عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

قوله (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) والآية ثناء الله تعالى على المهاجرين الذين هاجروا بعد الأولين ، أي انهم (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي أظهروا الإيمان قبلنا ، يعني المهاجرين والأنصار (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [١٠] بمغفرة ذنوب عبادك المؤمنين وإدخالهم الجنة ، وفي الآية دليل على أن الترحم والاستغفار واجب على المؤمنين الآخرين للسابقين منهم لا سيما لآبائهم ولمعلمهم أمور الدين.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) من أهل المدينة (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر سرا ، وهم (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني بني النضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في قتالكم أو في خذلانكم بترك ما وعدناكم من النصرة (أَحَداً) أي محمدا (أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) أي (١) قاتلكم محمد (٢) وأصحابه (لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [١١] في قولهم لهم.

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))

فقال تعالى والله (٣)(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) أي المنافقون مع بني النضير (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي لئن جاؤا لنصرهم فرضا (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) أي لرجعوا منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [١٢] أي لا ينصر اليهود لانهزام ناصرهم.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣))

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي لخوف المنافقين منكم (٤) يا أيها المؤمنون (فِي صُدُورِهِمْ) أي سرا أشد من خوفهم (مِنَ اللهِ) جهرا ، ويجوز أن يراد خوف اليهود في صدورهم منكم أشد من خوفهم من الله تعالى (٥)(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [١٣] أمر الله وخوفه.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))

قوله (لا يُقاتِلُونَكُمْ) بيان لحال اليهود في الحرب ، أي هم لا يقاتلونكم (جَمِيعاً) أي مجتمعين لقتالكم في الصحراء (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي حصينة (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي خلف حائط ، وقرئ «جدر» (٦)(بَأْسُهُمْ) أي قتالهم (بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)(٧) إذا اقتتلوا ولا طاقة لهم بكم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) أي تظن يا محمد أن اليهود والمنافقين متفقون على أمر واحد وكلمة واحدة (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي متفرقة مختلفة لا موادة بينهم ، الواو فيه للحال وهو تشجيع لقلوب المؤمنين على قتالهم (ذلِكَ) أي الاختلاف (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [١٤] ما عليهم من الاختلاف.

__________________

(١) ما ، + ح.

(٢) عليه‌السلام ، + ح.

(٣) والله ، وي : ـ ح.

(٤) منكم ، وي : ـ ح.

(٥) تعالى ، ي : ـ ح و.

(٦) «جدر» : قرأ المكي والبصري بكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها على الإفراد ، والباقون بضم الجيم والدال على الجمع. البدور الزاهرة ، ٣١٧.

(٧) أي ، + ح.

٢٠١

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥))

(كَمَثَلِ الَّذِينَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي مثل بني النضير في كفرهم كمثل الذين كفروا (مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني أهل بدر (قَرِيباً) أي زمانا قريبا ، والعامل فيه الوجود المقدر ، أي كوجود مثل أهل بدر في زمان قريب مقدار سنتين (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عقوبة كفرهم وعداوتهم النبي عليه‌السلام (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [١٥] في الآخرة سوى ذلك.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦))

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي مثل المنافقين مع اليهود في إغرائهم على القتل ووعدهم النصر الكاذب كمثل إبليس وإغوائه بكيده وتبريه منه في العاقبة (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) أي للمشركين من أهل مكة قاتلوا محمدا وأصحابه وأنا جار لكم ، أي ناصركم ، فلما قاتلوا ورأى إبليس جبرائيل مع محمد عليه‌السلام خافه وتبرأ منهم (١) وانهزم ، وقيل : جاء إبليس برصيصا الراهب ووسوس له حتى زنى بامرأة مجنونة أتته ليعالج (٢) جنونها ، فتبين حبلها فقتلها ودفنها لئلا يفتضح ، فأخذوا برصيصا ليصلبوه فجاءه إبليس وقال له اكفر ، أي اسجد لي لأنصرك فسجد (٣)(فَلَمَّا كَفَرَ) أي سجد له (٤)(قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [١٦] استهزاء.

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

(فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي عاقبة الراهب والشيطان (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ) أي الخلود في النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) [١٧] من الكافرين والمنافقين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في ترك المعاصي (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ) أي نفس واحدة (ما قَدَّمَتْ) من العمل (لِغَدٍ) أي ليوم القيامة الهائل ، فالتنكير فيه للتعظيم ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبا له ، يعني اعملوا بالطاعة تجدوا ثوابها يوم القيامة في الجنة (وَاتَّقُوا اللهَ) أي أطيعوه مع التقوى ولا تعصوه بترك أمره ونهيه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [١٨] من الطاعة والمعصية.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩))

(وَلا تَكُونُوا) في المعصية (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي تركوا أمره (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي خذلهم بأن تركوا الاهتمام لأنفسهم (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [١٩] أي هم صاروا من أصحاب النار كالمنافقين.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

قوله (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) تنبيه للناس بأنهم لفرط غفلتهم ومحبة العاجلة واتباع (٥) الشهوات ، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار وبين أصحابهما وإن الفوز مع أصحاب الجنة ، لا يستوي أصحابهما في الكرامة والهوان في الدنيا والآخرة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [٢٠] أي الناجون والمكرمون وأصحاب النار هم المعذبون فيها والمهانون واستدل الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل الكافر وأن الكافر لا يملكون أموال المسلمين بالقهر.

__________________

(١) منهم ، وي : منه ، ح.

(٢) ليعالج ، ح : لتعالج ، وي.

(٣) نقله المؤلف عن السمرقندي مختصرا ، ٣ / ٣٤٧.

(٤) له ، وي : ـ ح.

(٥) اتباع ، وي : اتبعوا ، ح.

٢٠٢

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

ثم حرض بني آدم على الإيمان بالقرآن والعمل به لما فيه من الوعد والوعيد الموجبين للرجاء والخوف من الله تعالى فقال (١)(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً) أي خاضعا (مُتَصَدِّعاً) أي متفرقا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي من خوف عذابه ، والكافر معرض عنه لقساوة قلبه أشد قسوة من الجبل ، هذا على وجه المثل ، يعني لو كان للجبل تمييز لتصدع من خشية الله تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) أي التي ذكرت في القرآن (نَضْرِبُها) أي نبينها (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [٢١] في تلك الأمثال فيعتبرون ولا يعصون ربهم.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢))

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا شريك له في العبادة (عالِمُ الْغَيْبِ) أي عالم بما غاب عن العباد (وَالشَّهادَةِ) أي وعالم بما عاينوه ، يعني عالم بأمر الآخرة وأمر الدنيا لا يخفى عليه شيء منهما (هُوَ الرَّحْمنُ) أي العطوف على جميع الخلق بالرزق (الرَّحِيمُ) [٢٢] بمغفرة الذنوب للمؤمنين.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣))

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي الذي لا يزول ملكه عن كل شيء (الْقُدُّوسُ) أي الطاهر المنزه عن كل عيب (السَّلامُ) أي السالم من كل عيب أو ذو السّلام على أوليائه في الجنة أو ذو السلامة لهم من كل مخوف (الْمُؤْمِنُ) أي المعطي الأمن لأوليائه من عذابه (الْمُهَيْمِنُ) أي الرقيب على كل شيء ، أصله مأء من بهمزتين قلبت الأولى هاء والثانية ياء (الْعَزِيزُ) أي الذي لا يعجزه شيء عما أراد (الْجَبَّارُ) أي الذي يغلب على خلقه باجبارهم على ما أراد (الْمُتَكَبِّرُ) أي الذي تعالى عن صفات المحدثات وتعظم على جميعها بقوته (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [٢٣] أي أنزهه تنزيها عما وصفه الكفار من الشريك والولد.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ) أي المقدر لكل موجود (الْبارِئُ) أي المميز بعض خلقه من بعض بالأشكال المختلفة (الْمُصَوِّرُ) أي الذي يمثل كل شيء بصورته كما يصور الأولاد في الأرحام بالشكل واللون (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي له الصفات العلى ، روي عن النبي عليه‌السلام : «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحدة ، من أحصاها دخل الجنة» (٢) ، قوله «مائة غير واحدة» بدل الكل ، وتأنيث الواحدة باعتبار الكلمة ، قوله «من أحصاها» ، أي عددها وحفظها بقلبه علما وإيمانا بها (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يخضع له جميع الأشياء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) [٢٤] في أمره وإنما مدح الله نفسه بهذه الصفات العظام تعليما لعباده المدح له بصفاته العلى بعد فهم معانيها ، ومعرفة استحقاقه بذلك طلبا لزيادة تقربهم إليه تعالى ، قال أبو هريرة رضي الله عنه سألت رسول الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم ، فقال : «عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته» ، فأعدت عليه فأعاد علي ، فأعدت عليه فعاد علي (٣).

