عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

(كاشِفاتُ) أي مزيلات عني (ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي) الله (بِرَحْمَةٍ) أي بنعمة وباحسان (هَلْ هُنَّ) أي الأصنام (مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) عني بالإضافة وتركها فيها وفي (كاشِفاتُ ضُرِّهِ)(١) ، أي مانعاتها عني ، يعني لا تقدر أصنامكم على شيء ما من الكشف والإمساك ، وفيه توبيخ لهم وتعجيز ، لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي يكفيني من شركم وشر آلهتكم (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [٣٨] أي عليه يثق الواثقون فأنا متوكل أتوكل عليه.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩))

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على قدر طاقتكم وقوتكم (إِنِّي عامِلٌ) في هلاككم ولم يقل إني عامل على مكانتي للاختصاص ، ولأن في ذلك زيادة الوعيد وقوته لأن الله ناصره ومظهره على الدين كله ، وقوله (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [٣٩] من هلك ونجا ، رد لقولهم له إن لم تسكت عن آلهتنا نعمل في إهلاكك.

(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ) أي عذاب الله (يُخْزِيهِ) أي يهلكه (وَيَحِلُّ) أي ويجب (عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) [٤٠] أي دائم لا ينقطع.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١))

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) أي القرآن بالصدق لتدعو الناس إلى التوحيد والعمل بما فيه (فَمَنِ اهْتَدى) أي وحد وعمل بما فيه فانما يهتدي (فَلِنَفْسِهِ) أي ثواب هداه (٢) راجع لها (وَمَنْ ضَلَّ) أي أعرض ولم يوحد ولم يعمل به (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي جزاء ضلالته على نفسه (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [٤١] أي بحفيظ تحفظهم عن الضلالة.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢))

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) أي يقبضها (حِينَ مَوْتِها) أي وقت موتها لانقضاء أجلها (وَ) يقبض النفس (الَّتِي لَمْ تَمُتْ) أي لم يحكم بموتها لعدم انقضاء أجلها (فِي مَنامِها) أي يقبضها وقت نومها بأن تخرج عن جسدها وهي نفس التمييز ويبقى فيه نفس الحيوة ، إذ النائم يتحرك ويتنفس بها (٣)(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) بعد القبض فلا يردها إلى جسدها (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي يرد النفس التي لم يحكم عليها بالموت إلى جسده (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت موتها فللإنسان نفسان ، نفس الحيوة وهي الروح يفارق (٤) بالموت ، ونفس التمييز يفارق (٥) بالنوم ، ويبقى نفس الحيوة والنسبة بينهما كالنسبة بين الشمس وشعاعها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إمساك من شاء وإرسال من شاء من الأنفس (لَآياتٍ) أي لعلامات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [٤٢] فيستدلون ويعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث والجزاء.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤))

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي أاتخذوا من غير إذن الله (شُفَعاءَ) حيث قالوا هؤلاء شفاعاؤنا عند الله فلذلك

__________________

(١) «كاشفات ضره» ، ممسكات رحمته» : قرأ البصريان بتنوين «كاشفات» ونصب راء «ضره» وتنوين «ممسكات» ونصب تاء «رحمته» ، والباقون بترك التنوين فيهما وجر الراء والتاء. البدور الزاهرة ، ٢٧٦.

(٢) هداه ، ح و : عمله ، ي ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٥٣.

(٣) يتنفس بها ، ح : ينفس بها ، ي ، تنفس بها ، و.

(٤) يفارق ، ح و : تفارق ، ي.

(٥) يفارق ، ح و : تفارق ، ي.

٤١

نعبدهم ، والهمزة للإنكار على قريش لاعتقادهم بشفاعة الأصنام ، والميم زائدة (قُلْ) يا محمد (أَ) يشفعون (وَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) [٤٣] شيئا ، إذ لا ملك لهم ولا عقل لأنهم جماد ، وأكد ذلك بقوله (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي لا يشفع أحد من الملائكة والأنبياء والعلماء والمؤمنين إلا باذنه تعالى ، وشفعاء المشركين ممنوعون عن الإذن في الشفاعة ، لأن الله (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اليوم وما بينهما فيحصى أعمالهم في الدنيا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [٤٤] في الآخرة فيجازيكم ويحاسبكم فيها فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له فكيف يطلب الشفاعة ممن لا يملك شيئا مع عجزه في الدنيا والآخرة.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) أي إذا قيل لهم قولوا «لا إله إلا الله» ، يعني قولوا بتوحيد الله (اشْمَأَزَّتْ) أي انقبضت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي قلوب المشركين عن التوحيد (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله تعالى وهم آلهتهم معه (إِذا هُمْ) أي المشركون (يَسْتَبْشِرُونَ) [٤٥] بذلك الشرك ، والعامل في (إِذا) معنى المفاجاة ، أي وقت أن يذكر الذين من دونه فأجاؤا وقت الاستبشار بشركهم ، وذلك حين قرأ عليه‌السلام سورة النجم وذكر آلهتهم.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦))

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يا خالقهما (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم السر والعلانية (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [٤٦](١) من أمر الدين.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧))

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي كفروا بالله (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي جميع ما فيها من الأموال وغيرها (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) أي من شدته (٢)(يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهو جواب (لَوْ) لفظا وفي المعنى لا يقبل منهم فداؤه (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ) أي ظهر لهم وقت البعث (ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [٤٧] في الدنيا ، إنه نازل بهم من العذاب بدل ما يحتسبون من الثواب لأن أعمالهم مع كثرتها لا ينفعهم مع شركهم.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي جزاؤها عند عرض كتبهم (وَحاقَ) أي نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٤٨] من البعث والجزاء أو (٣) بالرسول والقرآن والمسلمين ، يعني ينزل بهم عقوبة استهزائهم يوم القيامة.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩))

قوله (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) عطف على (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) قبل ، وسبب عطف هذه الآية بالفاء وتلك بالواو وهو وقوع هذه الآية مسببة عن قوله «وإذا ذكر الله وحده اشمأزت» على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم ، فاذا مس الإنسان ، أي إذا أصاب الكافر المشمئز عن ذكر الله شدة ، قيل : هو أبو جهل أو كل كافر (٤)(دَعانا) أي أخلص في الدعاء لنا دون غيرنا ممن استبشر بذكره (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ) أي أعطيناه (٥)

__________________

(١) أي ، + ح.

(٢) شدته ، وي : شدة ، ح.

(٣) أو ، وي : و ، ح.

(٤) نقل المفسر هذا الرأي عن السمرقندي ، ٣ / ١٥٤.

(٥) أعطيناه ، ح و : أعطينا ، ي.

٤٢

(نِعْمَةً مِنَّا) كعافية أو وسعة في الرزق (قالَ)(١) الكافر (إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي الأنعام (عَلى عِلْمٍ) منه تعالى عندي ، إني مستحق لذلك أو على علم مني بالدعاء أو بوجوه المكاسب ولم يشكر الله تعالى (بَلْ هِيَ) أي تلك النعمة أو مقالته ، فذكر الضمير ثم أنثه حملا على المعنى أولا وعلى اللفظ آخرا ، ولأن الخبر لما كان مؤنثا جاز تأنيث المبتدأ وذلك الخبر (فِتْنَةٌ) أي بلية يبتلى بها العبد ليشكر أو يكفر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [٤٩] كونها فتنة.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠))

(قَدْ قالَهَا) أي قال تلك المقالة وهي «انما أوتيته على علم عندي» (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم كقارون وفرعون ونمرود (فَما أَغْنى) أي لم ينفع (عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [٥٠] من الأموال والمعاصي.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ) أي جزاء سيئات (ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من (٢) كفار قريش (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي جزاؤها مثل ما أصاب الأمم المتقدمة (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [٥١] أي (٣) فائتين من عذاب الله تعالى فقتل رؤساؤهم ببدر وقحطوا سبع سنين ، وبعد ذلك وسع الله عليهم الرزق ليعلموا (٤) أن الموسع والمضيق هو الله تعالى فأخبر تعالى (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يقتر على من يشاء ، يعني علموا ذلك فلم يؤمنوا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في البسط والقتر (لَآياتٍ) أي لعلامات لوحدانيتي (٥)(لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٥٢] أي يصدقون بتوحيدي.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))

قوله (قُلْ يا عِبادِيَ) بفتح الياء وسكونها (٦)(الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية نزل فيمن أسرف على نفسه بالكفر وكثرة المعاصي من القتل وغيره (٧) ، قيل : هو في شأن الوحشي قتل حمزة في كفره ثم ندم (٨) ، وقيل : في شأن جماعة المشركين الذين أصابوا ذنوبا عظاما وكانوا يخافون أن لا يغفر لهم لو آمنوا (٩) ، فدعاهم الله بهذه الآية إلى الإيمان ، أي يا عبادي المسرفين (عَلى أَنْفُسِهِمْ) بكثرة المعاصي (لا تَقْنَطُوا) أي لا تيأسوا (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أي من مغفرته وقبول التوبة إذا تبتم (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أي الكبائر وغيرها (١٠)(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب عن الذنب (الرَّحِيمُ) [٥٣] لمن أطاع بالثواب ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : «أرجى آية في كتاب الله هذه الآية» (١١).

