي بحق الأفراس الجارية بالعدو لأصحابك في سبيل الله (ضَبْحاً) [١] أي يضبحن في عدوهن ضبحا وهو صوت بطن الخيل إذا عدت ، ف (ضَبْحاً) مصدر في موضع الحال.

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣))

(فَالْمُورِياتِ) أي الخيل التي توري النار ، أي تخرجها بحافرها إذا عدت في مكان ذي حجر (قَدْحاً) [٢] مصدر ، أي يقدحن قدحا (فَالْمُغِيراتِ) أي الخيل التي تغير على الكافر العدو (صُبْحاً) [٣] أي في الصبح.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥))

(فَأَثَرْنَ) عطف على الفعل الذي هو معنى اسم الفاعل باللام بمعنى الذي ، أي فالتي أغرن فأثرن ، أي هيجن (بِهِ) بمكان سيرهن أو بذلك الوقت (نَقْعاً) [٤] أي غبارا ، مفعول به (٢)(فَوَسَطْنَ بِهِ) أي (٣) فدخلن (٤) بذلك النفع أو بذلك (٥) الوقت أو العدو (٦)(جَمْعاً) [٥] أي في جماعة من جموع الأعداء ، يعني صرن وسط الجمع بالعدو.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨))

وجواب القسم (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [٦] أي لعاص لسيده بكذبه أو لكفور ولبخيل فيما أنعمه (٧) الله به يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده ويجيع أهله ، يقال أرض كنود إذا لم يخرج منها النبات (وَإِنَّهُ) أي الإنسان (عَلى ذلِكَ) أي على كنوزه (لَشَهِيدٌ) [٧] يشهد على نفسه بصنعه ولا يقدر أن يجحده (٨) لظهوره ثمه (وَإِنَّهُ) أي الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ) أي المال (لَشَدِيدٌ) [٨] أي لحريص على جمعه لشدة حبه له وهو ضعيف في حب طاعة الله وشكر نعمته.

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠))

(أَفَلا يَعْلَمُ) هذا الإنسان بالبخيل (إِذا بُعْثِرَ) أي أخرج (ما فِي الْقُبُورِ) [٩] من الناس ويعرضون على الله (وَحُصِّلَ) أي بين محصلا (ما فِي الصُّدُورِ) [١٠] أي ما في القلوب من الخير والشر للجزاء.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [١١] عالم بهم وبأعمالهم وبنياتهم (٩) فيجازيهم عليها في ذلك اليوم على مقادير أعمالهم لا محالة ، وذلك أثر خبره بهم ، وإن مع الاسم والخبر مفعول «لا يعلم» علق بدخول اللام في الخبر عن العمل ظاهرا.

__________________

(١) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٠٢ ؛ والواحدي ، ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

(٢) أي غبارا مفعول به ، ح و : غبارا ، ي.

(٣) أي ، ح و : ـ ي.

(٤) فدخلن ، ي : دخلن ، ح و.

(٥) بذلك ، ح و : ـ ي.

(٦) أو العدو ، ي : ـ ح و.

(٧) أنعمه ، وي : أنعم ، ح.

(٨) أن يجحده ، ح : أن يجحد ، وي.

(٩) وبنياتهم ، وي : ونياتهم ، ح.

٣٢٧

سورة القارعة

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣))

قوله (الْقارِعَةُ) [١] اسم ليوم القيامة لقرعها القلوب بأهوالها (مَا الْقارِعَةُ) [٢] مبتدأ وخبر ، وهما خبر (الْقارِعَةُ) ، أي شيء هي في نفسها ، قوله (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) [٣] فيه زيادة تعظيم لها لشدتها ، أي لا علم لك بكنهها.

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥))

(يَوْمَ يَكُونُ) ظرف لمضمر بقرينة «القارعة» ، أي يقرع أو اذكر يوم يكون (النَّاسُ) بعد البعث (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [٤] أي

كالجراد المنتشر يجول بعضهم في بعض ويختلط كالجراد (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [٥] أي كالصوف المندوف لتفرق أجزائها وهي تمر مر السحاب في الهواء.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧))

قوله (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ) بيان أحوال الخلق بالتفصيل ، يعني أما من رجحت بالحسنات (مَوازِينُهُ) [٦] جمع ميزان (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [٧] أي مرضية في الجنة.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ) أي رجحت بسيئات (مَوازِينُهُ [٨] فَأُمُّهُ) أي أم رأسه (هاوِيَةٌ) [٩] أي ساقطة في النار بأن يطرح فيها منكوسا أو مأواه النار العقيمة ، وسميت (هاوِيَةٌ) لهوي أهل النار فيها مهوى بعيدا ، وقيل : للمأوى أم على التشبيه ، لأن الأم مأوى الولد ومفزعه (١)(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) [١٠] أي ما الهاوية ، ثم فسرها فقال (نارٌ حامِيَةٌ) [١١] أي هي نار شديدة الحر ، والهاء في (ما هِيَهْ) للوقف ، أصله ما هي ويحذف عند الوصل ، وقيل يثبت عنده أيضا (٢) لأنها ثابتة في المصحف.

