التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

وهو ابن عامر فهو على الاستئناف والقطع عما قبله (١).

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠) ؛ قال ابن عباس : (نزلت هذه الآية بمكّة ، وكان المشركون قالوا : ما يغني عنّا الإسلام وقد عدلنا بالله وقتلنا النّفس الّتي حرّم الله وأتينا الفواحش ، فنزلت هذه الآية).

ومعناها : إلّا من تاب عن الكفر والمعصية وآمن بالله وعمل عملا صالحا بعد الإيمان والتوبة ، فأولئك يمحو الله سيّئاتهم بالتوبة ويثبت لهم مكانها حسنات ، وهذا هو معنى التّبديل ، لا تصير السّيئة بعينها حسنة.

وعن ابن عباس أنه قال : (قرأنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) الآية ثمّ نزل قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) الآية ، فما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرح بشيء مثل فرحه بها وبقوله (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(٢)) (٣).

قال قتادة : (ومعناها : إلّا من تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل عملا صالحا فيما بينه وبين ربه) (٤). وقال أيضا في معنى قوله (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) : (التّبديل في الدّنيا طاعته بعد عصيانه ، وذكر الله بعد نسيانه). وقال الحسن : (أبدلهم الله بالعمل إلى العمل الصّالح بالشّرك إخلاصا وإسلاما ، وبالفجور إحصانا ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين) (٥).

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٧٦ ؛ قال القرطبي : (قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي : يضاعف ، ويخلد ، جزما) وهو كما قال المصنف رحمه‌الله. وقال القرطبي : (وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : يضاعف ، ويخلد بالرفع فيهما على العطف والاستئناف).

(٢) الفتح / ١.

(٣) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٢٧٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه).

(٤) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٢٨٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد).

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٥٤٣٣).

٤٨١

قوله تعالى : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) (٧١) ؛ أي من تاب من الشّرك وعمل صالحا ، ولم يكن من القبيل الذين قتلوا وزنوا ، فإنه يتوب الله ؛ أي يعود عليه بعد الموت متابا حسنا يفضّل على غيره بمن قتل وزنى ، فالتوبة الأولى رجوع عن الشّرك ، والثانية رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ؛) قال أكثر المفسّرين : الزّور ها هنا بمعنى الشّرك. قال الزجّاج : (الزّور في اللّغة الكذب ، ولا كذب فوق الشّرك بالله). وقال قتادة : (ولا يشهدون الزّور ، لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم) (١). وقال محمّد بن الحنفيّة : (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) : اللهو والغناء واللّعب وأعياد اليهود والنّصارى والمجوس). وقال عليّ بن أبي طلحة : (شهادة الزّور). وكان عمر رضي الله عنه (يجلد شاهد الزّور أربعين جلدة ويسخّم وجهه ويطوف به في الأسواق) (٢). وعن عمر بن المنكدر أنه قال : بلغني (أنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين الّذين كانوا ينزّهون أنفسهم عن سماع اللهو ومزامير الشّيطان؟ أدخلوهم رياض المسك. ثمّ يقول للملائكة : اسمعوا عبيدي تحميدي وثنائي وتمجيدي ، وأعلموهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢) ؛ أي إذا مرّوا بالقول والفعل الذي لا فائدة منه مرّوا مكرمين صائنين أنفسهم عن الخوض في ذلك ، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر بما قدروا عليه من قول إذا عجزوا عن الفعل ، ومن إظهار كرامة وتعبيس وجه إذا عجزوا عن القول.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣) ؛ معناه : والذين إذا وعظوا بآيات ربهم ؛ أي بالقرآن ؛ لم يعاملوا فيها معاملة الأصمّ الذي لا يسمع ، والأعمى الذي لا يبصر ، ولكنّهم سمعوا وبصروا وانتفعوا بها وخرّوا ساجدين سامعين باكين مبصرين فيما أمروا به ونهوا عنه. والخرّ هو السّقوط.