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤))

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) أي ارجعوا إليه عن الذنب تائبين (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي أخلصوا العمل لوجهه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [٥٤] أي لا تمنعون عن العذاب إن لم تتوبوا قبل نزوله ، قيل : هذه نصيحة لإتمام التوبة وتحصيل المغفرة به (١٢).

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥))

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من القرآن (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً) أي يفجأكم وقته

__________________

(١) أي ، + و.

(٢) من ، ح : ـ وي.

(٣) أي ، ح و : ـ ي.

(٤) ليعلموا ، وي : لتعلموا ، ح.

(٥) لوحدانيتي ، وي : بوحدانيتي ، ح.

(٦) «عبادي» : أسكن الياء البصريان والأخوان وخلف ، وفتحها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٧٧.

(٧) أخذ المصنف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٣ / ١٥٤.

(٨) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٥٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٠٨ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٦٧.

(٩) عن قتادة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٥٥.

(١٠) وغيرها ، ح و : ـ ي.

(١١) انظر السمرقندي ، ٣ / ١٥٥.

(١٢) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

٤٣

(وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [٥٥] اتيانه لشدة غفلتكم عنه لاشتغالكم بأمور دنياكم وعدم إيمانكم بالآخرة.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦))

قوله (أَنْ تَقُولَ) يجوز أن يكون بدلا من (أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) ، ويجوز أن يكون مفعولا له لفعل مقدر ، أي أنذرناكم كراهة أن تقول (نَفْسٌ) بالتنكير لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر (يا حَسْرَتى) أي يا حسرتي قلبت ياء المتكلم ألفا لمد الصوت ، يعني يا ندامتي (عَلى ما فَرَّطْتُ) أي قصرت (فِي جَنْبِ)(١) طاعة (اللهِ وَإِنْ كُنْتُ) أي وإني كنت (لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [٥٦] بالأنبياء أو بالعلماء ، يعني فرطت في حال سخريتي بهم.

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧))

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) بالوحي أو بالمغفرة أو بالطاعة لأفرق بين الحق والباطل (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [٥٧] أي من الموحدين العاملين بالتقوى.

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ) عيانا في القيامة (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أي رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [٥٨] أي من (٢) الموحدين المخلصين ويحمله تحيره وندامته على هذا القول حين لا ينفعه ، قوله (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) رد عليه يوم القيامة ، قوله (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) بمعنى ما هداني ولذلك جاء ب (بَلى) في الرد ، لأنه لا يستعمل جوابا إلا للمنفي (٣) قبله ، أي بلى قد جاءتك آيات القرآن التي هي سبب الهداية لا يقال إن (بَلى) جواب لقول (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) فلم لم يقرن (٤) بما هو جواب له لأنا نقول الصواب أن يحكي أقوال النفس على نظمها وترتيبها ، ثم يجاب من بيتها عما اقتضى الجواب ، أي بلى هديته (فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) [٥٩] بها.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠))

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) بنسبة الولد والشريك إليه ، قوله (٥)(وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) جملة اسمية في موضع الحال ، لأن الرؤية في (تَرَى) بالعين لا بالقلب وكان سواد الوجه حقيقة فيهم ، ولو كانت بالقلب لكان سواد الوجه كناية عن الفضاحة والخجالة فيهم ، فيكون الجملة مفعولا ثانيا ل «تَرَى» (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي مقام (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [٦٠] عن الإيمان.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) من الشرك (بِمَفازَتِهِمْ) أي بمكان الجنة من جهنم أو بفوزهم وفلاحهم أو بأعمالهم الحسنة (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي العذاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [٦١] في الآخرة ، الجملة حال أو تفسير لل «مفازة» فلا محل له من الإعراب.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢))

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي خالق الأشياء كلها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [٦٢] أي حفيظ يحفظ أحوال الأشياء كلها فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيحهما جمع مقليد وهو المفتاح ، ومفاتيح السموات المطر بأنواعه ومفاتيح الأرض النبات بأنواعه ، وقيل : مفاتيحهما الكلمات التي يوحد بها ويمجد ويفتح بها خير السموات

__________________

(١) في ، + ح.

(٢) من ، ح : ـ وي.

(٣) للمنفي ، وي : للنفي ، ح.

(٤) يقرن ، ح ي : تقرن ، و.

(٥) قوله ، وي : ـ ح.

٤٤

والأرض من تكلم بها من المتقين أصاب خيرهما (١) ، وهو منازل الرحمة والمغفرة وهي لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله ، وبحمده واستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير ، يحيي ويميت (٢) ، وهو على كل شيء قدير ، قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) متصل بقوله (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) ، والمراد بآيات الله كلمات توحيده ورسوله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [٦٣] أي المغبونون من خير السموات والأرض.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤))

قوله (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) نزل حين قال له المشركون استلم بعض آلهتنا ونؤمن بالهك (٣) ، فأمره الله أن يقوله إنكارا لقولهم ، وتنصب (أَفَغَيْرَ اللهِ) ب (تَأْمُرُونِّي) بنونين وبواحدة (٤) وتبدل منه (أَعْبُدُ) بدل اشتمال ، وقيل : «أفغير» منصوب بفعل محذوف يفسره (أَعْبُدُ) أو بنفسه و (تَأْمُرُونِّي) حال معترضة (٥) ، المعنى : أتضلوني فتأمروني بعبادة غير الله (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [٦٤] أي الجاحدون بالتوحيد.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥))

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) يا محمد (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء ، أي إلى كل واحد منهم ، والموحى قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) بالله فرضا كفرض المحال (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [٦٥] في الآخرة بسبب حبوط عملك وإن كنت كريما علي أو تكون من جملة الخاسرين إن مت على الردة ، ويجوز أن يكون الخطاب للنبي عليه‌السلام ويريد به تنبيها على أمته ، لأن الله يعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشرك بالله شيئا ، واللام في (لَئِنْ) موطئة للقسم المحذوف وفي (لَيَحْبَطَنَّ) لام الجواب ، والحواب ساد مسد الجوابين ، جواب القسم والشرط.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

ثم رد ما أمروه به من استلام بعض آلهتهم بقوله (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) أي لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته بل الله أعبد ولا تعبد غيره ، والفاء زائدة ، وقيل : هي في جواب شرط محذوف أقيم المفعول مقامه (٦) ، تقديره : لا تعبد غير الله بل إن عبدت فاعبد الله (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [٦٦] له تعالى لتفضيل عليك.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

ثم أشار إلى غاية غباوتهم وجهالتهم في شأن خالقهم العظيم بقوله (وَما قَدَرُوا اللهَ) أي ما عرفوه (حَقَّ قَدْرِهِ) أي حق معرفته (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً) الواو للحال ، أي الأرضون السبع (قَبْضَتُهُ) بالفتح ، أي مقبوضته (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني في ملكه وتصرفه يتصرف فيها كيف يشاء بلا مزاحم مع سهولة ، أي هن بعظمتهن بالنسبة إلى قدرته ليست إلا قبضة واحدة وكذا الواو في (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) أي مجموعات (بِيَمِينِهِ) أي بقدرته أو مفنيات بقسمه ، لأنه تعالى أقسم بعزته وجلاله أنه يفنيها ، وفيه تنبيه للناس على عظمته ليعرفوه حق معرفته ويعظموه حق عظمته ولا يصفوه كما وصفه اليهود والمشركون بنسبة الولد إليه والشريك (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [٦٧] أي نزه نفسه (٧) تنزيها وتعظم عما يصفون له مما لا يليق بذاته وصفاته ، قيل : فيه معنى التعجب (٨) ، أي ما أبعد من هذه قدرته وعظمته وما أعلاه عن إضافة الشريك إليه.

__________________

(١) لعله اختصره من الكشاف ، ٥ / ١٦٩.

