عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

سورة الأعلى

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١))

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [١] أي نزه اسم ربك عن الكذب إذا أقسمت به أو نزه اسمه عما لا يصلح فيه من المعاني التي هي إلحاد في الدين ، فا ل «أعلى» صفة لل (اسْمَ) ، يجوز أن يكون صفة لل «رب» ، أي الأعلى بالعلو الذي هو القهر والاقتدار لا بمعنى العلو في المكان أو قل سبحان ربي الأعلى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم» كما قال عند نزول قوله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(١) : اجعلوها في ركوعكم» (٢) ، وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت (٣) ، والاسم زائد ، أي سبح ربك ونزهه عما لا يصلح له كالتشبيه والشريك أو في الكلام خذف ، أي مسمى اسم ربك.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥))

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [٢] مخلوقه بأن جعله مستويا بتسوية أعضائه كاليدين والرجلين والعينين ولم يجعله زمنا ولا متفاوتا فاحشا غير ملتئم في الطول والقصر والدقة (٤) والغلظة ، وفي وسعة إحدى العينين وضيقها ، بل جعله متناسب الخلق قائما في المشي لا كالبهائم (وَالَّذِي قَدَّرَ)(٥) لكل حيوان ما يصلحه (فَهَدى) [٣] أي أرشده للانتفاع به كالأكل والشرب والجماع والمعاش ، قيل : إن الحية تعمى كل سنة شتاء من أكل التراب فتمسح عينها بورق الرازيانج وإن كانت المسافة بينها وبينه بعيدة فتبصر فسبحان من ألهمها ذلك (٦)(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) [٤] أي أنبت العشب (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) [٥] أي هشيما يابسا أسود بعد خضرته ، ف (أَحْوى) صفة (غُثاءً).

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧))

قوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [٦] بالألف ، لأن «لا» نفي بشارة من الله للنبي عليه‌السلام بمعجزة ظاهرة بأن يحفظ كل ما يقرأ عليه جبرائيل عليه‌السلام وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ فلا ينساه إلا ما شاء الله تعالى ، فيذهب به عن حفظه لحكمة يعلمها ، وقيل : نزل حين استعجل بقراءة القرآن إذا قرأه جبرائيل عليه‌السلام خوف النسيان (٧) ، أي سنعلمك القرآن فلا تنسى (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي تنساه على سبيل النسخ ، فلم ينس النبي عليه‌السلام بعد ذلك شيئا ، لأنه إخبار الله تعالى وهو صدق (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) أي إن الله يعلم جهر جبرائيل بالقراءة (وَما يَخْفى) [٧] منها فلا تحزن من النسيان.

__________________

(١) الحاقة (٦٩) ، ٥٢.

(٢) رواه أبو داود ، الصلوة ، ١٥١ ؛ وابن ماجة ، الصلوة ، ١٩.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٦٩.

(٤) الدقة ، وي : الرقة ، ح.

(٥) أي ، + ح.

(٦) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٦ / ٢٢٦.

(٧) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٣ / ٤٧٠.

٣٠١

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠))

(وَنُيَسِّرُكَ) أي نهون عليك حفظ القرآن (لِلْيُسْرى) [٨] أي للعمل الحسن وتبليغ الرسالة ، روي : أن جبرائيل عليه‌السلام في كل رمضان ويقرأ عليه القرآن كله ويبين له ما ينسخ منه (١).

قوله (فَذَكِّرْ) أي عظ بالقرآن (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) [٩] للناس وإن لم تنفع (٢) ، وهذا من قبيل الاكتفاء بالأول لدلالته عليه ، نزل حين كان النبي عليه‌السلام يذكرهم وهم لا يزيدون إلا طغيانا فيتلظى حسرة فيزيد التذكير حرصا على إيمانهم فقال تعالى فذكر بالقرآن (٣)(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) [١٠] أي سيتعظ بالقرآن من يخاف الله تعالى بمعرفة قلبه إياه ويؤمن.

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥))

(وَيَتَجَنَّبُهَا) أي بتباعد عن الذكرى ، وهي العظة بالقرآن الكافر (الْأَشْقَى) [١١] من كل عاص ، قيل : هو الوليد بن المغيرة وأتباعه (٤)(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) [١٢] أي يدخلها وهي نار الآخرة ، إذ نار الدنيا هي النار الصغرى ، وقيل : الكبرى هي السفلي من أطباق جهنم (٥)(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) أي في النار حتى يستريح من عذابها (وَلا يَحْيى) [١٣] بحيوة تنفعه ، و (ثُمَّ) فيه يدل (٦) على أن التردد بين الحيوة والموت أفظع من الصلي في النار ومتراخ عنه في الشدة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [١٤] أي قد (٧) فاز ونجا من عذاب النار من تطهر بالإيمان والتقوى أو بأداء (٨) الزكوة المفروضة عليه ونجا من خصومة الفقراء يوم القيامة (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي كبر في طريق المصلى (فَصَلَّى) [١٥] صلوة العيد أو كبر تكبيرة الافتتاح بذكر ربه فصلى الصلوات (٩) المفروضة عليه في أوقاتها من غير غفلة عنه تعالى.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧))

ثم ذم تارك ذكر ربه وطاعته لأجل اشتغال الدنيا بقوله (بَلْ تُؤْثِرُونَ) بالتاء والياء (١٠) ، أي لا تفعلون ما تفلحون به بل تختارون (الْحَياةَ الدُّنْيا) [١٦] وعملها على الآخرة وعملها (وَالْآخِرَةُ) أي والحال أن عملها (خَيْرٌ وَأَبْقى) [١٧] من عمل الدنيا وحيوتها ، لأنها في معرض الفناء والزوال.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

(إِنَّ هذا) أي من قد أفلح إلى أبقى أو جميع ما في هذه السورة من المعاني (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) [١٨] المنزلة قبل القرآن.

ثم بين الصحف بقوله (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [١٩] عليهما‌السلام (١١) ، والصحيفة كل كتاب أنزل مكتوبا ، وكان صحف إبراهيم عشرا وصحف موسى هي الألواح المكتوبة فيها التورية ، قيل : في صحف إبراهيم عليه‌السلام ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه (١٢).

__________________

(١) قد أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٤٧٠.

(٢) وإن لم تنفع ، ، ي : وإن لم ينفع ، ح و.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٢٢٦.

(٤) أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٤٧١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٢٧.

(٥) هذا المعنى مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٢٢٧.

(٦) يدل ، ح و : تدل ، ي.

(٧) قد ، ح و : ـ ي.

(٨) بأداء ، ح و : أدى ، ي.

(٩) الصلوات ، وي : صلوات ، ح.

(١٠) «تؤثرون» : قرأ أبو عمرو بياء الغيب ، وغيره بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٤١.

(١١) عليهما‌السلام ، وي : ـ ح.

(١٢) قد أخذه عن الكشاف ، ٦ / ٢٢٧.

٣٠٢

سورة الغاشية

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣))

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [١] أي قد أتاك قصة القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها الآن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) [٢] أي ذليلة (عامِلَةٌ) بأعمال قبيحة في الدنيا مع تعب في الآخرة أو هم أصحاب الصوامع الذين يعملون فيها أعمالا صالحا حسنة ثقيلة من تهجد وصيام وسجود لا ينفعهم ثمه (ناصِبَةٌ) [٣] أي متعبة بجر السلاسل في النار على وجوههم وتكليفهم بارتقاء جبل من حديد.

(تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

(تَصْلى) أي تدخل (ناراً حامِيَةً) [٤] أي شديدة الحر (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) [٥] أي حارة قد انتهى حرها ، قيل : لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت (١)(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [٦] أي من نبت مر يابس كأظفار الهرة ، وإذا أخضر يسمى شبرقا لا يقربه دابة لخبثه لو (٢) أكلت منه (٣) ماتت وهو ما بين مكة واليمن ، قيل : «هو في النار أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار» (٤)(لا يُسْمِنُ) أي لا يشبع الجائع (وَلا يُغْنِي) أي لا ينفع (مِنْ جُوعٍ) [٧] وهو وصف (ضَرِيعٍ) ولا يناقضه قوله ليس لهم (طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)(٥) ، لأن العذاب ألوان والمعذبون أنواع لكل منهم جزء مقسوم منه ، وقيل : هذا جزاء من أتعب نفسه بعمل الدنيا وبما لا يحتاج إليه (٦).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) [٨] أي ذات حسن وبهجة في نعمة (لِسَعْيِها) أي لعملها من طاعة الله تعالى وترك معصيته في الدنيا (راضِيَةٌ) [٩] في الآخرة إذا رأت ثوابه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) [١٠] أي هي في جنة مرتفة في الدرجات العلى (لا تَسْمَعُ فِيها) أي في الجنة (لاغِيَةً) [١١] بالرفع فاعل (تَسْمَعُ) بالتاء والياء مجهولا ، وبالنصب مفعول (تَسْمَعُ) بالتاء خطابا (٧) للنبي عليه‌السلام أو الضمير لل (وُجُوهٌ) ، أي كلاما لغوا وهو هذيانه وساقطه.

__________________

(١) قاله المفسرون ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٦٢.

(٢) لو ، وي : إذ ، ح.

(٣) منه ، ح : ـ وي.

(٤) انظر البغوي ، ٥ / ٥٦٢. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٥) الحاقة (٦٩) ، ٣٦.

(٦) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٤٧٣.

(٧) «لا تسمع فيها لاغية» : قرأ نافع «تسمع» بالتاء المثناة الفوقية المضمومة و «لاغية» برفع التاء ، وابن كثير وأبو عمرو ورويس بالياء التحتية المضمومة في «تسمع» مع رفع التاء في «لاغية» ، والباقون بالتاء المثناة الفوقية المفتوحة في «تسمع» ونصب التاء في «لاغية». البدور الزاهرة ، ٣٤١.

٣٠٣

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) [١٢] بالماء الكثير العذب الأبيض من اللبن والأحلى من العسل لمن له عين جارية بالبكاء من خشية الله في الدنيا (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) [١٣] أي مرتفعة قدرا وذاتا ومحلا (وَأَكْوابٌ) أي كيزان بلا عرى مدورة الرأس (مَوْضُوعَةٌ) [١٤] أي معدة عندهم للشرب (وَنَمارِقُ) أي وسائد (مَصْفُوفَةٌ) [١٥] ليجلس عليها وليسند إليها ، جمع نمرقة (وَزَرابِيُّ) جمع زربية ، أي بسط عراض فاخرة (مَبْثُوثَةٌ) [١٦] أي مبسوطة كثيرة ، ويجلس المؤمنون عليها والغلمان والحور حولهم كأنهن الياقوت والمرجان.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))

قيل : لما وصف ارتفاع سرر الجنة للكفار قالوا كيف يصعد عليها؟ فشكوا وتعجبوا في ذلك فقال تعالى (١)(أَفَلا يَنْظُرُونَ) نظر اعتبار (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [١٧] منقادة لهم مع عظم خلقها في الركوب والحمل عليها لئلا ينكروا اقتداره على البعث والثواب والعقاب كما يشاء ، وخص ذكر (الْإِبِلِ) لأنها كانت أقرب الأشياء إلى العرب ، ولم يكن في أرضهم الفيل ليذكره لهم (وَإِلَى السَّماءِ) أي أفلا ينظرون إليها (كَيْفَ رُفِعَتْ) [١٨] بلا عمد تحتها (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) [١٩] على ظهر الأرض أوتادا لها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [٢٠] أي بسطت للسير فيها والاستقرار عليها ، وقرنت الإبل مع السماء والجبال والأرض لأن العرب كانت أشد ملابسة لهذه الأشياء من غيرها ، فذكرها أنسب للاستدلال (٢) على مخلوقات الله تعالى.

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤))

(فَذَكِّرْ) أي فعظ يا محمد وخوف كفار مكة بالعذاب في الآخرة ، ولا تلح عليهم ولا يهمك أنهم لا ينظرون ولا يتذكرون (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) [٢١] أي مخوف بالقرآن (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [٢٢] أي بمسلط فتكرههم على الإيمان (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)(٣)(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) أي فذكر إلا من أعرض عن الإيمان (وَكَفَرَ) [٢٣] بالقرآن ، استثناء متصل من (فَذَكِّرْ) أو منقطع ، أي لكن من تولى منهم فلله الولاية (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) [٢٤] الذي هو عذاب النار الدائم والأصغر ما عذبوا به هنا من الجوع والقتل والأسر.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [٢٥] أي رجوعهم بعد الموت إلينا لا إلى غيرنا (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [٢٦] أي جزاء حسابهم في أعمالهم الخبيثة من صغيرة وكبيرة علينا كما يقتضيه الحكمة لا على غيرنا ، وفي تقديم الظرفين تشديد في الوعيد لهم.

__________________

(١) قاله أهل التفسير ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٦٣.

(٢) أنسب للاستدلال ، ح ي : أنسب هذا الاستدلال ، و.

(٣) الشورى (٤٢) ، ٤٨.

٣٠٤

سورة الفجر

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥))

قوله (وَالْفَجْرِ) [١] قسم بخروج الصبح أو بضوءه ، وجوابه (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ، أي بحق الصبح ، وسمي ب (الْفَجْرِ) لفجره الظلام وهو شقه ، وقيل : بصلاة الصبح (١)(وَلَيالٍ عَشْرٍ) [٢] أي وبحق عشر ذي الحجة ، تنكيرها لبيان فضيلة ليست لغيرها فلو عرفت لفاتت تلك (وَالشَّفْعِ) أي والزوج (وَالْوَتْرِ) [٣] أي الفرد بفتح الواو وكسرها (٢) ، فالشفع الخلق لقوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ)(٣) ، والوتر هو الله ، لأنه واحد لا زوج له ، المعنى : أقسم بكل شيء لأنه إما شفع أو وتر (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [٤] أي يمضي ويجيء بأمره تعالى ، أصله يسري (٤) حذفت الياء عنه اكتفاء بالكسرة أو بحق الليل إذا يسري فيه ، نسب الفعل إلى الليل مجازا (هَلْ فِي ذلِكَ) أي في الذي أقسمت به مما ذكر (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) [٥] أي لصاحب عقل ورشد لتعظيمه ، المعنى : هل في قسمي بهذه الأشياء اقسام لذي عقل لتأكيد المقسم عليه وهو البعث أو العذاب ، والاستفهام هنا لتحقيق اقسام ذي عقل وتعظيم محل القسم ، ف (هَلْ) بمعنى «ان» كما فسره أبو الليث رحمه‌الله. (٥)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨))

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) اعتراض بين القسم وجوابه لتهديد منكري البعث ، أي ألم تخبر يا محمد كيف عاقب ربك (بِعادٍ) [٦] أي بقوم عاد وهو عاد بن عوص ، قوله (إِرَمَ) عطف بيان ل «عاد» أو بدل منه ، ولم ينصرف للتعريف والعجمة أو (إِرَمَ) اسم مدينتهم ففيه العلمية والتأنيث ، قيل : هي دمشق (٦) أو الإسكندرية (٧) أو مدينة بناها عاد ، فتقديره : صاحب إرم بحذف المضاف (ذاتِ الْعِمادِ) [٧] أي الأعمدة صفة القبيلة ، لأنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال (٨) الأجسام أو لأن مدينتهم كانت ذات أساطين عظام (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها) أي مثل مدينتهم (فِي الْبِلادِ) [٨] روي : أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وبقي الأمر لشداد فملك الدنيا كلها وكان عمره تسعمائة سنة ، فسمع يوما ذكر الجنة فقال أبني مثلها فبني إرم في ثلثمائة سنة ، قصورها من ذهب وفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار الجارية ، فلما تم بناؤها قصدها ليدخلها هو وأصحابه ، فلما قربوا صيح بهم صيحة فهلكوا جميعا (٩).

