عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٤

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٥١

مما لطف من الديباج ومما ثخن منه وغلظ ، وال (إِسْتَبْرَقٍ) معرب من استبره ، وجاز وقوع اللفظ العجمي في القرآن العربي ، لأنه إذا عرب خرج من أن يكون عجميا يتصرف فيه تصرف اللفظ العربي من غير فرق ، قوله (مُتَقابِلِينَ) [٥٣] حال بعد حال ، أي متواجهين لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم.

(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥))

(كَذلِكَ) أي مثل ما ذكرت لهم ثابت في الجنة أو أثبناهم كذلك (وَزَوَّجْناهُمْ) أي قرناهم (بِحُورٍ عِينٍ) [٥٤] أي حسان الوجوه عظام العيون ، (يَدْعُونَ فِيها) أي يطلبون في الجنة منا وهو حال مقدرة من فاعل «زوجنا» ، أي مقدرين طلبهم فيها منا (بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) [٥٥] من انقطاعها ومضرتها أو من الموت أو من كل مخوف.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧))

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي سوى الموتة الأولى أو بعدها ، والمعنى : لا يذوقون فيها البتة ، لأن ذوق الموت الماضي غير ممكن في المستقبل ، فهذا من باب التعليق بالمحال (وَوَقاهُمْ) أي يصرفهم عنهم (عَذابَ الْجَحِيمِ [٥٦] فَضْلاً) أي أعطى لهم هذا الثواب فضلا (مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ) أي الفضل (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [٥٧] أي النجاة الوافرة.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) الفاء فيه (١) للعطف على مقدر ، أي ذكرهم بالكتاب المبين فانما يسرناه ، أي سهلنا القرآن (بِلِسانِكَ) أي لتقرأ بلغتك لتفهمه العرب عنك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [٥٨] أي يتعظون به فيؤمنون وإن لم يؤمنوا.

(فَارْتَقِبْ) أي انتظر هلاكهم (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) [٥٩] هلاكك ، لأنهم يرتقبون ، أي ينتظرون بك دائرة السوء.

__________________

(١) فيه ، ح : ـ وي.

١٠١

سورة الجاثية

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

(حم) [١] أي بحق (حم) يا محمد (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي القرآن (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [٢] ف (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، وخبره الظرف (١).

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في خلقهما أو في الذي فيهما من الشمس والقمر وغيرهما من النيرات والجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها من العجائب (لَآياتٍ) أي لدلالات واضحات (لِلْمُؤْمِنِينَ) [٣] أي للمصدقين بتوحيده (وَفِي خَلْقِكُمْ) وتغيركم من حال إلى حال (وَ) في (ما يَبُثُّ) عطف على المضاف دون المضاف إليه لقبحه من غير إعادة الجار ولو أكد ، أي وفي الذي ينشر الله (مِنْ دابَّةٍ) مختلفة في الأرض (آياتٌ) أي دلائل (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [٤] بالبعث (وَ) في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي في سواده وبياضه أو في ذهاب أحدهما ومجيء الآخر (وَ) في (ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أي مطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد (٢) يبسها (وَ) في (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) مرة رحمة ومرة عذابا أو في جهات مختلفة (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٥] الدليل والاستدلال به فيؤمنون ويطيعون ، ف (آياتٌ) الأولى (٣) مبتدأ و (فِي خَلْقِكُمْ) خبره ، و (آياتٌ) الثانية مبتدأ و (اخْتِلافِ اللَّيْلِ) خبره ، لأنه مجرور ب «في» مقدرة كما مر هذا إذا رفعتهما استئنافا ، فلو نصبت أو رفعت عطفا لكان من العطف على معمولي عاملين ، وهما «إن و «في» ، لأنك إذا نصبت أقيمت الواو مقامهما فتعمل الجر في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ) وفي (آياتٌ) النصب ، وإذا رفعت كان العاملان الابتداء وفي فيعمل الواو الرفع في (آياتٌ) والجر في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ) وهذا على مذهب الأخفش دون سيبويه ، فانه لم يجوزه وتخرج الآية عنده على إضمار «في» بدليل تقدم ذكره في الآيتين قبلها.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧))

(تِلْكَ) أي الآيات المذكورة (آياتُ اللهِ) أي آيات وحدانيته (نَتْلُوها) أي نقرأها (عَلَيْكَ) يا محمد (بِالْحَقِّ) أي بالصدق أو بأمر الحق (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) أي بعد كتابه (وَآياتِهِ) أي معجزات أنبيائه (يُؤْمِنُونَ) [٦] بالياء والتاء (٤) ، أي يصدقون.

__________________

(١) الظرف ، ح و : ظرف ، ي.

(٢) بعد ، ح : ـ وي.

(٣) الأولى ، ح و : الأخرى ، ي.

(٤) «يؤمنون» : قرأ المدنيان والبصري وروح والمكي وحفص بياء الغيبة ، وغيرهم بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٢٩٣.

١٠٢

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) أي كذاب (أَثِيمٍ) [٧] أي كثير الإثم وهو النضر بن الحارث.

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩))

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) صفة «أَثِيمٍ» (تُتْلى) أي تقرأ (عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) أي يقيم (مُسْتَكْبِراً) أي معرضا متكبرا عن الإيمان بعد سمعه وفهمه ، و (ثُمَّ) فيه للاستبعاد ، يعني ليس شأن آيات القرآن العظيم أن يصره من يسمعها على الضلالة (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه ، يعني كأن الشأن لم يسمع تلك الآيات من القرآن ، فان ذلك مستبعد في العقول ، وهو في محل النصب على الحال ، أي يصر على كفره مثل غير السامع (فَبَشِّرْهُ) يا محمد (بِعَذابٍ أَلِيمٍ [٨] وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا) أي إذا سمع من آيات القرآن (شَيْئاً) وعلمه (اتَّخَذَها) أي اتخذ جميع الآيات (هُزُواً) أي سخرية لمبالغته في كفره (١) ويقول هذا مثل حديث رستم وإسفنديار (أُولئِكَ) أي هو وأمثاله الأفاكون (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [٩] يهانون فيه.

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠))

(مِنْ وَرائِهِمْ) أي أمامهم (جَهَنَّمُ) أي من بعدهم جهنم ، والوراء ما توارى (٢) عنك من خلف أو قدام (وَلا يُغْنِي) أي لا ينفع (عَنْهُمْ ما كَسَبُوا) من الأموال (شَيْئاً وَلا) ينفعهم أيضا (مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي من (٣) الأصنام (أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [١٠] في الآخرة.

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

(هذا) أي هذا (٤) القرآن (هُدىً) أي بيان من الضلالة أو سبب الهداية أو كامل فيها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي آيات القرآن (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) [١١] بالرفع والجر (٥) ، أي من أشد العذاب الوجيع في الآخرة.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣))

قوله (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ) أي ذلل (لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي باذنه من الله لنعمه للناس لعلهم يعتبرون فيؤمنون (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا من رزقه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [١٢] هذه النعم (وَسَخَّرَ) أي ذلل (لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) وهو نصب على الحال بعد الحال ، أي كائنة من رحمته وقدرته لصلاحكم ومنفعتكم كنور الشمس والقمر والنجوم والبر (٦) والبحر والجبال والمياه والدواب والنبات (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ) أي لدلائل واضحات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [١٣] فيوحدونه ويعتبرون في صنعه.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤))

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) أي قل لهم اغفروا يغفروا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي وقائعه بهم ، يعني لا يخافون عقوبات أيام الأمم الماضية قبلهم كعاد وثمود وفرعون ، المعنى : قل للمؤمنين أن يكفوا عن أذى المشركين ، وذلك حين شتم رجل من كفار قريش عمر رضي الله عنه بمكة فهم عمر رضي الله عنه والأصحاب أن يعاقبوه فأمره الله أن يتجاوز عنه وكان ذلك أن يؤمر النبي عليه‌السلام بالقتال (لِيَجْزِيَ) بالياء معلوما ، أي

__________________

(١) لمبالغته في كفره ، وي : لمبالغة كفره ، ح.

(٢) توارى ، ح و : يواري ، ي.

(٣) أي من ، و : من ، ي ، أي ، ح.

(٤) هذا ، ي : ـ ح و.

(٥) «أليم» : رفع الميم المكي ويعقوب وحفص ، وخفضها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٩٣.