(٢) يحيي ويميت ، ح : ـ وي.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٥ / ١٦٩.

(٤) «تأمروني» : قرأ المدنيان بنون واحدة مكسورة مخففة وفتح الياء بعدها ، وابن كثير بنون واحدة مكسورة مشددة مع المد المشبع للساكنين ومع فتح الياء كذلك ، والبصريان والكوفيون كابن كثير إلا أنهم يسكنون الياء وابن عامر بنونين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة مخففتين مع إسكان الياء. البدور الزاهرة ، ٢٧٧.

(٥) هذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٥ / ١٦٩.

(٦) أخذ المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ١٧٠.

(٧) نفسه ، و : ح ي.

(٨) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ١٧١.

٤٥

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨))

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هو قرن ، عظم دارته مثل ما بين السموات والأرض فينفخ (١) في النفخة الأولى (فَصَعِقَ) أي (٢) مات (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي أهلهما (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من الحور والولدان وغيرهما مما في الجنة أو جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت أو أرواح الشهداء حول العرش متقلدين سيوفهم (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) وهي النفخة الثانية ، يجوز في (أُخْرى) الرفع على تقدير نفخ نفخة أخرى لكونها قائمة مقام الفاعل ، والنصب على قراءة من قرأ نفخة واحدة مفعول مطلق والقائم مقام الفاعل هو فيه ، أي في ذلك القرن (٣)(فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [٦٨] أي فاذا جميع الخلائق يقومون من قبورهم وينظرون أهوال يوم القيامة ، يعني ينظرون إلى السماء كيف غيرت وإلى الأرض كيف بدلت إلى الداعي كيف يدعوهم وإلى الأقرباء كيف ذهبت شفقتهم عنهم واشتغلوا بأنفسهم وإلى الخصماء ما ذا يفعلون بهم.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩))

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) أي أضاءت (بِنُورِ رَبِّها) أي بتنويره لأنه لا ظلام يومئذ أو بنور الجنة وثوابها (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي كتاب أعمالهم للحساب في أيمانهم وشمائلهم (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) يشهدون للرسل بالتبليغ وهم أمة محمد عليه‌السلام أو الحفظة أو الذين قتلوا في سبيل الله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي بالعدل بين الظالم والمظلوم وبين الرسل وأممهم (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [٦٩] أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم ولا يزادون في عذابهم.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

(وَوُفِّيَتْ) أي وفرت (كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) من خير وشر ، أي جزاء ما عملت (وَهُوَ) أي الله تعالى (٤)(أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) [٧٠] من الأعمال لا يحتاج إلى شهادة الشهداء عليها لكن الإشهاد لتأكيد الحجة على ما عملوا.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١))

(وَسِيقَ) أي يساق (الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) جمع زمرة بمعنى أمة ، أي فوجا فوجا سوقا سريعا إهانة لهم (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ) بالتخفيف والتشديد (٥)(أَبْوابُها) السبعة عند مجيئهم ولم يفتح قبله لبقاء حرها (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) أي الزبانية توبيخا لهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم تفهمون كلامهم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) باضافة ال «يوم» إليهم ، أي لقاء وقتكم الشديد عليكم وهو وقت دخولهم النار إن لم يؤمنوا بها لا يوم القيامة ، وقد جاء استعمال اليوم والأيام في أوقات الشدة (قالُوا) أي قال (٦) الكفار جوابا لهم (بَلى) أي بلى قد جاؤنا فيقرون بذلك حين لا ينفعهم الإقرار (وَلكِنْ حَقَّتْ) أي وجبت (كَلِمَةُ الْعَذابِ) في علم الله وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(٧)(عَلَى الْكافِرِينَ) [٧١] فوجبت لنا النار.

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

(قِيلَ) أي قال لهم الخزنة (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [٧٢] أي بئس منزل من

__________________

(١) فينفخ ، و : فتنفخ ، ح ي.

(٢) أي ، ح و : ـ ي.

(٣) أي في ذلك القرن ، و : ـ ح ي.

(٤) أي الله تعالى ، و : ـ ح ي.

(٥) «فتحت» : خفف التاء الكوفيون وشددها غيرهم.

(٦) قال ، و : ـ ح ي.

(٧) هود (١١) ، ١١٩ ؛ السجدة (٣٢) ، ١٣.

٤٦

تكبر عن الإيمان جهنم.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣))

ثم بين حال المؤمنين المطيعين بقوله (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) عن الشرك والمعاصي (رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) حال ، أي جماعة جماعة (١) في تفرقة بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب اليسير وبعضهم بعد الحساب الشديد بحسب مراتبهم (حَتَّى إِذا جاؤُها) جواب (إِذا) محذوف ، أي اطمأنوا عند مجيئهم الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) الواو للحال ، أي وقد فتحت أبوابها بدلالة قوله تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ)(٢) ، وقيل : هو جواب (إِذا) والواو للإيذان بأنها كانت مفتحة قبل مجيئهم تكرمة لهم (٣) ، وقيل : يساق الكفار سريعا إلى النار طردا وإهانة لهم ويساق المؤمنون إلى الجنة سريعا ليصلوا إلى المعد لهم فيها تكرمة لهم بدار الكرامة والرضوان (٤)(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) أي (٥) يسلم عليهم الخزنة وتقول (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) أي طهرتم من دنس (٦) الذنوب أو طابت لكم الجنة (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [٧٣] حال مقدرة فاذا دخلوها ورأوا ما أعد لهم فيها أعجبوا سريعا.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤))

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي أنجز لنا على لسان رسله وعده (وَأَوْرَثَنَا) أي أعطانا وأنزلنا (الْأَرْضَ) أي أرض الجنة (نَتَبَوَّأُ) أي ننزل (مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي حيث نشتهي قوله (نَتَبَوَّأُ) حال من ضمير المتكلم في (أَوْرَثَنَا) ، و (حَيْثُ نَشاءُ) إشارة إلى سعة الأرض والزيادة على قدر الحاجة لا أن أحدا ينزل في غير منزله ، وقيل : يدخل هذه الأمة أولا الجنة فتنزل حيث تشاء منها ثم يدخل سائر الأمم (٧)(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [٧٤] الجنة.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) أي محدقين (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي من كل جانب (٨) ، قوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حال من ضمير (حَافِّينَ) ، أي ينزهونه تعالى ويحمدونه تلذذا لا تعبدا ، لأنه لا تكليف فيها (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم الله بين الخلائق يوم القيامة (بِالْحَقِّ) أي بالعدل فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى (الْمَلائِكَةَ) على أن ثوابهم وإن كانوا معصومين جميعا لا يكون على سنن واحد ولكن يفاضل (٩) بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم (١٠) ، وقيل : يقضي الملائكة بين أهل الجنة باعطاء كل منهم منزلته (١١)(وَقِيلَ) أي قال أهل الجنة أو الملائكة لما ميزوا من الكفار أو لما قضي بينهم بالحق (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [٧٥] الذي نجانا من القوم الكافرين أو الذي قضى بيننا بالحق بانزال كل منا منزلته التي هي حقه.

__________________

(١) جماعة ، ح : ـ وي.

(٢) ص (٣٨) ، ٥٠.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) اختصره المفسر من الكشاف ، ٥ / ١٧٢.

(٥) ثم ، + و.

(٦) دنس ، ح : ـ وي.

(٧) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٨) منه ، + و.

(٩) يفاضل ، ح : يعامل ، ي ، ـ و؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٧٢.

(١٠) ويجوز أن يرجع الضمير إلى ... على حسب تفاضلهم في أعمالهم ، ح ي : ـ و.

(١١) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ١٧٣. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الملائكة على أن ثوابهم وإن كانوا معصومين جميعا لا يكون على سنن واحد ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم وقيل يقضي الملائكة بين أهل الجنة باعطاء كل منهم منزلته ، + و.

