عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

سورة الحاقة

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣))

قوله (الْحَاقَّةُ) [١] أي الساعة الواجبة الوقوع لا ريب فيها من حق يحق بالكسر إذا وجب وثبت أو من حق يحق بالضم إذا عرف ، فسميت حاقة بمعنى عارفة للأمور (١) وهو مجاز ، لأن المعرفة في الحقيقة لأهل القيامة التي تعرف فيها حقائق الأعمال والأخبار من البعث والحساب والجزاء ، مبتدأ ، خبره الجملة بعدها وهي (مَا الْحَاقَّةُ) [٢] وقامت هذه مقام الضمير تعظيما لشأنها ، أي الحاقة أي شيء هي ، قوله (وَما أَدْراكَ) زيادة تعظيم لها بالاستفهام ، أي أي شيء أعلمك (مَا الْحَاقَّةُ) [٣] لأنها عظيمة لا يبلغها دراية أحد.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤))

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) [٤] أي بالقيامة التي تقرع قلوب الخلق بالمخاوف المعاينة فيها من الإفزاع وانفطار السماء ودك الأرض ونسف الجبال وطمس النجوم وغير ذلك.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦))

ثم فصل (٢) عقوبتهم في الدنيا لأجل التكذيب تخويفا لقريش من عاقبة تكذيبهم بقوله (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [٥] مصدر ، أي بطغيانهم أو الصيحة المتجاوزة الحد (٣) في الشدة أو بالرجفة (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي باردة شديدة البرد والهبوب (عاتِيَةٍ) [٦] أي عتت عن أمر خزنتها فخرجت بلا كيل ووزن على خلاف العادة.

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧))

(سَخَّرَها) أي أرسلها الله (٤) بشدة وقهر (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي متتابعات ، من حسم الداء إذا كوي مرة بعد أخرى ، فهو جمع حاسم من الحسم بمعنى القطع أو التتابع ، ونصبه بكونه صفة (سبع ليل) يعني تتابعت هبوب الريح ما خفتت ساعة ، ويجوز أن يكون مصدرا صفة على تقدير ذات حسوم أو منصوبا بفعل مضمر ، أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا أو يكون مفعولا له (٥) للاستئصال أو حالا ، أي سخرها عليهم مستأصلة (فَتَرَى الْقَوْمَ) أي الكفار (فِيها) أي في تلك الأيام والليالي (صَرْعى) أي مطروحين هالكين (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [٧] أي منقلعة ساقطة على الأرض ومحل الكاف حال ، أي مشبهين بها.

__________________

(١) للأمور ، وي : الأمور ، ح.

(٢) فصل ، وي : فضل ، ح.

(٣) الحد ، وي : للحد ، ح.

(٤) الله ، وي : ـ ح.

(٥) أي سخرها ، + و ، أي ، + ح.

٢٤١

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨))

قوله (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [٨] وصف ل (خاوِيَةٍ) ، أي مقول في حقها ذلك بمعنى لم يبق أحد منهم.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩))

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) بفتح القاف وإسكان الباء ، أي ومن تقدمه من الأمم وبكسرها وفتح الباء (١) ، أي ومن معه من الأتباع (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) أي المنقلبة وهي قوم لوط (بِالْخاطِئَةِ) [٩] أي بالأفعال ذوات الخطأ.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي لوطا وجميع الرسل (فَأَخَذَهُمْ) بالعقوبة (أَخْذَةً رابِيَةً) [١٠] أي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح ، من ربا يربو إذا زاد.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١))

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) على خزانه وقت الطوفان وطغيان الماء ، إنه ارتفع فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [١١] على وجه الماء ، أي آباءكم وهي سفينة نوح عليه‌السلام ومن عليهم بحمل آبائهم ، لأن نجاتهم سبب ولادتهم فكأنهم المحمولون فيها.

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

(لِنَجْعَلَها) أي لنجعل الفعلة من إنجاء من آمن بنوح وإهلاك من كفر به (لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي عظة (وَتَعِيَها) أي ولتحفظها (أُذُنٌ واعِيَةٌ) [١٢] أي حافظة لما تسمع من المواعظ وهو مفرد نكر للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم عنده وما سواها كالعدم لا يبالى به وإن كثر.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤))

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [١٣] أي نفخ فيه إسرافيل ، وهي النفخة الأولى ، لأن عندها يهلك العالم (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعتا وقلعتا بجميع ما فيها من النبات والأشجار (فَدُكَّتا) أي دقتا وكسرتا (دَكَّةً واحِدَةً) [١٤] أي كسرة واحدة بالزلزلة لا يثنى لشدتها.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦))

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [١٥] أي نزلت (٢) النازلة ، يعني قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انفرجت بنزول الملائكة (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) [١٦] وضعيفة متمزقة بعد قوتها من الخوف.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧))

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي على جوانبها ، لأن السماء إذا انشقت انتقلت الملائكة إلى أطرافها حول الأرض حتى يأمرهم الله بأن ينزلوا على الأرض (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) أي فوق الملائكة الذين على إرجائها أو فوق رؤوس الخلائق (يَوْمَئِذٍ) أي في القيامة (ثَمانِيَةٌ) [١٧] مرفوع ب (يَحْمِلُ) ، أي يحمله يومئذ ثمانية من الملائكة أرجلهم في تخوم الأرض السابعة (٣) والعرش فوق رؤوسهم هم مطرقون مسبحون ، روي : أن حملة العرش اليوم أربعة ، وأمدوا بأربعة أخرى يوم القيامة فصاروا ثمانية على صور الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبتهم كما بين سماء إلى سماء ، أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد

__________________

(١) «قبله» : قرأ البصريان والكسائي بكسر القاف وفتح الباء ، وغيرهم بفتح القاف وإسكان الباء. البدور الزاهرة ، ٣٢٦.

(٢) نزلت ، ح و : بدأت ، ي.

(٣) السابعة ، ح و : ـ ي.

٢٤٢

قدرتك ، وأربعة سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك (١).

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) أي تساقون إلى الحساب والقصاص ، قيل : العرض يومئذ يدل على أن النفخة هي الثانية ، أجيب بأن المراد من اليوم الحين الواسع الذي يقع فيه النفختان والوقوف والحساب (٢)(لا تَخْفى) بالتاء والياء (٣)(مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [١٨] أي مستورة من أعمالكم التي كانت خافية من الخلق ، قيل : «فيه ثلاث عرضات ، عرضتان جدال ومعاذير ، والثاثلة تطاير الكتب في الأيدي عندها» (٤).

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩))

ثم فصل العرض بقوله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي أعطي (بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ) سرورا بما فيه من الحسنات مخاطبا بجماعة (هاؤُمُ) أي خذوا كتابي ، وهاء صوت يفهم به الأمر كخذ ، ومفعوله محذوف وهو (٥)(كِتابِيَهْ) في (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [١٩] مفعول (اقْرَؤُا) عند البصريين وبالعكس عند الكوفيين ، وأصله : هاؤم كتابي ، اقرؤا كتابي فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، قالوا لو كان العامل الأول لقيل اقرؤه.

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢))

(إِنِّي ظَنَنْتُ) أي تيقنت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [٢٠] يعني علمت أني أحاسب عند الله يوم القيامة ، لأني أصدق بالبعث (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [٢١] أي في عيش مرضي (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) [٢٢] أي مرتفعة المكان في السماء أو مرتفعة الدرجات أو مرتفعة المباني والقصور والأشجار.

(قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

(قُطُوفُها) أي ثمرتها (دانِيَةٌ) [٢٣] أي قريبة التناول للقائم والقاعد والنائم ، يقال لهم (كُلُوا) من ثمارها (وَاشْرَبُوا) من شرابها (هَنِيئاً) أي طيبا حلالا بلا داء ولا إثم فيه (بِما أَسْلَفْتُمْ) أي بما قدمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [٢٤] أي الماضية في الدنيا ، أي من أيام الصيام التي خلت عن الأكل والشرب لوجه الله.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧))

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) من وراء ظهره فيأخذه بها (فَيَقُولُ) خوفا (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ) أي لم أعط (كِتابِيَهْ [٢٥] وَلَمْ أَدْرِ) أي لم أعلم (ما حِسابِيَهْ [٢٦] يا لَيْتَها) أي يا ليت الموتة التي متها (كانَتِ الْقاضِيَةَ) [٢٧] أي القاطعة لحياتي ولم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقي أو الضمير للحالة ، أي ليت الحالة كانت الموتة التي قضت على حياتي.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١))

(ما أَغْنى عَنِّي) استفهام أو نفي ، أي أي شيء أو لم ينفعني (مالِيَهْ) [٢٨] أي يساري وكثرة عددي وعددي في الدنيا (هَلَكَ) أي بطل (عَنِّي سُلْطانِيَهْ) [٢٩] أي تسلطي على الناس بقوتي وحجتي وصرت ذليلا ، والهاء في (كِتابِيَهْ) وأمثاله هاء السكت تثبت (٦) وقفا لا وصلا يقال للخزنة يومئذ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) [٣٠] أي اجمعوا يديه إلى عنقه بالغل (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) [٣١] أي أدخلوه فيها.

__________________

(١) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ١٥٠.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٦ / ١٤٩.

(٣) «لا تخفى» : قرأ الأخوان وخلف بياء التذكير ، وغيرهم بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ٣٢٦.

(٤) عن أبي موسى ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٤٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٩٩ (عن قتادة وابن مسعود).

(٥) هو ، ي : ـ ح و.

(٦) تثبت ، وي : يثبت ، ح.

٢٤٣

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢))

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) أي طولها (سَبْعُونَ ذِراعاً) بذراع الملائكة تلوي على جسده بحيث لا يقدر على حركة ، ووصفه بالعدد المذكور لإرادة الطول والكثرة ، قيل : نزلت في الأسود بن عبد الأسد (١) ، وهو نصب على التمييز ، قوله (فَاسْلُكُوهُ) [٣٢] أي أدخلوه ، عامل في قوله (سِلْسِلَةٍ) ، والفاء زائدة فيه ، وقدم الظرف للتخصيص.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤))

قوله (إِنَّهُ كانَ) تعليل لذلك العذاب له ، أي لأنه كان (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ [٣٣] وَلا يَحُضُّ) أي لا يحث نفسه ولا غيره (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [٣٤] في الدنيا ، قيل : فيه دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين ، أحدهما عطفه على الكفر الذي يفهم من قوله (لا يُؤْمِنُ) ، والثاني ذكر الحض ، فانه تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل (٢).

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) [٣٥] أي قريب يدفع عنه العذاب (وَلا طَعامٌ) يأكله ولا شراب يشربه (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [٣٦] وهو غسالة قروح أهل النار وعروق أجسادهم ومياهها الذائبية منها ، فعلين من غسلت ، فالنون زائدة (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) [٣٧] في الدين وهم الكافرون بالقرآن أنه من عند الله.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩))

(فَلا أُقْسِمُ) أي قسم (بِما تُبْصِرُونَ) [٣٨] من الأجسام والأشباح (وَما لا تُبْصِرُونَ) [٣٩] من الأرواح وغيرها مما لا يبصر ، يعني أقسم بكل موجود على الإحاطة ، لأنه إما مبصر أو غير مبصر.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢))

(إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [٤٠] على الله ، أي يقوله ويقرأه عليكم رسالة عن الله تعالى هذا الرسول الذي منكم وليس بقول شيطان كما تزعمون (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) [٤١] أي لا تؤمنون به ، (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) أي عراف كاذب (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [٤٢] أي لا تتعظون أصلا ، والقلة هنا بمعنى العدم ، قرئ بالياء والتاء فيهما (٣).

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤))

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [٤٣] أي ليس القرآن كما تدعون ، بل هو تنزيل من رب المخلوق ، لا رب سواه ، أنزله (٤) على محمد عليه‌السلام ليهديكم به إلى صراط مستقيم (وَلَوْ تَقَوَّلَ) أي تخرص (عَلَيْنا) وقال من ذات نفسه (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) [٤٤] بزيادة حرف أو نقصان.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦))

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [٤٥] أي لأخذنا بيمينه إذلالا له فقطعناها أو لأخذناه بالقوة والقهر ، وخص «اليمين» دون اليسار ، لأن أخذ القتال بالسيف بيمين المقتول أشد عليه لنظره إلى السيف من أخذه بيساره ، لأنه يوقع

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٩٩.

(٢) وهذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ١٥٢.

(٣) «تؤمنون» ، «تذكرون» : قرأ المكي ويعقوب والشامي بخلف عن ابن ذكوان بياء الغيبة فيهما ، والباقون بتاء الخطاب وهو الوجه الثاني لابن ذكوان ولا يخفى تخفيف ذال «تذكرون» لحفص والأخوين وخلف وتشديدها للباقين. البدور الزاهرة ، ٣٢٧.

(٤) أنزله ، وي : أنزل ، ح.

٢٤٤

الضرب إلى قفاه وهو لا يبصر السيف (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [٤٦] أي وتينه وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه ، يعني لأهلكناه من ساعة.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨))

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [٤٧] أي ليس أحد منكم عن قبل محمد عليه‌السلام مانعين من عذابه تعالى ، فالضمير في (عَنْهُ) لرسول الله عليه‌السلام (١) ، ويجوز أن يكون للقتل ، أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن قتله ويدفعه عنه وجمع حاجزين في وصف أحد ، لأن (أَحَدٍ) هنا في معنى الجمع ، وهو يستعمل في النفي العام مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ) أي عظة (لِلْمُتَّقِينَ) [٤٨] أي للذين يخافون الشرك والمعاصي.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩))

ثم أوعد على التكذيب بقوله (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ) أيها الناس (مُكَذِّبِينَ) [٤٩] بالقرآن ومنكم مصدقين به.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١))

(وَإِنَّهُ) أي القرآن والإيمان به (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) [٥٠] أي لندامة عليهم ، إذا رأوا ثواب المصدقين به وعقاب المكذبين (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَحَقُّ الْيَقِينِ) [٥١] أي لحقيقة اليقين ومحضه ، إذ لا يمكن كذب متكلمه.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

(فَسَبِّحْ) أي نزه يا محمد باللسان (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٥٢] أي بذكر اسم ربك الكبير عما يقولون من الشريك (٢) والولد أو قل سبحان الله أو صل لله تعالى ، والباء زائدة مع الاسم.

__________________

(١) لرسول الله عليه‌السلام ، وي : للرسول ، ح.

(٢) الشريك ، وي : الشرك ، ح.

٢٤٥

سورة المعارج

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١))

قوله (سَأَلَ سائِلٌ) بالهمزة وتركها (١) في (سَأَلَ) بالألف المنقلبة من الهمز أو من الياء من السيلان بمعنى السؤال جواب للذين يستعجلون بالعذاب الموعود ويسألون بمن يقع كالنضر بن الحارث وأصحابه على طريق الاستهزاء ، وقيل : السائل هو رسول الله ، استعجل بعذابهم (٢) ، وضمن السؤال معنى الدعاء فعدي تعديته ، أي دعا داع (بِعَذابٍ واقِعٍ) [١] أي نازل يوم القيامة.

(لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣))

قوله (لِلْكافِرينَ) صفة ل «عذاب» ، أي كائن لهم أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو للكافرين (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) [٢] أي مانع (مِنَ اللهِ) أي من جهته تعالى إذا نزل بهم ، ويجوز أن يتعلق (مِنَ اللهِ) ب (واقِعٍ) ، أي واقع من عنده ، قوله (ذِي الْمَعارِجِ) [٣] صفة لله ، جمع معرج ، وهو المصعد (٣) ، أي ذي المصاعد لأجل ملائكته وهي السموات السبع لا شركة لأحد في خلقها.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤))

(تَعْرُجُ) بالتاء والياء (٤) ، أي تصعد من أسفل السفل (٥)(الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي جبرائيل أو خلق هم حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة على بني آدم أو روح الميت (إِلَيْهِ) أي إلى مهبط أمره وهو سدرة المنتهى أو إلى عرشه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) كمقدار (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [٤] من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملائكة ، قيل : هو يوم الدنيا (٦) ، وقيل : يوم الآخرة (٧) ، واستطالة اليوم إما مجاز لشدته على الكفار أو حقيقة لما روي : أن فيه خمسين موطنا ، كل موطن ألف سنة وما قدر ذلك على المؤمنين إلا كما بين العصر والظهر (٨) ، والظرف يجوز أن يتعلق ب «تعرج» وهو الأظهر وأن يتعلق ب (واقِعٍ) قبله ، المعنى : يقع العذاب في يوم مقداره خمسون ألف سنة.