__________________

(١) من الله تعالى فقال ، ي : من الله تعالى ، ح ، من الله فقال ، و.

(٢) رواه مسلم ، الذكر ، ٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٤٩.

(٣) انظر الكشاف ، ٦ / ١٠١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

٢٠٣

سورة الممتحنة

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزل حين كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا يعرف كفار مكة أن محمدا جهز الجيش للخروج إلى فتح مكة ، وكان النبي عليه‌السلام ورى ذلك بالخروج إلى ناحية أخرى إذا امرأة قدمت من مكة يقال لها سارة ، فقال النبي عليه‌السلام لها : لماذا جئت؟ فقالت : جئت لتعطيني شيئا ، فأعطاها شيئا فرجعت إلى مكة فأعطاها حاطب كتابه لتذهب به إلى مكة نصحا لهم لكون أولاده عندهم ، فلما دخلت في الطريق جاء جبرائيل وأخبر النبي عليه‌السلام ذلك ، فبعث عليا رضي الله عنه عقبها ، فلما بلغ سل سيفه وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك فأجرجته من عقاص شعرها ، أي من ظفائرها (١) ، فقال تعالى يا أيها المؤمنون (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) في العون والنصرة ، قوله (تُلْقُونَ) حال من فاعل (لا تَتَّخِذُوا) ، أي تبعثون (إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي بسبب المودة إخبار المسلمين بالكتاب والنصيحة ، فالباء للسببية والمفعول محذوف ، ويجوز أن يكون صفة ل (أَوْلِياءَ) أو استئنافا ، أي أنتم تفضون (٢) إليهم المودة ، والباء زائدة أو للسببية والواو للحال في (وَقَدْ كَفَرُوا) من ضمير (تُلْقُونَ) ، أي وقد جحدوا (بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) أي من القرآن وبالرسول والحال أنهم (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من دياركم ، ويجوز أن يكون (يُخْرِجُونَ) تفسيرا لكفرهم معللا بقوله (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي لإيمانكم (بِاللهِ رَبِّكُمْ) فكيف تلقون إليهم بالمودة ويتعلق ب (لا تَتَّخِذُوا) ، قوله (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً) أي للجهاد (فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي لطلب رضاي ، شرط ، و (٣) جواب الشرط محذوف ، أي لا تتولوا أعدائي بدلالة (لا تَتَّخِذُوا) الآية ، المعنى : إن كنتم أوليائي لا تتولوا أعدائي ولا تخبروهم بخبر الرسول والمسلمين ، قوله (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ) استئناف ، أي أنتم تسرون إلى أعدائي (بِالْمَوَدَّةِ) ولا طائل لكم في أسراركم (وَأَنَا أَعْلَمُ) أي والحال أني أعلم (بِما أَخْفَيْتُمْ) من المودة لأهل الكفر (وَما أَعْلَنْتُمْ) من الإقرار بالتوحيد فلا تودوهم (٤) ولا تساروهم (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) أي الأسرار (مِنْكُمْ) بعدها (فَقَدْ ضَلَّ) أي أخطأ (سَواءَ السَّبِيلِ) [١] أي طريق الفلاح.

__________________

(١) اختصره من السمرقندي ، ٣ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٠٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) تفضون ، وي : تقضون ، ح.

(٣) شرط و ، ح : ـ وي.

(٤) فلا تودوهم ، وي : ولا تودوهم ، ح.

٢٠٤

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢))

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي إن يظفروا عليكم ويأخذوكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي يظهر لكم عداوتهم (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالضرب والقتل (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي بالشتم (وَوَدُّوا) أي مشركو مكة أورده ماضيا بعد إيراد جواب الشرط مضارعا مثله ليدل على شدة مودتهم ردكم كفارا (لَوْ تَكْفُرُونَ) [٢] أي كفركم فتكونون مثلهم ، و (لَوْ) بمعنى أن.

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أي إن فعلتم الإسرار بسبب قرابتكم لن تنفعكم قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) بمكة الذين بسببهم كتبتم الكتاب خوفا عليهم إلى مكة (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ) بالتخفيف والتشديد مجهولا ومعلوما (١) ، أي الله يفرق (بَيْنَكُمْ) وبين أولادكم يوم القيامة فيدخلكم الجنة بايمانكم ويدخلكم النار بكرهم فما لكم لا تحفظون حق الله وتحفظون حق من سيفر منكم وسيفصل عنكم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٣] أي عالم بأعمالكم سرا وعلانية.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤))

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي قدوة صالحة (فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين فاقتدوا بهم أيها المؤمنون (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) من الكفار (إِنَّا بُرَآؤُا) جمع بريئ (مِنْكُمْ) أي من دينكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام (كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا دينكم (وَبَدا) أي ظهر (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ) يعني قطعنا عنكم المودة (أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ولا تشركوا به شيئا ، فأعلم الله أصحاب النبي عليه‌السلام أن أصحاب إبراهيم تبرؤا من قومهم لكفرهم فقال تعالى اقتدوا بهم وبابراهيم في كل قول (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) لا تقتدوا به فانه قال (لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) واستغفار المؤمن للكافر لا يجوز ، ف (إِلَّا) استثناء من قوله (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ولا يشكل قوله (وَما أَمْلِكُ) أي لا أقدر (لَكَ) يا أبي أن أمنعك (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (مِنْ شَيْءٍ) إن لم تؤمن ، فانه قول حق لا يليق الاستثناء ، لأن المقصود الاستثناء في الجملة هو الاستغفار ، وهو تابع له لا أنه مستثنى برأسه حتى يشكل قوله (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) متصل بما قبل الاستثناء (٢) وهو من جملة الأسوة الحسنة أو تعليم لحاطب ومثله ، أي قولوا أيها المؤمنون ربنا فوضنا أمرنا وأمر أقاربنا إليك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي أقبلنا بالطاعة (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [٤] أي المرجع في الآخرة.

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥))

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) أي بلية (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تظهرهم علينا التسليط فيظنون أنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنون بنا ولا تعذبنا فيقولوا لو كانوا على الحق لما عذبوا (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) [٥] في أمرك.

__________________

(١) «يفصل» : قرأ المدنيان والمكي والبصري بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخففة ، وابن عامر بضم الباء وفتح الفاء والصاد مشددة ، وعاصم ويعقوب بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة ، والأخوان وخلف بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة. البدور الزاهرة ، ٢١٨.

(٢) الاستثناء ، ح ي : ـ و.