__________________

(١) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ٢٣٠.

(٢) «الوتر» : كسر الواو الأخوان وخلف ، وفتحها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٤٢.

(٣) الذاريات (٥١) ، ٤٩.

(٤) أصله يسري ، ح و : ـ ي.

(٥) انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٧٦.

(٦) عن سعيد بن المسيب وعكرمة ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٦٧.

(٧) عن القرظي ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٦٧.

(٨) طوال ، ح و : طول ، ي.

(٩) أخذه المفسر عن الكشاف باختصار ، ٦ / ٢٣١. «وخبر شداد المذكور أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو موضوع». انظر روح المعاني للآلوسي ، ٣٠ / ١٢٣.

٣٠٥

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠))

قوله (وَثَمُودَ) عطف على «عاد» ، أي كيف فعل ربك بثمود (الَّذِينَ جابُوا) أي قطعوا (الصَّخْرَ) واتخذوها بيوتا (بِالْوادِ) [٩] أي بوادي (١) القرى وهم قوم صالح نقبوا الجبل بالواد (٢) ، قيل : أول من نحت الجبال والرخام ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة (٣) ، قوله (وَفِرْعَوْنَ) عطف على «عاد» أيضا ، أي وكيف فعل ربك بفرعون (ذِي الْأَوْتادِ) [١٠] التي يعذب بها الناس ، لأنه كان يتد أربعة أوتاد يشد بها من يعذبه بأنواع العذاب أو قيل له ذو الأوتاد : لكثرة جنوده ومضارب خيامه إذا نزل في مكان (٤).

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

قوله (الَّذِينَ طَغَوْا) صفة للمذكورين من عاد وثمود وفرعون ، أي الذين تجبروا (فِي الْبِلادِ [١١] فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) [١٢] كالقتل وعبادة الأوثان (فَصَبَّ) أي فأرسل (عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ) أي نوع (عَذابٍ) [١٣] شديد لا يوصف (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [١٤] أي أقسم بالأشياء المذكورة إن ربك في ممر الخلق يترصد ، أي يترقب فيه العصاة بالعقاب ، وهذا مثل في أنهم لا يفوتونه وأنه عالم بما يصدر منهم فيجازيهم عليه ، وقيل : «إن ملائكة ربك على الصراط يرصدون العباد ليحاسبهم بايمانهم وصلوتهم وزكوتهم وصومهم وحجتهم ووضوئهم وغسلهم من الجنابة وبر الوالدين وصلة الرحم» (٥).

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥))

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ) هذا ذكر كل كافر من الغني والفقير مع أحوالهم واستحقاقهم العذاب بها بعد قوله (إِنَّ رَبَّكَ) لمرصادكأنه قيل إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة باختياره وهو مرصد بالعقوبة للعاصي ، فأما الإنسان وهو أبي بن خلف أو أمية بن خلف فلا يريد الطاعة للآخرة ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ، لأنه (إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي اختبره (رَبُّهُ) أيشكر أم يكفر (فَأَكْرَمَهُ) أي رزقه (وَنَعَّمَهُ) أي أكثر نعمته (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) [١٥] أي أحبني وعظمني بما أعطاني.

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦))

(وَأَمَّا) هو (إِذا مَا ابْتَلاهُ) بالفقر أيصبر أم يجزع (فَقَدَرَ) بالتشديد والتخفيف (٦) ، أي ضيق (عَلَيْهِ رِزْقَهُ) وأصابه الجوع (فَيَقُولُ) الجملة خبر المبتدأ المحذوف بعد (أَمَّا) وهو هو ، والفاء فيها لما في (أَمَّا) من معنى الشرط والظرف بعد (أَمَّا) في تقدير التأخير ، أي يقول الإنسان (رَبِّي أَهانَنِ) [١٦] أي أذلني وعاقبني بالفقر وقت الابتلاء شكاية عن ربه.

(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧))

قوله (كَلَّا) ردع للإنسان عن قوله إن الغنا له إكرام والفقر إهانة ، أي ليس إكرامي للإنسان بالمال والولد والصحة وإهانتي له بنزع ذلك عنه ، بل إكرامي بتوفيق المعرفة والطاعة وإهانتي لنزع المعرفة عنه والإضلال عن طريق الهداية (بَلْ لا تُكْرِمُونَ) أي ليس القول كما يقولون بل لهم عمل شر من هذا القول وهو أن الله أكرمهم بكثرة المال وسعة الرزق فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من الخيرات لأنهم لا يكرمون (الْيَتِيمَ) [١٧] أي لا يحسنون إليه بالنفقة مع غناهم.

__________________

(١) بوادي ، وي : بواد ، ح.

(٢) بالواد ، ح ي : بالوادي ، و.

(٣) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٣١.

(٤) هذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٧ / ٢٣١.

(٥) هذا مأخوذ مختصرا من قول ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٧٦.

(٦) «فقدر» : شدد الدال الشامي وأبو جعفر ، وخففها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٣٤٢.

٣٠٦

(وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠))

(وَلا تَحَاضُّونَ) بالألف والتاء للخطاب وبغير الألف ، وقرئ بالياء على الغيبة بغير الألف (١) ، أي ولا تحثون أنفسهم ولا غيرهم (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [١٨] وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي مال الميراث (أَكْلاً لَمًّا) [١٩] أي شديدا ، واللم الشدة بأن جمعوا نصيب النساء والصبيان من الميراث مع أموالهم فيأكلونها جميعا (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) [٢٠] أي كثيرا فلا تنفقونه في سبيل الله بل تبخلون به ، قرئ «يحبون» و «يأكلون» و «يكرمون» بالياء التاء (٢).