(٦) والبر ، وي : ـ ح.

١٠٣

ليجزي الله ، وبالنون (١) ، أي لنجزي نحن (قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [١٤] أي بأعمالهم في الآخرة.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) أي فثوابه لها (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي فعوقبته عليها (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [١٥] جميعا فيجازي كلا بعمله من الإحسان والإساءة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦))

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أولاد يعقوب (الْكِتابَ) وهو التورية والزبور والإنجيل (وَالْحُكْمَ) أي الحكم بالكتاب بين الناس أو العلم والفهم (وَالنُّبُوَّةَ) أي جعلنا النبوة فيهم وكان منهم ألف نبي في رواية (٢)(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي الحلالات الصرفة كالمن والسلوى من الرزق أو أورثناهم أموال فرعون وقومه (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [١٦] أي عالمي زمانهم بالإسلام.

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧))

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ) أي دلالات (مِنَ الْأَمْرِ) أي من (٣) أمر الدين من الحلال والحرام وبيان ما كان قبلهم (فَمَا اخْتَلَفُوا) في الدين أو في شأن محمد عليه‌السلام وكفروا (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ)(٤) بالدين وبمحمد عليه‌السلام (بَغْياً) أي لبغي حدث (بَيْنَهُمْ) يعني حسدا وعداوة لمحمد عليه‌السلام (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي) أي يحكم بالعدل (٥)(بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [١٧] أي في الدين والكتاب.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨))

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) أي على مذهب وملة (مِنَ الْأَمْرِ) أي من (٦) أمر الدين من الفرائض والأحكام والحدود (فَاتَّبِعْها) أي أثبت عليها (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [١٨] أي لا يعترفون بالتوحيد وهم رؤساء قريش.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩))

قوله (٧)(إِنَّهُمْ) في معنى التعليل ، أي لأنهم (لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ) أي لا يمنعونك (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بالنصرة في دينهم الباطل (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [١٩] أي ناصر الموحدين المخلصين.

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

(هذا) أي القرآن وآياته (بَصائِرُ) أي معالم ودلائل كالبصائر في القلوب (لِلنَّاسِ) يتبصرون بها دينهم ما لهم وما عليهم (وَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) من العذاب (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [٢٠] أي يصدقون بالكتاب والرسول وبالبعث.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١))

(أَمْ حَسِبَ) أي أظن (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي اكتسبوها (٨)(أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) «ليجزي» : قرأ الشامي والأخوان وخلف بنون مفتوحة بعد اللام وكسر الزاي وفتح الياء ، والباقون ما عدا أبا جعفر بياء مفتوحة في مكان النون مع كسر الزاي وفتح الياء أيضا ، وقرأ أبو جعفر بياء مضمومة مع فتح الزاي وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٩٣.

(٢) في رواية ، و : ـ ح ي.

(٣) من ، ح : ـ وي.

(٤) أي ، + ح.

(٥) بالعدل ، وي : بالعذاب ، ح.

(٦) من ، ي : ـ ح و.

(٧) قوله ، وي : ـ ح.

(٨) أي اكتسبوها ، وي : أي اكتسبوا ، ح.

١٠٤

الصَّالِحاتِ) في الرحمة والرضوان والهمزة في (أَمْ حَسِبَ) لإنكار الحسبان (سَواءً) بالنصب بدلا من المفعول الثاني ل (نَجْعَلَهُمْ) وهو الكاف بمعنى مستويا ، وارتفاع (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) على الفاعلية له وكان مفردا غير جملة ، والمعنى : أن المحسنين والمسيئين ليسا مساويين محيا ومماتا ، لأن المحسنين عاشوا على القيام بالطاعات والمسيئين على ركوب المعاصي ومات هؤلاء على البشرى بالرحمة من الله والوصول (١) إلى ثوابه وأولئك ماتوا على اليأس من رحمة الله والوصول إلى أشد العذاب ، وقرئ «سواء» (٢) بالرفع فيكون كلاما مستأنفا على معنى أن المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه (٣) ، والكافر في الدنيا والآخرة يموت على كفره ويبعث على كفره (٤) ، فكل يموت على حسب ما عاش عليه (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [٢١] أي يقضون لأنفسهم حين يعتقدون أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين فيها ، نزلت الآية حين قال كفار مكة إنا نعطي في الآخرة من الخير أفضل ما يعطي المؤمنون فيها (٥) ، فأنكر الله عليهم ذلك.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢))

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي بالعدل فلا يقتضي التساوى بين الفريقين ، وقيل : معنى (بِالْحَقِّ) ليدل على صدق قدرته ولذلك عطف عليه قوله (٦)(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من خير وشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [٢٢] أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم ولا يزادون على عذاب سيئاتهم.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

قوله (أَفَرَأَيْتَ) نزل توبيخا لمن عبد الأصنام بهوى نفسه وترك عبادة ربه وعصى أمره (٧) ، أي أنظرت فرأيت (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) لأنه يعمل ذلك بهواه ولا يخاف الله (وَأَضَلَّهُ اللهُ) عن طريق الهداية (عَلى عِلْمٍ) من الله بأنه من أهل النار ، ومحله حال (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) فلم يستدل على طريق الهداية (وَقَلْبِهِ) أي وختم على قلبه فلا يرغب في الحق (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) وقرئ «غشوة» (٨) ، أي غطاء لئلا ينظر ويعتبر في آيات الله (فَمَنْ يَهْدِيهِ) استفهام على سبيل الإنكار ، أي من يرشده إلى طريق الهداية (مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي بعد إضلال الله إياه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [٢٣] أي لا تتعظون أن من لا يقبل إلى الله بالتوبة لا يكرمه بالهدى.

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤))

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما الحيوة إلا حيوتنا في الدنيا لا حيوة بعد الموت في الآخرة (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت بعضنا ويحيى بعضنا كأولادنا أو نحيى ونموت (٩) لأن الواو للجمع لا للترتيب (وَما يُهْلِكُنا) أي لا يميتنا (إِلَّا الدَّهْرُ) أي مضي الأيام والليالي وانقضاء الآجال (وَما لَهُمْ بِذلِكَ) أي بما يقولون (مِنْ عِلْمٍ) أي برهان قطعي بل يتكلمون عن جهل (إِنْ هُمْ) أي ما القائلون بذلك (إِلَّا يَظُنُّونَ) [٢٤] به ظنا بلا تحقيق ، لأنهم ينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله وينسبون الحوادث إلى الدهر ولا يعلمون أن خالق الدهر هو الآتي بالحوادث لا الدهر والزمان.

__________________

(١) من الله والوصول ، ح و : والرضوان ، ي.

(٢) «سواء» : قرأ حفص والأخوان وخلف بنصب الهمزة ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٩٤.

(٣) ويبعث على إيمانه ، وي : ـ ح.

(٤) ويبعث على كفره ، وي : ـ ح.

(٥) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٢٢٥.

(٦) هذا المعنى مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٢٤٧.

(٧) هذا المعنى مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٢٤٧.

(٨) لعله اختصره من البغوي ، ٥ / ١٢٦ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٩) «غشاوة» : قرأ الأخوان وخلف بفتح الغين وإسكان الشين ، والباقون بكسر الغين وفتح الشين وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٩٤.

١٠٥

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي آيات القرآن (بَيِّناتٍ) أي واضحات ببيان الحلال والحرام والبعث والجزاء (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) أي جوابهم بالنصب خبر (كانَ) ، اسمه (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) أي أحيوا لنا آباءنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٢٥] بأنا نموت (١) ونحيى بعد الموت وسماه حجة على سبيل التهكم لما ساقوه مساقها عن جهل.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

ثم ألزموا بعد إنكارهم البعث وتكذيبهم (٢) الرسل بقول باطل جوابا لهم بما يقرون به من الخالق بقوله (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) في الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) أولكم وآخركم يوم النفخة الثانية (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) عند المؤمنين وهو القادر على اتيان آبائكم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) [٢٦] البعث بعد الموت لكفرهم.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧))

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خزائنهما ونفاذ الأمر فيهما (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ظرف و (يَوْمَئِذٍ) تأكيد له والعامل في الظرف (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) [٢٧] أي يومئذ يظهر خسرانهم بتكذيبهم.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨))

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) أي باركة على الركب مجتمعة للحساب لدى الحاكم عليهم (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي إلى ما في كتابها من خير وشر ، فيقال لهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٢٨] في الدنيا من حسنة أو سيئة.