__________________

(١) ولم أجد مرجعا لهذا الرأي في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٢) «ماهية» : قرأ يعقوب وحمزة بحذف الهاء الساكنة وصلا وإثباتها وقفا ، وغيرهما باثباتها في الحالين. البدور الزاهرة ، ٣٤٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٥٠٥.

٣٢٨

سورة التكاثر

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢))

قوله (أَلْهاكُمُ) أي أشغلكم (التَّكاثُرُ) [١] أي التفاخر بكثرة (١) الأموال والأولاد عن طاعة الله تعالى (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) [٢] أي حتى متم ودفنتم في القبور فجعلت زيارة القبور عبارة عن الموت ، لأنه يزار القبر بسبب الميت (٢) ، وقيل : حتى عددتم قبور موتاكم تفاخرا بكثرة عددكم (٣) ، المعنى : ألهاكم التباهي بالكثرة وهو مما لا ينفعكم في دنياكم وأخراكم عن ما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم من كل مهم ، نزل حين تفاخر قبيلتان من العرب بنو عبد مناف وبنو سهم في الكثرة ، فقال بنو سهم قد أهلكنا القتال فنعد أحياءنا وأحياءكم وموتانا وموتاكم ، فتعادوا فكثرنهم بنو سهم (٤) ، فقال تعالى أغفلكم التكاثر بالأموال وجمعها والأولاد وزينتها عن نظركم لآخرتكم.

(كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥))

قوله (كَلَّا) ردع لهم عن صنيعهم وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن يكون الدنيا جميع همته ولا يهتم بدينه ، وقوله (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [٣] تهديد بالعاقبة ، وهي حالة نزول الموت بهم ، والتكرير في قوله (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [٤] لزيادة تهديد ، و (ثُمَّ) للمبالغة في الإنذار لينتهوا عن غفلتهم ويخافوا من شدة الهول قدامهم ، وهي السؤال في القبر والعذاب بالنار (٥) إذا خرجوا منه وقت البعث ، ثم كرر التنبه بقوله (كَلَّا) أي حقا (لَوْ تَعْلَمُونَ) عاقبة تفاخرهم (عِلْمَ الْيَقِينِ) [٥] أي كعلمكم شيئا بلا شك وشبهة لامتنعتم عن التفاخر وهو جواب (لَوْ) بالحذف.

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧))

ثم بين لهم ما أنذرهم منه بقوله (لَتَرَوُنَّ)(٦) واللام للقسم في (٧)(لَتَرَوُنَّ) معلوما من رأى ، ومجهولا من أرى (٨) ، أي والله لتبصرن (الْجَحِيمَ) [٦] بأعينكم ، ثم كرر الرؤية تفخيما لشأنها (٩) وتغليظا في التهديد فقال (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها

__________________

(١) بكثرة ، وي : لكثرة ، ح ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦١٧.

(٢) الميت ، وي : الموت ، ح.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) عن الكلبي ومقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٠٦ ؛ والواحدي ، ٣٧٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦١٧.

(٥) بالنار ، وي : في النار ، ح.

(٦) بالحذف ثم بين لهم ما أنذرهم منه بقوله لترون ، ي : بالحذف ثم بين لهم ما أنذرهم منه بقوله ، ح ، ـ و.

(٧) واللام للقسم في ، وي : ـ ح.

(٨) «لترون» : قرأ ابن عامر والكسائي بضم التاء ، وغيرهما ولا خلاف بين العشرة في فتح التاء في «لترونها». البدور الزاهرة ، ٣٤٧.

(٩) لشأنها ، وي : ـ ح.