٤٧

سورة غافر (المؤمن)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢))

(حم) [١] قيل : هو قسم أقسم الله به (١) ، أي بحم ، وهو اسم من أسماء القرآن (٢) ، وقيل : هو اسم الله الأعظم (٣) ومعناه بالحي الحقيوم (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي لتنزل القرآن (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْعَلِيمِ) [٢] بمصالح عباده وبأعمالهم.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

(غافِرِ الذَّنْبِ) لمن تاب وآمن (وَقابِلِ التَّوْبِ) ممن أخلص في توبته (شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن أشرك وكفر (ذِي الطَّوْلِ) أي ذي الفضل والأنعام الواسع للموحدين العاملين ، قيل : إضافة (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) محضة ، لأن المراد دوام الفعل منه تعالى فيكونان معرفتين ، وإضافة (شَدِيدِ الْعِقابِ) لفظية في تقدير الانفصال ، أي شديد عقابه (٤) ، وتوسط الواو بين (غافِرِ) و (قابِلِ) يفيد الجمع للمذنب التائب بين رحمتين المغفرة والقبول بأن يحصل توبته طاعة من طاعاته وكفارة لذنوبه ، قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان لتوحيده ليوحدوه ولا يشركوا به شيئا ، قوله (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [٣] بيان لرجوعهم إليه في الآخرة ليجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم». (٥)

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥))

(ما يُجادِلُ) أي ما يخاصم (٦)(فِي آياتِ اللهِ) أي القرآن ومعجزات الرسول (٧) بالتكذيب والباطل (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بها (فَلا يَغْرُرْكَ) الفاء فيه للسبب (٨) ، يعني أن كفرهم الموجب للشقاوة الأبدية سبب أن لا يخدعك يا محمد (تَقَلُّبُهُمْ) أي ذهابهم ومجيئهم (فِي الْبِلادِ) [٤] أي في أسفارهم بكثرة الأموال وزخارف الدنيا للتجارات مع سلامتهم في تمتعهم بها ، فانهم ليسوا من الدين على شيء وهم يعذبون في الآخرة لتكذيبهم إياك وكتابك كما (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) نوحا (وَالْأَحْزابُ) الذين تحزبوا على رسلهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد قوم نوح وكفروا بهم وبكتبهم (وَهَمَّتْ) أي قصدت (كُلُّ أُمَّةٍ) كافرة (بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) للأسر والقتل والتعذيب

__________________

(١) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ١٦٠.

(٢) أخذ المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٣ / ١٦٠.

(٣) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٢.

(٤) نقله المصنف عن الكشاف مختصرا ، ٥ / ١٧٣.

(٥) انظر السمرقندي ، ٣ / ١٦٠. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٦) أي ما يخاصم ، ح ي : أي لا يخاصم ، و.

(٧) الرسول ، ح ي : الرسل ، و.

(٨) للسبب ، وي : للتسبيب ، ح.

٤٨

(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) أي بالشرك والتكذيب (لِيُدْحِضُوا بِهِ) أي ليبطلوا بالباطل (الْحَقَّ) أي الإسلام (فَأَخَذْتُهُمْ) أي عاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) [٥] أي إنذاري ، يعني وجدوا ما عملوا حقا وأنت قد رأيته وعلمته وهو تهديد لكفار مكة ، لأنهم كانوا يمرون على آثار من قبلهم في تقلبهم لتجاراتهم.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

(وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك العذاب (حَقَّتْ) أي وجبت (كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بك من أهل مكة (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [٦] محله رفع بدل من كلمة (رَبِّكَ) أو نصب بحذف اللام للتعليل وبيان استحقاقهم ذلك العذاب.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧))

قوله (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) مبتدأ ، وخبره (يُسَبِّحُونَ) ، وهم الذين ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة ، وكل أهل سماء (١) أشد خوفا من أهل سماء تحتها ، قوله (وَمَنْ حَوْلَهُ) عطف على (الَّذِينَ) ، أي ومن حول العرش من الملائكة وهم الكروبيون سادة الملائكة المقربين وهم سبعون ألف صف يطوفون حوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي حامدين ربهم (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) تعالى ببصائرهم ، لأنهم محجوبون عن إدراكه بأبصارهم ، ووصفهم بالإيمان لإظهار شرف الإيمان وفضله واللترتيب فيه (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) به يقولون في دعائهم لهم (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) تمييزان ، أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء فتعلم أعمالهم وأحوالهم وتقدر أن ترحمهم وتغفر لهم (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) أي علمت منهم الرجوع إليك بالعمل الصالح فرجعوا عن الشرك والمعاصي (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي دين الإسلام (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [٧] أي ادفعه عنهم ويقولون.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨))

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) على لسان الرسل (وَ) ادخلها (مَنْ صَلَحَ) أي وحد الله (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) معهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) [٨] في أمرك.

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي احفظهم من عذاب معاصيهم في الآخرة وادفعه (٢) عنهم برحمتك الواسعة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) ويجوز أن يراد بالسيئات الكفر والنفاق والرياء ، ويكون (يَوْمَئِذٍ) في التقدير مؤخرا ، أي ومن تق السيئات في الدنيا فقد رحمتك يومئذ يقولون هذا الدعاء وإن كان الله قد وعد المؤمنين المغفرة والرحمة بتوبتهم فاستغفارهم لهم وشفاعتهم زيادة الكرامة والثواب وتنبيه على شرفهم وإيذان أن الاشتراك في الإيمان يوجب الشفقة والنصيحة وإن اختلفت الأجناس كالملك والإنس (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [٩] أي وقايتك إياهم من العذاب هو النجاة الوافرة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) روي : «أن الكفار لما عاينوا النار ودخلوها بعد رؤيتهم أعمالم الخبيثة في كتبهم ومقتوا أنفسهم» (٣) ، أي لاموها وغضبوا عليها (يُنادَوْنَ) أي تناديهم خزنة جهنم (لَمَقْتُ اللهِ) أي غضبه وسخطه على أنفسكم (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) بألسنة الرسل في الدنيا (فَتَكْفُرُونَ) [١٠] أي تجحدون

__________________

(١) سماء ، وي : السماء ، ح.

(٢) وادفعه ، ح و : وادفعهم ، ي.

(٣) عن مقاتل والكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٦٢.

٤٩

فتثبتون على الكفر.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١))

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أي إماتتين (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي إحياءتين ، قيل : هذا طلبهم حيلة الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا (١) ، أي قال الكفار في جهنم كنا أمواتا نطفا في أصلاب آبائنا فأحييتنا قرب الخروج من البطن ، لا يقال كيف يصح أن يسمي خلقهم أمواتا إماتة ، لأن المراد من هذا الخلق الإنشاء على هذا الوصف ثم أمتنا عند انقضاء آجالنا ثم أحيينا اليوم وهو إحياء بالبعث ، وهذا كقوله تعالى (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)(٢) ، ولما علموا أن الله قادر على الإعادة كقدرته على الإنشاء قالوا أيقنا (٣)(فَاعْتَرَفْنا) أي أقررنا (بِذُنُوبِنا) أي بكفرنا بالرسل والآيات وبالبعث وتبين لنا أن البعث حق (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) من النار والرجوع إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) [١١] أي طريق لنطيع أمرك.

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

(ذلِكُمْ) أي يقال لهم ذلك العذاب الذي أنتم فيه وخلوده (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) أي بسبب أنه إذا قيل لكم قولوا لا إله إلا الله (كَفَرْتُمْ) به ، أي بتوحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) أي بالله معبودكم (تُؤْمِنُوا) بالشرك وتصدقوه (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ) أي القضاء فيكم بهذا (٤) العذاب لله الرفيع الغالب فوق خلقه (الْكَبِيرِ) [١٢] بالقدرة القاهرة لهم بانفاذ حكمه فيهم.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي دلائله على وحدانيته كالسموات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار ، ذكر بعد ما أخبر لهم عما يصيبكم من العذاب يوم القيامة تنبيها لأهل مكة ليستدلوا بتلك الدلائل فيؤمنوا فيفلحوا من ذلك العذاب (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أي سببه وهو المطر لتتعظوا (وَما يَتَذَكَّرُ) أي ما يتعظ بالقرآن (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [١٣] أي إلا من يرجع من الشرك ويقبل إلى الله الذي يفعل ذلك بالتوحيد والطاعة.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤))

ثم أمرهم بعابدته بالإخلاص فقال (فَادْعُوا اللهَ) أي اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي دين الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [١٤] أي الجاحدون به.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥))

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي هو عظيم الصفات أو خالق طبقات السموات بعضها فوق بعض أو رافع درجات المؤمنين في الجنة ، قوله (ذُو الْعَرْشِ) نعت ل (رَفِيعُ) ، أي رب العرش (يُلْقِي الرُّوحَ) أي ينزل جبرائيل (مِنْ أَمْرِهِ) أي بوحيه (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من الأنبياء وهو محمد عليه‌السلام (لِيُنْذِرَ) أي (٥) الملقى إليه (يَوْمَ التَّلاقِ) [١٥] أي يوم يلتقي الخلائق من أهل السماء والأرض ، يعني الملائكة والإنس والجن والظالم والمظلوم.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦))

ثم أبدل من (يَوْمَ التَّلاقِ) قوله (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي ظاهرون وخارجون من قبورهم (لا يَخْفى) أي لا يستر (عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) في الدارين ، لأنه خلقهم وأعمالهم بعلم منه تعالى فكيف يخفى عليه شيء منهم ، قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب ، ومعناه : أن الله يجمع الخلائق يوم القيامة

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٢) البقرة (٢) ، ٢٨.