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩))

(هذا كِتابُنا) أي يقول الله يومئذ هذا ، أي ديوان الحفظة كتابنا الذي كتبوه بأمرنا ، وإضافة الكتاب الواحد إلى الشيئين للملابسة على الوجهين ، فوجه إضافته إلى الأمة أن أعمالهم مثبتة فيه ، ووجه إضافته إلى الله أنها مالكه والآمر لملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده ، ومحل (يَنْطِقُ) حال من الكتاب ، أي يشهد (عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) أي بالصدق من غير نقص وزيادة ، يعني أنتم تقرؤنه فيذكركم ما عملتم في الدنيا فكأنه ينطق عليكم (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٢٩] أي نثبت فيه نسخة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا لا نهمل شيئا منها خيرا أو شرا.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١))

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي في جنته (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) [٣٠] أي النجاة الظاهرة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) جوابه فيقال لهم تهديدا (أَفَلَمْ تَكُنْ) أي ألم يأتكم رسلي فلم تكن (آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) في الدنيا بالإنذار على لسان رسلي (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) [٣١] أي كافرين بالرسل وبما جاؤكم به.

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣))

(وَإِذا قِيلَ) أي إذا قال لكم رسلنا في الدنيا (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي واقع لا خلف فيه (وَالسَّاعَةُ) بالرفع

__________________

(١) ونموت ، وي : ونميت ، ح.

(٢) وتكذيبهم ، ح : وتكذيب ، وي.

١٠٦

والنصب (١)(لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي) أي ما نعرف (مَا السَّاعَةُ) أي أي شيء القيامة والبعث (إِنْ نَظُنُّ) أي ما نظن بالبعث والجزاء (إِلَّا ظَنًّا) غير يقين ، والأصل نظن ظنا ، ومعناه مجرد إثبات الظن لهم فأدخل (٢) فيه حرف النفي وإلا ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه ، ثم قال (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [٣٢] بأنها كائنة تأكيدا للاستثناء.

(وَبَدا) أي ظهر (لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي عقوباته (وَحاقَ) أي نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٣٣] وهو العذاب بعد

الموت ، لأنهم استهزؤا أنه غير نازل بهم.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤))

(وَقِيلَ) أي قالت الخزنة لهم (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) أي كما نترككم في النار كالشيء المنسي لا يلتفت إليه (كَما نَسِيتُمْ) أي كما تركتم العمل (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي لحضوره في هذا اليوم ، وإضافة ال (لِقاءَ) إلى ال «يوم» كاضافة مكر الليل والنهار ، يعني كما نسيتم لقاء الله في يومكم هذا (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي مثويكم ومقركم نار جهنم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [٣٤] يدفعون عنكم العذاب.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥))

(ذلِكُمْ) أي هذا العذاب النازل بكم (بِأَنَّكُمُ) أي بسبب أنكم (اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ) أي القرآن (هُزُواً) أي سخرية فلم تؤمنوا بها (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي زينتها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ) بضم الياء مجهولا وفتحها معلوما (٣)(مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [٣٥] أي لا يطلب منهم أن يرضوا ربهم بالطاعة لعدم التوبة ثمه والرجوع إلى الدنيا.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦))

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) أي فيقول المؤمنون عند ذلك لله جميع المحامد وآثار الحمد والثناء (رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) بدل من «الله» (رَبِّ الْعالَمِينَ) [٣٦] بدل آخر لتقرير الحمد له تعالى بمعنى أن مثل هذه الربوبية يوجب الحمد والثناء على كل مربوب.

(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

(وَلَهُ) أي ولله (الْكِبْرِياءُ) أي العظمة والسلطان (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حال من (الْكِبْرِياءُ) بمعنى أن آثار كبريائه فيهما فحقه أن يكبروا ويعظم بالطاعة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) [٣٧] في أمره ، قال النبي عليه‌السلام مخبرا عن الله تعالى : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما أدخلته ناري» (٤).

__________________

(١) «الساعة» : قرأ حمزة بنصب التاء ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٩٤.

(٢) فادخل ، وي : مما دخل ، ح.

(٣) «لا يخرجون» : قرأ الأخوان وخلف بفتح الياء وضم الراء ، والباقون بضم الياء وفتح الراء. البدور الزاهرة ، ٢٩٤.

(٤) روى ابن ماجة نحوه ، الزهد ، ١٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٢٩.

١٠٧

سورة الأحقاف

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

(حم [١] تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي بحق (حم) تنزيل القرآن (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [٢] لا من غيره.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣))

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من النيرات والنباتات والجبال والمياه والرياح (إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ملتبسا بالصدق والحكمة لا بالعبث واللهو (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وبأجل معلوم ينتهي إليه خلقهن وهو يوم القيامة فاذا انقضى الأجل انعدمنا والذين آمنوا به يستعدون لهول ذلك اليوم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) به (عن ما (أُنْذِرُوا) به من العذاب (مُعْرِضُونَ) [٣] وعن الاستعداد لهول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق أن يصل وينتهي إليه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤))

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (ما تَدْعُونَ) أي الذي تعبدونه (مِنْ دُونِ اللهِ) من الآلهة (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) كالذي خلق الله تعالى إن كانوا آلهة (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) أي مشاركة (١) مع الله تعالى (فِي السَّماواتِ) أي في خلقها (ائْتُونِي بِكِتابٍ) أي بكتاب منزل من الله (مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن يشهد بصحة قولكم ودعويكم في عبادتكم الآلهة (أَوْ أَثارَةٍ) أي أو ائتوني باثارة ، أي رواية (٢)(مِنْ عِلْمٍ) يورث ويروى من الأنبياء والعلماء على شرككم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٤] أن اله أمركم بعبادة ما لم يجب دعاء أحد.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))

ثم قال (وَمَنْ أَضَلُّ) أي من أشد كفرا (مِمَّنْ يَدْعُوا) أي ينادي لحاجته (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله من الأصنام (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) أي لا يجيبه وإن دعاه (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ) أي الأصنام (عَنْ دُعائِهِمْ) أي عن إجابة دعاء عابديهم (غافِلُونَ) [٥] لأنهم جماد لا يعقلون.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

ثم بين حالهم وإجابتهم يوم القيامة فقال (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا) أي الأصنام (لَهُمْ) أي لعابديها (أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [٦] أي جاحدين متبرئين منها.

__________________

(١) مشاركة ، ح و : متشاركة ، ي.

(٢) رواية ، وي : برواية ، ح.

١٠٨

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي واضحات فيها حلال وحرام (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) أي للقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [٧] يعني لما سمعوا القرآن من النبي عليه‌السلام قالوا هذا سحر ظاهر لا شبهة فيه.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨))

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي اختلق محمد القرآن (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) أي اختلقته فرضا مع إرادتي (١) التنصح لكم بذلك والصد عن الشرك يعذبني الله عليه (فَلا تَمْلِكُونَ لِي) أي لا تمنعون عني (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (٢)(شَيْئاً هُوَ) أي الله (أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ) أي تخوضون (فِيهِ) أي في القرآن من الكذب والقدح (كَفى بِهِ) أي كفى الله ، والباء صلة (شَهِيداً) أي عالما (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب (الرَّحِيمُ) [٨] لمن أطاع أو الغفور الرحيم لكم حيث لم يعاجلكم بالعقوبة في الدنيا بتكذيبكم.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩))