__________________

(١) «سأل» : قرأ المدنيان والشامي بألف بعد السين بدلا من الهمزة مثل قال ، وغيرهم بهمزة مفتوحة بعد السين ويقف عليه حمزة بالتسهيل فقط. البدور الزاهرة ، ٣٢٧.

(٢) أخذ المفسر هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ١٥٤.

(٣) المصعد ، وي : المصدر ، ح.

(٤) «تعرج» : قرأ الكسائي بياء التذكير ، وغيره بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ٣٢٧.

(٥) السفل ، وي : إلي الأعلى ، ح.

(٦) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٧) عن عكرمة وقتادة والحسن ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٤٩ ؛ والقرطبي ، ١٨ / ٢٨٢.

(٨) اختصره المؤلف من البغوي ، ٥ / ٤٥٠ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٥٥.

٢٤٦

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥))

(فَاصْبِرْ) يا محمد على أذاهم واستهزائهم بسؤال العذاب ، فالفاء متعلقة ب «سأل سائل» ، وكان النبي عليه‌السلام يضجر من ذلك فأمر بالصبر (صَبْراً جَمِيلاً) [٥] أي حسنا بلا شكاية.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))

(إِنَّهُمْ) أي الكفار (يَرَوْنَهُ) أي العذاب (بَعِيداً) [٦] أي مستبعدا لإنكارهم البعث (وَنَراهُ قَرِيباً) [٧] أي سهلا علينا لقدرتنا عليه كائنا لا خلف فيه.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩))

(يَوْمَ تَكُونُ) أي في يوم تكون (السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [٨] أي كذائب الفضة أو كدردي الزيت من الخوف في تلونها (١)(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) [٩] أي كالصوف المندوب المتفرق في الهواء.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤))

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [١٠] مجهولا ، أي يطالب قريب عن قريبه بأين هو ، ومعلوما (٢) ، أي لا يسأل قريب عن قريبه بكيف حالك ولا يكلمه لاشتغال كل بحاله (يُبَصَّرُونَهُمْ) الضمير للحميمين باعتبار العموم لكل حميمين ، أي يبصر الأقرباء بعضهم بعضا ، يعني يعرفهم الملائكة فيتعارفون ولا يتكلمون خوفا.

قوله (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) حال من أحد الضميرين في (يُبَصَّرُونَهُمْ) ، أي يتمنى الكافر (لَوْ يَفْتَدِي) أي أن يبذل في فداء نفسه (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) بفتح يوم» على البناء للإضافة إلى غير المتمكن وبالجر (٣) على الأصل ، والباء للبدل في قوله (بِبَنِيهِ [١١] وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَأَخِيهِ [١٢] وَفَصِيلَتِهِ) أي عشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) [١٣] أي تعطيه مأوى له وتحسنه (وَمَنْ) أي وبمن (فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) [١٤] أي ثم يود أن يخلص الافتداء نفسه من العذاب.

(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧))

قوله (كَلَّا) ردع للمجرم عما تمنى من الافتداء ، أي لا يكون كما تمنى أو بمعنى ألا ، أي تنبه (إِنَّها) أي النهار (لَظى) [١٥] اسم من أسماء جهنم ومعناه اللهب لتلهبها عليهم (نَزَّاعَةً) بالنصب على الحال المؤكدة وبالرفع (٤) ، أي هي نزاعة ، يعني قلاعة (لِلشَّوى) [١٦] جمع شواة ، وهي جلدة الرأس أو الأطراف ، أي يقلع النار الأعضاء عن أجسادهم ، ثم تعود كما كانت هكذا أبدا (تَدْعُوا) النار ، أي تحضر إلى نفسها (مَنْ أَدْبَرَ) أي من (٥) صرف وجهه إلى خلفه عن الدعوة إلى الله (وَتَوَلَّى) [١٧] أي أعرض بقلبه عن الإيمان بقوله إلي إلي يا كافر.

(وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

(وَجَمَعَ) أي ومن جمع المال (فَأَوْعى) [١٨] أي جعله في الوعاء ولم يؤد حق الله تعالى منه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١))

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [١٩] أي حريصا ممسكا أو شديد الجزع ، وقيل : معناه قوله (٦)(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي

__________________

(١) في تلونها ، ح : في تكونها ، وي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٥٥.

(٢) «ولا يسأل» : قرأ أبو جعفر بضم الياء ، وغيره بفتحها. البدور الزاهرة ، ٣٢٧.

(٣) «يومئذ» : قرأ المدنيان والكسائي بفتح الميم ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٣٢٧.

(٤) «نزاعة» : نصب حفص التاء ، ورفعها غيره. البدور الزاهرة ، ٣٢٧.

(٥) من ، ح : ـ وي.

(٦) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٥٢.

٢٤٧

الفقر (جَزُوعاً) [٢٠] لا يصبر على الشدة (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [٢١] أي إذا أصابه الغني يمنع حق الله تعالى منه.

(إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣))

قوله (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [٢٢] استثناء من (الْإِنْسانَ) ، أي إلا (١)(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [٢٣] في حفظ المكتوبة نفسها في أوقاتها ، فانهم يؤدون حق الله تعالى لا يخلون به ، قال عليه‌السلام : «أفضل العمل أدومه وإن قل» (٢).

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥))

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) [٢٤] أي نصيب معروف للفقراء زكوة أو صدقة أو معلوم بالشرع وهو الزكوة (لِلسَّائِلِ) أي للذي يسأل الناس (وَالْمَحْرُومِ) [٢٥] أي للذي لا يسألهم شيئا فيحرم لذلك.

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠))

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [٢٦] أي بيوم الحساب (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [٢٧] أي خائفون (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) [٢٨] أي لا ينبغي لأحد أن يأمن من عذابه (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) [٢٩] عن الحرام أو في كل حال (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ) على (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من السراري (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [٣٠] في ذلك.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١))

(فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب (وَراءَ ذلِكَ) أي سوى الزوجات والمملوكات (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [٣١] أي المتجاوزون من الحلال إلى الحرام.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) جمعا ومفردا (٣) فيما بينهم وبين الناس (وَعَهْدِهِمْ)(٤) الذي بينهم وبين الله (راعُونَ) [٣٢] أي حافظون (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ) جمعا ومفردا (٥)(قائِمُونَ) [٣٣] أي يؤدونها عند الحاكم ولا يكتمونها (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [٣٤] أي يداومون على حفظ أركانها وتكميل سننها في أوقاتها ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفات (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [٣٥] بالتحف والهدايا من الله تعالى.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨))

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أي حال للكافرين من (٦) الجالسين حولك (قِبَلَكَ) أي نحوك (مُهْطِعِينَ) [٣٦] أي ناظرين نظر عداوة إليك ، حال من ضمير «كَفَرُوا» (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [٣٧] أي عن يمينك وشمالك يجلسون متفرقين فرقا شتى ، جمع عزة ، أصلها عزوة من عزوته إلى أبيه ، أي نسبته (٧) إليه ، والهاء

__________________

(١) إلا ، ح : ـ وي.

(٢) أخرج مسلم نحوه ، المسافرين ، ٢١٦ ، ٢١٨ ، والمنافقين ، ٧٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٥٧.

(٣) «لأماناتهم» : قرأ ابن كثير بغير ألف بعد النون على التوحيد وغيره بالألف على الجمع. البدور الزاهرة ، ٣٢٨.