٢٠٥

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦))

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) أي في إبراهيم ومؤمنيه في الاقتداء (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي طريق مرضي يؤتسى به ، وإنما كرره بما جاء به من القسم حثا على الاتساع بابراهيم وقومه وتقريرا وتأكيدا عليهم ، قوله (لِمَنْ كانَ) بدل من (لَكُمْ) ، أي كان لمن (يَرْجُوا اللهَ) أي ثوابه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي حسن حسابه في إبراهيم ومن تابعه أسوة مرضية فليقتد بهم (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أي يعرض عن الإيمان والطاعة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ) عن جميع خلقه وإيمانهم (الْحَمِيدُ) [٦] فيما يفعل ويحكم.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))

(عَسَى اللهُ) أي لعل الله (أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من كفار مكة (مَوَدَّةً) بالإسلام فاصبروا على ما أمر الله به (١) لكم (وَاللهُ قَدِيرٌ) على المودة بتسليط النبي عليه‌السلام على أهل مكة (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب من المعصية (رَحِيمٌ) [٧] لمن أطاع بأمره ، فلما فتح النبي عليه‌السلام مكة أسلموا فوقع بينهم مودة بالإسلام فخالطوهم وناكحوهم وتزوج النبي عليه‌السلام بنت أبي سفيان.

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨))

قوله (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) رخصة في صلة الذين عاهدوا النبي عليه‌السلام على أن لا يعينوه ولا يعينوا عليه ، فوفوا بذلك ، أي لا ينهاكم أيها المؤمنون عن صلة المعاهدين بكم (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) هو بدل من (الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) ، أي لا ينهاكم الله عن مبرتهم ووصلتهم وإنما ينهاكم عن موالاتهم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي لا ينهاكم عن أن تعدلوا معهم وتحسنوا إليهم عند الوصلة بوفاء عهدهم ، فعدي ب «إلى» لتضمنه (٢) معنى الإحسان (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [٨] أي العادلين ، من أقسط إذا عدل.

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) وهم أهل مكة (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا) أي عاونوا (عَلى إِخْراجِكُمْ) من دياركم (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي عن أن تودوهم وتناصحوهم (٣)(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) منكم ، أي من (٤) يحبهم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [٩] أنفسهم بكفرهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) بألسنتهم (مُهاجِراتٍ) من دار الحرب (فَامْتَحِنُوهُنَّ) أي اختبروهن بالاستخلاف ما خرجنا إلا رغبة في دين الإسلام لا لكراهية الزوج ولا لعشق رجل ولا لغرض

__________________

(١) به ، وي : ـ ح.

(٢) لتضمنه ، ح ي : لتضمينه ، و.

(٣) وتناصحوهم ، وي : وتناصحوا ، ح.

(٤) من ، ح : ـ وي.

٢٠٦

الدنيا (اللهُ أَعْلَمُ) هو أعلم منكم (بِإِيمانِهِنَّ) وسرائرهن ، لأنكم لا تعلمون حقيقة ذلك ليطمئن معه قلوبكم (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ) أي ظننتموهن (مُؤْمِناتٍ) بالحلف وظهور الأمانات (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ) أي لا تردوهن (إِلَى الْكُفَّارِ)(١) بعد ما غلب ظنكم على إسلامهن وإن كانوا أزواجهن (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي لا حل بين المؤمنة والمشرك أولا وآخرا ، يعني بالهجرة والنكاح بعدها (وَآتُوهُمْ) أي أعطوا أزواجهن (ما أَنْفَقُوا) عليهن من المهر (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون في (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) أي المهاجرات وإن كان لهن أزواج كفار (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي أجور بضعهن ، لأن المهر أجر البضع ، فيه دليل على تقديم أدائه في إباحة تزوجهن ، قيل : يدفع المهر إلى زوجها فان لم يتزوجها أحد من المسلمين فليس لزوجها الكافر شيء (٢) ، وقيل : نسخ دفع المهر إلى زوجها (٣) ، قيل : استدل أبو حنيفة رحمه‌الله به على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة بينهما ، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملا (٤) ، وقال الشافعي لا يقع الفرقة إلا بالإسلام (٥)(وَلا تُمْسِكُوا) بالتخفيف والتشديد (٦) ، أي لا تأخذوا (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) جمع عصمة وهي ما يعتصم به ، أي يعتمد عليه من عقد وسبب ، يعني إذا ارتدت (٧) ـ العياذ بالله ـ امرأة (٨) من أزواجكم ولحقت بدار الحرب فقد زالت العصمة وانقطعت الزوجية بينها وبين زوجها المؤمن باختلاف الدارين ، فجاز له أن يتزوج أختها ورابعا سواها ، وأصل العصمة الحبل ، المعنى : لا ترغبوا فيهن ولا في نسائكم اللاتي أقمن في مكة كافرات بعد هجرتكم من مكة إلى المدينة ، لأن عصمتهن قد قطعت منكم (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) من المهر على زوجاتكم ، إذا لحقن بالمشركين مرتدات ممن تزوجهن (٩)(وَلْيَسْئَلُوا) أي المشركون (ما أَنْفَقُوا) من المهر على زوجاتكم المهاجرات ممن تزوجهن من المؤمنين (ذلِكُمْ) أي الحكم (١٠) المذكور (حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) [١٠] في أمره لكم ، قيل : شرط رد النساء إلى الكفار في عقد الصلح في الحديبية ثم نسخ ببراءة من الله (١١) ، وقيل : لم يشرط في نفس العقد صريحا لكن اشتمل العقد عليهن مع الرجال (١٢) ، فبين الله تعالى خروجهن من عموم العقد بالآية المذكورة.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

(وَإِنْ فاتَكُمْ) أي إن سبقكم وانفلت منكم (شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أحد منهن حقير غير معوض منه يأخذ مثل مهرها مرتدة (إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ) أي قاتلتم الكفار وغلبتم عليهم بعقوبة واغتنمتم الأموال منهم (فَآتُوا) المؤمنين (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) منكم إلى الكفار مرتدات (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) عليهن من الغنائم ليكون كالعوض لمهر زوجته الفانية إلى الكفار ، روي : أن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين فأعطى

__________________

(١) أي ، + ح.

(٢) وهذا القول منقول عن القرطبي ، ١٨ / ٦٥.

(٣) عن عطاء ومجاهد وقتادة ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٦٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٠٦ (عن قتادة) ؛ وانظر أيضا قتادة (كتاب الناسخ والمنسوخ) ٤٨ ـ ٤٩ ؛ هبة الله بن سلامة ، ٩١ ؛ ابن الجوزي ، ٥٦.

(٤) نقل المؤلف هذا القول عن الكشاف ، ٦ / ١٠٦.

(٥) وفي هذا الموضوع أقوال كثيرة ، انظر القرطبي ، ١٨ / ٦٦ ـ ٦٨.

(٦) «ولا تمسكوا» : قرأ البصريان بفتح الميم وتشديد السين ، وغيرهما باسكان الميم وتخفيف السين. البدور الزاهرة ، ٣١٩.

(٧) إمرأة ، + ح.

(٨) إمرأة ، وي : ـ ح.

(٩) تزوجهن ، ح و : يتزوجهن ، ي ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٦٥.

(١٠) الحكم ، وي : حكم ، ح.

(١١) أخذ المؤلف هذا القول عن البغوي ، ٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٥٤.

(١٢) وفي هذا الموضوع آراء كثيرة ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢٠٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجهن مهورهن من الغنيمة (١)(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [١١] أي لا تعصوه فيما أمركم به إن كنتم آمنتم بالله.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) بالألسن (يُبايِعْنَكَ) يوم فتح مكة (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأصنام (وَلا يَسْرِقْنَ) من مال أحد (وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) كما في الجاهلية حشية الفقر ، والمراد وأد البنات (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) أي بولد (يَفْتَرِينَهُ) أي يختلقنه (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) يعني لا تأتي المرأة بولد تلتقطه فتنسبه إلى زوجها بأن تقول للزوج ولدت هذا منك ، فليس المراد بالبهتان المفترى الزنا لتقدم ذكره (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أي فيما تأمرهن من المحسنات وتنهاهن من المقبحات ، وذكره للتأكيد ، وقيل : المعروف كل ما وافق طاعة الله تعالى (٢) كترك النياحة ومحادثة النساء الرجال واداء الزينة لغير أزواجهن (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) أي أسأل المغفرة من الله لهن بما كان من الشرك والمعصية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [١٢] فيما بقي ، قيل : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايعهن بالكلام ولم يصافح امرأة في البيعة (٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا) أي لا تتصادقوا (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نزل حين تواصل بعض الفقراء من المسلمين اليهود لينالوا شيئا من ثمارهم وطعامهم وشرابهم (٤) ، فنهاهم الله عن ذلك به (قَدْ يَئِسُوا) أي الكفار قد قطعوا رجاءهم (مِنَ) خير (الْآخِرَةِ) وثاوابها (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) [١٣] أي من رجوعهم إلى الحيوة ، لأنهم لا يوقنون البعث أو (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) ، حال ، أي كائنين من أصحاب القبور ، لأنهم إذا دخلوها أيسوا من رحمة الله تعالى.