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً) أي ذا بدع (مِنَ الرُّسُلِ) يعني لست أولهم بل أنا واحد منهم ، روي : أن النبي عليه‌السلام رأى في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر فأخبر أصحابه فحسبوا أنه وحي أوحي إليه فاستبشروا ومكثوا بذلك ما شاء الله فلم يروا شيئا مما قال لهم فسألوه عن تلك الرؤية ، فقال إنها رؤيا رأيتها ما يراها بشر ولم يأتني وحي من الله وما أدري أيكون أم لا يكون ذلك فنزل (٣)(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أدخل لا على بكم لكون الكلام قبله مشتملا على النفي ، و (ما) في (ما يُفْعَلُ) موصولة أو استفهامية ، أي لا أعلم أن الله يخرجني معكم أو يتركني معكم أو يرحمني وإياكم أو يعذبني وإياكم فقال المشركون لم تتبعون رجلا مسحورا لا يدري ما يفعل به ولا بكم ، فنخست هذه الآية بعد ما قدم النبي عليه‌السلام المدينة بقوله تعالى (٤)(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ)(٥) إلى قوله (وَما تَأَخَّرَ)(٦)(إِنْ) أي ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) من القرآن ، يعني أنا لا أعلم الغيب بل أتيتكم بما أوحي إلي واتبعته كما أتي به الرسل لأممهم من قبلي (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [٩] أي مخوف لكم (٧) بلغة بينة تعرفها.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ)(٨) القرآن نازلا (مِنْ عِنْدِ اللهِ) والواو في (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) للعطف على فعل الشرط بمعنى المقارنة وجواب الشرط محذوف ، أي ألستم ظالمين بدلالة قوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد عليه ، والواو في (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أنه رسول الله وهو عبد الله بن سلام (عَلى مِثْلِهِ) أي على مثل شهادة القرآن أن محمدا رسول الله عليه وسلم للعطف على الشرط وما بعده ، روي : أن عبد الله لما رأى النبي عليه‌السلام قال أشهد أنك رسول الله كشهادة القرآن في قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)(٩) هذا على قول من قال إنها نزلت بالمدينة ، وإن قيل إنها نزلت بمكة فالشاهد بنيامين وكان ابن أخ عبد الله بن سلام (١٠) أو جواب الشرط «تؤمنون»

__________________

(١) إرادتي ، وي : إرادة ، ح.

(٢) (من الله) أي من عذابه ، ح و : ـ ي.

(٣) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٣٠ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣١٣ ـ ٣١٤ (عن ابن عباس).

(٤) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٥ / ٢٥٢ ؛ وانظر أيضا قتادة (كتاب الناسخ والمنسوخ) ، ٤٦ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٨٢ ؛ وابن الجوزي ، ٥٣.

(٥) الفتح (٤٨) ، ١.

(٦) الفتح (٤٨) ، ٢.

(٧) أي مخوف لكم ، ح و : أي مخوفكم ، ي.

(٨) أي ، + ي.

(٩) الفتح (٤٨) ، ٢٩.

(١٠) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٣ / ٢٣١.

١٠٩

بدلالة (١)(فَآمَنَ) عليه ، أي شهد شاهد من بني إسرائيل فآمن بمحمد أو بالقرآن والواو في (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان للعطف على (شَهِدَ) بمعنى المقارنة أيضا ، يعني إن كان القرآن من عند الله مع كفركم به وشهادة أعلم بني إسرائيل على مثل شهادة القرآن أن محمدا رسول الله مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ألستم أضل الناس وأظلمهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [١٠] أي الجاحدين.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي رؤساء المشركين من أهل مكة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لأجل ضعفاء المسلمين (٢) كعمار وصهيب وابن مسعود رضي الله عنهم (لَوْ كانَ) الإيمان أو دين الإسلام (خَيْراً) أي حقا (ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي إلى الإيمان ولم يعلموا أن الله يختص برحمته من يشاء (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي إذ لم يؤمنوا بالقرآن كما اهتدى به أصحاب النبي عليه‌السلام (٣) لقولهم (٤) الباطل للمؤمنين ، وعامل الظرف محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي ظهر عناد القائلين للمؤمنين ذلك القول وقت عدم إيمانهم بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا) أي القرآن (إِفْكٌ) أي كذب (قَدِيمٌ) [١١] من محمد.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

(وَمِنْ قَبْلِهِ) أي قبل القرآن (كِتابُ مُوسى) أي التورية أنزل (إِماماً) يقتدى به (وَرَحْمَةً) لمن آمن به من العذاب (٥)(وَهذا) القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) للكتب قبله (لِساناً عَرَبِيًّا) أي بلسان عربي بلغتهم ليفهموا ما فيه ، ونصبه حال من ضمير (كِتابُ) في (مُصَدِّقٌ) أو مفعول (مُصَدِّقٌ) أو القرآن مصدق لسان محمد وهو عربي (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم مشركو مكة بالقرآن (وَبُشْرى) أي ، وليبشر بشرى بالجنة (لِلْمُحْسِنِينَ) [١٢] أي للموحدين المطيعين.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على العمل بموجب الإقرار بالتوحيد (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [١٣] في الآخرة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي الذين أقروا بالله واستقاموا على العمل بما أمر به أهل الجنة (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة (جَزاءً) مصدر ، فعله محذوف «وهم» حال ثانية ، أي جوزوا جزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [١٤] من الحسنات.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥))

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) أي أمرناه وألزمناه (بِوالِدَيْهِ) أي بأن يحسن إليهما (إِحْساناً) وقرئ «حسنا» بضم الحاء وسكون السين (٦) اسما بمعنى الإحسان ، ثم أشار إلى حق الوالدين بقوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) بالفتح والضم (٧) ، أي

__________________

(١) بدلالة ، وي : ـ ح.

(٢) المسلمين ، ح و : المؤمنين ، ي.

(٣) وعليهم رضوانه ، + ي.

(٤) لقولهم ، وي : بقولهم ، ح.

(٥) من العذاب ، وي : ـ ح.

(٦) «إحسانا» : قرأ المدنيان والمكي والشامي بحذف الهمزة وضم الحاء وإسكان السين ، والباقون باثبات همزة مكسورة قبل الحاء مع إسكان الحاء وفتح السين وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٩٥.

(٧) «كرها» : قرأ المدنيان والمكي والبصري وهشام بفتح الكاف ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٢٩٥.

١١٠

حملا ذا كره ، يعني مشقة (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي وضعا ذا كره أو حال ذات كره فيه إيماء إلى علة وجوب زيادة الإحسان إليها على الإحسان إلى الأب (وَحَمْلُهُ) أي ومدة حمل الولد في بطن أمه (وَفِصالُهُ) أي رضاعه لا فطامه عن الرضاع (ثَلاثُونَ شَهْراً) لكن لما كان الرضاع يليه الفصال وينتهي إليه ، سمي به بهذه الملابسة ، قيل : أقل مدة الحمل ستة أشهر وغاية مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا لقوله تعالى (١)(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٢) ، وروي عن وكيع أنه قال : «إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر لم يلزم الولد للزوج ويفرق بينهما» (٣) ، ولا رضاع بعد الفصال وتحريم به ، ونزلت الآية في أبي بكر ووالديه (٤) ، قوله (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) يتعلق بفعل مقدر يدل عليه (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) ، أي أخذ ما وصيناه حتى إذا بلغ كمال قوته وعقله ، أقله ثلاث وثلاثون سنة وأكثره أربعون سنة فلذا قال (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي ما أؤدي به شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) بها وهي دين الإسلام (وَأَنْ أَعْمَلَ) عملا (صالِحاً تَرْضاهُ) أي تقبله مني وهو الصلوات الخمس وغيرها من الفرائض التي عليّ (وَأَصْلِحْ لِي) أي هب لي الصلاح (فِي ذُرِّيَّتِي) أراد جعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له ، يعني أكرمهم بالإسلام والعمل الصالح فأسلم جميع أولاده ، روي : «أنه لم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالداه وأولاده غير أبي بكر رضي الله عنه» (٥)(إِنِّي تُبْتُ) أي توجهت (إِلَيْكَ) بالتوبة على العصيان (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [١٥] أي الموحدين المخلصين في دينهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

(أُولئِكَ) أي الموصوفون بهذه الصفة ، يعني أبا بكر ووالداه وذريته ومن كان مثلهم فيها (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) هنا (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) التي فعلوها قبل التوبة ، وقرئ الفعلان بنون المتكلم وبياء مضمومة فيهما مجهولين ورفع (أَحْسَنَ)(٦) ، قوله (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) حال ، أي كائنين فيهم أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هم في عداد أهل الجنة (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد ، أي وعدهم الله وعدا صدقا لا خلف فيه ، وقيل : وعد الثواب (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [١٦] وهو الجنة.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧))

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) المراد منه الجنس وهو مبتدأ ، خبره (أُولئِكَ الَّذِينَ) الآية ، أي الذي قال لأبويه (أُفٍّ لَكُما) قرئ بالتنوين وبغيره (٧) ، وهو صوت لعلم به تضجر الإنسان ، أي بي تضجر منكما (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من قبري بعد الموت (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ) أي مضت (مِنْ قَبْلِي وَهُما) أي والحال أن والديه (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) تعالى ، أي يدعوانه له بالهدى ويقولان لولدهما (وَيْلَكَ آمِنْ) أي ويحك أسلم وصدق بالبعث (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي إنه كائن لا محالة (فَيَقُولُ) الولد (ما هذا) القرآن (٨)(إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [١٧] يعني أنتما كاذبان (٩).