(٣) أيقنا ، ح ي : أيقننا ، و.

(٤) بهذا ، وي : لهذا ، ح.

(٥) أي ، ح و : ـ ي.

٥٠

في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة (١) فضة لم يعص الله فيها قط فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد لمن الملك اليوم ، وقيل : إنه تعالى يقول بعد فناء الخلق بين النفختين لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول لنفسه (٢)(لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [١٦] وقيل : ينادي مناد به فيجيبه أهل المحشر (٣).

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

ثم يقول الله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي ما (٤) عملت في الدنيا من خير أو شر (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي الظلم مأمون فيه ، لأن الله ليس بظلام للعبيد (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [١٧] أي يحاسبهم في وقت واحد ، لأنه لا يشغله حساب عن حساب ، وهذه الآية نتيجة قوله (الملك لله الواحد القهار) لأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم ليحاسبه ويجزي لنفس واحد ، عن ابن عباس رضي الله عنه : «إذا أخذ الله في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها» (٥) ، أشار به إلى سرعة الحساب.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨))

(وَأَنْذِرْهُمْ) أي خوفهم يا محمد (يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي بيوم الساعة القريبة ، من أزف الرجل إذا قرب ، وقيل : بوقت مشارفتهم دخول النار (٦) ، قوله (إِذِ الْقُلُوبُ) بدل من (يَوْمَ الْآزِفَةِ) ، أي القلوب في ذلك اليوم (لَدَى الْحَناجِرِ) من الخوف ، أي ترتفع من مكانها إلى الخنجرة ولا يعود إلى مكانها من هول القيامة ، قوله (كاظِمِينَ) حال من أصحاب القلوب ، أي مغمومين جارعين الغيظ لا يظهرونه خوفا يتردد في أجوافهم (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي من قريب مشفق ينفعه (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [١٨] له الشفاعة فيهم ، والمراد نفي الشفاعة والطاعة معا ، لأن الشافعين أولياء الله وهم لا يحبون إلا من أحبه الله فلم يشفعوا لهم.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩))

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي الله تعالى خائنة (٧) الأعين بالنظر إلى محرم والغمزة إلى ما لا يحل كفعل أهل الريب وهو خبر من أخبار هو في قوله (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ)(٨)(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [١٩] أي ويعلم ما تخفيه القولب.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

(وَاللهُ يَقْضِي) أي يحكم (بِالْحَقِّ) أي بالعدل لأنه مستغن عن الظلم فيما يأمر وينهى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) بالياء والتاء (٩) ، أي تعبدونهم من دون الله وهم الأصنام (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) لعجزهم وعدم عقلهم (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ) لمقالتكم (الْبَصِيرُ) [٢٠] بأعمالكم.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١))

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) أي ألم يعتبروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من تقدمهم من الأمم ، و (هُمْ) فصل في قوله (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي بأسا وأجسادا وحقه أن يدخل بين المعرفتين ، لكن (أَشَدَّ مِنْهُمْ) قد شابه المعرفة في أنه لا يدخل الألف واللام فأجري مجراه (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) يعني أكثر أعمالا وأعمارا وأحصن (١٠) قصورا ومنازل ، فكفروا (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي عاقبهم (بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ

__________________

(١) سبيكة ، ي : سبكة ، ح ، سبكه ، و؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٧٧.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ١٦٣.

(٣) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ١٧٧.

(٤) ما ، ح : ـ وي.

(٥) انظر الكشاف ، ٥ / ١٧٧.

(٦) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ١٧٨.

(٧) خائنة ، ح ي : خيانة ، و.

(٨) المؤمن (٤٠) ، ١٣.

(٩) «يدعون» : قرأ نافع وهشام بتاء الخطاب ، وغيرهما بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٢٧٩.

(١٠) وأحصن ، وي : وأحسن ، ح.

٥١

مِنْ واقٍ) [٢١] أي مانع يمنعهم من العقاب.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

(ذلِكَ) أي العذاب النازل بهم (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كانَتْ) القصة (تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأوامر والنواهي (فَكَفَرُوا) بهم وببيناتهم (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) تعالى بهلاك الاستئصال (إِنَّهُ) أي إن الله (قَوِيٌّ) أي قادر على أخذهم بالعقوبة (شَدِيدُ الْعِقابِ) [٢٢] لمن عاقبه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بعلاماتنا التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) [٢٣] أي حجة بينة (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا) هذا (ساحِرٌ كَذَّابٌ) [٢٤] أي لم يصدقوا به.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥))

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي لما جاء موسى فرعون وقومه بالرسالة (مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أعيدوا القتل عليهم (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) ولا تقتلوهن ، فأعيد القتل عليهم عند بعث موسى كالقتل الذي كان من قبله خيفة أن يولد الصبي الذي قال الكهنة لأجله إنها يهلك فرعون وقومه (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [٢٥] أي في هلاك وخطأ ، يعني لم يجد عليهم.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

(وَقالَ فِرْعَوْنُ) لقومه (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) لأنهم كانوا يمنعونه عن قتله بقولهم (١) إنه ليس الذي تخافه (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) ليمنعه مني (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ) أي يغير (دِينَكُمْ) فتتبعونه (٢)(أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [٢٦] أي فساد دينكم ودنياكم من أظهر ، ونصب (الْفَسادَ) ومن ظهر ورفعه ، وقرئ بالواو للجمع بين الأمرين (٣) ، و (أَوْ) لشك المتكلم أو لقصده أحدهما ولما سمع موسى تهديد فرعون استعاذ بالله (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) أي منكر يتكبر عن الإيمان (لا يُؤْمِنُ) أي لا يصدق (بِيَوْمِ الْحِسابِ) [٢٧] لجهله وتكبره.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨))

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ) أي يستر (إِيمانَهُ) بموسى عن فرعون وقومه وقد آمن سرا منهم وهو ابن عم فرعون اسمه حزبيل (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) ظلما (أَنْ يَقُولَ) أي لأن يقول (رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالبراهين (مِنْ رَبِّكُمْ) وهي العصا واليد وغيرهما ، ثم فصل شأن موسى بقوله (وَإِنْ يَكُ) موسى (كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي وباله فلا ينبغي أن تقتلوه بغير حجة (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) في قوله (فكذبتموه) (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) به من العذاب عاجلا وبذلك القدر تهلكون فجاء في المناصحة (٤) بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم وقبولهم وهو البعض ، وقيل : «البعض بمعنى الكل» (٥) ، أي جميع الذي يعدكم ، والأول غاية الإنصاف وأدعى

__________________

(١) بقولهم ، ح و : لقولهم ، ي.

(٢) فتتبعونه ، وي : فتتبعوا له ، ح.

(٣) «أو أن يظهر في الأرض الفساد» : قرأ المدنيان والبصري بالواو المفتوحة بدلا من «أو» و «يظهر» بضم الياء وكسر الهاء و «الفساد» برفع الدال ، وحفص ويعقوب «أو» بزيادة همزة قطع مفتوحة قبل الواو مع سكون الواو و «يظهر» بفتح الياء والهاء و «الفساد» برفع الدال. البدور الزاهرة ، ٢٧٩.

(٤) في المناصحة ، ح و : في المصالحة ، ي.

(٥) عن أبي عبيد ، انظر البغوي ، ٤٠.

٥٢

إلى الإيمان ، ثم قال (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي لا يرشد إلى دينه (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) أي متجاوز على الحد في فعله (كَذَّابٌ) [٢٨] في قوله ، أي جاعل الكذب عادة لنفسه.