__________________

(١) نقله المفسر عن البغوي ، ٥ / ٣٦٦ (مروي عن ابن عباس) ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٠٧.

(٢) أخذ المؤلف هذا المعنى عن الكشاف ، ٦ / ١٠٧.

(٣) نقله عن البغوي ، ٥ / ٣٦٩ (مروي عن عائشة رضي الله عنها) ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

(٤) قد أخذه المصنف عن الكشاف ، ٦ / ١٠٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٥٠ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٧٠.

٢٠٨

سورة الصف

مكية (١) أو مدنية (٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

(سَبَّحَ لِلَّهِ) أي نزه أو صلى له (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل موجود في الأرض والسماء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) [١] في أمره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣))

ونزل في نفر طلبوا الجهاد فانهزموا بأحد قوله (٣)(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ) أصله لما ، اللام للتخصيص و (ما) للاستفهام ، أي لأي شيء (تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [٢] تعييرا لهم بترك الوفاء أو قال بعضهم فعلت كذا وكذا بعد ما فر يوم أحد وما فعل شيئا ، وقيل : قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال عمر لصهيب : أخبر النبي عليه‌السلام أنك قتلت ، فقال : إنما قتلته لله ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب قال كذلك يا أبا يحيى ، قال نعم ، فنزلت الآية في المنتحل (٤) ، وقيل : نزلت في المنافقين (٥) ، ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبايمانهم (٦) ، وفي (كَبُرَ مَقْتاً) معنى التعجب وهو تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، ونصب (مَقْتاً) على التمييز ، أي عظم بغضا (عِنْدَ اللهِ) قوله (أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [٣] رفع فاعل (كَبُرَ) ، يعني عظم قولهم بما لم يفعلوا مقتا وهو أشد البغض وأبلغه ، قيل لبعض السلف حدثنا فسكت ثم قيل له حدثنا فقال لهم أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل ، فأستعجل مقت الله.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))

ثم ذكر تعالى ما فيه تعريض لمن خالف وعده للثبات في قتال الكفار فلم يف فقال (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) نصب على الحال ، أي صافين أنفسهم (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [٤] حال متداخلة ، إذ العامل الصف في هذا الحال ، أي صافين متراصين في أماكنهم لا يزولون (٧) عنها كالبنيان الذي رص ، أي أدخل بعضه في بعض أو بني بالرصاص.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥))

(وَإِذْ قالَ) أي اذكر إذ قال (مُوسى لِقَوْمِهِ) بني إسرائيل (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) بالشتم والتكذيب

__________________

(١) وهذا قول عطاء ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٧٠ ؛ وانظر أيضا القرطبي ، ١٨ / ٧٧ (عن ابن عباس).

(٢) وهو قول الجميع ، انظر القرطبي ، ١٨ / ٧٧.

(٣) وفي هذا الموضوع أقوال كثيرة ، انظر القرطبي ، ١٨ / ٧٧ ـ ٧٨.

(٤) قد أخذه عن الكشاف ، ٦ / ١٠٨.

(٥) عن الحسن ، انظر الكشاف ، ٦ / ١٠٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٧١ (عن ابن زيد).

(٦) هذا منقول عن الكشاف ، ٦ / ١٠٨.

(٧) لا يزولون ، ح و : لا يزالون ، ي.

٢٠٩

(وَقَدْ تَعْلَمُونَ) حال ، أي عالمين (١)(أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) والاحترام يجب على الأمة لرسولهم (٢) ، و (قَدْ) فيه للتأكيد كأنه قال : وقد (٣) تعلمون علما يقينا في رسالتي لا شبهة لكم فيها (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ) أي مالوا عن تصديق الرسل (اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الهدى (وَاللهُ لا يَهْدِي) أي لا يرشد إلى الإيمان (الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [٥] إذا سبق في علمه فسقهم.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

(وَ) اذكر (إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم يقل يا قوم ، إذ لا قرابة له فيهم (إِنِّي رَسُولُ اللهِ) أي مرسل منه (إِلَيْكُمْ) لأدعوكم إلى الإسلام (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) والعامل في الحال معنى الفعل الدال عليه رسول الله لا إليكم ، لأنه صلته (٤) ، والصلة التي هي حرف من حروف الجر لا يتضمن معنى الفعل فلا تعمل شيئا بنفسها (٥) ، أي أقرأ الإنجيل موافقا لما فيها من التوحيد وبعض الشرائع (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) والجملة في محل الجر صفة رسول أو نصب حال من فاعل يأتي ، قيل : «قال الحواريون لعيسى : يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال : نعم ، أمة محمد عليه‌السلام حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير ويرضى الله منهم باليسير من العمل» (٦)(فَلَمَّا جاءَهُمْ) عيسى (بِالْبَيِّناتِ) أي بالآيات المعجزة كاحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [٦] أي ظاهر في العالم (٧).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) أي اختلق (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وهم اليهود الذين نسبوا الشريك والولد إلى الله تعالى (وَهُوَ) يرجع إلى (مَنْ أَظْلَمُ) ، أي والحال أنه (يُدْعى) بلسان رسل الله (إِلَى الْإِسْلامِ) وهو دين محمد عليه‌السلام (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [٧] أي لا يرحمهم لظلمهم أنفسهم بالتكذيب.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨))

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي توحيده وإظهار شرعه (بِأَفْواهِهِمْ) أي بأقوالهم الكاذبة ، وهي نسبة الولد والشريك إليه تعالى (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) بالإضافة وتركها (٨) ، أي مكمل توحيده ودينه (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [٨] أي اليهود والنصارى.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي بالتوحيد (وَدِينِ الْحَقِّ) أي الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي ليغلبه بالقهر (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [٩] أي مشركو مكة ، قيل : قد فعل (٩) لأن كل دين مقهور بدين الإسلام (١٠) أو لا يبقى أحد في آخر الزمان إلا مسلم أو ذمة للمسلمين (١١) ، وقال مجاهد : «إذا نزل عيسى عليه‌السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام» (١٢).

__________________

(١) أني ، + ي.

(٢) على الأمة لرسولهم ، وي : على أمته لرسوله ، ح.

(٣) قد ، ح : ـ وي.

(٤) صلته ، وي : صلة ، ح.

(٥) بنفسها ، وي : بنفسه ، ح.

(٦) عن وهب ، انظر الكشاف ، ٦ / ١٠٩.

(٧) في العالم ، وي : في العلم ، ح.

(٨) «متم نوره» : قرأ المكي وحفص والأخوان وخلف بحذف تنوين «متم» وخفض راء «نوره» ، ويترتب عليه كسرهاء الضمير ، والباقون بتنوين «متم» ونصب راء «نوره» ، ويترتب عليه ضم هاء الضمير. البدور الزاهرة ، ٣١٩.

(٩) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٥٩.

(١٠) وهذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٦ / ١١٠.

(١١) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٣٥٩.

(١٢) عن مجاهد ، انظر الكشاف ، ٦ / ١١٠.