٣٢٩

عَيْنَ الْيَقِينِ) [٧] أي معاينة اليقين لا اضطراب فيها يدخلونها يوم القيامة عيانا بلا شك فيه ، و (عَيْنَ) نصب على المصدر ، لأن رأى وعاين واحد (١) معنى.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

ثم نفرهم عن التنعم الذي يشغلهم عن الدين وتكاليفه بقوله (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ) أيها الناس (٢)(يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [٨] أي عن كل نعمة صغيرة وكبيرة أنعمها الله عليكم ، قيل : «من أكل خبزا يابسا وشرب الماء البارد العذب فقد أصاب النعيم» (٣) ، وروي عن النبي عليه‌السلام : «ثلاث لا يسأل الله العبد عنها يوم القيامة : ما يواري عورته وما يقيم به صلبه وما يكفه من الحر والقر» (٤) ، أي البرد.

__________________

(١) و ، + ي.

(٢) الناس ، ح و : الإنسان ، ي.

(٣) عن علي بن أبي طالب ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٠٧.

(٤) انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٠٧. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

٣٣٠

سورة العصر

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢))

قوله (وَالْعَصْرِ) [١] أقسم الله تعالى بصلوة العصر لفضلها ، قال الله تعالى (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(١) ، وهي صلوة العصر ، قال عليه‌السلام : «من فاتته صلوة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (٢) ، أي لكن من فوتها حذرا كما يحذر من ذهاب أهله وماله أو أقسم بالدهر وهو الليل والنهار لما في مروره من أصناف العجائب.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [٢] أي كل الناس لفي خسارة يوم القيامة في تجارتهم هنا ، والخسر ذهاب رأس المال أو (٣) نقصه ولا ربح في اليد ، نزل حين أسلم أبو بكر رضي الله عنه ، وقال الكفار له : خسرت يا أبا بكر بترك دين آبائك ، فقال أبو بكر : «ليس هذا خسرانا في قبول الحق ، وإنما الخسران في عبادة الأصنام» (٤).

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

قوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء متصل من (الْإِنْسانَ) ، أي إلا المؤمنين الصالحين فانهم ليسوا في خسران (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) أي تحاثوا بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وهو الخير كله من الإيمان بالقرآن والعمل وترك الدنيا والرغبة في الآخرة (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [٣] علي الطاعة وترك المعصية ، وقيل : المراد من (الْإِنْسانَ) الكافر (٥) ، فالاستثناء منقطع بمعنى لكن ، روي : أن قوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أبو بكر ، و (الصَّالِحاتِ) عمر ، و (تَواصَوْا بِالْحَقِّ) عثمان ، و (تَواصَوْا بِالصَّبْرِ) علي رضي الله عنهم أجمعين (٦).

__________________

(١) البقرة (٢) ، ٢٣٨.

(٢) رواه أحمد بن حنبل ، ٢ / ٥٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٥٢.

(٣) أو ، وي : و ، ح.

(٤) ولم أجد لقول أبي بكر رضي الله عنه مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) أخذ المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٥ / ٦٢٠.

(٦) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٣ / ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

٣٣١

سورة الهمزة

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١))

قوله (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) أي شدة العذاب لكل من يعيب في الغيب (لُمَزَةٍ) [١] أي من يعيب في الوجه ، وقيل : بالعكس (١) ، والهمزة في الأصل الكسر ، واللمز الطعن ، والهاء فيهما للمبالغة ، يعني ويل لكل من يكسر من إعراض المسلمين ويطعن في أنسابهم ، نزل في الأخنس بن شريق وكانت عادته الغيبة (٢) ، وقيل : نزل في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي عليه‌السلام والمسلمين ويطعن في وجوههم (٣) ، ويجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما لزجر كل من باشر ذلك القبيح.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣))

قوله (الَّذِي جَمَعَ) بالتشديد والتخفيف (٤) ، محله رفع أو نصب على الذم أو بدل م ن «كل همزة» ، أي ويل للذي جمع (مالاً) أي مال الدنيا (وَعَدَّدَهُ) [٢] أي أحصاه وحسبه فرحا به أو جعله عدة لحوادث الدهر ولم ينفق في سبيل الله ، بل ينفق في تشييد بالبنيان الموثق بالصخر والآجر وعمارة الأرض وغرس الأشجار (يَحْسَبُ) أي يظن (أَنَّ مالَهُ) الذي جمع (أَخْلَدَهُ) [٣] في الدنيا ويمنعه عن الموت.

(كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧))

(كَلَّا) ردع له ، أي (٥) لا يخلده (لَيُنْبَذَنَّ) أي والله ليطرحن (فِي الْحُطَمَةِ) [٤] وهي اسم من أسماء النار لحطمها ما ألقي فيها وهو كسرها وأكلها ، قوله (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) [٥] تفخيم لشأنها (نارُ اللهِ) أي هي نار الله العظيم (الْمُوقَدَةُ) [٦] أي المسعرة (الَّتِي تَطَّلِعُ) أي تشرف وتبلغ (عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [٧] يعني يأكل اللحم والجلد حتى تبلغ (٦) أفئدتهم فتحرقهم ، وخص (الْأَفْئِدَةِ) بالذكر لأن ألم الفؤاد أشد من ألم جميع الأعضاء للطفه ، ولأنه ريئسها تتبعه (٧) الأعضاء في الصلاح والفساد ، وهو محل العقائد والنيات ، وكان عذابه أشد وأعظم لكن لا تحرق القلب ، لأنه إذا احترق لا يجد (٨) الألم فيكون القلب على حاله ليبتدأ بالخلق الجديد بوجوده.

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

(إِنَّها عَلَيْهِمْ) أي النار على الكفار (مُؤْصَدَةٌ) [٨] أي مطبقة مغلقة الأبواب (فِي عَمَدٍ) بضمتين وفتحتين (٩) جمع عمود ، أي هم في عمد من حديد ، ويجوز أن ينصب حالا من الضمير في (مُؤْصَدَةٌ) أو من الضمير في (عَلَيْهِمْ) ، أي موثقين في عمد (مُمَدَّدَةٍ) [٩] أي ممدودة ومطولة مسدودة الأبواب عليهم وفي أعناقهم السلاسل والأغلال ، وذلك لتأكيد بأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد.

__________________

(١) عن أبي العالية والحسن ، انظر البغوي ، ٥ / ٦٢١.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٦١٠.

(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٦١٠.

(٤) «جمع» : شدد الميم الشامي والأخوان وخلف وروح وأبو جعفر ، وخففها الباقون. البدور الزاهرة ، ٣٤٧.

(٥) أي ، وي : أن ، ح.

(٦) تبلغ ، وي : يبلغ ، ح.

(٧) تتبعه ، وي : يتبعه ، ح.

(٨) يجد ، ح ي : تجد ، و.

(٩) «عمد» : قرأ شعبة والأخوان وخلف بضم العين والميم ، والباقون بفتحهما. البدور الزاهرة ، ٣٤٧.

٣٣٢

سورة الفيل

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢))

قوله (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) نصب (كَيْفَ) بفعل لا بما قبله ، لأن استفهامه يمنعه ، أي رأيت (١) آثار فعل الله (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [١].

وسمعت فيه الأخبار بالتواتر ونسبوا إلى الفيل ، لأنه كان مقدمهم ، نزل بعد ما بنى أبرهة بن الصباح ملك اليمن من قبل الملك النجاشي بصنعاء كنيسة ليصرف الناس إليها عن زيارة الكعبة وطوافهم ، فذهب رجل من العرب من كنانة وأحدث فيها احتقارا بها ، فحلف أبرهة ليهدمن الكعبة فخرج بجيشه مقدمهم فيل النجاشي المعروف بمحمود ، فلما قرب من مكة نزل وذهب إليه عبد المطلب صاحب مكة فأكرمه وأجلسه في بساطه معه ، لأنه سمع أنه يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، فقال للترجمان : قل له ، أي شيء حاجتك؟ فقال : حاجتي أن ترد علي مائتي بعير أصابها قومك ، فقال لترجمانه : قل له أعجبتني بحاجتك لهدم بيت هو دينك وأنت تريد مني مائتي بعير أصبتها منك ، فقال : أنا رب البعير ولهذا البيت رب يمنعه عنك ، ثم جاء عبد المطلب مكة وأمر أهله بالتفرق في الجبال وأخذ بحلقة باب البيت ، فقال : قد جاء عدوك ليهدم بيتك فامنع البيت عنهم ، ثم توجه أبرهة بجيوشه نحو الكعبة مقدمها الفيل محمود ، فجاء نفيل من مكة فأخذ بأذنه فقال : ابرك يا محمود وارجع من حيث جئت فانك في البلد الحرام ، فبرك فضرب بالمعول في رأسه فأبى القيام وعبد المطلب يدعو عليهم ، فنشأت طير سوداء وخضراء وبيضاء صغار فوجا فوجا من البحر كأنها الخطاطيف مع كل طير حصاة أصغر من الحمصة ، على كل حصاة اسم من يرمى بها فألقت الطير على كل واحد حصاة تخرق البيضة والرجل والفيل وتصل إلى الأرض ، فهلك كلهم إلا أبرهة ، لأن طيره لم يرم حصاته عليه ، فلما وصل إلى النجاشي فأخبره الخبر وتبعه طيره ألقى عليه حجره فمات لدى النجاشي ، وكان هذا عام مولد النبي عليه‌السلام (٢) ، وقيل : قبله بأربعين سنة (٣) ، فأخذ أهل مكة أموالهم فقال تعالى (٤) تعجيبا للناس من حديثهم ، أي ألم تخبر بخبر التواتر الذي قام مقام الرؤية أو ألم تعلم بالقرآن يا محمد عاقب ربك أصحاب الفيل بالحجارة حين أراد هدم بيته الكعبة (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) أي مكرهم في هدمها (فِي تَضْلِيلٍ) [٢] أي في (٥) هلاك وخسارة.