(٤) أي ، + ح.

(٥) «بشهاداتهم» : قرأ حفص ويعقوب بألف بعد الدال على الجمع ، وغيرهما بغير ألف على الإفراد. البدور الزاهرة ، ٣٢٨.

(٦) من ، ح : وي.

(٧) نسبته ، وي : نسبت ، ح.

٢٤٨

عوض من المحذوف ، ونزل عند قولهم استهزاء لئن دخل أصحاب محمد الجنة لندخلن معهم قوله (١)(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) [٣٨] كالمؤمنين.

(كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩))

قوله (كَلَّا) ردع لهم عن طمعهم (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) [٣٩] أي من نطفة منتنة أبهم بما استحقارا لذكرها وهو كلام دال على إنكارهم البعث من حيث إنه احتجاج (٢) عليهم بالنشأة الأولى ، فبأي شيء يدخلون الجنة وهم كافرون لا إيمان فيهم بالبعث ليتشرفوا به فيدخلوها كما حكمنا به في القرآن.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١))

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) والمراد نواحيهما (٣) ، أي أقسم بخالقهما (إِنَّا لَقادِرُونَ [٤٠] عَلى أَنْ) نهلكهم و (نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [٤١] أي عاجزين عن الابتداء والإعانة بعد الموت.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣))

(فَذَرْهُمْ) أي دع المكذبين (يَخُوضُوا) في أباطيلهم (وَيَلْعَبُوا) أي يستهزؤا (حَتَّى يُلاقُوا) أي يعاينوا (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [٤٢] فيه العذاب وأبدل من «يَوْمَهُمُ» (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور (٤)(سِراعاً) أي مسرعين إلى الداعي أو إلى الحشر (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) بضم النون والصاد ، جمع نصب ، وهو ما نصب للعبادة كالصنم ، وبفتح النون وسكون الصاد ، وقرئ به (٥)(يُوفِضُونَ) [٤٣] أي يسرعون لأن يعبدوها فرحين بذلك كما كانوا في الدنيا.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(خاشِعَةً) أي ذليلة (أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ) أي تغشاهم (ذِلَّةٌ) وحقارة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [٤٤] فيه العذاب وهم يكذبون به.

__________________

(١) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ١٥٨ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٦٢.

(٢) احتجاج ، ح ي : الاحتجاج ، و.

(٣) نواحيهما ، وي : نواحيها ، ح.

(٤) القبور ، وي : قبورهم ، ح.

(٥) «نصب» : قرأ حفص والشامي بضم النون والصاد ، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد. البدور الزاهرة ، ٣٢٨.

٢٤٩

سورة نوح عليه‌السلام

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١))

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ) أي بأن قلنا له خوف (قَوْمَكَ) بالنار ليؤمنوا بالله ولا يشركوا به شيئا ، ف «أن» هي الناصبة للفعل ، ويجوز أن يكون مفسرة ، لأن الإرسال فيه معنى القول ، أي إنا قلنا نوحا أنذر قومك (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [١] وهو الطوفان والغرق.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣))

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [٢] بلسان تعرفونه (أَنِ اعْبُدُوا) أي بقولي لكم اعبدوا (اللهَ) أي وحدوه (وَاتَّقُوهُ) أي اجتنبوا معاصيه (وَأَطِيعُونِ) [٣] فيما آمركم به.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يزككم (١) من بعضها أو (مِنْ) زائدة (وَيُؤَخِّرْكُمْ) بالصحة وسعة الرزق (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى منتهى آجالكم وهو وقت الموت (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) بتعذيبكم (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) أو كأن الله وعد قوم نوح إن آمنوا أن يعيشوا مثلا ألف سنة وإن لم يؤمنوا أن يعيشوا خمسمائة ، ثم يهلكوا ، لأنه إذا جاء هذا الأجل فلا يستطيع أحد أن يؤخره (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٤] ذلك لآمنتم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦))

(قالَ رَبِّ) أي دعا نوح ربه بعد ما كذبوه في طول المدة فقال يا رب (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي)(٢) إلى الإيمان (لَيْلاً وَنَهاراً) [٥] أي دائما (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [٦] عن الإيمان.

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧))

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إليه (لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) كيلا يسمعوا دعائى (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي غطوا رؤوسهم بثيابهم كيلا يبصروني ولا يسمعوا كلامي (وَأَصَرُّوا) أي أقاموا على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان (اسْتِكْباراً) [٧] لم يزل عنهم.

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩))

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) [٨] أي مجاهرا إلى الإيمان من غير خفية ، فدل هذا الكلام على أن الدعوة المتقدمة كانت سرارا ، ففعل نوح بالدعوة كالذي يأمر وينهى في الابتداء بالأهون ، ثم افتتح بالمجاهرة حين لم يقبلوا المناصحة في السر وهو الأشد من الأول ، فلما لم يؤثر ثلاث بالجمع بين الإسرار والإعلان كما يقتضي الترقي من الأشد إلى الأشد بقوله (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) صوتي مرارا ، و (ثُمَّ) فيه للدلالة على تباعد الأحوال (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ) الكلام (إِسْراراً) [٩] أي كلمتهم واحدا واحدا سرا.

__________________

(١) يزككم ، و : يزكيكم ، ح ي.

(٢) أي ، + ي.

٢٥٠

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١))

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي توبوا إليه (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [١٠] لمن تاب من الشرك والمعاصي وكان قد منع عنهم المطر وغارت مياههم تحت الأرض فقال (يُرْسِلِ السَّماءَ) أي المطر ، جواب الأمر ، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ ، أي ينزل الله من السماء المطر بسبب الاستغفار أو المراد المظلة ، لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب ذو المطر (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [١١] أي كثير الدرور ، والدر المطر النازل من السماء ، وزنه مفعال ، يستوي فيه الذكر والأنثى كرجل معطار وامرأة معطار.

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢))

(وَيُمْدِدْكُمْ) أي يعطكم (بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي أموالا وأولادا كما تشاؤن (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين ذوات نعم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) [١٢] جارية في البساتين ، عن الحسن رضي الله عنه : «أن رجلا شكا إليه الجدب ، فقال : «استغفر الله» ، وشكا آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، وفأمرهم كلهم الاستغفار» (١).

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥))

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ) أي لا تأملون به (وَقاراً) [١٣] أي تعظيما لكم في دار الثواب بالإيمان به تعالى (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) [١٤] جمع طور وهي الحال ، فطورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة إلى تمام خلق الإنسان ، والمعنى : ما لكم لا تؤمنون بالله وهذه حالكم التي توجب الإيمان بخالقكم ، فالواو في (وَقَدْ خَلَقَكُمْ) للحال ، ثم قال تنبيها على النظر في العالم بعد التنبيه على النظر في أنفسهم ، لأنها أقرب منظور فيه منهم (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ) أي ألم تنظروا نظر عبرة كيف أحدث الله من العدم (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [١٥] أي مطبقا بعضها فوق بعض.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦))

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي ينورهن وهو في السماء الدنيا ، وإنما قال فيهن لأنه إذا كان في واحدة منهن فهو فيهن كما يقال إنه جالس في المدينة مع أنه في جزء منها (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [١٦] أي مصباحا مضيئا تبصر به الأشياء ، قيل : «إنه تعالى جعل القمر والشمس وجوههما إلى السموات ونور القمر وضوء الشمس فيهن وجعل ظهريهما إلى الأرض» (٢).

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي خلقكم من تراب الأرض ، لأنه خلق آدم منه وخلقكم من آدم ، قوله (نَباتاً) [١٧] مصدر بمعنى إنبات (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي في الأرض بعد موتكم (وَيُخْرِجُكُمْ) منها للبعث (إِخْراجاً) [١٨] أي حقا لا محالة (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) [١٩] أي مبسوطة تتقلبون عليها (لِتَسْلُكُوا) أي لتأخذوا (مِنْها) أو تمضوا (سُبُلاً فِجاجاً) [٢٠] أي طرقا واسعة.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢))

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ) أي قومي (عَصَوْنِي) فيما أمرتهم من توحيد الله (وَاتَّبَعُوا) أي أطاع فقراؤهم (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ) وهم أغنياؤهم (إِلَّا خَساراً) [٢١] في الآخرة (وَمَكَرُوا) عطف على (لَمْ يَزِدْهُ) ، أي اتبعوا من مكروا وهم الرؤساء (مَكْراً كُبَّاراً) [٢٢] أي عظيما بتكذيب نوح وإيذائه وإيذاء متابعيه ، والكبار أبلغ من الكبير ، وجمع الضمير الراجع إلى (مَنْ) لأنه في معنى الجمع.