٢١٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

قيل : قال المسلمون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فنزل (١)(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ) أي تخلصكم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [١٠] أي دائم ، ثم قالوا يا ويلتي لا نعلم ما هي ، فدلهم عليها (٢) بقوله (تُؤْمِنُونَ) استئناف ، كأنهم قالوا كيف نفعل فقال تؤمنون وهو خبر لفظا في معنى الأمر للإيذان بوجوب (٣) الامتثال ، ويجوز أن يكون بدلا من ال (تِجارَةٍ) بتقدير أن تؤمنوا ، أي تصدقون (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وقدم المال (٤) ، لأنه بتأخير النفس يحصل غزوة أخرى ولأن في صرف المال أولا دفع الضنة عن النفس (ذلِكُمْ) أي المذكور من الإيمان والجهاد في سبيله (خَيْرٌ لَكُمْ) من تركهما (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [١١] بخلوص الاعتقاد أنه خير لكم ، وجواب (تُؤْمِنُونَ) في معنى الأمر (يَغْفِرْ لَكُمْ) بالجزم ، ويجوز أن يكون جواب شرط محذوف بدلالة (تُؤْمِنُونَ) ، أي إن تؤمنوا يغفر لكم (ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي منازل مطيبة بالمسك والعنبر أو بالحور والغلمان والبقاء واللقاء (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة وخلود (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [١٢] أي الظفر الوافر بالمراد.

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي ولكم نعمة أخرى سوى المغفرة والثواب الآجل وهي نعمة محبوبة إليكم في العاجل ، قوله (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) بيان لتلك النعمة الأخرى ، يعني نصر من الله على عدوكم (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي عاجل وهو فتح مكة وفتح فارس والروم ، قوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [١٣] عطف على (تُؤْمِنُونَ) ، لأنه خبر في معنى الأمر ، أي آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم وبشر يا محمد المؤمنين بذلك النصر على قريش وغيرهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) بالإضافة وتركها (٥) ، أي أعوان دينه بالسيف على أعدائه ، وصح التشبيه حملا على المعنى في (كَما قالَ) أي أقول لكم كما قال ، فالكاف نصب صفة مصدر محذوف ، أي قولا مثل ما قال (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) للحواريون) لأصفيائه وخلصائه (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من المختص بي في التوجه إلى نصرة دين الله ، قيل : الحواريون هم الذين خلصوا ونقوا من كل عيب (٦) ، وكانوا صيادين وقصارين يبيضون الثياب ، من التحوير وهو التبييض (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي الذين ينصرونه باذنه (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى عليه‌السلام ، لأنهم قالوا هو عبد الله ورسوله فرفع إلى السماء (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) منهم لقولهم هو ابن الله وشريكه فاقتتلت (٧) الطائفتان المؤمنة والكافرة فيه (فَأَيَّدْنَا) أي قوينا ونصرنا (الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) الكافرين (فَأَصْبَحُوا) أي صاروا (ظاهِرِينَ) [١٤] أي غالبين على أعدائهم بنصرتنا وتأييدنا بالحجة.

__________________

(١) أخذه المفسر عن البغوي ، ٥ / ٣٧٢.

(٢) عليها ، ح و : ـ ي.

(٣) بوجوب ، ح : بوجود ، وي.

(٤) المال ، وي : الأموال ، ح.

(٥) «أنصار الله» : قرأ المدنيان والمكي والبصري بتنوين «أنصار» وزيادة لام مكسورة في لفظ الجلالة فيصير النطق بلام مسكورة بعدها لام مفتوحة مشددة ، والباقون بحذف تنوين «أنصار» وحذف اللام المكسورة من لفظ الجلالة. البدور الزاهرة ، ٣١٩.

(٦) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

(٧) فاقتتلت ، ح : فاقتتلتا ، وي.

٢١١

سورة الجمعة

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١))

(يُسَبِّحُ) أي ينزه أو يصلي (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل موجود في الأرض والسماء ، أورد هنا بالفعل المضارع للحال وبالماضي فيما مضى ليدل على أنه لا يخلو عن التسبيح بكل حال (الْمَلِكِ) بالكسر نعت (لِلَّهِ) ، أي لله الذي يملك كل شيء ولا يزول عنه ملكه (الْقُدُّوسِ) أي الطاهر عن الولد والشريك وعن كل عيب (الْعَزِيزِ) في ملكه (الْحَكِيمِ) [١] في أمره.

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢))

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي في أمة أمية لا يكتبون ولا يقرؤون (رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني أميا من العرب (يَتْلُوا) أي يقرأ (عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي آيات الله وهي (١) القرآن وإن كان أميا مثلهم (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من الشرك (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي الأحكام التي فيه من الحلال والحرام (وَإِنْ كانُوا) أي وإنهم كانوا (مِنْ قَبْلُ) أي قبل مجيئه (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٢] أي لفي شرك ظاهر.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

قوله (وَآخَرِينَ) عطف على (الْأُمِّيِّينَ) ، أي وبعثه في الآخرين (مِنْهُمْ) أي من الأميين أيضا ، وهم الذين يؤمنون به بعده إلى يوم القيامة من عرب وعجم ، وقيل : لما نزلت قيل من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على سلمان ثم قال : «لو كان الإيمان عند الثريا لتناله رجال من هؤلاء» (٢)(لَمَّا) أي لم (يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي بالأولين في الفضل ، يعني التابعون لا يدركون فضيلة الصحابة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [٣] في تمكينه رجلا أميا من ذلك الأمر العظيم واختياره له من بين كافة البشر.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

(ذلِكَ) أي الذي أعطاه (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيره منهم (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي من (٤) يكرمه به (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [٤] لمن اختصه به.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) وهم اليهود ، يعني رزقوا حفظها وقراءتها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يعملوا بها ، إذ لو عملوا بما فيها لآمنوا ، لأن فيها نعت النبي عليه‌السلام فمثلهم ، أي صفتهم في حملها وعدم الانتفاع بها

__________________

(١) وهي ، ح و : وهو ، ي.

(٢) رواه الترمذي ، المناقب ، ٧٠ ؛ وتفسير القرآن ، ٦٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٧٥ ؛ والكشاف ، ٦ / ١١٢.

(٣) أعطاه ، ح : أعطيه ، وي.

(٤) من ، ح و : ـ ي.

٢١٢

(كَمَثَلِ الْحِمارِ) والكاف زائدة ، قوله (يَحْمِلُ أَسْفاراً) صفة بحكم زيادة اللام أو حال ، أي يحمل كتبا عظاما لا يدرك منها إلا ما يتعبه ولا ينتفع منها (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) الدالة على صدق محمد عليه‌السلام وهي القرآن ، والمخصوص بالذم محذوف وهو هذا المثل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [٥] أنفسهم بتكذيب الآيات والأنبياء.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦))

قوله (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) نزل حين قالت اليهود نحن أولى بالله من غيرنا (١) ، فقال تعالى قل يا محمد يا أيها اليهود (إِنْ زَعَمْتُمْ) أي إن ادعيتم (أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أي أحباؤه (مِنْ دُونِ النَّاسِ) جميعا (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وقولوا اللهم أمتنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٦] فيما تزعمون.