__________________

(١) رأيت ، ح ي : أرأيت ، و.

(٢) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٣ / ٥١٣ ـ ٥١٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٢٣ ـ ٦٢٨.

(٣) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٥ / ٦٢٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٥٤.

(٤) فقال تعالى ، ح ي : ـ و.

(٥) في ، ح : ـ وي ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٥١٤.

٣٣٣

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣))

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً) لها خراطيم كخراطيم الطيور وأكف كأكف الكلاب ورؤوس كرؤوس السباع ، لم تر تلك الطير قبل ذلك الوقت ولا بعده ، قوله (أَبابِيلَ) [٣] نعت ل (طَيْراً) ، جمع أبالة وإبول وهو حزمة الحطب الكبيرة (١) ، أي كأبابيل ، يعني كحزمة متفرقة أراد جماعات كثيرة لا عدد لها.

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤))

(تَرْمِيهِمْ) أي الطير (بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) [٤] أي من طين مطبوخ بالنار تحملها في مناقيرها وأظافيرها ، وقيل : المراد من ال (سِجِّيلٍ) الديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون (٢).

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

(فَجَعَلَهُمْ) الله تعالى (كَعَصْفٍ) أي كورق زرع (مَأْكُولٍ) [٥] أي أصابه الأكال وهو السوس ، قيل : ما وقعت حجارة على جنب أحد منهم إلا خرجت من الجنب الآخر (٣) ، فليعتبر أولوا الألباب بذلك أن الله تعالى سلط على الجبابرة أضعف خلقه كما سلط على نمرود بعوضة فأكلت دماغه أربعين يوما فمات من ذلك.

__________________

(١) الكبيرة ، وي : الكثيرة ، ح ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٥٥.

(٢) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٥.

(٣) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٣ / ٥١٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦٢٩.

٣٣٤

سورة قريش

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١))

قوله (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [١] بالياء الساكنة بعد الهمزة وبتركها (١) موصول بما قبله ، أي أهلك ربك أصحاب الفيل ليألف ويقيم قريش بالحرم في مجاورة البيت ، فاللام متعلقة بقوله (فَجَعَلَهُمْ) ، فقيل : على هذا كلاهما سورة واحدة (٢) ، روي : أن عمر رضي الله عنه قرأهما في الركعة الثانية من صلوة المغرب وفي الأولي والتين (٣) ، وقيل : متعلق بقوله (فَلْيَعْبُدُوا)(٤) ، والفاء زائدة ولذا لم تمنع من هذا ، قيل : قريش ولد النضر بن كنانة سموا بتصغير القرش ، وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار (٥) ، وقيل : من القرش وهو الكسب ، لأنهم كانوا كسابين في تجارتهم (٦) ، وسئل ابن عباس رضي الله عنه بم سميت قريش؟ قال : «بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى لشدتهم ومنعتهم». (٧)

(إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢))

قوله (إِيلافِهِمْ) بالياء (٨) بدل من (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، أي جعل ذلك ليألف قريش (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) [٢] أي رحلتيهما ، أفرد بالعلم به ، فان قريشا كانت ترحل كل عام للتجارة رحلتين ، برحلة شتاء إلي اليمن ورحلة صيفا إلى الشام ، يستعينون بهما على الإقامة بمكة ، إذ لا يقدم أحد على أذاهم بسبب ذلك التألف (٩) إذا سافروا ، وأصل الرحلة السير على الراحلة ، ثم استعمل لكل سير.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

قوله (فَلْيَعْبُدُوا) أمر لهم ليعبدوا (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) [٣] لأنه كفاهم مؤنة الشتاء والصيف لأجل إيلافهم الرحلتين ، قوله (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) صفة لرب البيت أي الرب الذي أشبعهم من الجوع الذي أصابهم من القحط (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [٤] أي من خوف العدو والغارة وهم جيش الفيل ، وذلك ببركة بيت الله فصاروا آمنين من عدوهم ببلدهم وفي سفرهم فلا يتعرض لهم وغيرهم من الناس يتخطفون ويغار عليهم.