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا

__________________

(١) نقل المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٥ / ١٣٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٥٤.

(٢) البقرة (٢) ، ٢٣٣.

(٣) انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٣٢.

(٤) عن مقاتل والكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٣٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٣٦ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٥٤.

(٥) ذكر علي بن أبي طالب نحوه ، انظر البغوي ، ٥ / ١٣٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٥٤.

(٦) «نتقبل» ، «أحسن» ، «نتجاوز» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان والشامي وشعبة بياء تحتية مضمومة في الفعلين وبرفع نون «أحسن» ، والباقون بنون مفتوحة في الفعلين ونصب نون «أحسن». البدور الزاهرة ، ٢٩٥.

(٧) «أف» : قرأ المدنيان وحفص بكسر الفاء منونة ، وقرأ يعقوب وابن عامر وابن كثير بفتحها من غير تنوين ، والباقون بكسرها من غير تنوين. البدور الزاهرة ، ٢٩٥.

(٨) القرآن ، ح : القول ، وي.

(٩) كاذبان ، وي : كاذبين ، ح.

١١١

خاسِرِينَ (١٨))

(أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (الَّذِينَ حَقَّ) أي وجب (١)(عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) منه تعالى بتعذيبهم (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) أي (٢) في عداد أمم قد مضت (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ) كفار (الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) [١٨] في الآخرة بالعقوبة ، وما قيل : من أن الآية في شأن عبد الرحمن ابن أبي بكر فاسد (٣) ، لأنه أسلم وحسن أرسلامه.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩))

(وَلِكُلٍّ) أي لكل واحد من جنس الكافر والمؤمن (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي منازل في الثواب والعقاب وذكر ال (دَرَجاتٌ) على سبيل التغليب لأنها تذكر في الثواب حقيقة والدركات للعقاب (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاء أعمالهم من الثواب والعقاب (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [١٩](٤) شيئا من حقوقهم ، واللام في (لِيُوَفِّيَهُمْ) تعليل لفعل محذوف ، يدل عليه سياق الكلام ، أي وقدر جزاؤهم على مقادير أعمالهم بالدرجات والدركات أثابهم أو عاقبهم ليوفيهم أعمالهم.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

قوله (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) نصب على الظرف بالقول المضمر قبل (أَذْهَبْتُمْ) أي يوم يكشف لهم الغطاء عن النار فينظرون إليها فيقول لهم الخزنة أخذهم (طَيِّباتِكُمْ) فلم يبق لكم شيء منها أكلتم ثواب حسناتهم (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ) أي انتقمتم (بِها) في الدنيا (فَالْيَوْمَ) أي إذا كان كذلك فاليوم (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي الهون وهو العذاب الشديد (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي ظلما (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [٢٠] أي تخرجون من أمر الله وتعصونه ، عن عمر رضي الله عنه : «لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي» (٥).

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١))

(وَاذْكُرْ) لأهل مكة (أَخا عادٍ) وهو هود النبي عليه‌السلام (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) وهو موضع سمي به ، وقيل : جمع حقف بكسر الحاء وهو المستطيل من الرمل (٦) ، وقيل : «واد بمهرة بخضر موت وإليه ينسب المهرية» (٧)(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) أي مضت (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي قبل هود (وَمِنْ خَلْفِهِ) أي بعده فخوف قومه وهم بهذا المكان بقوله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [٢١] يعني اذكر هودا ومن مضى من الأنبياء قبل هود ومن بعث منهم بعده كلهم مثله في الإنذار بهذا القول.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢))

(قالُوا) لهود (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) أي لتصرفنا (عَنْ) عبادة (آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [٢٢] في نزول العذاب بنا.

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣))

(قالَ) هود بجواب الاستعجال منهم بالعذاب (إِنَّمَا الْعِلْمُ) أي إنما (٨) علم مجيء العذاب (عِنْدَ اللهِ) لا

__________________

(١) أي وجب ، وي : ـ ح.

(٢) أي ، وي : ـ ح.

(٣) أخذ المصنف هذا القول عن الكشاف ، ٥ / ٢٥٤.

(٤) أي ، + ح.

(٥) انظر الكشاف ، ٥ / ٢٥٥.

(٦) نقل هذا الرأي عن البغوي ، ٥ / ١٤١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٥٥.

(٧) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٥ / ١٤١.

(٨) إنما ، ي : ـ ح و.

١١٢

عندي و (١) أنتم تستعجلون به (وَ) أنا (أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) أي ليس علي إلا تبليغ الرسالة لكم بالإنذار والتبشير لا إجابة اقتراحكم ولا سؤالي من الله سوى ما أذن لي فيه (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) [٢٣] باستعجالكم العذاب وترك الإيمان بما قيل لكم.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤))

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي العذاب (عارِضاً) نصبه حال ، أي سحابا يعرض في أفق السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) وكانت السحابة إذا جاءت من قبل ذلك الوادي مطروا (قالُوا هذا عارِضٌ) أي سحاب (مُمْطِرُنا) أي يمطر حروثنا بعد أن كان المطر حبس عنهم ، فقيل لهم (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) أي العذاب وهو (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [٢٤] ورفع (رِيحٌ) بدل من (مَا).

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

(تُدَمِّرُ) أي جاءتهم الريح فجعلت تدمر ، أي تهلك (كُلَّ شَيْءٍ) من رجالهم ونسائهم وأموالهم بالتطيير بين السماء والأرض (بِأَمْرِ رَبِّها) أي بارادته تعالى ، وإضافة ال «رب» إلى الريح للدلالة على أن الريح مأمورة من جهته وللشهادة لعظم قدرته ، لأنها من أكابر جنوده لا يتحرك إلا باذنه (فَأَصْبَحُوا) أي صاروا من العذاب بحال (لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي بقيت مساكنهم وهلكت أنفسهم وأموالهم ، قرئ «لا يرى» بغيبة المجهول و «لا ترى» بخطاب المعلوم (٢) ، أي لا ترى أيها المخاطب لو كنت حاضرا إلا مساكنهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء والعقاب (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [٢٥] أي المشركين المكذبين.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦))

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) أي قوم هود وهم عاد ، يعني أعطيناهم من الملك والتمكن (فِيما) أي الذي (إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ما لم نعطكم ولم نمكن لكم فيه من قوة الأجساد وكثرة العدد والعدد وطول الأعمار يا أهل مكة ، ف (إِنْ) نافية (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً) ليسمعوا المواعظ (وَأَبْصاراً) لينظروا في الدلائل الموصلة إلى التوحيد (وَأَفْئِدَةً) ليتفكروا في صنع الله تعالى (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) أي لم ينفعهم (سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من العذاب ، لأنهم لم يسمعوا الهدى ولم ينظروا في الدلائل ولم يتفكروا في صنعه (إِذْ كانُوا) ظرف يفيد التعليل ، أي لأنهم كانوا (يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بدلائله ، والعامل في «إِذْ» «أَغْنى» قبل ، قيل : الظرف كيف يفيد معنى التعليل؟ أجيب بأن ذلك لاستواء معنى التعليل والظرف في الفهم في قولك ضربته إذ أساء وضربته لإساءته ، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فقد ضربته لكون إساءته فيه إلا أن إذ وحيث غلبتا في ذلك من بين الظروف باستعمال العرب (٣)(وَحاقَ) أي نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٢٦] من العذاب.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧))

قوله (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا) إشارة إلى زيادة تهديد لكفار مكة ، أي أهلكنا قبلكم يا كفار مكة بالعذاب (ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أي من أهلها كثمود وعاد وقوم لوط (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي بينا لهم العلامات بالإنذار بالعذاب (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [٢٧] عن كفرهم قبل أن يهلكوا.