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢))

(كَلَّا) أي حقا (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي زلزلت (دَكًّا دَكًّا) [٢١] أي زلزلة شديدة حتى ينهدم كل بناء عليها (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمره بالحساب ، وإنما أسند المجيء إلى الله تعالى إظهارا لآثار هيبته بحضور نفسه لا بحضور ملائكته (وَالْمَلَكُ) ينزلون من السماء حول الأرض (صَفًّا صَفًّا) [٢٢] وهم سبعة صفوف يومئذ.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣))

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) مزمومة بسبعين ألف زمام ، كل زمام بيد سبعين ألف ملك لها زفير وتغيظ ، قوله (يَوْمَئِذٍ)(٣) بدل من الأول وهما بدلان من (إِذا دُكَّتِ) ، قوله (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) عامل في (إِذا) قبله ، أي يتعظ الكافر ثمه (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [٢٣] هو استبعاد منه يومئذ ، أي من أين له يوم القيامة العظة والتوبة.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦))

(يَقُولُ) ثمه (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ) الخير والإيمان (لِحَياتِي) [٢٤] أي وقت حياتي في الدنيا أو لحيوتي (٤) الطيبة في الآخرة (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ) أي مثل تعذيب الله بالنار (أَحَدٌ) [٢٥] كذلك (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ) بالسلاسل والأغلال مثل إيثاقه (أَحَدٌ) [٢٦] يعني لا يتولى أمر العذاب غيره تعالى.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

قوله (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [٢٧] ترغيب في الإيمان للكافرين على إرادة القول ، أي يقال للمؤمن الصالح العمل عند الموت أو البعث إكراما له يا أيتها النفس الآمنة التي لم يخالطها شك في الإيمان أو التي اطمأنت بلقاء الله تعالى (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى ثوابه المعد لك في الجنة أو خطاب للروح ، أي ارجعي إلى جسدك ، وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب (٥) ، وقيل : في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك ، فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله عنها (٦)(راضِيَةً) بالثواب (مَرْضِيَّةً) [٢٨] عند الله ، كلامهما حالان ثانيهما متداخلة (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [٢٩] أي في سلك عبادي الصالحين (وَادْخُلِي) معهم (جَنَّتِي) [٣٠].

__________________

(١) «ولا تحاضون» : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بتاء الخطاب مع ضم الحاء في «تحضون» ، وأبو عمرو ويعقوب بياء الغيبة مع الحاء كذلك في «تحضون» ، والكوفيون وأبو جعفر بتاء الخطاب مع فتح الحاء وألف بعدها مع المد المشبع في «تحضون». البدور الزاهرة ، ٣٤٢.

(٢) «يحبون» ، «يأكلون» ، «يكرمون» : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر والكوفيون بتاء الخطاب في الأفعال الثلاثة ، وأبو عمرو ويعقوب بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٣٤٢.

(٣) أي ، + ح.

(٤) لحيوتي ، وي : لحيوة ، ح.

(٥) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ٢٣٣.

(٦) نقله عن الكشاف ، ٦ / ٢٣٣.

٣٠٧

سورة البلد

مكية وقيل : مدنية (١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢))

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [١] أي أقسم بالبلد الحرام الذي ولدت فيه ، قوله (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) [٢] اعتراض بين القسم والمعطوف عليه لاهتمام ذكره لتعظيم نبيه عليه‌السلام ، أي وأنت حلال بهذا البلد لتصنع ما تريد فيه من قتل وغيره لعظم حرمتك أو إن الكفار يستحلون إخراجك من هذا البلد لشدة عداوتهم بك مع عدم استحلالهم صيده وعضد شجره فتستحل فيه كما يستحل الصيد في غير الحرم ، فعلى المعنى الأول القتال حل له يوم فتح مكة فقوله (وَأَنْتَ حِلٌّ) في معنى الاستقبال كما في قوله (إِنَّكَ مَيِّتٌ)(٢) ، أي يستحل لك في هذا البلد القتل ساعة من نهاره.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

(وَوالِدٍ) أي بحق والد وهو آدم (وَما وَلَدَ) [٣] أي وذريته أو كل والد ومولود وهو الظاهر ، ف (ما) بمعنى من ذكره لغرض الإبهام المستقل للمدح والتعجب (٣) ، وجواب القسم (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي الجنس (فِي كَبَدٍ) [٤] أي في شدة ومشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة ، فيه تثبيت لرسوله عليه‌السلام على احتمال ما يكابد من أهل مكة بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

(أَيَحْسَبُ) أي أيظن الإنسان والمراد أبو جهل الذي هو قوي قريش وشجاعتهم ومكابد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومتضعف المؤمنين (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) [٥] لقوته فسوف (يَقُولُ) إذا بعث يوم القيامة (أَهْلَكْتُ) أي أتلفت (مالاً لُبَداً) [٦] أي كثيرا على عداوة محمد عليه‌السلام فلم ينفعني ذلك (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [٧] أي أن لم ير الله تعالى فعله ولا يعاقبه بما فعل من الشر ، ثم ذكر انعامه عليه ووبخه على ترك الاستدلال على ما يجب عليه من الإيمان والشكر فقال (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) [٨] يبصر بهما (وَلِساناً) ينطق به (وَشَفَتَيْنِ) [٩] يضمهما إذا أراد السكوت (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [١٠] أي عرفناه وبيناه طريق الخير والشر واضحا بالأدلة كوضوح النجد وهو ما ارتفع من الأرض.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١))

قوله (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [١١] يشير به إلى الكافر لعناده لا يتأهب ليوم القيامة ، أي فهو ما جاوز العقبة ،

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) الزمر (٣٩) ، ٣٠.

(٣) التعجب ، وي : التعجيب ، ح.

٣٠٨

وهي الصراط الممدود على جهنم كحد السيف لا ينجو منها إلا كل مؤمن مخف ، ف «لا» بمعنى ما للنفي وأكثر استعمالها أن يكرر لفظا وقد يتكرر معنى كما في هذه الآية ، لأن معنى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ، ولذا فسره بذلك بعد (١).

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣))

ثم فخم شأنها بقوله (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) [١٢] أي ما أعلمك أي شيء هي وبما يمكن مجاوزتها (فَكُّ رَقَبَةٍ) [١٣] أي سبب اقتحام العقبة إعتاق النسمة وتخليصها من رق وغيره أو فك رقبته (٢) من الذنوب بالتوبة ، قرئ برفع (فَكُّ) مع الإضافة تفسير لاقتحام العقبة ، وبفتح الكاف ونصب (رَقَبَةٍ)(٣) فعل ومفعول تفسير ل (اقْتَحَمَ).

(أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦))

(أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [١٤] أي مجاعة ، من سغب فلان إذا جاع ، قرئ برفع (إِطْعامٌ) عطف على (فَكُّ) مصدرا و «أطعم» فعل عطف على (فَكُّ) ماضيا ، قوله (يَتِيماً) بيان لمن يطعمه الطعام وهو مفعول المصدر أو الفعل ، أي أطعم الإنسان يتيما (ذا مَقْرَبَةٍ) [١٥] أي صاحب قرابة (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [١٦] أي صاحب لصوق بالتراب ، يعني لا شيء له ولفقره لصق بالتراب ، فبهذا (٤) الخير يجاوز العقبة ، في الحديث أن رجلان قال : «يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، فقال : تعتق النسمة وتفك الرقبة ، فقال : أو ليسا سواء ، قال : إعتاقها أن تتفرد بعتقها وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم» (٥).

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨))

(ثُمَّ كانَ) أي مع هذا الخير والإحسان يكون المحسن بالعتق والصدقة (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد والقرآن ، وجيء ب (ثُمَّ) المفيدة للتراخي في الوقت ، والمراد منه هنا بيان تباعد ما بين الإيمان والإحسان بذلك في الرتبة والفضيلة ، لأنه لا ينفع ولا يقبل عمل صالح إلا بالإيمان ، وقيل : معناه ثم ثبت ودام على إيمانه بعد الإحسان (٦)(وَتَواصَوْا) أي وكان من الذين وصى بعضهم بعضا (بِالصَّبْرِ) على الإيمان والطاعة والمصيبة وترك المعصية (وَتَواصَوْا) أي وصى بعضهم بعضا (بِالْمَرْحَمَةِ) [١٧] أي بالترحم ، يعني يتعاطف بعضهم على بعض ، روي عن النبي عليه‌السلام : «من لا يرحم الناس لا يرحمه‌الله» (٧) أو بما يؤدي إلى رحمة الله تعالى (أُولئِكَ) أي الموصوفون بالصفات المذكورة (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) [١٨] أي الذين يعطون كتابهم بايمانهم أو أصحاب اليمين.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) [١٩] أي الذين يعطون كتابهم بشمائلهم أو أصحاب الشمال (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) [٢٠] أي مطبقة ، من أأصدت الباب ، أي أطبقته وقد يبدل من الهمزة وأو لضمة ما قبلها ، قيل (٨) : الكفار إذا أدخلوا النار وأطبقت عليهم لا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح الأبد الأبد (٩).