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٦ / ١٦٠.

(٢) عن ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٥٨ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٦١.

٢٥١

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣))

(وَقالُوا) أي الرؤساء للسفلة (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تتركن عبادة آلهتكم (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) بضم الواو والفتح (١)(وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ) وهما لا ينصرفان للعجمة والتعريف أو لوزن الفعل والتعريف (وَنَسْراً) [٢٣] وهي (٢) أسماء رجال صالحين ماتوا (٣) ، فقال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا ، فلما مات أولئك قال لمن بعدهم أنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم (٤) ، وقيل : هي أسماء أصنام لقوم نوح ، فأخرجها الشيطان من الأرض بعد الطوفان لمشركي العرب فعبدت كل قبيلة منهم واحدا منها (٥).

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥))

(وَقَدْ أَضَلُّوا) أي هذه الأصنام أو الرؤساء (كَثِيراً) من الناس ، قوله (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) عطف على (رَبِّ) ، أي قال رب أنهم عصوني ولا تزد العاصين (إِلَّا ضَلالاً) [٢٤] أي هلاكا فأهلكوا (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) وقرئ «خطاياهم» (٦) ، أي من أجل ذنوبهم (أُغْرِقُوا) وقدم الصلة لبيان أنهم لم يعذبوا إلا من أجل عصيانهم (فَأُدْخِلُوا ناراً) أية نار ، وجيء بالفاء للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق ، قيل : «إنهم كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب تحت الماء» (٧)(فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من دون عذابه (أَنْصاراً) [٢٥] أي أعوانا تمنعهم من العذاب.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧))

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [٢٦] أي أحدا ما ، أصله ديوار فيعال من الدور ، قيل : إنه يستعمل للنفي العام (٨)(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) أي إن (٩) تدعهم أحياء (يُضِلُّوا عِبادَكَ) من التوحيد إلى الكفر (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً) أي كذابا (كَفَّاراً) [٢٧] أي عظم (١٠) الكفر بنسبة الشريك والولد إليه تعالى ، قيل : إن نوحا قال ذلك بعد ما أوحي إليه «أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن (١١)» (١٢) ، وهذا الدعاء حسن جميل.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

ثم قال نوح عليه‌السلام بعد الدعاء عليهم (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) لمك وسمخاء كانا مؤمنين أو هما آدم وحواء (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) أي منزلي أو مسجدي أو سفينتي (مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى يوم القيامة (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي الكافرين (إِلَّا تَباراً) [٢٨] أي هلاكا فأهلكوا بعد دعائه عليهم (١٣) وأغرق صبيانهم بنوع من أسباب الموت لا للعقاب ، وقيل : أعقم الله آباءهم وأمهاتهم قبل الطوفان بأربعين سنة ، فلم يبق معهم صبي حين أغرقوا (١٤) ، روي عن أصحاب النبي عليه‌السلام : «أن نجاة المؤمنين يوم القيامة في ثلاثة أشياء ، بدعاء نوح ، وبدعاء إسحق حين أتاه جبرائيل عليه‌السلام بالقربان ، وهو اللهم إن أدعوك أيما عبد لك من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئا إن تدخله الجنة ، وبشفاعة محمد عليه‌السلام» (١٥).

__________________

(١) «ودا» : قرأ المدنيان بضم الواو ، وغيرهما بفتحها. البدور الزاهرة ، ٣٢٩.

(٢) وهي ، وي : وهم ، ح.

(٣) عن محمد بن كعب ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٥٨.

(٤) فعبدوهم ، ح و : ـ ي ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٤٥٨.

(٥) اختصره المؤلف من البغوي ، ٥ / ٤٥٩.

(٦) «خطيئاتهم» : قرأ أبو عمرو «خطاياهم» بفتح الخاء والطاء وألف بعدها وبعد الألف ياء بعدها ألف مع ضم الهاء بوزن قضاياهم ، والباقون بفتح الخاء وكسر الطاء وبعدها ياء ساكنة مدية وبعدها تاء مكسورة مع كسر الهاء. البدور الزاهرة ، ٣٢٩.

(٧) عن الضحاك ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٥٩ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٦٣.

(٨) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ١٦٣.

(٩) إن ، ح : ـ وي.

(١٠) عظم ، ح و : عظيم ، ي.

(١١) هود (١١) ، ٣٦.

(١٢) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٦ / ١٦٣.

(١٣) عليهم ، و : ـ ح ي.

(١٤) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ١٦٣.

(١٥) انظر السمرقندي ، ٣ / ٤٠٩.

٢٥٢

سورة الجن

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١))

(قُلْ أُوحِيَ) أي قل يا محمد إن الله أوحى (إِلَيَّ أَنَّهُ) أي أن الشأن (اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) وهم تسعة من جن نصيبين في اليمن ، وذلك حين دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخلة في تهامة ، فصلى مع أصحابه صلوة الفجر فمر به نفر من الجن فاستمعوا منه القرآن ، وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء وقد كانوا غير ممنوعين من استماع خبر السماء من قبل نزول القرآن ، فرجعوا إلى قومهم (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [١] مصدر وصف به للمبالغة لخروجه عن حد نظرائه ، أي عجبا (١) لحسن نظمه وغزارة معانيه لم يشبه كلام الناس.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢))

(يَهْدِي) أي يدل (إِلَى الرُّشْدِ) أي إلى الإيمان والخير (فَآمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن الذي يهدي إلى التوحيد (وَلَنْ نُشْرِكَ) بعد اليوم (بِرَبِّنا أَحَداً) [٢] من خلقه أبدا يعنون إبليس.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣))

(وَ) قالوا (أَنَّهُ تَعالى) أي ارتفع (جَدُّ رَبِّنا) أي عظمته ، من جد فلان إذا عظم ، وقرئ بفتح «أن» (٢) عطفا على محل الجار والمجرور في «آمنا به» ، كأنه قيل : صدقناه و (٣) صدقنا أنه ارتفع وتنزه جلاله وقدرته عن المحدثات ، وبين ذلك بقوله (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً) أي زوجة (وَلا وَلَداً) [٣] كما زعم الكفار ، وإنما خصهما بالذكر لأنه أقبح الشرك.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤))

(وَ) قالوا (أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) أي جاهلنا وهو إبليس (عَلَى اللهِ شَطَطاً) [٤] أي كذبا وجورا من القول ، وقرئ بالفتح على ما مر.

__________________

(١) عجبا ، وي : عجيبا ، ح.

(٢) «وأنه تعالى» ،» وأنه كان يقول» ، «وأنا ظننا أن لن تقول» ، «وأنه كان رجال» ، «وأنهم ظنوا» ، «وأنا لمسنا السماء» ، «وأنا نقعد» ، «وأنا لا ندري» ، «وأنا منا الصالحون» ، «وأنا ظننا أن لن نعجز الله» ، «وأنا لما سمعنا الهدى» ، «وأنا منا المسلمون» : قرأ الشامي وحفص والأخوان وخلف بفتح الهمزة في المواضع المذكورة كلها ، وأبو جعفر بفتحها في ثلاثة منها وهي : «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنه كان رجال» ، وكسرها في التسعة الباقية ، والباقون بكسرها في جميع المواضع المذكورة. البدور الزاهرة ، ٣٢٩.

(٣) صدقناه و ، وي : ـ ح.