__________________

(١) لا ، + ي.

(٢) «لا يرى» : قرأ عاصم وحمزة ويعقوب وخلف بياء تحتية مضمومة ، والباقون بتاء مثناة فوقية مفتوحة. البدور الزاهرة ، ٢٩٦.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٥٧.

١١٣

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) أي هلا منعهم من العذاب (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) أي اتخذوهم (مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أي أصناما للعبادة ، و «قُرْباناً حال» ، أي حال كونهم يتقربون بها إلى الله لأجل الشفاعة حيث قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وأحد مفعول ي «تخذوا» محذوف والثاني (آلِهَةً) ، ولا يصح أن يكون (قُرْباناً) مفعولا ثانيا و (آلِهَةً) بدلا منه لفساد المعنى ، إذ المنكر اتخاذهم آلهة لا اتخاذهم قربانا (بَلْ ضَلُّوا) أي غابوا عند نزول العذاب بهم (عَنْهُمْ) أي عن نصرتهم (وَذلِكَ) أي اتخاذهم إياها آلهة (إِفْكُهُمْ) أي أثر إفكهم وكذبهم وثمرة شركهم ، قوله (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) [٢٨] عطف على (إِفْكُهُمْ) ، أي وافتراؤهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء ، فقوله (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، لأنه لو كان صدقا لنصروهم.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠))

(وَإِذْ صَرَفْنا) أي اذكر إذا قابلنا (إِلَيْكَ) يا محمد (نَفَراً مِنَ الْجِنِّ) وهو دون العشرة والجمع أنفار ، قيل : كانوا سبعة (١) أو تسعة من جن نصيبين (٢) في اليمن (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) من النبي عليه‌السلام ليلا قائما بنخلة يصلي صلاة الفجر وذلك عند مصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى مطلوبه (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن ، يعني قربوا منه بحيث يسمعون (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) أي أصغوا لاستماع القرآن (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ من قراءته والصلوة (وَلَّوْا) أي رجعوا (إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [٢٩] أي مخوفين قومهم العذاب (٣) إن لم يؤمنوا بأمر النبي عليه‌السلام لا من تلقاء أنفسهم وكان الذي قرأ عليهم سورة الرحمن ، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لم يحضر مع النبي عليه‌السلام ليلة الجن غيره قال : «فخط لي خطا ثم أمرني بالجلوس فيه ، وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك ، فانك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة» (٤) ، فلما رأوا قومهم (قالُوا) أي قال الجن التي سمعت القرآن وكانوا من اليهود فلذلك قالوا (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) هو القرآن (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي موافقا لما قبله من الكتاب وهو التورية ، وقالوا من بعد موسى ، لأنهم لم يعلموا بعيسى (يَهْدِي) أي يدعو ويرشد (إِلَى الْحَقِّ) أي إلى الإسلام (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [٣٠] وهو العمل به الموصل إلى الله.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١))

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) أي النبي عليه‌السلام إلى الإيمان (وَآمِنُوا بِهِ) أي صدقوه (يَغْفِرْ) أي ليغفر (لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم إن آمنتم به وبعضها لا يغفر إلا برضا أربابها كالمظالم (وَيُجِرْكُمْ) أي يؤمنكم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [٣١] وهو عذاب النار ، واختلف في الجن ، فعند أبي حنيفة رحمه‌الله لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لقوله (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ، وعند غيره ثواب ونجاة من النار ، لأنهم في حكم بني آدم في الثواب والعقاب لكونهم مكلفين (٥) بالعمل بالأمر والانتهاء بالنهي ولقوله «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ، فَبِأَيِ آلاء ربكما تكذبان» (٦).

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٥ / ١٤٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٥٨.

(٢) نقله عن البغوي ، ٥ / ١٤٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٥٨.

(٣) العذاب ، وي : ـ ح.

(٤) أخرج أحمد بن حنبل نحوه ، ١ / ٣٩٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٣٧.

(٥) هذه الأقوال مأخوذة عن الكشاف ، ٥ / ٢٥٨.

(٦) الرحمن (٥٥) ، ٤٦ ـ ٤٧.

١١٤

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدعو إليها من الإيمان بالقرآن (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي ليس له (١) مهرب من عذاب الله (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله تعالى (أَوْلِياءُ) أي أنصار يمنعونه من عذابه (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٣٢] أي خطأ بين ، روي : أنهم جاؤا بعد هذا الإنذار إلى النبي عليه‌السلام بمكة فلقيهم بالبطحاء فقرأ عليهم القرآن فأمرهم ونهاهم وسألوه الرزق فأعطاهم عظما رزقا لهم ولدوابهم روثا رزقا لها (٢).

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣))

(أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعتبر أهل مكة ولم يتفكروا أو لم يخبروا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) أي لم يعجز عنه ، من عيي بالشيء إذا لم يعرف وجهه (بِقادِرٍ) الباء زائدة و «قادر» رفع خبر (أَنَّ) ، وجاز زيادة الباء فيه لاشتمال النفي في (أَوَلَمْ يَرَوْا) على (أَنَّ) ومدخولها ، كأنه قيل أليس الله بقادر (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي على إحيائهم ، وأكد تقرير القدرة عليه بقوله (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٣٣] من الإحياء والبعث.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤))

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يقال لهم يوم يجاء بهم (عَلَى النَّارِ) وينظرون إليها (أَلَيْسَ هذا) أي التعذيب (بِالْحَقِّ) وكنتم به تكذبون في الدنيا (قالُوا) أي قال الكفار فرعون (بَلى) إنه الحق (وَرَبِّنا) قسم ، أي والله فيقرون حين لا ينفعهم إقرارهم (قالَ) الله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [٣٤] أي تكذبون الحق.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

(فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى كفار مكة وتكذيبهم (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي أولوا الثبات والصبر على الشدائد (مِنَ الرُّسُلِ) «مِنَ» فيه تبيين وهم (٣) نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم سوى آدم صلوات الله عليهم أجمعين لقوله تعالى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(٤) وسوى يونس لقوله تعالى (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ)(٥)(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(٦) بنزول العذاب بهم ، فانه نازل بهم لا محالة (كَأَنَّهُمْ) أي يكون حالهم في ظنهم (يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من شدة العذاب بمثابة أنهم (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً) في الدنيا أو في القبر فاستقصروا مدة لبثهم فظنوها ساعة (مِنْ نَهارٍ) في الدنيا (بَلاغٌ) أي هذا القرآن تبليغ الرسول من الله إلى الناس ، وفيه كفاية لهم للإنذار والموعظة أو هذا البعث أجل مبلوغ إليه ، فاذا بلغوا ذلك الأجل (فَهَلْ يُهْلَكُ) فيه العذاب ، أي ما يهلك (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [٣٥] أي الخارجون عن الاتعاظ والعمل بمواجبه.

__________________

(١) له ، وي : ينجي ، ح.

(٢) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٢٣٧.

(٣) وهم ، و : وهو ، ح ي.

(٤) طه (٢٠) ، ١١٥.

(٥) القلم (٦٨) ، ٤٨.

(٦) أي ، + ح ي.

١١٥

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١))

قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، أي الذين جحدوا بتوحيد الله وبالقرآن (وَصَدُّوا) أي صرفوا نفوسهم وغيرهم من الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه أو عن الجهاد ، والخبر (أَضَلَّ) أي أبطل الله (أَعْمالَهُمْ) [١] لأنها كانت لغيره تعالى ، وهي الحسنات التي عملوها في الدنيا ، والآية نزلت في المطعمين على حرب النبي عليه‌السلام (١) أو في جماعة كانوا يصدقون الناس عن الدخول في الإسلام (٢).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢))

قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، أي صدقوا بالله تعالى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أدوا الفرائض والسنن (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن الذي أنزله جبرائيل عليه‌السلام وأكد ذلك بقوله (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ليس بمفترى ولا باطل ولا تناقض فيه ، وخبر المبتدأ (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي محا عنهم ذنوبهم التي عملوها في الشرك عند توبتهم بايمانهم بمحمد عليه‌السلام وطاعتهم الله تعالى فيما يأمرهم من الجهاد وغيره (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) [٢] أي حالهم بتوفيقه بأن عصمهم أيام حيوتهم ليدخلوا الجنة.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

(ذلِكَ) أي الواقع من الإبطال والتكفير للفريقين (بِأَنَّ) أي بسبب أن (الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) أي الشيطان وشهوات النفوس (وَ) بسبب (أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي أصحاب النبي عليه‌السلام (اتَّبَعُوا الْحَقَّ) أي القرآن المنزل (مِنْ رَبِّهِمْ) وعملوا به (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضرب ، أي البيان (يَضْرِبُ اللهُ) أي يبين (لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) [٣] أي صفة أعمالهم من اتباع الحق للمؤمنين واتباع الباطل للكافرين ، يعني يضرب أعمال القريقين لأجل الناس كي يعتبروا.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤))

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي إذا لقيتم الكافرين في الحرب فاضربوا رقابهم ضربا بالسيف ، حذف الفعل وأضيف المصدر إلى المفعول للاختصار مع التأكيد ، والمراد ب «ضرب الرقاب» القتل وقيده ب «ضرب الرقاب» ، لأنه أغلظ وأشد من لفظ القتل ، المعنى : إذا لقيتموهم فاقتلوهم (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ)

__________________

(١) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٣٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٦٠ (عن ابن عباس).