__________________

(١) أخرجه ابن ابي حاتم في التفسير : الأثر (١٥٤٤٩).

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٣٤. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٨٠.

٤٨٢

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ؛) الذّرّيّة تكون واحدا وجمعا ، فكونها الواحد : قوله تعالى : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)(١) ، وكونها للجمع قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً ضِعافاً)(٢). وقوله تعالى (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) : (يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا) أراد أتقياء. وقال مقاتل : (معناه : اجعلهم صالحين فنقرّ أعينا بذلك) (٣). وقال الحسن : (ما من شيء أقرّ لعين المسلم من أن يرى ولده وولد ولده مطيعين لله) (٤).

وقوله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤) ؛ أي يقتدي بنا في الخير ، والمعنى : اجعلنا صالحين نأتمّ بمن قبلنا من المسلمين حتى يأتمّ بنا من بعدنا. قال الفرّاء : (إنّما قال (إِماماً) ولم يقل : أئمّة كما قال : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) للاثنين ، يعني : إنّه من الواحد الّذي يريد به الجميع) (٥). وفي الحديث : [من رزق إيمانا وحسن خلق فذاك إمام المتّقين](٦).

وقوله تعالى : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ؛) أي أهل هذه الخصال هم الذين يجزون الغرفة في الجنّة بصبرهم على الطاعة وعن المعصية وعلى مكاره الزّمان ومحن الدّنيا. والغرفة هي البناء العالي المرتفع ، قال مقاتل : (يعني غرف الجنّة). وقال مقاتل : (هي غرفة من الزّبرجد والدّرّ والياقوت).

قوله تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٧٥) ؛ أي وتتلقّاهم الملائكة في تلك الغرف بالتحيّة والسّلام من الله تعالى. قرأ أهل الكوفة (يلقون) بفتح الياء والتخفيف. وقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٧٦) أي حسنت تلك الغرف في المستقرّ والمقام.

__________________

(١) آل عمران / ٣٨.

(٢) النساء / ٩.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٤٣.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠١٦٢). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٥٤٨٥).

(٥) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٢ ص ٢٧٤.

(٦) لم أقف عليه.

٤٨٣

قوله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ؛) أي قل لهم : ما يصنع بكم ربي وهو لا يحتاج إليكم لو لا دعاؤه إيّاكم إلى الإسلام وإلى الطاعة لتنتفعوا أنتم بذلك. وقيل : معناه : أيّ وزن وقدر لكم عند ربي لو لا دعاؤكم وعبادتكم إياه. وقيل : معناه : ما يفعل بكم يا أهل مكّة لو لا عبادتكم غير الله ، (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ؛) يا أهل مكة ، (فَسَوْفَ يَكُونُ ؛) جزاء تكذيبهم ، (لِزاماً) (٧٧) ؛ أي أسروا وأخذوا بالأيدي. وقيل : أراد به يوم بدر.

واللّزام بنصب اللام مصدرا أيضا. والخطاب بقوله (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يا أهل مكّة ؛ أي إنّ الله دعاكم بالرّسول إلى توحيده وعبادته ، فقد كذبتم الرسول ، ولم تجيبوا دعوته ، فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم فلا تعطون التّوبة ، فقتلوا يوم بدر واتّصل بهم عذاب الآخرة.

آخر تفسير سورة (الفرقان) والحمد لله رب العالمين

٤٨٤

سورة الشّعراء

سورة الشّعراء مكّيّة إلى قوله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى آخر السّورة ، فإنّها مدنيّة ، وهي خمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا ، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ، ومائتان وسبع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) ؛ أول السورة قسم ؛ وهو من أسماء الله تعالى. قال القرظيّ : (أقسم الله بطوله وسنائه وملكه) (١) ، قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات الكتاب المبين أنزلها على رسوله.

قوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣) ؛ أي لعلّك مهلك نفسك ؛ أي قائل بأن لا يكونوا مؤمنين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمانهم ونجاتهم من عذاب الله ، وذلك أنه لمّا كذبت قريش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شقّ عليه ذلك ، وكان يحرص على إيمانهم ، فأنزل الله هذه الآية : لعلّك قاتل نفسك لتركهم الإيمان.

قوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) ؛ إعلام من الله تعالى أنه لو أراد أن ينزّل آية تضطرّهم إلى الطاعة لقدر على ذلك ، ولكنه لم يفعل ؛ لأنه أراد منهم إيمانا فيستحقّون عليه المدح والثواب ، فإذا جاء الإلجاء ذهب المدح والثّواب.

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٣٥. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٨٩. وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ٢٨٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي حاتم عن محمّد بن كعب قال : الطاء من ذي الطّول ، والسين من القدّوس ، والميم من الرّحمن).

٤٨٥

قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي أذلّاء منقادين لا يلوون أعناقهم إلى معصية. قال قتادة : (المعنى : لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلّون بها ، فظلّت جماعتهم لها خاضعين) (١). والأعناق : الجماعات ، يقال : جاءني عنق من الناس (٢) ؛ أي جماعة ، ولو كان المراد الأعناق التي هي الخارجة لقال : خاضعات.

قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (٥) ؛ أي ما يأتي جبريل عليه‌السلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء بعد شيء من القرآن إلّا كانوا معرضين عن ذلك. قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا ؛) أي بالقرآن ، (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٦) ؛ أي فسيأتيهم خبر ذلك في القيامة.

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٧) معناه : أولم ير أهل مكّة إلى الأرض كم أخرجنا فيها من كلّ صنف حسن في المنظر من النّبات بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها. والزّوج : هو صنف وأضرب الحسن ، (والمعنى : من كلّ زوج نافع لا يقدر على إنباته إلّا ربّ العالمين) (٣) ، من أسود وأحمر وأصفر وأخضر ، وحلو وحامض مما يأكل الناس والأنعام. (والكريم في اللّغة : هو المحمود فيما يحتاج إليه) (٤) ، يقال : نخلة كريمة إذا طاب حملها أو كثر ، وناقة كريمة إذا كانت غزيرة اللّبن.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ؛) إنّ في اختلاف ألوان النبات للدلالة على وحدانيّة الله وكمال قدرته ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨) ؛ في علم الله ؛ أي قد سبق في علم الله أنّ أكثرهم لا يؤمنون ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩) ؛ أي المنتقم من أعدائه الرّحيم بأوليائه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠١٩١). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٥٥٣٤).

(٢) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج ٤ ص ٦٤.

(٣) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج ٤ ص ٥٦.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠١٩١). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٥٥٣٤).

٤٨٦

قوله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) ؛ أي أتل على قومك أو اذكر لقومك : (إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) حين رأى الشجرة والنار ، وقال له : يا موسى ائت القوم الظّالمين ، يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، وظلموا بني إسرائيل بأن ساموهم سوء العذاب ، (قَوْمَ فِرْعَوْنَ.)

ثم أخبر عنهم فقال : (أَلا يَتَّقُونَ) (١١) ، عقابي في مقامهم على الكفر وترك الإيمان. (قالَ) موسى : (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (١٢) ؛ بالرّسالة ويقولون : ليست من عند الله ، (وَيَضِيقُ صَدْرِي ؛) بتكذيبهم إيّاي ، (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي ؛) للعقدة التي فيه ، (فَأَرْسِلْ) جبريل (إِلى هارُونَ) (١٣) ليكون معي معينا يؤازرني على إظهار الدّعوة وتبليغ الرّسالة. (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ؛) أي دعوى ذنب ؛ يعني الوكزة التي وكزها القبطيّ فمات منها ، (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (١٤) ؛ بوشايته.

قوله تعالى : (قالَ كَلَّا ؛) أي كلّا لا يقتلونك لأنّي لا أسلّطهم عليك ، (فَاذْهَبا ؛) أنت وأخوك ، (بِآياتِنا ؛) يعني بما أعطاهما من المعجزة ، (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (١٥) ؛ وإنّما قال (مَعَكُمْ) لأنه أجراها مجرى الجماعة ، والمعنى : أسمع ما يقولونه وما يجيبونك به.