٢٥٣

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦))

(وَ) قالوا (أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) [٥] نصب على المصدر ، لأن الكذب نوع من القول أو صفة مصدر محذوف ، أي قولا مكذوبا فيه بنسبة الزوجة والولد إليه تعالى ، وقرئ بالفتح كذلك قوله (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) من كلام الله تعالى لا من كلام الجن ، قرئ بالكسر على الاستئناف ، وبالفتح على تقدير أوحي ، نزل توبيخا للإنس بأنهم صاروا سببا لزيادة ضلالة الجن (١) ، وذلك حين كان الرجل من العرب إذا سافر فنزل بواد مخوف خال عن المونس استعاذ بسيد ذلك المكان ، وهو كبير الجن بقوله أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه فيكون في أمانهم تلك الليلة ، فاذا سمعوا ذلك استكبروا ، وقالوا سيدنا الجن والإنس فزادوا باستعاذتهم لهم طغيانا وسفها ، وبذلك افتخروا (٢) ، فأخبر تعالى أنه كان رجال من الإنس (يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ) أي زاد الإنس الجن (رَهَقاً) [٦] أي طغيانا وإثما بأن عاذوا بهم.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨))

وكذا قوله في القراءتين (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) يا كفار مكة (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) [٧] بعد موته ، فكفروا كما كفرتم ، ثم رجع إلى كلام الجن فقال (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي صعدنا إليها لاستراق السمع ، من اللمس وهو المس ، فاستعير لطلب شيء ، قرئ فيه بالكسر على الاستئناف ، وبالفتح على سبيل الحكاية وكذا في كل ما كان من كلام الجن بعده (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) أي جمعا قويا على الحراسة يحفظونها على استماع القول من الملائكة (وَشُهُباً) [٨] أي (٣) وملئت كواكب محرقة ترمى بها.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩))

(وَأَنَّا كُنَّا)(٤) من قبل بعث محمد عليه‌السلام (نَقْعُدُ)(٥)(مِنْها) أي من السماء (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي للاستماع من الملائكة ما يقولون فيما بينهم من الوقائع والكوائن ، يعني كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) منا (٦)(يَجِدْ لَهُ شِهاباً) أي نجما (رَصَداً) [٩] أي راصدا للرجم ، يعني أعد وأوقد ليرمي به المستمع.

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بعدم (٧) استراق السمع (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [١٠] أي خيرا وصوابا فيؤمنوا ويهتدوا ، وهذا الكلام ذكر سبب سيرهم في البلاد حتى عثروا على النبي عليه‌السلام واستمعوا قراءته يقولون لما حدث كثرة الرجم ومنع الاستراق ، قلنا ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض من خير أو شر ، رحمة أو عذاب.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢))

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي المسلمون (وَمِنَّا) قوم (دُونَ ذلِكَ) أي ليسوا مسلمين (كُنَّا طَرائِقَ) أي أصحاب مذاهب بحذف المضاف من (طَرائِقَ) أو من الضمير في (كُنَّا) كانت طرائقنا طرائق (قِدَداً) [١١] جمع قدة وهي

__________________

(١) لعل المصنف اختصره من الكشاف ، ٦ / ١٦٥.

(٢) نقله عن الكشاف ، ٦ / ١٦٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤١١ ؛ والبغوي ، ٥ / ٤٦٢.

(٣) أي ، وي : ـ ح.

(٤) نقعد ، + ي.

(٥) نقعد ، ح و : ـ ي.

(٦) منا ، وي : هنا ، ح.

(٧) بعدم ، وي : بعد ، ح.

٢٥٤

القطعة ، أي فرقا مختلفة ومللا شتى كالقدرية والرافضية (١) والمجسمة إلى غير ذلك وهو بيان للقسمة المذكورة قبله (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ) أي علمنا يقينا أن لن نجعله عاجزا منا (فِي الْأَرْضِ) أي كائنين فيها (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) [١٢] من الأرض إلى السماء ، أي لا يفوت أحد من الله تعالى وإن هرب منه.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣))

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) أي القرآن الذي يقرأه محمد عليه‌السلام (آمَنَّا بِهِ) قوله (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) كلام الله تعالى أو من كلام الجن ، أي فمن يؤمن بوحدانية ربه (فَلا يَخافُ) أي فهو غير خائف (بَخْساً) أي نقصا من جزاء عمله (وَلا رَهَقاً) [١٣] أي ولا ذهاب جزاء عمله أو ولا ظلما بأن يعذب بلا إثم (٢) ، فدخلت الفاء فيه لكونه في تقدير خبر مبتدأ محذوف قبله ، ولم يقل لا يخف بالجزم مع إغنائه عن ذلك ليدل على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وإنه المختص بذلك دون غيره.

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤))

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) أي الموحدون (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الجائرون العادلون عن التوحيد (فَمَنْ أَسْلَمَ) أي أخلص في التوحيد (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا) أي قصدوا (رَشَداً) [١٤] أي هداية إلى دخول الجنة ، وهذا يدل على أن الجن يثابون بعملهم ويعاقبون.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥))

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) أي العادلون عن التوحيد وطريق الحق (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [١٥] أي وقودا لها تم هنا كلام الجن.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦))

ثم أخبر الله تعالى عن حال الكفار بقوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) «أَنْ» مخففة من الثقيلة ، يتعلق ب «أوحي» ، أي وأوحي إلي أن الشأن لو ثبت الكفار من الجن والإنس (عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي طريقة الإسلام والتوحيد (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [١٦] أي كثيرا ، يعني لو لزموا التوحيد والإيمان لأعطيناهم مالا كثيرا فعاشوا عيشا واسعا.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

قوله (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) متعلق بقوله (لَأَسْقَيْناهُمْ) ، أي لنبتليهم في الخصب والعيش والوسع ، فننظر (٣) كيف يشكرون (٤)(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي عن القرآن والعمل به (يَسْلُكْهُ) بالنون والياء (٥) ، أي ندخله (عَذاباً صَعَداً) [١٧] ظرف ، أي فيه مصدر بمعنى الصاعد ، أي شاقا يتصعد المعذب ، أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩))

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أي ومن جملة (٦) الموحى إلي أنها بنيت لعبادة الله فآمنوا به وادخلوها (فَلا تَدْعُوا) فيها (مَعَ اللهِ أَحَداً) [١٨] لأنها له خاصة ، قيل : «كانت اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم ويشركون بالله ، فأمرهم الله تعالى أن يخلصوا العبادة فيها» (٧) ، ثم رجع الله عن الإخبار عن الكفار إلى الإخبار عن الجن الذين سمعوا

__________________

(١) والرافضية ، ح : والرافضة ، ي ، والفراضية ، و.

(٢) إثم ، وي : إثمه ، ح.

(٣) فننظر ، وي : فينظر ، ح.

(٤) يشكرون ، وي : تشكرون ، ح ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٦٧.

(٥) «يسلكه» : قرأ الكوفيون ويعقوب بالياء التحتية ، والباقون بالنون. البدور الزاهرة ، ٣٣٠.

(٦) جملة ، ح : ـ وي.

(٧) عن قتادة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٤١٣ ؛ والبغوي ، ٥ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٦٧.

٢٥٥

القرآن من النبي عليه‌السلام بقوله المقروء بكسر «إن» وفتحها (١)(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي محمد عليه‌السلام إلى الصلوة ببطن نخلة ، ولم يقل النبي ولا رسول الله ، لأنه لما وقع في كلامه الموحى إليه جاء على مقتضى التواضع والتذلل (يَدْعُوهُ) أي يعبده ويقرأ القرآن (كادُوا) أي الجن من جن نصيبين (يَكُونُونَ عَلَيْهِ) أي على محمد عليه‌السلام (لِبَداً) [١٩] بضم اللام وكسرها (٢) جمع لبدة وهي الجماعة المتلبدة ، يعني يركب بعضهم بعضا ازدحاما حرصا على سماع القرآن أو تعجبا مما رأوا من العبادة بالقيام والركوع والسجود بالتلاوة ، وقيل : «معناه أن الإنس والجن تظاهروا على أن يبطلوا أمر النبي عليه‌السلام المخالف لشركهم فأبى الله إلا أن يتمه بنصره على من عاداه فيه» (٣).