__________________

(١) «لإيلاف» : قرأ الشامي بهمزة مكسورة بعد اللام مع حذف الياء الساكنة بعد الهمزة ، وأبو جعفر بحذف الهمزة المكسورة مع إثبات الياء ، والباقون باثبات الهمزة والياء. البدور الزاهرة ، ٣٤٨.

(٢) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٦.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٦.

(٤) هذا القول للزجاج ، انظر البغوي ، ٦ / ٦٣٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٥٦.

(٥) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦٣٠.

(٦) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦٣٠.

(٧) انظر البغوي ، ٥ / ٦٣٠ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٥٦.

(٨) «إيلافهم» : قرأ أبو جعفر بحذف الياء بعد الهمزة ، وغيره باثباتها. البدور الزاهرة ، ٣٤٨.

(٩) التألف ، وي : التأليف ، ح.

٣٣٥

سورة الماعون

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢))

قوله (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) [١] نزل في عامر بن وائل (١) ، أي هل عرفت يا محمد الذي يكذب بالجزاء يوم القيامة؟ من هو؟ إن لم تعرفه (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ) أي يدفع (الْيَتِيمَ) [٢] دفعا بعنف عن حقه من الإرث أو لا يحسن إليه ، لأنه لا يرجو ثوابا.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥))

(وَلا يَحُضُّ) نفسه ولا غيره (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [٣] أي على إطعامه ، جعل الله علم التكذيب بالدين منع المعروف وإيذاء الضيف ، يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لخاف الله وعقابه ولم يقدم على المعصية ، فحين أقدم عليها علم أنه مكذب بيوم البعث والجزاء ، وهذا تحذير عظيم من الإقدام على المعصية التي تستدل بها (٢) على ضعف الإيمان ، ثم وصل به قوله (فَوَيْلٌ) أي إذا كان الأمر كذلك فويل (لِلْمُصَلِّينَ) [٤] أي للذين يكذب بالدين من باب وضع المظهر موضع المضمر الراجع إلى الواحد الذي أريد منه الجنس ، أي شدة العذاب جزاؤه ، لأنه من المصلين (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [٥] أي غافلون ، يعني يتركون الصلوة إذا غابوا عن الناس ويصلونها إذا حضروا أو هم الذين يؤخرون صلوتهم عن وقتها وهم المنافقون ، قال أنس بن مالك رحمه‌الله : «الحمد لله الذي لم يقل في صلوتهم ساهون» (٣) ، فالمراد من السهو سهو ترك لا نسيان ، ولذا قال ب (عَنْ) دون في ، لأنه لا يكاد يخلو منه مسلم ، ومن ثم أثبت العلماء باب سجود السهو في كتبهم.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦))

قوله (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) [٦] صفة بعد صفة ، أي إذا رأوا الناس صلوا وهم يثنون عليه وإذا لم يروا لم يصلوا ، وكذلك في سائر الطاعات ، وهو معنى المراءة ، قيل : إن كان العمل الصالح فريضة فحقه الإعلان به فلا يكون عامله مرائيا ، وإن كان تطوعا فحقه الإخفاء حذرا عن الرياء إلا أن يكون العامل منتهيا بالارتياض مخلصا فلو أظهره قاصدا للاقتداء كان جميلا ، ولو أظهره لأن يثنى عليه بالصلاح كان مرائيا (٤).

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) [٧] أي الزكوة عن أهلها ، وقيل «الماععون» : «كل ما يتعاطاه الناس فيما بينهم كالفأس والقدر والقصعة والإبرة والماء والدلو والكلأ ونحوها» (٥) ، قيل : يحرم منعها إذا استعيرت ضرورة ويقبح منعها إذا استعيرت لغير ضرورة (٦).

__________________

(١) عن مقاتل والكلبي ، انظر الواحدي ، ٣٧٦ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٣٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٥١٨ (عن جعده بن هبيرة).

(٢) بها ، ح : ـ وي.

(٣) انظر الكشاف ، ٦ / ٢٥٨.

(٤) أخذ المفسر هذه الآراء عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٨.

(٥) عن عبد الله بن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥١٨ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٣٣ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٥٨.

(٦) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٨.