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))

ثم زادهم إنصافا فقال (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) أي ملك مصر (ظاهِرِينَ) أي غالبين (فِي) هذه (الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا) أي من يمنعنا (مِنْ بَأْسِ اللهِ) أي من عذابه (إِنْ جاءَنا) على تقدير قتلكم موسى فلما سمع فرعون قول المؤمن لانت عريكته فثم (قالَ فِرْعَوْنُ) إضرابا عن مجادلة المؤمن (ما أُرِيكُمْ) من الهدى والصواب (إِلَّا ما أَرى) منه لنفسي وهو قتل موسى ، من الرأي يتعدى إلى مفعولين أحدهما «كم» والثاني «ما أَرى» (وَما أَهْدِيكُمْ) أي ما أدعوكم (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [٢٩] أي طريق الفلاح.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١))

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ) لهم (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) من تكذيبهم موسى (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [٣٠] أي مثل أيامهم ، لأنه كان لكل حزب يوم ، وبينه بقوله (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) هو عطف بيان ل «مثل يوم الأحزاب» ، أي مثل عادتهم فيحل بكم من العذاب مثل ما حل بهم بتكذيبهم رسولهم (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [٣١] أي لا يعذبهم بغير ذنب ، لأنه عادل وهو أنفى للظلم من قوله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ظاهرا لدلالة التنكير على القلة ، لأنه إذا نفى إرادة ظلم ما فقد نفى الظلم رأسا.

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢))

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) [٣٢] وهو أن ينادى كل شخص بأعمالهم ، فيقال ألا إن فلان بن فلان سعد سعدة لا يشقي بعدها أبدا وألا إن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا أو ينادي أهل الجنة أهل النار (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا)(١) الآية ، و (ينادي أهل النار أهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) (٢) الآية.

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي تصرفون (٣) هاربين من النار إذا لحقكم زفيرها أو ذاهبين عن موقف الحساب إلى النار (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذابه (مِنْ عاصِمٍ) أي مانع يمنعكم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن الهدى (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [٣٣] أي مرشد يرشده إلى الهدى.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤))

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) أي يوسف النبي ابن يعقوب (مِنْ قَبْلُ) أي من (٤) قبل موسى (بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلالات الواضحة على صدقه منها تأويل الأحاديث وهو تعبير الرؤيا قاله المؤمن من آل فرعون لهم (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من البينات (حَتَّى إِذا هَلَكَ) أي مات (قُلْتُمْ) تخرصا من غير حجة (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) مع تكذيبكم يوسف لئلا تؤمنوا ، المعنى : أنكم لن تزالوا كافرين بيوسف وغيره (كَذلِكَ) أي كهذا الإضلال (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) في إشراكه (مُرْتابٌ) [٣٤] أي ذو شك في توحيده تعالى.

__________________

(١) الأعراف (٧) ، ٤٤.

(٢) الأعراف (٧) ، ٥٠.

(٣) أي تصرفون ، ح ي : أي يصرفون ، و.

(٤) من ، وي : ـ ح.

٥٣

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

ثم وصفهم بالغيبة مستأنفا بقوله (١)(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي بغير برهان (أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً) أي عظم جدالهم بغضا (عِنْدَ اللهِ) أي من عند الله (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) ف (الَّذِينَ) مبتدأ ، خبره (كَبُرَ) باضمار جدالهم فاعلا له ، وفي (كَبُرَ) ضرب من التعجب والاستعظام ، قيل : يجوز أن يكون (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) بدلا من «من هو مسرف» (٢) ، لأنه في معنى الجمع ، والضمير في (كَبُرَ) ضمير «مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ» (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجدال (يَطْبَعُ) أي (٣) يختم (اللهِ) بالكفر (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) عن طاعته بالإضافة وتركها (جَبَّارٍ) [٣٥] أي متسلط على الخلق بالحكم عليهم بما يشاء من القتل وغيره من غير خوف من الله ، وإنما أسند التكبر إلى القلب ، لأنه إذا تكبر القلب تكبر صاحبه فهو مركزه.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧))

(وَقالَ فِرْعَوْنُ) لوزيره (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) أي قصرا عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) [٣٦] أي الأبواب ، ثم أبدل منها (أَسْبابَ السَّماواتِ) تفخيما لشأنها ، لأنه أبهمها ثم أوضحها ليشوق إليه نفس هامان ويتعجب منها (فَأَطَّلِعَ) بالرفع عطف على (أَبْلُغُ) ، وبالنصب جواب «لعل» (٤) ، لأنه هنا بمعنى التمني ، أي لعلي أبلغ ما يوصلني إلى السماء فأطلع (إِلى إِلهِ مُوسى) لأعلم ما هو (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي موسى (كاذِباً) في أن له إلها غيري ، قال له تمويها على قومه لا تحقيقا (وَكَذلِكَ) أي مثل ما زين له سوء قوله (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) أي قبحه (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) مجهولا ومعلوما (٥) ، أي صرف عن سبيل الهدى (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ) أي مكره (إِلَّا فِي تَبابٍ) [٣٧] أي في هلاك وخسار في الآخرة.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨))

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ) وهو حزبيل (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) أي أطيعوني (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) [٣٨] أي أرشدكم دين الصواب.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) أي شيء قليل يتمتع به ويشغل عن الفلاح مع زواله (وَإِنَّ الْآخِرَةَ) أي الجنة (هِيَ دارُ الْقَرارِ) [٣٩] أي الإقامة لا زوال لها فليعتد لها لأنه (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) أي شركا ومعصية (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) يوم القيامة وهو النار إن لم يتب (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) أي من تاب وأطاع (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [٤٠] أي بغير مقدار ، يعني رزقا واسعا بلا تبعة ، لأن الحسنات تتضاعف عند الله.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١))

(وَيا قَوْمِ) كرر النداء لزيادة تنبيه لهم وإيقاظهم عن سنة الغفلة وزيادة الواو في النداء الثالث ، لأن النداء الثاني داخل على كلام هو تفسير للمجمل الذي هو كلام النداء الأول الداخل تحت القول ، والثالث ليس كذلك

__________________

(١) مستأنفا بقوله ، وي : فقال مستأنفا ، ح.

(٢) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ١٨٢.

(٣) أي ، وي : ـ ح.

(٤) «فأطلع» : قرأ حفص بنصب العين وغيره برفعها.

(٥) «وصد» : ضم الصاد الكوفيون ويعقوب ، وفتحها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٨٠.

٥٤

بل هو ابتداء كلام آخر ، عطف على ما قبله من النداء ، أي قال لهم حزبيل يا قوم (ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) من النار بالتوحيد (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [٤١] أي إلى عمل أهل النار.

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢))

ثم بين ذلك فقال (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي حجة بأن له شريكا ، يعني ما ليس باله ولا يصح أن يكون إلها (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ) أي المنتقم من المشرك (الْغَفَّارِ) [٤٢] لمن تاب من الشرك وآمن.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣))

قوله (لا جَرَمَ) اسم مبني على الفتح نحو لا بد لفظا ومعنى ، أي لا بدّ ولا انقطاع فيفيد معنى الوجوب ، يعني وجب وحق (أَنَّما) أي أن الذي (تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من الأصنام (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) إلى نفسه قط بالعبادة لكونه جمادا ومن حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته ، ثم يعبد العباد من دعاهم إظهارا لدعوة ربهم ، أي ليس له دعوة (فِي الدُّنْيا) لعجزه (وَلا فِي الْآخِرَةِ) لأنه إذا أحياه الله تعالى تبرأ من عبدته (وَأَنَّ مَرَدَّنا) أي لا جرم أن مرجعنا (إِلَى اللهِ) لا إلى غيره في الآخرة (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) أي المشركين (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [٤٣] أبدا.

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤))

(فَسَتَذْكُرُونَ) أي فستعرفون (ما أَقُولُ لَكُمْ) من أن نصيحتي لكم حق فتندمون (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي) أي أرد أمر نفسي (إِلَى اللهِ) معتمدا عليه قاله حين أراد وأقتله لأجل دعوته إياهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام فهرب فبعث فرعون في طلبه فلم يقدروا عليه (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [٤٤] أي عالم بأعمالهم وبجزائهم عليها.

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥))

(فَوَقاهُ) أي حفظه (اللهُ) ودفع عنه (سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي شر ما أرادوا تدبيره ليقتلوه فنجا مع موسى (وَحاقَ) أي نزل (بِآلِ فِرْعَوْنَ) من مكرهم بالمسلمين (سُوءُ الْعَذابِ) [٤٥] وهو الغرق في الدنيا والنار في الآخرة ويكفي في الحيق ما يقع عليه اسم السوء ولا يشترط أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه.