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢))

(قُلْ) وقرئ «قال» (٤) على معنى الخبرية ، أي قل للمتلبدين عليك يا محمد (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) إلها واحدا (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) [٢٠] في العبادة وغيرها (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) أي خذلانا (وَلا رَشَداً) [٢١] أي خيرا وهداية ، وإنما المالك لذلك الله تعالى (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) أي لن يمنعني (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (أَحَدٌ) إن عصيته (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ) أي من غيره (مُلْتَحَداً) [٢٢] أي ملتجأ.

(إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣))

قوله (إِلَّا بَلاغاً) استثناء من (لا أَمْلِكُ) الآية ، أي ليس بيدي شيء من الضر والنفع إلا تبليغ الخبر (مِنَ اللهِ) بأن أقول قال الله كذا (وَ) أن أبلغ (رِسالاتِهِ) التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان ، فقوله (وَرِسالاتِهِ) عطف على قوله (بَلاغاً) ، وإنما أورد من دون «عن» في تعدية التبليغ ، لأن من ليست بصلة للتبليغ ، وإنما هو كمن في قوله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) بمعنى بلاغا كائنا من الله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في أمر التوحيد والقرآن (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [٢٣] لا يخرجون عنها ، جمع الخالد باعتبار المعنى.

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

قوله (حَتَّى إِذا رَأَوْا) نزل حين استضعفوا أنصار النبي عليه‌السلام من المؤمنين واستقلوا عددهم (٥) ، أي أمهل المشركين الذين يتظاهرون عليك بالعداوة حتى إذا رأوا (ما يُوعَدُونَ) من يوم بدر وإظهار الله لك عليهم أو من يوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) [٢٤] هم أم المؤمنين.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧))

قوله (قُلْ إِنْ أَدْرِي) نزل حين قالوا متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد؟ (٦) فقال تعالى قل ما أدري (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) من العذاب (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ) أي للعذاب (رَبِّي أَمَداً) [٢٥] أي أجلا ينتهي إليه ، المعنى : أني أعلم نزول العذاب عليكم ولكن لا أعلم أحال عليكم أم متأخر هو (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ) أي لا يطلع (عَلى غَيْبِهِ) وهو

__________________

(١) «وأنه لما قام» : كسر الهمزة نافع وشعبة ، وفتحها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٣٣٠.

(٢) «لبدا» : قرأ هشام بخلف عنه بضم اللام ، وغيره بكسرها ، وهو الوجه الثاني لهشام. البدور الزاهرة ، ٣٣٠.

(٣) ذكر الحسن وقتادة وابن زيد نحوه ، انظر البغوي ، ٥ / ٤٦٦.

(٤) «قل» : قرأ عاصم وحمزة وأبو جعفر بضم القاف وإسكان اللام على أنه فعل أمر ، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما على أنه فعل ماض. البدور الزاهرة ، ٣٣٠.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ٦ / ١٦٨.

(٦) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٤١٣ ـ ٤١٤.

٢٥٦

وقت نزول العذاب (أَحَداً) [٢٦] من خلقه (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي من اختاره لرسالته ، فانه يطلعه عليه بملك إذا شاء الاطلاع للفرق بين النبي وغيره ، قوله (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) علة لعدم إظهاره على غيبه أحدا من خلقه سوى النبي عليه‌السلام (١) ، أي فان الله يسير (٢) من بين يدي الرسول (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [٢٧] أي ملائكة راقبين يحرسونه (٣) من الشياطين حتى لا يسمعوا القرآن حين أوحى إليه جبرائيل عليه‌السلام ، ثم يفشوا ذلك قبل أن يخبر الناس الرسول فلا يكون حينئذ فرق بينهم وبين الأنبياء عليهم‌السلام.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

قوله (لِيَعْلَمَ) متعلق بفعل محذوف ، أي فعلنا ذلك ليعلم الرسول (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي أنه أبلغ الرسل (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم ، فالضمير في «يديده» و (خَلْفِهِ) و «يعلم» يرجع إلى «من» باعتبار اللفظ وفي «أبلغوا إليه باعتبار المعنى ، وقيل : يجوز أن يرجع الضمير في «يعلم» إلى الله ، أي ليتعلق علمه في الوجود (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) الآية (٤) ، روي : «أنه ما بعث إلا ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين لئلا يتشبهوا بصورة الملك» (٥)(وَأَحاطَ) الله بعلمه (بِما لَدَيْهِمْ) أي لدى الرسل من الشرائع والحكم لا يفوته شيء مما عندهم (وَأَحْصى) أي ضبط (كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [٢٨] مصدر ، أي إحصاء أو حال ، أي معدودا محصورا من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار ، فكيف يفوته شيء مما عند رسله من وحيه وكلامه ، فانه مهيمن عليهم حافظ لشرائعهم وحكمهم لا ينسى منها حرفا.

__________________

(١) عليه‌السلام ، ح : ـ وي.

(٢) يسير ، ح ي : سير ، و.

(٣) يحرسونه ، وي : تحرسون ، ح.

(٤) أخذ المفسر هذا الرأي عن البيضاوي ، ٢ / ٥٣٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٧ / ١٦٩.

(٥) عن الضحاك ، انظر الكشاف ، ٦ / ١٦٩.

٢٥٧

سورة المزمل

مكية (١) إلا آية (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ)(٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣))

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [١] أي المتلفف بثيابه ، أصله المتزمل (٣) ، فأدغمت التاء في الزاء ، وأراد به النبي عليه‌السلام ، لأنه كان يقول : زملوني إذا جاء الوحي خوفا منه حتى انس به ، فقال جبرائيل عليه‌السلام : يا أيها المزمل تهجينا لحالته ، إذ هي حالة الكسلان (قُمِ اللَّيْلَ) للصلوة فيه (إِلَّا قَلِيلاً) [٢] قيل : (نِصْفَهُ) بدل من (اللَّيْلَ) بدل بعض من كل (٤) ، أي قم نصفه ، و (إِلَّا قَلِيلاً) مستثنى من (نِصْفَهُ) ، قدم عليه ، أي إلا قليلا من نصفه ، يعني قم أقل من نصف الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) أي من النصف (قَلِيلاً) [٣] قيل : إلى الثلث (٥).

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤))

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي على النصف ، قيل : إلى الثلثين (٦) ، يعني أنت مخير بين أن تقوم أقل من نصف الليل دائما حتما وبين أن تقوم باختيارك نصف الليل ناقصا إلى الثلث ، أي الثلث الأخير وزائدا إلى الثلثين ، وقيل : يجوز أن يبدل نصفه من (قَلِيلاً) فيكون التخيير بين ثلاثة أشياء بين قيام نصف الليل تاما وبين الناقص منه وبين الزائد عليه ووصف بالقلة بالنظر إلى الكل لا إلى ما دون النصف (٧) كما هو عند الفقهاء ، لأنهم يطلقون القليل على ما دونه ، واختلف في قيام الليل ، قال بعضهم كان فرضا نسخ عن النبي عليه‌السلام بقوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ)(٨) وعن المؤمنين بالصلوات الخمس ، فصار تطوعا ، وقال بعضهم كان نفلا بدليل التخيير في المقدار ، إذ لم يجئ التخيير بين القليل والكثير في شيء من الفرائض ولقوله (١٠)(وَرَتِّلِ) أي بين (الْقُرْآنَ) إذا قرأته باظهار الحروف وإشباع الحركات وتثبت في قراءته (تَرْتِيلاً) [٤] أي تبيينا حرفا حرفا ولا تعجل في تلاوته ، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : «لا تنثروه نثر الدقل» (١١) ، وهو التمر الردي.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥))

(إِنَّا سَنُلْقِي) أي سننزل (عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [٥] أي قرآنا شديدا لما فيه من الأحكام العظام أو مهيبا عند

__________________

(١) وهذا قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، انظر القرطبي ، ١٩ / ٣١.

(٢) المزمل (٧٣) ، ٢٠. وهذا القول للثعلبي ، انظر القرطبي ، ١٩ / ٣١.