(٢) عن مقاتل ، انظر الكشاف ، ٥ / ٢٦٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٣٩.

١١٦

بالجراح ، أي أوهنتموهم وقهرتموهم قتلا وأسرا (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) وهو بفتح الواو اسم لما يوثق به وقد جاء بكسر الواو لغة ، أي احتاطوا في شدهم بشد أيديهم من خلفهم لئلا يفلتوا ، ولما قوى الإسلام نزل (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) أي تمنون عليهم منا باطلاقهم بعد الأسر (وَإِمَّا فِداءً) أي تفادونهم أنفسهم بأموالهم ، يعني أنتم مخيرون في ذلك (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ) أي أصحاب الحرب (أَوْزارَها) أي سلاحها أو المراد ب (الْحَرْبُ) المحاربون ، أي حتى (١) تضع المحاربون أوزارهم ، أي (٢) آثامهم من الشرك والمعاصي بالإسلام ، و (حَتَّى) متعلقة بال «ضرب» وال «شد» أو بال «من» وال (فِداءً) ، أي إلى أن لا يبقى حرب مع المشركين لضعفهم (٣) أو لإسلامهم (٤) أو لنزول عيسى عليه‌السلام ، فان الملك كلها تبقي على الإسلام حينئذ ، والآية محكمة عند الشافعي وجماعة لإطلاق النبي عليه‌السلام ثمامة ثم أسلم بعد اليوم الثالث ولفدائه رجلا من عقيل كان أسيرا عند ثقيف (٥) برجلين كانا من ثقيف أسيرين عنده عليه‌السلام ، ومنسوخة عند أبي حنيفة وجماعة لقوله تعالى «اقتلوا الْمُشْرِكِينَ»(٦) ، فانه عليه‌السلام قتل يوم الفتح ابن خطل بعد ما وقع في منعة المسلمين فهو كالأسير ولا يجوز أن يفتدى بمال أصلا إلا عند الضرورة ، لأن رد الأسير إلى دار الحرب قوة لهم في الحرب فيكره كما يكره بيع السلاح لهم وإن يفتد بأسير من المسلمين فلا بأس به ، فعلى ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله عنه لو علق (حَتَّى) بالضرب والشد فالمعنى عنده أنهم يقتلون ويؤسرون إلى أن تضع الحرب أوزارها لضعف المشركين ، ولا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين ولو علق بالمن والفداء كان المعنى يمن عليهم ويفادون حتي تضع حرب بدر أوزارها ، لأنه قال نزلت الآية في المن والفداء يوم بدر ثم نسخت ، وأما المعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي فهو أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يبقى للكفار شوكة حرب مع المسلمين (٧) ، قوله (ذلِكَ) يجوز في محله الرفع والنصب ، أي الحكم فيهم ذلك أو افعلوا ذلك (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي لانتقم بغير الأمر بقتال باهلاكهم (وَلكِنْ) أمركم بالقتال (لِيَبْلُوَا) أي ليختبر (بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) بالقتال ، يعني ليختبر المؤمنين بالكافرين وبالعكس ليظهر لكم منكم الطائع والعاصي (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) مجهولا لا مخففا أو معلوما (٨) أو قاتلوا (فَلَنْ يُضِلَّ) الله (أَعْمالَهُمْ) [٤] أي لن يبطل ثوابها.

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))

(سَيَهْدِيهِمْ) أي سيثبتهم على الهدى (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [٥] أي حالهم أيام حيوتهم بالعصمة (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) في الآخرة (عَرَّفَها) أي طيبها (لَهُمْ) [٦] أو اعلم منزلهم فيها لهم عند دخولهم الجنة ، روي عن النبي عليه‌السلام : «إذا أذن لأهل الجنة في دخولها لأحدهم أعرف بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا» (٩) ، يعني يكون المؤمن أهدى إلى منزله وزوجته وخدمه في الجنة منه في الدنيا وقد طيب وحدد ، أي أفرز عن غيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))

ثم حث المؤمنين على الجهاد بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) بقتال الكفار (يَنْصُرْكُمْ) بالغلبة عليهم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [٧] في المعترك فلا تزول في الحرب.

__________________

(١) حتى ، وي : ـ ح.

(٢) أي ، ح و : ـ ي.

(٣) لضعفهم ، وي : بضعفهم ، ح.

(٤) أو لإسلامهم ، وي : ـ ح.

(٥) وجماعة ، + ح.

(٦) التوبة (٩) ، ٥.

(٧) اختصر المفسر هذه الأقوال من السمرقندي ، ٣ / ٢٤٠ ـ ٢٤١ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٨) «قتلوا» : قرأ حفص والبصريان بضم القاف وكسر التاء ، والباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما. البدور الزاهرة ، ٢٩٦.

(٩) روى البخاري نحوه ، الرقاق ، ٤٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٤١.

١١٧

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، خبر ه «تعسوا» ، يدل عليه (فَتَعْساً) أي هلاكا وخيبة في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار (لَهُمْ) من تعس فلان إذا عثر وسقط (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [٨] عطف على الفعل الناص ب «تعسا» ، أي فقال تعسا لهم وأضل ، أي أبطل الله ثواب حسناتهم.

(ذلِكَ) أي التعس والإضلال (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن والأحكام (فَأَحْبَطَ) أي أبطل (أَعْمالَهُمْ) [٩].

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠))

ثم شرع في تخويفهم ليعتبروا فيؤمنوا بقوله (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي في البلاد (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلك أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالعذاب (وَلِلْكافِرِينَ) أي ولكافري قريش وغيرهم من هذه الأمة (أَمْثالُها) [١٠] أي أمثال عاقبة المدمر عليهم وعذابهم إن لم يؤمنوا».

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١))

(ذلِكَ) أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي وليهم وناصرهم بالغلبة على عدوهم (وَأَنَّ) أي بأن (الْكافِرِينَ لا مَوْلى) أي لا ناصر (لَهُمْ) [١١] يعني لا تنصرهم آلهتهم من العذاب النازل بهم (١) ولا يناقضه قوله «فردوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» (٢) ، فانه أثبت لهم المولى ، لأن المولى هنا بمعنى الرب والمالك دون الناصر.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))

ثم بين مستقر الصالحين ومستقر الغافلين بقوله (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبعث (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إدخالا لا إخراج بعده (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا وغفلوا عن البعث (٣)(يَتَمَتَّعُونَ) أي يعيشون بما أعطوا في الدنيا (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي ليس لهم هم إلا الأكل والشرب والجماع في الدنيا ولا يتفكرون في مآلهم (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [١٢] أي منزلا لإقامتهم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣))

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي كم من أهل قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) أي منعة وأكثر عدة وأوفر مالا (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي أهل مكة الذين أخرجوك من مكة إلى المدينة (أَهْلَكْناهُمْ) أي عذبناهم عن التكذيب (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [١٣] أي لم يكن مانع يمنعهم من نزول العذاب بهم ، فهذا تخويف آخر لهم ، قيل : إن عذابهم أمر قد مضى ، فكيف قال «فلا ناصر لهم»؟ أجيب بأن مجراه مجرى الحال المحكية كقولك إنا أهلكناهم فهم لا ينصرون (٤).