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧))

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) أي لا يسألونه من الله قط لعلمهم أنهم كاذبون في دعويهم (بِما قَدَّمَتْ) أي بسبب ما قدمت (أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعصية (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [٧] أي بحالهم التي هي عدم تمنيهم الموت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» (٢) ، يعني مات من ساعته.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) أي من تمنيه أو من سببه وهو الجهاد (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي نازل بكم لا محالة ، والفاء في (فَإِنَّهُ) لتضمن الذي بمعنى الشرط ، يعني إن فررتم من الموت سواء كان قتلا أو غيره فلا تفوتونه (ثُمَّ تُرَدُّونَ) بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وهو الله (٣)(فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٨] أي يخبركم ويجازيكم بأعمالكم في الدنيا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩))

قيل : قال الأنصار للمسلمين : لليهود يوم يجتمعون فيه في كل أسبوع وللنصارى مثل ذلك ، فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فيه ، ونجعله يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى سعيد بن زرازة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة ، فأنزل الله تعالى آية الجمعة وهي قوله (٤)(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ) أي أذن (لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) وهو بيان ل (إِذا) وتفسير له ، أي يوم الفوج المجموع ، وقيل : أول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي (٥) لاجتماع القوم فيه للصلوة ، وكان اسمها العروبة ، وأول جمعة جمعها النبي عليه‌السلام في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قريب المدينة لما روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر مكة نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلوة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة (٦) ، وجواب «إذا» (فَاسْعَوْا) أي امضوا واذهبوا بالسكون والوقار ، وليس المراد من السعي الإسراع لقوله عليه‌السلام : «إذا أقيمت الصلوة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون (٧) ، وعليكم السكينة والوقار» (٨)(إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي إلى

__________________

(١) لعل المفسر اختصره من القرطبي ، ١٨ / ٩٦.

(٢) انظر الكشاف ، ٦ / ١١٢. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٣) وهو الله ، وي : بعد الموت ، ح.

(٤) عن ابن سيرين ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٧٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١١٣.

(٥) نقله المفسر عن البغوي ، ٥ / ٣٧٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١١٣.

(٦) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٦ / ١١٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٧) تمشون : وهذه الكلمة موجودة في رواية مسلم وابن ماجة ، أثبتناها ليفهم المعنى بسهولة.

(٨) رواه ابن ماجة ، المساجد ، ١٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٣٧٨.

٢١٣

الصلوة التي فيها ذكر الله أو إلى الخطبة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي اتركوا البيع والشراء ، فهو من قبيل الاكتافاء ، وفيه إيماء إلى ترك كل ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وخص ذكر (الْبَيْعَ) من بينها ، لأن يوم الجمعة يوم يجتمع الناس فيه من كل (١) أوب من قراهم وبواديهم ، فاذا انتفخ النهار تحر (٢) التجارة ويتكاثر البيع والشراء ، قيل : «إذا زالت الشمس يوم الجمعة حرم البيع» (٣) ، وقيل : «حرم في الأذان عند خروج الإمام إلى المنبر» (٤) ، وقيل : «عند النداء يوم الجمعة بالصلوة حتى تقضى لكن العقد جائز» (٥) ، لأنه منهي لغيره كالوضوء بالماء المغصوب (ذلِكُمْ) أي ترك البيع والسعي إلى الصلوة واستماع الخطبة (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٩] أنه كذلك ، قال عليه‌السلام : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد» (٦) ، أي يوم يزيد فيه الخير ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان لله في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق من النار» (٧) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر» (٨).

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠))

ثم بين وقت الإباحة فقال (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لحوائجكم (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي اطلبوا إن شئتم من رزقه وهو طلب الحلال وطلب العلم (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) باللسان (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [١٠] بالدخول إلى الجنة.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

قوله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) نزل حين قدم دحية الكبي بالعير مع بر وشعير من الشام ، وكان في المدينة قحط شديد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب في الجمعة ، وسمع القوم صوت الطبل فانفضوا إليه ، فما بقي عنده عليه‌السلام إلا اثنا عشر رجلا أو أحد عشر أو ثمانية أو أربعون (٩) ، فأخبر تعالى أنهم إذا رأوا تجارة ، أي تجارة دحية (أَوْ لَهْواً) أي صوت الطبل (انْفَضُّوا) أي ذهبوا عنك (إِلَيْها) إي إلى التجارة ، ولم يقل إليهما لأن المطلوب عندهم هو التجارة أو هو من قبيل الاكتفاء ، إذ التقدير : إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه (وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي في الخطبة (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) أي الذي عنده من الثواب أو من الرزق المقدر (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) لكم (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [١١] لأنه لم يكن يفوتكم الرزق منه تعالى ، روي عن النبي عليه‌السلام : «والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا» (١٠) ، قيل : لو بقي الإمام وحده أو مع أقل من ثلاثة يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، وعند باقي العلماء إذا كبروهم معه مضى فيها (١١).

__________________

(١) من كل ، وي : ـ ح.

(٢) تحر ، وي : تجر ، ح.

(٣) عن الضحاك ، انظر البغوي ، ٥ / ٣٧٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣٦٣ (عن الحسن).

(٤) عن الزهري ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٦٣ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٧٨.

(٥) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٦٣.

(٦) أخرجه مسلم ، الجمعة ، ١٧ ، ١٨ ؛ وأبو داود ، الصلوة ، ٢٠٧ ؛ والترمذي ، الصلوة ، ٣٥٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١١٣.

(٧) انظر الكشاف ، ٦ / ١١٣. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٨) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ٢ / ١٧٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١١٣.

(٩) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٣ / ٣٦٣ ؛ والكشاف ، ٦ / ١١٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٥٢.

(١٠) انظر الكشاف ، ٦ / ١١٥. ولم أعثر عليه بهذا اللفظ في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(١١) هذه الأقوال منقولة عن الكشاف ، ٦ / ١١٥.

٢١٤

سورة المنافقون

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١))

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) من أهل المدينة وهم جند بن قيس ومعتب بن قشير وابن أبي (قالُوا) بألسنتهم دون قلوبهم (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) بادعاء المواطأة بين ألسنتنا وقلوبنا (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي الله يعلم أن الأمر في الواقع كما يدل عليه قولهم ، قاله تعالى دفعا (١) لايهام كذب الأمر قبل قوله (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [١] في قولهم نشهد لعدم المواطاة بين قلوبهم وألسنتهم والشهادة إذا خلت عن المواطاة لا يكون شهادة في الحقيقة ، فهم كاذبون في تسميتهم شهادة أو كاذبون في زعمهم لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢))

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي حلفهم (جُنَّةً) أي سترة عن دمائهم وأموالهم (فَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن (٢) الإيمان والجهاد (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [٢] حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

(ذلِكَ) أي سوء عملهم (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) باللسان (ثُمَّ كَفَرُوا) بالقلب بالاستمرار عليه (فَطُبِعَ) أي ختم (عَلى قُلُوبِهِمْ) بالكفر (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [٣] الحق ولا يرغبون فيه.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) أي المنافقين (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لجمالها وسمنها كعبد الله ابن أبي ، فانه كان جميلا جسيما فصيحا (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي تصدقهم لظنك أنهم محقون (كَأَنَّهُمْ) أي الحال أنهم (خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) بضم الشين وسكونها (٣) ، أي أسندت إلى الحائط ليس فيها أرواح فشبهوا بها في عدم الخير والانتفاع أو المراد من الخشبة ما فسد جوفها ولم يبق فيها ما يصلح لشيء ما ، أي هم أجرام خالية عن الإيمان فاسدة البواطن (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ) أي كل صيحة تصاح في العسكر واقعة (عَلَيْهِمْ) لجبنهم ، ف (عَلَيْهِمْ) ثاني مفعولي (يَحْسَبُونَ) فيوقف عليه ويبتدأ (هُمُ الْعَدُوُّ) أي هم الكاملون في العداوة ، لأن أعدى الأعداء هو الذي يداري معك ويستر

__________________

(١) دفعا ، وي : ـ ح.

(٢) عن ، وي : ـ ح.

(٣) «خشب» : أسكن الشين قنبل وأبو عمرو والكسائي ، وضمها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٣٢٠.