__________________

(١) بعد ، وي : ـ ح.

(٢) رقبته ، ح و : رقبه ، ي.

(٣) «فك رقبة أو إطعام» : قرأ المكي والبصري والكسائي بفتح الكاف من فك ونصب التاء المثناة الفوقية من «رقبة» ، وفتح الهمزة والميم من غير تنوين وحذف الألف بعد العين من «إطعام» ، والباقون برفع الكاف من «فك» وجر التاء من «رقبة» وكسر الهمزة وإثبات الألف بعد العين ورفع الميم وتنوينها من «إطعام». البدور الزاهرة ، ٣٤٣.

(٤) فبهذا ، ح و : فهذا ، ي.

(٥) انظر الكشاف ، ٦ / ٢٣٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٦) ولم أجد لهذا المعنى أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٧) رواه أحمد بن حنبل ، ٤ / ٣٦١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٨١.

(٨) من ، + ي.

(٩) قد أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٤٨١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٧٨.

٣٠٩

سورة الشمس

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤))

(وَالشَّمْسِ) أي بحق الشمس (وَضُحاها) [١] أي ضوءها وحرها (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [٢] أي تبعها طالعا عند غروبها ، إذ الهلال انما رؤي عند سقوط الشمس (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) [٣] أي إذا أظهر الشمس بارتفاعه (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [٤] أي يغطي الشمس بظلمته فتظلم الآفاق ، ف (إِذا) في هذه المواضع ظرف للقسم.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨))

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) [٥] أي ومن أوجدها ورفعها (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) [٦] أي ومن بسطها (وَنَفْسٍ) بالتنكير لإرادة نفس واحدة من النفوس ، وهي نفس آدم عليه‌السلام فالتنوين للتقليل (وَما سَوَّاها) [٧] أي ومن سوى خلقها بالتركيب والترتيب بلا تفاوت فيها وفي أعضائها أو المراد جميع النفوس فالتنوين للتكثير ، و (ما) في هذه المواضع موصولة بمعنى من لا مصدرية لفساد النظم ، لأنه يلزم بقاء الفعل بلا فاعل وعدم استقامة العطف بقوله (فَأَلْهَمَها) لأن الفاء لا يقوم مقام حرف القسم فيه ولا يستقيم عطف الفعل على الاسم أيضا ، أي بين لها وأعلمها بالقرآن (فُجُورَها وَتَقْواها) [٨] أي معصيتها وطاعتها ، وقدم الفجور للاهتمام بنفيه أو لتساوى رؤوس الآي.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩))

قوله (قَدْ أَفْلَحَ) جواب القسم بتقدير اللام ، أي لقد أفلح (مَنْ زَكَّاها) [٩] أي طهرها من الذنوب بالتوبة والطاعة أو محذوف وهو ليطبقن الله عليهم العذاب قد أفلح تابع لقوله (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها).

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١))

(وَقَدْ خابَ) أي خسر (مَنْ دَسَّاها) [١٠] أي أخفاها وأهلكها بعمله السيء وطغيانه ، وأصله دسسها ، فأبدلت السين الثانية ألفا تخفيفا (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [١١] أي كذبت قوم صالح صالحا ، لأن الطغيان حملهم على التكذيب.

(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢))

قوله (إِذِ انْبَعَثَ) ظرف ، عامله (كَذَّبَتْ) ، أي كذبت وقت انبعث ، أي أسرع وبادر إلى عقر الناقة (أَشْقاها) [١٢] أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف أو جماعة لاستواء الواحد والجمع في أفعل التفضيل المضاف.

٣١٠

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣))

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ) نصب على التحذير ، أي احذروا ناقته وعقرها (وَسُقْياها) [١٣] أي وشربها ، يعني لا تمنعوها منه فتعذبوا.

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤))

(فَكَذَّبُوهُ) أي كذبوا (١) صالحا في قوله بالعذاب إن فعلوا ذلك (فَعَقَرُوها) أي الناقة (فَدَمْدَمَ) أي أنزل وأطبق (عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) العذاب (بِذَنْبِهِمْ) أي بسببه ، وفيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب (فَسَوَّاها) [١٤] أي سوى ثمود بالأرض فلم يفلت منهم أحد.

(وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

(وَلا يَخافُ) أي الله تعالى (عُقْباها) [١٥] أي عاقبة عقوبتها وهلكتها ، الواو للحال ، أي وهو لا يخاف من ثأرها كما يخاف معاقبو الدنيا ، وقرئ بالفاء (٢).

__________________

(١) كذبوا ، ح : ـ وي.

(٢) «ولا يخاف» : قرأ المدنيان والشامي بالفاء في مكان الواو ، وغيرهم بالواو. البدور الزاهرة ، ٣٤٤.

٣١١

سورة الليل

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢))

(وَاللَّيْلِ) أي وحق الليل (إِذا يَغْشى) [١] أي إذا (١) يغطي بظلمته ما بين السماء والأرض (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [٢] أي تكشف واستنار من بين الظلام.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣))

(وَما خَلَقَ) «ما» بمعنى من ، أي والخالق الذي خلق (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [٣] أي آدم وحواء أو كل ذكر وأنثى لا يقال الخنثى المشكل ليس بذكر ولا أنثى ، لأنه إما ذكر أو أنثى عند الله ، ولهذا قال الفقهاء لو حلف رجل لا أكلم ذكرا ولا أنثى حنث إذا كلم خنثى مشكلا.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥))

قوله (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [٤] جواب القسم ، أي إن عملكم في الدنيا لمختلف ، جمع شتيت ، بعضكم عامل للجنة وبعضكم عامل للنار ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (٢) ، وروي : «أن أبا بكر رضي الله عنه اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشر أواقي ذهب ، فأعتقه لله تعالى فأنزل الله تعالى الليل إذا يغشى إلى آخره» (٣) ، ثم بين سعيهم فقال (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) حق الله أو من فضل ماله (وَاتَّقى) [٥] الله من الشرك.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) [٦] أي بالجنة في الآخرة (فَسَنُيَسِّرُهُ) أي نسهله ونوفقه (لِلْيُسْرى) [٧] أي للطريقة اليسرى وهي العمل بالطاعة المفضية إلى الفلاح كأبي بكر رضي الله عنه (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بالنفقة في الطاعة (وَاسْتَغْنى) [٨] عن الله بلذات الدنيا وتكبر عن الإيمان (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) [٩] أي بالجنة في الآخرة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [١٠] أي للطريقة العسرى بالخذلان الموجب إلى دخول النار كأمية بن خلف (وَما يُغْنِي) ما نفي ، أي ما ينفع (عَنْهُ مالُهُ) الذي بخل به (إِذا تَرَدَّى) [١١] أي سقط في الهلاك إما في القبر أو في جهنم.