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

ثم بين حالهم بعد غرقهم بقوله (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي يحرقون بها (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي كل يوم مرتين ، قيل : «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش ، وأرواح آل فرعون في جوف طير سود تغدو وتروح على النار ما دامت الدنيا» (١) ، فذلك عرضها ودلت الآية على إثبات عذاب القبر لأن المراد من العرض التعذيب (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا) بفتح الألف (٢) خطاب للخزنة ، أي يقال لهم ادخلوا (آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [٤٦] وهو أسفله في النار فيعاد عليهم الإحراق مرة بعد مرة دائما أو يعذبون ألوان العذاب دائما ، ومن قرأ بوصل الهمزة وضم الخاء جعله أمرا ل (آلَ فِرْعَوْنَ) بالدخول فيكون (آلَ فِرْعَوْنَ) منادى بحرف النداء المحذوف ، أي يا آل فرعون.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧))

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ) أي اذكر يا محمد وقت تخاصم الضعفاء والروساء (فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ

__________________

(١) عن هذيل بن شرحبيل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٦٩.

(٢) «أدخلوا» : قرأ المكي والبصري والشامي وشعبة بوصل همزة «أدخلوا» وضم الخاء ، وإذا ابتدءوا ضموا الهمزة ، وغيرهم بهمزة قطع مفتوحة في الحالين مع كسر الخاء. البدور الزاهرة ، ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٥٥

اسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا عن الإيمان وهم الرؤساء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي تائبين ، جمع تابع ، يعني كنا نطيعكم في الدنيا فيما أمر تمونا من الدين (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) أي دافعون (عَنَّا نَصِيباً) أي جزء (مِنَ النَّارِ) [٤٧] وهو العذاب الذي علينا منها.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨))

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي الرؤساء للضعفاء (إِنَّا كُلٌّ) أي نحن وأنتم (فِيها) أي (١) في النار معذبين على قدر حصصنا من الذنوب لا يغني أحد أحدا (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) [٤٨] أي قضى بجزاء أعمالهم فأدخل المؤمن الجنة والكافر النار.

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩))

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) أي قال الكافرون في جهنم إذا اشتد عليهم العذاب (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) ولم يقل لخزنتها ، لأن في ذكر (جَهَنَّمَ) تهويلا (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أي سلوه شافعين لنا (يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً) أي قدر يوم (مِنَ الْعَذابِ) [٤٩] حتى نستريح (٢).

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠))

(قالُوا) أي الخزنة لهم ردا عليهم وتوبيخا لهم (أَوَلَمْ تَكُ) القصة (تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ألم يخبركم رسلكم بالدلائل الواضحة أن عذاب جهنم إلى الأبد (قالُوا بَلى) أخبرونا بها (قالُوا) أي قال لهم الخزنة تهكما بهم (فَادْعُوا) أنتم ما شئتم فانا لا نشفع للكافر (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [٥٠] أي في هلاك ، لأنه لا ينفعهم ، يعني لا يستجاب لكم لكفركم.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١))

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) أي لننصرهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي المؤمنين بهم على أعدائهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بثبوت الحجة والغفلة في العاقبة لمحمد عليه‌السلام وبالاقتصاص لهم بعدهم كيحيى اقتص له بختنصر (وَ) نعذب أعداءهم في النار (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [٥١] جمع شاهد وهم الملائكة الحفظة فيشهدون للرسل بالبلاغ لأممهم وعلى الكفار بتكذيبهم رسلهم ، وقيل : الأشهاد الأنبياء والمؤمنون من أمة محمد عليه‌السلام (٣) ، يشهدون الرسل بالبلاغ.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

قوله (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدل من (يَوْمَ يَقُومُ) ، أي يعذبون يوم لا ينفع (الظَّالِمِينَ) أي الكافرين (مَعْذِرَتُهُمْ) أي اعتذارهم ، لأنه لا يقبل منهم (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي سخط الله وطرده (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [٥٢] أي سوء الآخرة وهو شدة عذابها في جهنم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) أي النبوة أو التورية التي فيها هدى من الضلالة (وَأَوْرَثْنا) أي أعطينا بعد موسى (بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) [٥٣] أي التورية على لسان الرسل (هُدىً) أي إرشادا (وَذِكْرى) أي تذكرة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) [٥٤] أي العقلاء دون الأغمار الذين لا عقل لهم.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥))

(فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى المشركين (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) بنصر أوليائه وقهر أعدائه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي لذنب أمتك أو لذنبك ليستن بك (وَسَبِّحْ) أي صل (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي ملتبسا بشكر منعمك (بِالْعَشِيِ

__________________

(١) أي ، وي : ـ ح.

(٢) نستريح ، وي : نسترح ، ح.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ١٨٥.

٥٦

وَالْإِبْكارِ) [٥٥] أي دائما ، قيل : هي «الصلوات الخمس» (١) ، وقيل : «صلوة العصر وصلوة الفجر» (٢) أو قل سبحان الله والحمد لله في أول النهار وآخره.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أي يخاصمون (فِي آياتِ اللهِ) أي في القرآن ، وقيل : في الدجال ، لأنه آية من آيات الله حين قال اليهود والنصارى يبعث الدجال صاحبنا في آخر الزمان بسلطان ، أي بحجة وهي أنه يخوض البحر (٣) ، فيخرج فيسير مع الأنهار وكان ذلك كرامة له ويرد علينا الملك وهو جدال (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي بغير برهان (أَتاهُمْ) من الله (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ) أي ما في قلوبهم (إِلَّا كِبْرٌ) أي غلبة بالطمع أن يقطع غلبتهم على محمد ودينه (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي بواصلي ذلك الكبر الذي في قلوبهم بأن الدجال ينصرهم (٤)(فَاسْتَعِذْ) يا محمد إن خفت من كبرهم الذي حملهم على عداوتك أو فاستعذ (بِاللهِ)(٥) من فتنة الدجال فانه فتنة عظيمة (إِنَّهُ) أي إن الله (هُوَ السَّمِيعُ) لقولهم في إنكار البعث (الْبَصِيرُ) [٥٦] أي العالم بما يضمرون في شأن الدجال يرد فتنتهم وفتنة الدجال عنك.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

قوله (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رد لإنكارهم البعث بسبب مجادلتهم في آيات الله (٦) ، أي إن خلقهما ابتداء (أَكْبَرُ) أي أعظم (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) بعد موتهم وهو الإعادة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [٥٧] ذلك وهم الكفار ، لأنهم لا يتأملون في صنعنا لغلبة الغفلة عليهم ولذلك لا يصدقون به.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨))

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى) أي الكافر (وَالْبَصِيرُ) أي المؤمن (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ولا المحسن (وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) [٥٨] أي تتعظون.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي في قيامها عند المؤمنين (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [٥٩] أي لا يصدقون باتيانها.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠))

(وَقالَ رَبُّكُمُ) لأهل الإسلام (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي وحدوني واعبدوني أثبكم أو سلوني أعطكم إذا لم يكن سوء لكم في معصية وإن لم يعجل ثوابه هنا أخر إلى الآخرة أو ندفع عن السائل مثله من الشر لمصلحة نعلمها نحن ولا يعلمها هو (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [٦٠] أي صاغرين بفتح الياء وضم الخاء وبالعكس (٧).

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١))

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي خلقه لكم فتقروا فيه وتستريحوا (وَ) جعل لكم (النَّهارَ مُبْصِراً) أي مضيئا لطلب الرزق فيه ، قرن (اللَّيْلَ) بالمفعول له و (النَّهارَ) بالحال فلم يراع التقابل بينهما لفظا لأنه اكتفي

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٧.

(٢) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٧.

(٣) نقله المؤلف عن السمرقندي مختصرا ، ٣ / ١٧١.

(٤) ينصرهم ، وي : نصير ، ح.

(٥) أي ، + ح.

(٦) في آيات الله ، ح و : ـ ي.

(٧) «سيدخلون» : قرأ ابن كثير وشعبة ورويس وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء ، وغيرهم بفتح الياء وضم الخاء. البدور الزاهرة ، ٢٨١.

٥٧

بالتقابل المعنوي ، لأن الحال في معنى لتبصروا فيه (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) أي فضل (عَلَى النَّاسِ) بتأخير العذاب عنهم أو بخلق الليل والنهار لمصالحهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) [٦١] لربهم في فضله وإنعامه فيوحدونه ويطيعونه ، وفي تكريره (١) زيادة توبيخ لهم على عدم شكرهم.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢))

(ذلِكُمُ اللهُ) أي الذي خلق هذا من غير شرك هو الله (رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وخالقكم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واحد في الخلق لا شريك له (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [٦٢] أي كيف تصرفون عن التوحيد والعبادة مع قيام البرهان عليهما إلى التشريك والاستكبار عن العبادة.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))

(كَذلِكَ) أي مثل انصرافهم عن الحق وتكذيبهم به (يُؤْفَكُ) أي يصرف (الَّذِينَ كانُوا) قبل كفار مكة من المشركين (بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [٦٣] أي ينكرون بآيات الله التي أتتهم رسلنا بها.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤))

قوله (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي موضع قرار ، فيه زيادة بيان في دعوتهم إلى الإيمان وترك الشرك (وَ) جعل (السَّماءَ بِناءً) أي سقفا مرفوعا فوقكم (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي أشكالكم ، يعني خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل ويشرب بيده لا كالبهائم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الحلالات أو المستلذات لا كرزق الدواب (ذلِكُمُ اللهُ) أي هذا الذي خلق هذه الأشياء هو الله (رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ) أي تعاظم عن الشريك والولد أو تزايد خيره وبركته (رَبُّ الْعالَمِينَ) [٦٤] أي خالقهم ورازقهم.