٢١٥

عداوته في نفسه ، ويجوز أن يكون المراد من ال (صَيْحَةٍ) مخاطبة النبي عليه‌السلام الصحابة ، أي يحسبون كل خطاب من النبي عليه‌السلام لصحابي واقعا عليهم خوفا من أن يكون قد نزل من الله فيهم ما يبيح دماءهم ، وقيل : (هُمُ الْعَدُوُّ) في محل النصب مفعول ثان ل (يَحْسَبُونَ) ، وحقه أن يقال هي العدو نظرا إلى الظاهر إلا أنه جمع نظرا إلى المقدر قبل (كُلَّ)(١) ، أي أهل كل صيحة أو إلى العدو (فَاحْذَرْهُمْ) من إفشاء سرك للكفار (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي أهلكهم ، دعاء عليهم أو تعليم للمسلمين أن يدعوا عليهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [٤] أي كيف (٢) يصرفون عن الإيمان بالقرآن بعد قيام البرهان ، وفيه تعجيب من جهلهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لابن أبي وقومه (تَعالَوْا) إلى النبي عليه‌السلام معتذرين (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا) بالتشديد والتخفيف (٣) ، أي عطفوا (رُؤُسَهُمْ) معرضين عن الاستغفار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يعرضون عن طلب الاستغفار (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [٥] عن الإيمان في السر. روي : أنه قيل له نزلت فيك أيات شداد فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك ، فلوى رأسه وقال أمرتموني أن أو من فآمنت وأمرت أن أزكي مالي فزكيت فما بقي لي إلا أن أتعبد محمدا فنزل (٤)(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لنفاقهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [٦] أي لا يرشد إلى دينه الخارجين عن أمره بالنفاق ، فأخبر تعالى أن استغفاره لهم لا ينفعهم ما داموا على نفاقهم.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧))

قوله (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) الآية نزل حين ذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة مع أصحابه ، ونزل بالمريسيع وهو ماء من مياه بني المصطلق ، فدار على الماء ووقع بين غلام عمر وسنان بن وبر الجهني كلام فاقتتلا ، فصرخ سنان يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين ، فجاؤا واقتتلوا فسمع النبي عليه‌السلام ذلك ، فقال : ما بال دعوى الجاهلية دعوها ، فانها منفية ، فقال عبد الله ابن أبي وهو حليف الأنصار لقومه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، يعني أصحاب رسول الله عليه‌السلام ، ثم قال أيضا : «والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» ، فقال عمر : «دعني يا رسول الله أضرب رأس هذا لمنافق» ، فقال عليه‌السلام : «دعه كيلا يتحدث الناس أن محمدا يقبل أصحابه» (٥) ، فأخبر تعالى عنهم توبيخا بقوله «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ» (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من الفقراء (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي يذهبوا متفرقين عنه فقال تعالى (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيح الرزق بيده في السموات والأرض فهو رازقهم منها (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) [٧] أي لا يعلمون ما لهم وما عليهم من الله.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

ثم أخبر عنهم أيضا بقوله (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) بالرفع فاعل «يخرج» ، أي القوي

__________________

(١) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف مختصرا ، ٦ / ١١٧.

(٢) كيف ، ح : ـ وي.

(٣) «لووا» : خفف الواو الأولى نافع وروح ، وشددها الباقون ، ولا خلاف في تخفيف الواو الثاني. البدور الزاهرة ، ٣٢١.

(٤) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٣٦٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١١٧.

(٥) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٣ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٥٣ ـ ٣٥٤ ؛ والكشاف ، ٦ / ١١٧.

٢١٦

منا أراد نفسه (مِنْهَا) أي من المدينة (الْأَذَلَّ) بالنصب مفعوله ، أراد النبي عليه‌السلام وأصحابه فقال (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) أي الغلبة والقهر على غيره (وَلِرَسُولِهِ) باظهار دينه (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بنصرهم على الكافرين (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [٨] ذلك ، روي : أن ابن عبد الله قال له لئن لم تقر لله ورسوله بالعزة لأضربن عنقك ، فقال : ويحك أفاعل أنت؟ قال : نعم ، فلما رأى منه الجد قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله عليه‌السلام لابنه جزاك الله عن رسول الله وعن المؤمنين خيرا (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩))

ثم نبه المؤمنين وحثهم على العمل الصالح فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) أي لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي عن كل كلمة التوحيد أو الصلوات الخمس أو عن كل طاعة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الشغل عما نهوا عنه وما أمروا به (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [٩] أي المغبونون بذهاب الدنيا والآخرة.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠))

(وَأَنْفِقُوا) مما (رَزَقْناكُمْ) «مِنْ» فيه للتبعيض والمراد الإنفاق الواجب ، أي تصدقوا من أموالكم في طاعة الله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسبابه ودلائله آيسا معها من الإمهال (فَيَقُولَ رَبِّ) أي يا رب (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) أي هلا أمهلتني من الموت (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي إلى وقت قليل (فَأَصَّدَّقَ) أي أتصدق ، يعني أخرج صدقة مالي بالنصب بعد الفاء في جواب «لَوْ لا» (وَأَكُنْ) بالنصب عطفا على «أصدق» وبالجزم عطفا على محله (٢) ، لأنه جواب الشرط ، كأنه قيل إن أخرتني أصدق وأكن (مِنَ الصَّالِحِينَ) [١٠] وعن ابن عباس رضي الله عنه : «تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل» (٣) ، وعنه : «أنها نزلت في مانعي الزكوة والله لو رأى خيرا ـ أي المؤمن ـ عند الموت فما سأل الرجعة» (٤) ، قال الحسن : «ما من أحد لم يصل ولم يزك ولم يصم ولم يحج إلا سأل الرجعة» (٥).

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) عن الموت (إِذا جاءَ أَجَلُها) أي وقتها (وَاللهُ خَبِيرٌ) أي عالم (بِما تَعْمَلُونَ) [١١] بالتاء والياء (٦) من خير وشر فيجازيكم عليه ، أعلم الله به أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل له وإنه عالم بالأعمال ومجاز عليها من منع واجب وغيره فلم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله تعالى قبل حلول الأجل.

__________________

(١) هذا منقول عن الكشاف ، ٦ / ١١٧.

(٢) «وأكن» : قرأ أبو عمرو بزيادة واو بين الكاف والنون مع نصب النون ، وغيره بحذف الواو وإسكان النون. البدور الزاهرة ، ٣٢١.

(٣) انظر الكشاف ، ٦ / ١١٨.

(٤) انظر الكشاف ، ٦ / ١١٨.

(٥) انظر الكشاف ، ٦ / ١١٩.

(٦) «تعملون» : قرأ شعبة بياء الغيبة ، وغيره بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٢١.

٢١٧

سورة التغابن

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي لا يخلو كل موجود فيهما عن تسبيحه وتقديسه (لَهُ الْمُلْكُ) على الحقيقة ، لأنه مبدع كل شيء (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي هو ولي الحمد لا غيره على الحقيقة ، لأن كل نعمة منه لا من غيره ، وقدم الظرفان ليدل على هذا الاختصاص ، لأن الملك كله لله بالإبداء والإبداع والقيام به والحفظ عليه ، أما ملك غيره فتسلط منه واسترعاء فيكون مجازا ، وكذلك الحمد كله له تعالى ، لأن أصول النعم وفروعها منه أما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة الله جرت على يده (١)(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [١] أي هو قادر على ما يشاء في خلقه من التوفيق والخذلان.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢))

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) من نفس واحدة (فَمِنْكُمْ) أي بعضكم (كافِرٌ) بخالقه (وَمِنْكُمْ) أي بعضكم (مُؤْمِنٌ) بخالقه ، وقدم الكفر لكثرته (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٢] أي عالم بكفركم وإيمانكم الصادرين منكم وإن كانا مقدرين في علمه تعالى ، المعنى : أنكم استويتم في خلق الله الذي هو تفضل عليكم بالإيجاد من العدم فمقتضاه أن تشكروا له فما فعلتم مع تمكنكم عليه بل تفرقتم أمما واختلفتم في أحوالكم وأعمالكم من الكفر والإيمان والمعصية والطاعة ، والله يعلم بذلك كله فاحذروه.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي هو خلقهما بالحكمة البالغة وهي أن جعل السموات سقفا ليرزق عباده منها وجعل الأرض مقرا للمكلفين ليعملوا فيها فيجازيكم بالثواب والعقاب (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بأن جعل الآدمي منتصبا غير منكب مع شكل جميل ولسان ذلق ويد وأصابق يقبض بها ويعطى بها فهو أحسن الحيوان كله صورة وشكلا وإن كان بعض أفراده دميما (٢) مشوه الصورة تقبحه (٣) العيون ، قوله (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [٣] تهديد للعباد ليكونوا على الحذر دائما ، لأنه مطلع على الكليات والجزئيات.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

هو (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) في قلوبكم (وَما تُعْلِنُونَ) بألسنتكم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [٤] أي بضمائر القلوب ، فحقه أن يتقى ويحذر من عمل يخالف رضاه ، وتكرير العلم (٤) يدل على تكرير الوعيد.