٣٣٦

سورة الكوثر

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

قوله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [١] فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة ، نزل حين نام النبي عليه‌السلام نومة خفيفة ، ثم رفع رأسه متبسما ، فقال أصحابه : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأها (١) ، فسئل عن الكوثر ، فقال : «الكوثر نهر في الجنة وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته كعدد نجوم السماء حافتاه الذهب ومجراه على الدر والياقوت ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل تربته أطيب من المسك» (٢) ، روي : أول وارد به فقراء المهاجرين (٣) ، المعنى : أعطيت ما لم يعطه أحد غيرك من خير الدارين.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ)(٤) الصلوات الخمس أو صلوة العيد يوم النحر (وَانْحَرْ) [٢] أي اذبح البدن بمعنى أو استقبل القبلة بنحرك وبوضع اليمين على الشمال.

(إِنَّ شانِئَكَ) أي مبغضك من قومك لمخالفتك لهم وهو العاص بن وائل (هُوَ الْأَبْتَرُ) [٣] أي المنقطع عن كل خير في الدنيا والآخرة وإن ذكر ذكر باللعن ، لأنه يقول إن محمدا هو الأبتر الذي لا عقب له ، أي ليس معه ولد ولا أخ يقوم مقامه ، فاذا مات مات ذكره فاغتم لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الله هو الأبتر بالتخصيص لا أنت ، لأن من يولد من المؤمنين أعقابك وذكرك مقرون بذكر الله ومرفوع على المنابر والمنائر ، وعلى لسان كل عالم ذاكر إلى آخر الدهر.

__________________

(١) عن أنس ، انظر البغوي ، ٥ / ٦٣٤.

(٢) أخرج ابن ماجة نحوه ، الزهد ، ٣٩ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٢ / ٦٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٥١٩ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٣٥ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٥٨.

(٣) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٨.

(٤) أي ، + ح.

٣٣٧

سورة الكافرون

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢))

قبل : نزلت حين قال كفار مكة للنبي عليه‌السلام : اعبد آلهتنا سنة ونعبد ربك سنة أو تبرأ من آلهتنا سنة ونتبرأ من إلهك ، فقال : معاذ الله أن أشرك بالله غيره (١) ، فقالوا : استلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك (٢) ، فأمره تعالى (قُلْ) يا محمد لهم (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [١] والمراد منهم الذين علم الله أنهم لا يؤمنون ، أي الجاحدون بالحق وهو قول «لا إله إلا الله» (لا أَعْبُدُ) فيما يستقبل (ما تَعْبُدُونَ) [٢] أي الذي تعبدنه الآن من الأصنام ، قيل : حق (لا) أن لا تدخل إلا على المستقبل ، لأن «لن» تأكيد (لا) في الاستقبال ، وحق (ما) أن لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال ، لأنها تشبه بليس في نفي الحال ، ولذلك قال لا أعبد ما تعبدون وكذا الباقي. (٣)

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤))

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) فيما يستقبل (ما أَعْبُدُ) [٣] الآن (وَلا أَنا عابِدٌ) أي ما كنت عابدا قط فيما مضى من الزمان في الجاهلية ، فكيف أعبد في الإسلام (ما عَبَدْتُّمْ) [٤] فيما مضى منه لأني علمت مضرته ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعبد صنما لا في الجاهلية ولا في الإسلام.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥))

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) فيما مضى من الزمان أيضا (ما أَعْبُدُ) [٥] الآن لجهلكم وقلة عقلكم ولم يقل ما عبدت كما قيل ما عبدتم ، لأنه لم يكن يعبد الله في ذلك الزمان ولم يقل من مكان (ما) ، لأن المراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق ، ف (ما) الأربعة موصولة منصوبة بالفعل قبلها والهاء محذوفة ، ويجوز أن يكون (ما) مصدرية ، أي لا أعبد مثل عبادتكم ولا تبعدون مثل عبادتي في وقت ما.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [٦] بسكون الياء وفتحها (٤) ، أي إني بلغتكم (٥) رسالة ربي وأقمت عليكم الحجة وليس علي الإجبار على أن تؤمنوا بالله ربي وربكم ، وإني لا أرجع إلى دينكم أبدا فلكم دينكم ، أي اثبتوا على شرككم حتى نرى ما يأمر ربي لأجلكم ولي ديني ، أي أنا أثبت على ديني الذي أكرمني الله به وهداني إليه لا أتجاوز عنه وهو الإسلام ، لأنه صراط مستقيم ، وهذا منسوخ بآية القتال (٦) ، قيل : إن الرجل إذا أنكر منكرا فلم يقبل منه يجب عليه حفظ مذهبه ويترك صاحب المنكر على مذهبه استدلالا بهذه الآية (٧).

__________________

(١) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٢٠ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٧٨ ؛ والبغوي ، ٥ / ٦٣٦ ـ ٦٣٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٥٩.

(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٢٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦٣٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٥٩.