__________________

(١) إذا ، ح : ـ وي.

(٢) رواه مسلم ، الطهارة ، ١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٨٣.

(٣) عن عبد الله بن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٨٤ ؛ والواحدي ، ٣٦٩.

٣١٢

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦))

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) [١٢] أي علينا بيان طريق الهدى والضلالة من قبيل الاكتفاء (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) [١٣] نعطي منهما ، أي من ثوابهما من نشاء لا حكم لغيرنا فيهما (فَأَنْذَرْتُكُمْ) أي خوفتكم يا أهل مكة بالقرآن (ناراً تَلَظَّى) [١٤] أي تتلهب وتشتعل على أهلها ولم يبق لكم عذر ولا حجة (لا يَصْلاها) أي لا يدخلها (إِلَّا الْأَشْقَى [١٥] الَّذِي كَذَّبَ) محمدا والقرآن (وَتَوَلَّى) [١٦] أي أعرض عن الإيمان.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨))

(وَسَيُجَنَّبُهَا) أي يتباعد (١) عن عذابها (الْأَتْقَى [١٧] الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) في سبيل الله تعالى (يَتَزَكَّى) [١٨] حال من ضمير (يُؤْتِي) ، أي يتطهر من الذنوب ويريد به وجه الله تعالى ، قيل : (الْأَشْقَى) و (الْأَتْقَى) بمعنى الشقي والتقي فلا يرد إشكال بأن كل شقي يصلاها وكل تقي يتجنبها (٢) ، وقيل : المراد ب (الْأَشْقَى) أمية بن خلف ، ال «أتقى» أبو بكر رضي الله عنه وهما عظيمان من الفريقين فأريد أن يبالغ في وصفيهما المتناقضين (٣) ، فقيل : (الْأَشْقَى) وجعل مختصا بدخول النار كأنها لم تخلق إلا له ، وقيل : (الْأَتْقَى) وجعل مختصا بالتجنب عن النار كأن الجنة لم تخلق إلا له ، فوردت الآية في الموازنة بين حالتيهما (٤) ، لأن أمية (٥) كان يطرح بلالا على ظهره ببطحاء مكة وقت الظهيرة ويضع على صدره صخرة عظيمة بسبب إيمانه بمحمد عليه‌السلام ، ويقول : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، وهو يقول أحد أحد ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : اتق الله فيه ، فقال : أنت أفسدته فأنقذه فاشتراه وأعتقه.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

قوله (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) [١٩] نزل حين قالوا إنما فعل ذلك الإعتاق ليد كانت له (٦) ، أي لنعمة سابقة لبلال عند أبي بكر فقال الله تعالى إنه لم يفعل ذلك مجازاة لأحد (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [٢٠] نصب مفعول له ، أي لطلب رضاه ولقائه ، ومعنى (الْأَعْلى) هو الأرفع فوق خلقه بالقهر والغلبة (وَلَسَوْفَ يَرْضى) [٢١] اللام فيه للتوكيد ، أي لهو يرضى أبو بكر بثواب الله تعالى يوم القيامة.

__________________

(١) يتباعد ، ي : ستباعد ، ح و.

(٢) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ٢٣٨.

(٣) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ٢٣٨.

(٤) هذه الآراء منقولة عن الكشاف ، ٦ / ٢٣٨.

(٥) إذا حميت الظهيرة ، + ح.

(٦) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٣٧٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٨٦.

٣١٣

سورة الضحى

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣))

قوله (وَالضُّحى) [١] قسم بوقت الضحى ، وإنما خص به ، لأنه وقت تكلم الله موسى وألقى السحرة فيه سجدا ، أي بحق أول النهار أو كل النهار بقرينة (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [٢] أي أظلم أو سكن ظلامه (ما وَدَّعَكَ) جواب القسم ، أي ما قطعك (رَبُّكَ) قطع المودع (وَما قَلى) [٣] أي ما قلاك ، يعني ما أبغضك ، نزل حين قال المشركون : أخبرنا عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين ، فقال : سأخبركم غدا ولم يستثن ، فانقطع عنه الوحي مدة ـ قيل : هي خمسة عشر يوما (١) أو أزيد (٢) ـ فقالوا : إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنفى الله قولهم فيه.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤))

قوله (وَلَلْآخِرَةُ) أي ما أعد لك في الآخرة من الكرامة (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [٤] أي مما أعطيك في الدنيا ، تأكيد لنفي التوديع وإثبات المواصلة بنعمة الوحي وكرامة النبوة له عليه‌السلام ، قيل : المراد منه أن عز الآخرة خير لك من عز الدنيا ، لأن عز الآخرة يبقى وعز الدنيا يفنى (٣).

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦))

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ) اللام ليس للقسم ، لأن محله المضارع مع النون فهو للابتداء (٤) يدخل على الجملة الاسمية ، تقديره : ولأنت سوف يعطيك لتأكيد الإعطاء ، أي ليعطيك وإن تأخر لحكمة لا تعلمها في الآخرة (رَبُّكَ) عطاء جزيلا كالحوض والشفاعة والشهادة وغير ذلك من الثواب (فَتَرْضى) [٥] به و «سوف» من الله يفيد الوجوب ، ثم ذكر ما أعطاه في الدنيا من النعم من ابتداء نشأته ليترقب فضله عليه في المال ولا يضيق صدره فقال (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) [٦] أي ضمك إلى عمك أبي طالب فكفاك مؤنتك بعد موت أبيك.

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٨٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤٨٦ (عن الكلبي).

(٢) وفي رواية الضحاك انقطع عنه جبريل أربعين يوما ؛ وروى أسباط عن السدي قال : فأبطأ جبريل عليه‌السلام على رسول الله صلّى الله عليه‌السلام أربعين ليلة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٨٦.

(٣) هذا المعنى مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٤٨٧.

(٤) فهو للابتداء ، وي : ولام الابتداء ، ح.

٣١٤

(وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨))

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي خاليا عن الحكمة والشرائع (فَهَدى) [٧] أي فهداك إليها بالوحي فكيف يودعك بعد ما أوحي إليك (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا بلا مال (فَأَغْنى) [٨] أي أغناك بمال خديجة أو أغناك بالرزق من الغنائم أو وجدك فقير القلب ترجو أموال الناس فأغناك بنور النبوة فصرت غني النفس ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (١).

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [٩] أي لا تحقره ولا تأخذ ماله ، بل ادفع حقه ، يعني أنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك الله وهداك وأغناك ، فاذكر يتمك وترحم اليتيم (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [١٠] أي لا تزجره عن بابك وارحمه كما رحمك ربك ورده ببدل يسير أو بكلمة طيبة فانها صدقة ، قيل : ليس المسكين الذي يسألك الرفق من المال إنما المسكين الذي يسألك العلم والأدب (٢)(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [١١] أي بعلم الشرائع والأحكام التي أنعمها عليك بالقرآن حدث الناس وعلمهم ، فيه تنبيه لمن تعلم القرآن أو علم الشريعة أن يحتسب في تعليم غيره.