__________________

(١) على يده ، ح و : ـ ي.

(٢) دميما ، ح و : ذميم ، ي.

(٣) تقبحه ، ح ي : تقتحمه ، و.

(٤) العلم ، ح و : العمل ، ي.

٢١٨

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥))

ثم زاد ذلك بقوله (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا كفار مكة (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي خبرهم (مِنْ قَبْلُ) أي قبلكم (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عقوبة عملهم في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٥] أي دائم في الآخرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

قوله (ذلِكَ) إخبار عن سبب نزول عذابهم ، أي العذاب النازل بهم في الدنيا (بِأَنَّهُ) أي بسبب أن الشأن (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الأمر والنهي أو الحجج الواضحة على الإيمان ، وأنث اسم «كان» باعتبار القصة (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي آدمي مثلنا يرشدنا إلى دين غير ديننا (فَكَفَرُوا) بالرسل وبما جاؤا به (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أطلق الاستغناء فيه ليتناول كل شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم ، أي أظهر غناه عن كل خلقه وإيمانهم (وَاللهُ غَنِيٌّ) في الأزل عن كل شيء (حَمِيدٌ) [٦] أي محمود على كل صنعه.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧))

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ادعى مشركو مكة (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) يوم القيامة (قُلْ) يا محمد لهم (بَلى) وهو تصديق لما بعد النفي بكلمة (لَنْ) ، ثم أكد بواو القسم في (وَرَبِّي) أي أقسم به (لَتُبْعَثُنَّ) بعد الموت (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ) أي لتخبرن (بِما عَمِلْتُمْ) في الدنيا فيجازيكم (١) عليه (وَذلِكَ) أي البعث والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [٧] أي هين عليه.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨))

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي القرآن الذي نزل به جبرائيل على محمد عليه‌السلام ليخرجكم من ظلمة الجهل إلى نور العلم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [٨] من الإيمان والكفر فيجازيكم بهما.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) فتعلق الظرف ب (خَبِيرٌ) أو العامل فيه مقدر ، أي اذكر يوم يجمعكم بالبعث من قبوركم (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي ليوم يجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين (ذلِكَ) أي اليوم (يَوْمُ التَّغابُنِ) وهو أن يغبن القوم بعضهم بعضا ، أي يوم يغبن فيه المؤمنون الكافرين بأخذ منازلهم وأهلهم المعد لهم في الجنة أو آمنوا ، وفيه اختصاص للتغابن في يوم الجمع مع أن الناس يتغابنون في أمور الدنيا أيضا إجلالا لذلك اليوم وإعظاما لهوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار ، لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة ، لو أحسن ليزداد حسرة» (٢)(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) أي من يوحد الله ويؤد فرائضه (يُكَفِّرْ عَنْهُ) أي يغفر له (سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ) بالنون والياء فيهما (٣)(جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي لا يخرجون عنها (أَبَداً ذلِكَ) أي خلودهم فيها (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [٩] أي النجاة الوافرة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي القرآن والرسول (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [١٠] أي الذي يصير إليه المكذبون النار.

__________________

(١) فيجازيكم ، وي : ويجازيكم ، ح.

(٢) رواه البخاري ، الرقاق ، ٥١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٢١.

(٣) «يكفر» ، «ويدخله» : قرأ المدنيان والشامي بالنون في الفعلين ، والباقون بالياء التحتية فيهما. البدور الزاهرة ، ٣٢١.

٢١٩

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١))

(ما أَصابَ) لبني آدم (مِنْ مُصِيبَةٍ) أي شدة ومرض ونقص من الأموال والأنفس (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بقضائه وعلمه (١)(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدق أنه لا يصيبه شيء من ذلك إلا بمشيته ويعلم أنه من الله تعالى لا من غيره (يَهْدِ قَلْبَهُ) أي يشرح صدره لعمل الخير ويصلحه بتوفيقه ليسترجع عند نزول المصيبة ، وعن مجاهد : «إن ابتلي صبر وإن أعطي شكر وإن ظلم غفر» (٢)(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [١١] أي بصبره عليها وثواب من صبر على ما فعله له.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

(وَأَطِيعُوا اللهَ) في الرضا بقضائه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما يأمركم به من الصبر وترك الجزع (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن طاعتهما (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [١٢] أي التبليغ الظاهر للناس لا غيره ، ثم وحد نفسه في الألوهية وإيصال النفع والضر للخلق فقال (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا ضار ولا نافع إلا الله (٣)(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [١٣] أي ليفوضوا أمرهم إليه تعالى وهو حث لرسوله وأصحابه على التقوى به في أمرهم حتى ينصرهم على المعرضين عن الإيمان به تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

ونزل فيمن منعت أزواجه وأولاده عن هجرته من مكة إلى المدينة قوله (٤)(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يمنعكم من الهجرة المحققة لإيمانكم (فَاحْذَرُوهُمْ) ولا تطيعوهم في ترك الهجرة ، و (مِنْ) للتبعيض لأن بعضهم ليس بعدو لهم ، والضمير في (فَاحْذَرُوهُمْ) لل (عَدُوًّا) أو لل «أزواج» وا ل «أولاد» جميعا ، أي لا تأمنوا شرهم وغوائلهم ، بل كونوا منهم على حذر (وَإِنْ تَعْفُوا) عنهم وتتركوا الضرب والشتم (وَتَصْفَحُوا) أي تجاوزوا عن عقابهم (وَتَغْفِرُوا) ذنوبهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [١٤] لذنوب المؤمنين ويعطي ثوابهم في الجنة ، روي : أن قوما أسلموا في مكة وأرادوا أن يخرجوا إلى المدينة فمنعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا أتنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا ، فلما قدموا على النبي عليه‌السلام رأوا الناس قد فقهوا في الدين فأرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزلت الآية لتزيين العفو لهم (٥).

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥))

ثم قال لدفع الميل إليهم والصبر عنهم لمحافظة الدين الحق (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ) الذين بمكة (فِتْنَةٌ) أي بلية لا يقدر الرجل على الهجرة بسببهم أو جميع الأموال والأولاد فتنة في الدين ، لأن الاشتغال بهم يقطع القلب عن ذكر الله وطاعته (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [١٥] لمن أطاع الله ولم يعصه لأجل الأموال والأولاد بعد الإحسان إليهم ، روي عن النبي عليه‌السلام : «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال أكل عياله حسناته» (٦) ، وقيل :

العيال سوس الطاعات (٧) ، وهو دود يقع في الطعام والثوب وغيرهما.

__________________

(١) وعلمه ، ح و : وعمله ، ي.

(٢) انظر الكشاف ، ٦ / ١٢١.

(٣) الله ، وي : هو ، ح.

(٤) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٣٥٤ ؛ والبغوي ، ٥ / ٣٩٦.

(٥) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٧١ ؛ والواحدي ، ٣٥٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٦) انظر الكشاف ، ٦ / ١٢٢. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٧) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٦ / ١٢٢.

٢٢٠