(٣) هذه الآراء مأخوذة عن الكشاف ، ٦ / ٢٥٩.

(٤) «ولي دين» : فتح ياء «ولي» نافع وهشام وحفص والبزي بخلف عنه ، وأسكنها الباقون وهو الوجه الثاني للبزي ، وأثبت ياء «دين» وصلا ووقفا يعقوب ، وحذفها غيره في الحالين. البدور الزاهرة ، ٣٤٨.

(٥) بلغتكم ، ح : أبلغكم ، و ، بلغك ، ي.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٥٢١ ؛ وانظر أيضا هبة الله بن سلامة ، ١٠٤.

(٧) هذا القول منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٥٢١.

٣٣٨

سورة الفتح (النصر)

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١))

قوله (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) في محل النصب ب «سبح» ، نزل في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع حين استنصر عمرو بن سالم الخزاعي من النبي عليه‌السلام على قريش بعد ما نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي عليه‌السلام في وضع الحرب عشر سنين عام الحديبية ، واجتمعوا وجاؤا على عمرو بن سالم للقتال وكان في عهد النبي عليه‌السلام وحلفه ، فقال عليه‌السلام له : «نصرت يا عمرو» ، ثم أمر بالجهاز إلى مكة ، فتجهز لعشر مضين من رمضان بعشرة آلاف من المسلمين ، فدخلها وأقام بها خمس عشرة ليلة يقصر الصلوة ، ثم خرج إلى هوازن ، وحين دخلها وقف على باب الكعبة وقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ، ثم قال : يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ، ثم قال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذلك سموا طلقاء (١) ، وذلك قوله (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) ، أي إظهاره وإغاثته لنبيه عليه‌السلام على أعدائه العرب أو على قريش من نصر الله الأرض إذا أغاثها (وَالْفَتْحُ) [١] أي فتح مكة أو فتح بلاد الكفر.

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢))

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ) برؤية العين (يَدْخُلُونَ) حال ، أي داخلين (فِي دِينِ اللهِ) وهو الإسلام أو هو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت ، قوله (أَفْواجاً) [٢] حال من فاعل (يَدْخُلُونَ) ، أي متفوجين من أقطار الأرض طائعين ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة جاء العرب من كل ناحية جماعات في تفرقة ، دخلوا في الإسلام لتيقنهم حقيته بالفتح ، وكان قبل ذلك يدخل الناس فيه واحدا واحدا.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

قوله (فَسَبِّحْ) أمر الله نبيه عليه‌السلام بالتسبيح ، أي قل سبحان الله (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي ملابسا بحمده (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اطلب المغفرة منه لذنوبك ، يعني قل اللهم اغفرلي وتب إليه (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [٣] أي متجاوزا عن الذنوب.

قال ابن عباس رضي الله عنه : «لما نزلت هذه السورة علم النبي عليه‌السلام أنه يموت فأمر بالتسبيح والاستغفار والتوبة ليختم له بالزيادة في العمل الصالح» (٢) ، «وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر بعد نزولها من قول

__________________

(١) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٦ / ٢٦٠.

(٢) ولم أجد لقول عمر مأخذا في المصادر التي راجعتها.

٣٣٩

سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» (١) ، وروي عنه عليه‌السلام أنه قال : «خبرني ربي اني سأرى علامة في أمتي ، فاذا رأيتها أكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها وقرأ إذا جاء نصر الله» (٢) السورة.

وروي : أن النبي عليه‌السلام دعا فاطمة رضي الله عنها فقال : «يا بنتاه أنه نعيت إلى نفسي فبكت ، فقال : لا تبكي فانك أول أهلي لحوقا بي» (٣) ، وقال علي رضي الله عنه : «لما نزلت هذه السورة مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل فتوفي بعد أيام يوم الاثنين» (٤) وهو ابن ستين أو ثلاث وستين سنة ودفن في بيته الذي توفي فيه في موضع فراشه ولم يترك بعده شيئا من البغلة والسلاح والأرض إلا جعلها في سبيل الله صدقة ، فقيل : «سميت هذه السورة سورة التوديع» (٥) ، وهي آخر ما نزل.

__________________

(١) عن عائشة رضي الله عنها ، انظر الكشاف ، ٦ / ٢٦١.

(٢) رواه مسلم ، الصلوة ، ٢٢٠.

(٣) رواه الدارمي ، المقدمة ، ١٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٦١.

(٤) انظر السمرقندي ، ٣ / ٥٢٢.

(٥) عن ابن مسعود ، انظر الكشاف ، ٦ / ٢٦١.

٣٤٠