__________________

(١) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٢ / ٥٤٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٨٩.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

٣١٥

سورة الانشراح (ألم نشرح)

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣))

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) أبهم المشروح ، ثم أوضح بما بعده من المفعول وهو طريقة الإبهام والإيضاح ، كأنه قيل : ألم نشرح لك بزيادة (لَكَ) ففهم أن فيه مشروحا ثم أوضح ما كان مبهما بقوله (صَدْرَكَ) [١] أي ألم نوسع قلبك بالإيمان ونزول الوحي والحكمة فيه ، والاستفهام فيه للتقرير ، يعني شرحنا صدرك وفسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم (١) بسبب النبوة ونزول القرآن لدعوة الجن والإنس واحتمال المكاره منهما ، ولذلك عطف عليه (وَوَضَعْنا) اعتبارا للمعنى ، أي وحططنا (عَنْكَ وِزْرَكَ) [٢] أي إثمك في الجاهلية أو إثم أمتك (الَّذِي أَنْقَضَ) أي أثقل (ظَهْرَكَ) [٣] حتى سمع منه صوت الانفصال ، هو مثل لما كان يثقل عليه عليه‌السلام ويغمه من فرطاته قبل النبوة ، وقيل : المراد منه أخلاق السوء التي في طبيعة الإنسان ، إذ لو لم ينزعها عن قلبه لثقل عليه حمل النبوة (٢).

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤))

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [٤] بأنه إذا ذكر الله ذكرت معه ، قيل : «في الأذان والإقامة والتشهد والخطبة» (٣) ، وقدم (لَكَ) في هذه المواضع على المفعول ليؤذن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اختص فيها بما ليس لغيره.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦))

قوله (فَإِنَّ) عطف على مقدر ، أي خولناك من الفضائل ولا تحزن من الافتقار والاحتقار بينهم ولا تيأس من فضل الله ، فان (مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [٥] أي إن مع الشدة سعة ، نزل حين عير المشركون رسول الله عليه‌السلام ومن آمن به بالفقر والضيقة تسلية للفقراء وتقوية لقلوبهم (٤) ، يدل عليها كلمة مع الدالة على الصحبة ، يعني يجعل الله اليسر المترقب قريبا منهم كالمقارن للعسر فيصيبهم اليسر (٥) بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب ، وأكده بقوله (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [٦] العسران واحد في المعنى لتعريفهما واليسر اثنان لفظا ومعنى لنكارتهما ، قيل : المراد باليسرين ما تيسر للمسلمين من الفتوح في أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) وما تيسر لهم في أيام الخلفاء ، ويجوز أن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة (٧) ، وقيل : فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن عسره كان إخراجه أهل مكة ، واليسر الأول دخوله في المدينة وتكثر أصحابه بالإيمان ، واليسر الثاني دخوله مع أصحابه يوم فتح مكة فيها مع عز ونصرة من الله تعالى (٨).

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

قوله (فَإِذا فَرَغْتَ) تفريع على شرح الصدر ووضع الوزر وتحريض على الشكر والاجتهاد والمداومة في العبادة ، أي إذا فعلنا لك ذلك فأنت إذا فرغت من دنياك (٩) أو من الجهاد (فَانْصَبْ) [٧] أي فاجتهد في الصلوة أو إذا فرغت من الصلوة فانصب في الدعاء أو أتعب فيما ينجيك من العذاب بزيادة الطاعة (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [٨] أي تضرع إليه بالسؤال عن فضله متوكلا عليه لا على غيره.

__________________

(١) الحكم ، وي : الحكمة ، ح.

(٢) أخذ المصنف هذا المعنى عن السمرقندي ، ٣ / ٤٨٩.

(٣) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٩٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٤١.

(٤) أخذه عن الكشاف ، ٦ / ٢٤١.

(٥) اليسر ، ح : بيسر ، وي.

(٦) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وي : ـ ح.

(٧) أخذ المفسر هذه المعاني عن الكشاف ، ٦ / ٢٤٢.

(٨) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٩) دنياك ، وي : دنيا ، ح.

٣١٦

سورة التين

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١))

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) [١] أقسم بهما تعظيما لهما ، أي بحقهما وهما مسجدان بالشام (١) أو جبلان ، أحدهما في دمشق والآخر في بيت المقدس (٢) أو يؤكل من الجنسين لكثرة فوائدهما لبني آدم ، قيل : أكل التين يقطع الباسور وينفع من النقرس (٣) ، والزيتون دهنه إدام وفاكهة ونافع للباسور ، قال عليه‌السلام : «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب الحفرة» (٤) ، أي صدأ الأسنان.

(وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣))

(وَطُورِ سِينِينَ) [٢] أي بحق الجبل الذي كلم الله موسى عليه (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [٣] هو فعيل بمعنى مفعول ، أي بحق البلد الذي يأمن الناس فيه من أن يهاج منه إذا دخلوه في الجاهلية والإسلام وهو مكة ، وقيل : يأمن كل الحيوان فيها. (٥)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤))

قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) جواب القسم وهو الجنس ، أي خلقناه (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [٤] أي تعديل لصورته ، حال من المفعول ، يعني كائنا كصورة (٦) لا كصورة البهائم ، لأنه يمشي مستويا وينطق بلسان ذلق ويبطش بيد وأصابع ويأكل بها.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥))

(ثُمَّ رَدَدْناهُ) بعد الحسن والقوة وكمال الشباب (أَسْفَلَ سافِلِينَ) [٥] أي إلى حال هي أسفل أحوال السافلين خلقا وتركيبا ، وهي الضعف والهرم وأرذل العمر حتي يصير كالصبي الذي لا يفهم في أول أمره ، ف (أَسْفَلَ) حال من المفعول أو المعنى : رددناه إلى أسفل السافلين في النار بعد موته لكفره وفجوره ف (أَسْفَلَ) صفة مكان محذوف.

__________________

(١) هذا قول الضحاك ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٩٦.

(٢) وهذا رأي قتادة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٩١ ؛ والبغوي ، ٥ / ٥٩٦.

(٣) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ٢٤٢.

(٤) ذكره العجلوني في كشف الخفاء ، ٢ / ٤٢٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ٢٤٣. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٥) هذا الرأي منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٤٩١.

(٦) كصورة ، ح : ـ وي.

٣١٧

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦))

قوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء متصل من (الْإِنْسانَ) ، أي هم لا يردون إلى أرذل العمر أو لا يدخلون النار ، قيل : «من قرأ القرآن وعمل به لم يرد إلى أرذل العمر» (١) ، وهو حال الخرف أو منقطع بمعنى لكن المؤمنين الصالحين (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [٦] أي غير مقطوع بعد ذهاب القوة وضعف العقل من الكبر ، قيل : يكتب لهم أجرهم مثل أجرهم في حال الشباب (٢) ، وأدخل الفاء في (فَلَهُمْ) ليؤذن أن ذلك العمل سبب لاستحقاقهم ذلك الثواب ولم يدخل في آخر انشقت جمعا بين اللغتين.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧))

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ) خطاب للإنسان على طريق الالتفات ، أي أيها الإنسان ما يجعلك كاذبا لتكذيبك (بِالدِّينِ) [٧] بعد قيام الدليل القطعي عليه ، يعني أي شيء يحملك على تكذيبك بيوم الحساب والجزاء بعد ما خلقك الله في أحسن تقويم من نطفة إلى كمال الاستواء ، ثم نكسك إلى أرذل العمل ، وهذا دليل واضح على كمال قدرته وعدم عجزه عن إعادتك بعد موتك.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

قوله (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) [٨] وعيد لكل كافر وعاص لأمره تعالى بالاستفهام للتقرير ، أي إنه يحكم عليهم بما هم أهله بالعدل لأنه أعدل العادلين ، روي عن النبي عليه‌السلام أنه كان إذا قرأ هذه الآية يقول : «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» (٣).

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٥٩٧.

(٢) هذا المعنى مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٤٩٢.