(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

(هُوَ الْحَيُّ) أي هو الحي الذي لا يموت ويميت الخلائق ثم يحييها (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا شريك له في الخلق والعبادة (فَادْعُوهُ) أي اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [٦٥] أي من قال لا إله إلا الله فليقل الحمد لله الذي هو مالك العالمين وصانعهم.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦))

قوله (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) نزل حين طلب الكفار من النبي عليه‌السلام عبادة الأوثان (٢) ، فقال الله تعالى قل يا محمد إني نهيت ، أي نهاني ربي (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) وهم الأصنام (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي دلائل التوحيد الواضحات من القرآن والمعجزات سوى الأدلة العقلية التي كانت في تقوية لها وتأكيدا (وَأُمِرْتُ) أي أمرني ربي (أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [٦٦] أي بأن أستقيم على التوحيد أو المراد غيره لأنه كان مسلما له تعالى.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧))

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي أطفالا (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي يبقيكم لتصلوا كمال قوتكم ، فاللام يتعلق بمحذوف وهو يبقيكم ، وعطف عليه قوله (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) أي

__________________

(١) ويطيعونه وفي تكريره ، وي : ويطيعوا له ففي تكريره ، ح.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

٥٨

لتعيشوا إلى أن تصيروا شيوخا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي من (١) قبل الأشد والشيوخة (وَ) يبقيكم (لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي وقتا معلوما لكم وهو وقت انقضاء الأجل (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [٦٧] أي ويفعل ذلك كله بكم من أطوار الخلق إلى الموت لكي تعقلوا دلائل التوحيد فتؤمنوا.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩))

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي) في الأرحام (وَيُمِيتُ) لانقضاء الأجل (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [٦٨] بلا توقف ، أي إذا أراد إيجاد شيء ما وجد عقيب إرادته تعالى بلا إباء لا أن ثمه خطابا بالشيء سيوجد حقيقة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي في القرآن أنه ليس منه (أَنَّى يُصْرَفُونَ) [٦٩] أي كيف يعدلون عن الحق.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠))

ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ كَذَّبُوا) وهو عطف بيان ل (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أو بدل منه (بِالْكِتابِ) أي جحدوا بالقرآن (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) وهو التوحيد (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [٧٠] ما (٢) ينزل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة وهو (٣) تهديد للمكذبين.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢))

قوله (إِذِ الْأَغْلالُ) ظرف ل (يَعْلَمُونَ) بمعنى إذا للاستقبال وإنما عبر به لصدق وعده تعالى فكأنه وجد لتيقنه وهو بيان لما ينزل بهم ، أي يعلمون وقت يجعل أيمانهم (فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) في أرجلهم (يُسْحَبُونَ) [٧١] أي يجرون (فِي) الماء (الْحَمِيمِ) وهو ماء قد انتهى حره (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [٧٢] أي يوقدون في نار جهنم فصاروا وقود النار.

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤))

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) أي يقول لهم الخزنة بعد الإحراق تبكيتا (أَيْنَ ما) أي أين الذي (كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ [٧٣] مِنْ دُونِ اللهِ) وهو الأوثان (قالُوا ضَلُّوا) أي غابوا (عَنَّا) فلم نرهم وذلك لشدة ما بهم من العذاب لم يعرفوهم والحال أنهم يقرنون مع آلهتهم ثم يندمون على إقرارهم وينكرون ويقولون (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي في الدنيا فلم يبق لهم حجة ثم (كَذلِكَ) أي مثل ضلال آلهتهم عنهم (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) [٧٤] عن آلهتهم أو عن الحجة.

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥))

ثم قيل لهم (ذلِكُمْ) أي العذاب الذي أنتم فيه (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ) أي بسبب فرحكم بالشرك (فِي الْأَرْضِ) أي في أرض الدنيا وتتكبرون فيها (بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) [٧٥] أي بسبب عصيانكم الحق واستهزائكم بالمؤمنين تفاخرا بدينكم الباطل.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

ثم قيل لهم (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي في دركاتها (خالِدِينَ) أي مقدرين الخلود (فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى) أي مقام (الْمُتَكَبِّرِينَ) [٧٦] عن الإيمان بالحق ، والقياس أن يقال مدخل المتكبرين لكن الدخول المقدر بالخلود في معنى الثواء فاستقام قياس التكلم حينئذ (٤) فيكون ذكر (مَثْوَى) على القياس.

__________________

(١) من ، وي : ـ ح.

(٢) ما ، ي : ماذا ، ح و.

(٣) هو ، ح و : ـ ي.

(٤) فاستقام قياس التكلم حينئذ ، ح : ـ وي.

٥٩

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧))

(فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى الكفار (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي كائن لا محالة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) شرط جوابه محذوف ، أي نرك بعض الموعود لهم من العذاب في حيوتك كما في بدر فذاك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي إن نمتك قبل بدر ولم نعذبهم (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [٧٧] فنعذبهم أشد العذاب في الآخرة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) حث للنبي عليه‌السلام على الصبر على أذى قومه كما صبر الرسل على أذى قومهم (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) أي ذكرنا لك خبرهم وأنت عرفتهم بأسمائهم وأحوالهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي لم نخبرك بهم ولم نسمهم وكلهم صبروا على أذى قومهم فاصبر أنت على أذى قومك كما صبروا ، روي : «أن الله أرسل نبيا أسود وهو ممن لم يقصصه الله» (١) ، وإنه تعالى (٢) بعث ثمانية آلاف نبي ، أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس ، قوله (وَما كانَ لِرَسُولٍ) نزل حين اقترحوا الآيات على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنادا (٣) ، أي لم يكن لرسول من القدرة (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) يقترح عليه (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره لأنهم عبيد مربوبون ، قوله (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) وعيد لهم عقيب الاقتراح بالآيات ، أي إذا جاء عذابه على الكفار بعد قيام المعجز أو يوم القيامة (قُضِيَ) بين الرسول ومكذبيه (بِالْحَقِّ) أي عذبوا بالعدل ولم يظلموا (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) [٧٨] أي المجادلون بالباطل.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩))

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) أي خلق الإبل والبقر والغنم (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [٧٩] إذا ذبحت باسم الله.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠))

(وَلَكُمْ فِيها) أي في الأنعام (مَنافِعُ) من شعورها وجلودها وألبانها وظهورها (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي في قلوبكم من بلد إلى بلد ، وأورد بلام الغرض في الركوب والبلوغ دون غيرهما لتعلق إرادة الحكم بهما من الأغراض الدينية غالبا بخلاف الأكل وإصابة المنافع ، فانه من جنس المباح الذي لا يتعلق به إرادته (وَعَلَيْها) في البر (وَعَلَى الْفُلْكِ) في البحر (تُحْمَلُونَ) [٨٠] في السفر وإنما قال (عَلَى) دون في ليطابق قوله (عَلَيْها) ويزاوجه.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢))

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي علاماته العجيبة ودلائله الواضحة أنها من الله (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [٨١] بأنها ليست منه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي ألم يسافروا (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) بنظر الاعتبار (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ) كانوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) بتكذيب رسلهم (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي من قومك في العدد (وَأَشَدَّ قُوَّةً) من قومك (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي أملاكا وقصورا وأعمارا طويلة (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [٨٢] وهو نتيجة قوله (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) ، ف (ما) الأولى نافية والثانية موصولة ، أي فلم ينفعهم الذي عملوا في الدنيا من الآثار الكثيرة حين نزل بهم العذاب.

__________________

(١) عن علي رضي الله عنه ، انظر الكشاف ، ٥ / ١٩٠.

(٢) وإنه تعالى ، وي : وإن الله تعالى ، ح.

(٣) هذا منقول عن الكشاف ، ٥ / ١٩٠.

٦٠