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

ثم أشار إلى جهلهم وعدم تمييزهم بقوله (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) أي حجة واضحة (مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) أي قبحه فرآه حسنا وهم مشركو مكة (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) [١٤] بعادة غير الله ، فهو إنكار للمساواة بين المهتدي والضال في الثواب.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ

__________________

(١) بهم ، ح و : ـ ي.

(٢) الأنعام (٦) ، ٦٢.

(٣) عن البعث ، ح و : بالبعث ، ي.

(٤) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٥ / ٢٦٣.

١١٨

فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

(مَثَلُ) أي صفة (الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي الذين يتقون الشرك والمعاصي وهم أمة محمد عليه‌السلام وهو مبتدأ ، خبره قوله (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) بالمد وغيره (١) ، أي غير متغير الريح والطعم (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) إلى الحموضة كلبن الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ) أي لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) من غير تصديع للرأس ولا تنزيف للعقل بخلاف خمر الدنيا ، فانها كريهة الطعم وتصدع وتنزف وتبعد من الرحمن (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) لا شمع فيه ولا كدر (وَلَهُمْ فِيها) أي في الجنة مع ذلك (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من كلها أصناف (وَ) لهم (مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي رضوان منه عنهم مع ما أعطاهم ، قوله (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر مبتدأ محذوف الاستفهام الإنكاري بدلالة (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) ، قيل تقديره : أحال من كان مكرما في الجنة الموصوفة خالدا كحال من كان هو في النار خالدا (٢) ، وقيل : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ بتقدير الاستفهام الإنكاري والخبر (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) ، تقديره : أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار وإنما حذف حرف الإنكار لزيادة تصوير لمكابرة المسوي بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه وإنه بمنزلة من يسوي بين الجنة التي لهم فيها نعيم وبين التي يسقي أهلها الحميم فعلى هذا قوله (فِيها أَنْهارٌ) داخل في حكم الصلة أو هو حال ، أي مستقرة فيها أنهار (٣) ، قوله (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) عطف على صلة من وجمع من اعتبار للمعنى ، أي كالذين سقوا ماء شديد الحر يسقط فروة الوجه عند الشرب (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [١٥] أي ما في بطونهم من الحوايا فخرجت من أدبارهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦))

(وَمِنْهُمْ) أي ومن الكافرين من أهل النفاق (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ولا يحفظون كلامك (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من الصاحابة رضي الله عنهم كعبد الله بن مسعود استهزاء (ما ذا قالَ) محمد (آنِفاً) أي الساعة ، ونصبه ظرف ، أي وقتا يقرب منا وذلك حين خطب النبي عليه‌السلام يوم الجمعة للناس وعاب (٤) في خطبته بعض المنافقين فقال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) مجازاة لنفاقهم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) [١٦] في كفرهم والعمل بما تهوي أنفسهم فلا يؤمنوا.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧))

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) أي أحسنوا الاستماع إليك (زادَهُمْ) الله تعالى (هُدىً) أي بصيرة وعلما في دينهم وتصديقا لنبيهم وشكرا لربهم (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [١٧] أي أعطاهم الله علم ما يتقون منه (٥) ، وقيل : ألهمهم العمل بالناسخ وترك المنسوخ (٦).

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي كفار قريش ما ينتظرون لأن يؤمنوا (إِلَّا السَّاعَةَ) أي القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة ، بدل من (السَّاعَةَ) بدل اشتمال ، قوله (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) كالتعليل لاتيانها ، أي قد ظهرت علاماتها وهي بعث النبي عليه‌السلام وانشقاق القمر والدخان ، ومنها أن يعظم رب المال وأن يرفع العلم ويكثر الجهل ويظهر أهل المنكر على الحق (فَأَنَّى) أي من أين (لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ) الساعة (ذِكْراهُمْ) [١٨] أي تذكرهم واتعاظهم ، والفاء في (فَأَنَّى) جواب الشرط ، تقديره : إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم ، يعني لا ينفعهم الذكرى والتوبة حيئذ وقد فرطوا فيها بالإنكار.

__________________

(١) «آسن» : قرأ ابن كثير بقصر الهمزة ، وغيره بمدها. البدور الزاهرة ، ٢٩٧.

(٢) لعل المصنف أخذه عن البيضاوي ، ٢ / ٤٠٢.

(٣) أخذه المفسر عن البيضاوي ، ٢ / ٤٠٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٤) للناس وعاب ، و : وعاب ، ي ، للناس وغاب ، ح.

(٥) منه ، وي : ـ ح.

(٦) نقل المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٣ / ٢٤٣.

١١٩

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

قوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) في جواب الشرط المحذوف ، أي إذا علمت عاقبة الأمر من سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على العلم بتوحيد الله يا محمد والمراد أمته أو فاثبت على إظهار قول «لا إله إلا الله» لدعوة الناس إليه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ليستن بك غيرك (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ليغفر لهم ذنوبهم (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) بالنهار في أحوالكم ومعاشكم (وَ) يعلم (مَثْواكُمْ) [١٩] أي مقركم ومنزلكم بالليل ، وقيل : متقلبكم في حيوتكم ومثويكم في قبوركم أو في الآخرة من الجنة والنار فاحذروه (١).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠))

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين آنسوا بالوحي واستوحشوا بابطانه (لَوْ لا) أي هلا (نُزِّلَتْ سُورَةٌ) اشتياقا إلى الوحي بها ، وقيل : المراد ب (الَّذِينَ) آمنوا باللسان (٢) ، فقال تعالى (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي غير منسوخة الأحكام من الجهاد وغيره (وَذُكِرَ) أي فرض (فِيهَا الْقِتالُ) فرح المؤمنون المخلصون و (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وهم المنافقون (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ) أي نظرا مثل نظر المغشي عليه ، يعني الذي أصابته الغشية أي الحيرة (مِنَ الْمَوْتِ) إذا نزل به وعاين الملائكة خوفا منك وكراهية نزول القرآن بذلك ، عن قتادة : «كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة» (٣) ، وهي أشد القرآن على المنافقين ، وقيل : لها محكمة لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال قد نسخ ما كا من الصفح والصلح وهو غير منسوخة إلى يوم القيامة (٤) ، قوله (فَأَوْلى) مبتدأ ، خبره (لَهُمْ) [٢٠] أي العذاب الأولى لهم بسبب نفاقهم وهو تهديد لهم من الولي وهو القرب ، ومعناه الدعاء عليهم.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١))

قوله (طاعَةٌ) مبتدأ (وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) عطف عليه ، والخبر محذوف وهو خير لهم ، أي طاعتهم لما أنزل من القرآن ، وقول مرضي في حقه وشأن محمد عليه‌السلام خير لهم ثوابا من إنكارهم واستهزائهم به (فَإِذا عَزَمَ) أي وجب (الْأَمْرُ) بالقتال وجاء وقته ، وجواب «إذا» محذوف وهو كرهوا ذلك وكذبوا في قولهم (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في أمره بالقتال وعزمهم الحرص فيه أو صدقوا نبي الله في إظهار الإيمان به والطاعة فيما جاء به (لَكانَ)(٥) الصدق (خَيْراً لَهُمْ) [٢١] من النفاق والكراهة والكذب.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢))

قوله (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغة في التوبيخ ، وقرئ بكسر السين (٦) ، أي هل تريدون وترجون يا أهل مكة بعد الإيمان (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن دين الإسلام (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي كما كنتم تفسدون في الجاهلية (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [٢٢] يعني بسفك الدم والعقوق ودفن البنات وعصيان الرحمن ، وقيل : نزلت في حق الأمراء والولاة (٧) ، أي إن صرتم متولين على أمورنا الناس يقع منكم الإفساد والظلم وتقطيع الأرحام بسبب التولية.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

(أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي طردهم من رحمته (فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الحق (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) [٢٣] عن طريق الهدى.

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٦٥.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٣) انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٤ ؛ والبغوي ، ٥ / ١٥٩ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٦٥.

(٤) نقله المفسر عن الكشاف ، ٥ / ١٦٥.

(٥) أي ، + ح.

(٦) «عسيتم» : كسر السين نافع ، وفتحها غيره. البدور الزاهرة ، ٢٩٧.

(٧) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤٥.

١٢٠