(٣) انظر البغوي ، ٥ / ٥٩٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ٢٤٣. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

٣١٨

سورة العلق

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١))

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قال ابن عباس رضي الله عنه : «أول سورة نزلت» (١) ، والأكثر على أن الأول هي الفاتحة ثم سورة القلم (٢) ، وكان سبب نزولها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حبب إليه الخلوة ، أي العزلة ويأتي حراء ويمكث هناك ثم يرجع إلى خديجة ، فجاءه ملك وهو على حراء فقال له : اقرأ فقال عليه‌السلام : ما أنا بقارئ ، قال عليه‌السلام : فضغطني ، أي حركني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ باسم ربك ، أي مفتتحا باسمه ، يعني قل بسم الله ثم اقرأ (٣)(الَّذِي خَلَقَ) [١] أي خلق كل شيء.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣))

عمم أولا بحذف المفعول ثم خصص بقوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) من بين ما يتناوله الخلق بذكر الإنسان لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض (مِنْ عَلَقٍ) [٢] جمع علقة ، وإنما أورد الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع ، أريد منه الإفراد ، ثم أكد الأمر بالقراءة فقال (اقْرَأْ) يا محمد (وَرَبُّكَ) يعينك وإن كنت غير قارئ لأن ربك هو (الْأَكْرَمُ) [٣] أي لا يوازيه أحد في الكرم.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤))

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [٤] أي علم الإنسان الخط والكتابة بالقلم ، وذلك من كرمه لأن في علم الكتابة منافع كثيرة لا يحصيها إلا هو ، ولولاها لما استقامت أمور الدنيا والآخرة ، لأن كتب الله المنزلة لا تضبط إلا بالكتابة ، قيل : «أول من خط بالقلم إدريس بتعليم الله تعالى» (٤) ، ووجه المناسبة بين خلق الإنسان من علق وبين تعليمه الخط تنبيه على أن للإنسان حالتين ، حالة الذلة وهي كونه علقة ، وحالة العزة وهي كونه عالما بالتعليم وهو أشرف المراتب ، يعني أنه كان ذليلا مهينا فأعزه بالعلم ، فدل ذلك على أنه لو كان غير العلم أشرف لكان ذكره أولى.

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٦ / ٢٤٤.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٦ / ٢٤٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٩٨.

(٣) اختصره من السمرقندي ، ٣ / ٤٩٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٩٨.

(٤) ذكره العجلوني في كشف الخفاء ، ١ / ٣١٤. وقال القرطبي في تفسيره : «وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل : أحدها أنه آدم عليه‌السلام لأنه أول من كتب ، قاله كعب الأحبار ، الثاني أنه إدريس وهو أول من كتب ، قاله الضحاك ، الثالث أنه أدخل كل من كتب بالقلم ، لأنه ما علم إلا بتعليم الله سبحانه». انظر الجامع لأحكام القرآن ، ٢٠ / ١٢٠.

٣١٩

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

قوله (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [٥] بدل من (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ، أي علم عباده ما لم يعلموا وأخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وذلك أيضا من كرمه العظيم ، وقيل : المراد من (الْإِنْسانَ) آدم عليه‌السلام علمه كل شيء (١) ، يعني ألهمه ، فلما جاءه جبرائيل عليه‌السلام بهذه السورة أمره بأن يتوضأ ويصلي به ركعتين ، فلما رجع إلى خديجة أعلمها بذلك وعلمها الصلوة فصلت هي أيضا على وفق قوله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)(٢).

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣))

(كَلَّا) أي حقا (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي جنس (٣) الكافر بنعمة الله أو أبا جهل لعنه الله (لَيَطْغى) [٦] أي لتيجاوز حده كبرا ويعصي ربه (أَنْ رَآهُ) أي لأن علم نفسه (اسْتَغْنى) [٧] عن ربه ، فالرؤية هنا بمعنى العلم لا بمعنى الإبصار وإلا لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين ، أحدهما الفاعل والآخر المفعول الأول ، والمفعول الثاني استغنى (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) [٨] خطاب للإنسان على طريقة الالتفات تهديدا له من عاقة الطغيان أو للكافر ، أي إن إلى حسابه وجزائه الرجوع يوم القيامة ، فأنذره يا محمد بذلك وكبر أنت ربك في الصلوة ، ولما دخل عليه‌السلام في المسجد وصلى ورفع صوته بالقراءة فرماه بالحجارة فخفض صوته في الصلوة ، وقال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي لوطئت عنقه فنزل (٤)(أَرَأَيْتَ) من الرؤية بمعنى العلم لتعديها إلى مفعولين أحدهما (الَّذِي يَنْهى [٩] عَبْداً) أي ألم تعلم يا كافر الرجل الذي يؤذي ويمنع عبد الله وهو محمد عليه‌السلام من الصلوة ، والمفعول الثاني الشرط مع جوابه (٥) بعد و (إِذا صَلَّى) [١٠] ظرف للنهي و (أَرَأَيْتَ) خطاب آخر للكافر الناهي (٦) وهو تأكيد للأول ، يعني أخبرني أيها الكافر الناهي عمن ينهى بعض عباد الله عن صلوته وقتا يصلي لله (إِنْ كانَ) هذا المصلي (عَلَى الْهُدى) [١١] أي على دين الحق (أَوْ أَمَرَ) الناس (بِالتَّقْوى) [١٢] أي بالإيمان والعمل الصالح واجتناب المعاصي فينهاه عن ذلك (أَرَأَيْتَ) تأكيد آخر له ، أي أخبرني (إِنْ كَذَّبَ) الناهي عن الصلوة بالدين (وَتَوَلَّى) [١٣] أي أعرض عن الإيمان بمحمد عليه‌السلام.

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤))

(أَلَمْ يَعْلَمْ) أي الناهي (بِأَنَّ اللهَ يَرى) [١٤] ما فعله من النهي وغيره ، أي فيجازيه به ، فجواب الشرط الثاني قوله (أَلَمْ يَعْلَمْ) الآية ، لأنه بمعنى فيجازيه ، وجواب الشرط الأول محذوف وهو «ألم يعلم بأن الله يرى» لدلالة ذكره في جواب الثاني عليه.

(كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦))

(كَلَّا) أي حقا أو هو ردع لأبي جهل عن نهيه النبي عليه‌السلام عن عبادة الله وتبليغ رسالته (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) الكافر عن نهيه و (٧) تكذيب محمد عليه‌السلام (لَنَسْفَعاً) أي لنسفعن ، بالنون المخففة وكتبتها بالألف في المصحف على حكم الوقف (٨) ، أي لنأخذن بقهر وشدة (بِالنَّاصِيَةِ) [١٥] أي ناصية (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) بدل من الأولى لأنها وصفت بكاذبة ، قوله (خاطِئَةٍ) [١٦] وهو (٩) وصف آخر لها ، أي مشركة جاحدة والمراد صاحبها ، المعنى :

__________________

(١) هذا القول منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٤٩٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٥٩٩.

(٢) التحريم (٦٦) ، ٦.

(٣) جنس ، ي : الجنس ، ح و.

(٤) فنزل ، ح : نزل ، وي. نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٤٩٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٦٠٠.

(٥) جوابه ، ح و : جزائه ، ي.

(٦) الناهي ، ح : ـ وي.

(٧) نهيه و ، ح و : ـ ي.

(٨) هذه القراءة منقولة عن الكشاف ، ٦ / ٢٤٥.

(٩) وهو ، ح : ـ وي.

٣٢٠