(٣) المتزمل ، وي : متزمل ، ح.

(٤) أخذ المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٦ / ١٧٠.

(٥) هذا الرأي مأخوذ عن البغوي ، ٥ / ٤٦٨.

(٦) نقل المؤلف هذا القول عن البغوي ، ٥ / ٤٦٨.

(٧) اختصره المفسر من الكشاف ، ٦ / ١٧١.

(٨) الإسراء (١٧) ، ٧٩.

(٩) الإسراء (١٧) ، ٧٩.

(١٠) وهذه الأقوال مأخوذة عن البغوي ، ٥ / ٤٦٩ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٧١ ؛ وانظر أيضا قتادة (كتاب الناسخ والمنسوخ) ، ٥٠ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٩٦ ؛ وابن الجوزي ، ٥٨.

(١١) انظر البغوي ، ٥ / ٤٧٠.

٢٥٨

النزول ، لأن جبين النبي عليه‌السلام كان يتفصد عرقا وقت النزول من هيبته ولا يستطيع أن يتحرك حتى يسري عنه ، وهو اعتراض لتأكيد قيام الليل الذي هو من التكاليف الصعبة بالقرآن ، فلابد من مجاهدة للنفس المائلة إلى النوم والراحة فيه لمن أحياه لوجه الله.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧))

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أي ساعة قيامه بعد النوم (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي ثقلا على المصلي من ناشئة النهار ، أي من ساعته ، من نشأت للشيء ، أي قمت لأجله ، وقرئ «وطاء» بكسر الواو ومد الألف (١) ، أي أشد موافقة في الليل بين السمع والقلب على تفهم القرآن من الموافقة بينهما في النهار (وَأَقْوَمُ قِيلاً) [٦] أي أصوب قولا وأخلص له وأسمع لفراغ القلب وهدؤا للأصوات (٢) في الليل دون النهار (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [٧] أي فراغا وتصرفا وافيا لقضاء حوائجه فيه ففرغ نفسك لصلوة الليل.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨))

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي دم على توحيد الله وذكره أو صل لربك ليلا ونهارا (وَتَبَتَّلْ) أي انقطع (إِلَيْهِ) أي إلى ربك عما سواه (تَبْتِيلاً) [٨] أي تبتلا ، واختاره لرعاية الفواصل ، يعني أخلص إخلاصا في ذكرك وعبادتك.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

قوله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) بالرفع مبتدأ ، خبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وبالجر (٣) بدل من «رَبِّكَ» (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [٩] أي ناصرا وكفيلا بما وعد بالنصر على الكفار.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من التكذيب والأذى (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [١٠] أي اعتزلهم اعتزالا حسنا لا جزع فيه ولا فحش ، قيل : نسخ هذا بآية السيف (٤).

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١))

(وَذَرْنِي) أي دعني (وَالْمُكَذِّبِينَ) فأنا أكافيهم (٥) وهم رؤساء قريش ، يعني فوض أمورهم إلي ، قوله (أُولِي النَّعْمَةِ) بالفتح صفة (الْمُكَذِّبِينَ) ، أي ذوي الغنا والتنعم الذي هو سبب غفلتهم ، وقد جاء بالكسر بمعنى الإنعام وبالضم بمعنى المسرة (٦)(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [١١] أي إمهالا يسيرا فلم يمض على ذلك إلا زمان قليل حتى قتلوا ببدر.

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢))

(إِنَّ لَدَيْنا) أي عندنا (أَنْكالاً) أي قيودا ثقالا يضاد تنعمهم ، جمع نكل بكسر النون وهو القيد ، قيل : كلما ارتفعوا بها في جهنم بقوتهم استفلت الأنكال بهم لثقالتها وخفتهم إلى قعر جهنم (٧)(وَجَحِيماً) [١٢] أي عندنا نارا محرقة.

(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣))

(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي ذا شوك يستمسك في الحلق فلا يسوغ فيها ، وهو الضريع أو الغسلين (وَعَذاباً أَلِيماً) [١٣] سوى ذلك.

__________________

(١) «وطأ» : قرأ البصري والشامي بكسر الواو وفتح الطاء وألف بعدها ، والباقون بفتح الواو وإسكان الطاء. البدور الزاهرة ، ٣٣٠.

(٢) للأصوات ، و : لأصوات ، ح ي.

(٣) «رب» : خفض الباء الشامي وشعبة ويعقوب والأخوان وخلف ، ورفعها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٣٠.

(٤) أخذه عن الكشاف ، ٦ / ١٧٢ ؛ وانظر أيضا هبة الله ابن سلامة ، ٩٦ ؛ والبغوي ، ٥ / ٤٧٣ ؛ وابن الجوزي ، ٥٨.

(٥) أكافيهم ، وي : أكافيكم ، ح.

(٦) أخذ المؤلف هذه القراءة عن الكشاف ، ٦ / ١٧٣.

(٧) لعله اختصره من القرطبي ، ١٩ / ٤٦.

٢٥٩

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤))

قوله (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) أي تتحرك ، ظرف لما في (لَدَيْنا) من معنى الفعل ، أي استقر للكفار هذه الأنواع من العذاب يوم تتزلزل الأرض (وَالْجِبالُ) لهول ذلك اليوم (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً) أي رملا مجتمعا (مَهِيلاً) [١٤] أي سائلا بعد اجتماعه.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥))

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) يا أهل مكة (رَسُولاً) أي محمدا عليه‌السلام (شاهِداً عَلَيْكُمْ) بكفركم يوم القيامة (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) [١٥] أي موسى بن عمران.

(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦))

(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) بلام التعريف ليعود (١) المعرف إلى المنكر وهو موسى (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [١٦] أي شديدا غليظا ، يعني عاقبناه بالغرق فهذا تهديد لهم.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧))

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) أي تتحصنون من العذاب يوم القيامة (إِنْ كَفَرْتُمْ) هنا ، ف (يَوْماً) ظرف ل (تَتَّقُونَ) في قوله (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [١٧] من هيبته وشدته ، ويجوز أن ينتصب ب (كَفَرْتُمْ) على تأويل جحدتم ، أي كيف تخشون الله إن جحدتم يوم القيامة والجزاء مع شدته ، يعني لو كان هنالك صبيان لشابت رؤوسهم من شدة ذلك اليوم.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨))

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ) بالتذكير (٢) وصف ل (يَوْماً) وصفه بالشدة ، أي السماء ذات انفطار ، أي انشقاق (بِهِ) أي بذلك (٣) اليوم لشدته وثقالة ما عليها من الملائكة يومئذ كانفطار الخشبة بالقدوم ، فالباء للسببية أو السماء منفطر به بتأويل السقف (كانَ وَعْدُهُ) أي وعد الله تعالى لمجيء ذلك اليوم (مَفْعُولاً) [١٨] أي محصولا بالبعث لا محالة.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

(إِنَّ هذِهِ) أي الآيات المخوفة للناس (تَذْكِرَةٌ) أي عظة لهم (فَمَنْ شاءَ) اتخاذ سبيل إلى النجاة من العذاب (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [١٩] أي مرجعا بالإيمان به وطاعته ، لأنه قد ظهر له الدلائل للرغبة فيه.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أي أقل (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) قوله (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب فيهما عطف على «أدنى» ، أي تقوم أقل من الثلثين وتقوم نصفه وتقوم (٤) ثلثه ، وهو موافق للتخيير الثاني في أول السورة بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين ، وبالجر فيهما (٥)

__________________

(١) ليعود ، وي : لتعود ، ح.

(٢) الجملة ، + و.

(٣) أي بذلك ، ح ي : أي بشدة ذلك ، و.

(٤) نصفه وتقوم ، وي : ـ ح.

(٥) «ونصفه ، ثلثه» : قرأ المدنيان والبصريان والشامي بخفض الفاء في «ونصفه» ، والثاء الثانية في «وثلثه» ، ويلزم منه كسر الهاء فيهما ، والباقون بنصب الفاء والثاء ، ويلزمه ضم الهاء فيهما. البدور الزاهرة ، ٣٣٠.

٢٦٠