وقيل : إنّ معنى قوله (كَلَّا) أي قال الله لموسى : إرتدع (١) عن هذا الظّنّ وهذا الخوف ، (فَاذْهَبا بِآياتِنا) أي بدلائلنا (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي شاهدون بحفظكم ونصركم.

قوله تعالى : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦) ؛ أي (رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إليك لتؤمننّ بالله وتطلق بني إسرائيل عن الاستعباد ، وترسلهم معنا إلى الأرض المقدّسة ، والرّسول يذكر ويراد به الجمع ، كما تقول العرب :

__________________

(١) في المخطوط : (أن تدع) وهو تحريف. وضبط النص كما في معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ٦٦.

٤٨٧

ضيف (١) وعدوّ ، ومنه قوله (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ)(٢) ، وقيل : إنّما قال (رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ولم يقل رسولا ؛ لأنّه أراد المصدر ؛ أي رسالة ، وتقديره : ذوو رسالة (٣) رب العالمين ، كقول الشّاعر :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (٤)

أي برسالة ، وقيل : معناه : وكلّ واحد منّا رسول رب العالمين.

قوله تعالى : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٧) ؛ أي بأن أرسل معنا بني إسرائيل إلى فلسطين ولا تستعبدهم. وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة ، وكانوا في ذلك الوقت ستّمائة ألف وثلاثين ألفا ، فانطلق موسى وهارون بالرّسالة إلى مصر ، فلمّا بلغوا دار فرعون لم يؤذن لهم بالدّخول عليه إلّا بعد مدّة ، فدخل البوّاب ؛ وقال لفرعون : هذا إنسان يدّعي أنه رسول رب العالمين ، فقال فرعون : إئذن له لعلّنا نضحك منه. فدخلا عليه وأدّيا رسالة الله تعالى.

فعرف موسى ؛ لأنه نشأ في بيته ، ف (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ؛) أي صبيّا صغيرا ، (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (١٨) ؛ وهي ثلاثون سنة ، (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ؛) يعني قتل قبطيّ ، (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١٩) ؛ أي من الجاحدين لنعمتي ، وحقّ تربيتي ، فربّيناك فينا وليدا ، فهذا الذي كافأتنا به أن قتلت منّا نفسا ، وكفرت بنعمتنا.

ويروى أنّ موسى لمّا انطلق إلى مصر لتبليغ الرّسالة ، وكان هارون يومئذ بمصر ، التقى كلّ واحد منهما بصاحبه ، فانطلقا كلاهما إلى فرعون ، أدّيا جميعا الرسالة ، وعرف فرعون موسى ، قال له فرعون : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) أي صغيرا ، ومكثت

__________________

(١) في المخطوط : (صيف) بالمهملة ، والمناسب كما أثبتناه.

(٢) الكهف / ٥٠.

(٣) في المخطوط : (وارساله) ولا تؤدي المعنى ، وضبطنا النص كما في معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ٦٦. والجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٩٣.

(٤) ينظر : لسان العرب : مادة (رسل). والبيت لكثير.

٤٨٨

عندنا سنينا من عمرك ، (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) أي قتلت القبطيّ (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي الجاحدين لنعمتي وتربيتي.

(قالَ) موسى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٢٠) ؛ أي فعلت تلك الفعلة وأنا من الجاهلين ، لم يأتني من الله شيء ، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الإضلال عن الهدى ؛ لأن ذلك لا يجوز أن يكون على الأنبياء. وقيل : معناه : وأنا من المخطئين ، نظيره (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)(١). وقيل : من النّاسين ، نظيره قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)(٢).

قوله تعالى : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ؛) أي هربا منكم إلى مدين لمّا خفتكم على نفسي أن تقتلوني بالذي قتلته ، (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ؛) أي نبوّة ، وقيل : فهما وعلما ، (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١) ؛ وإنّي لأبلّغكم التوحيد والشّرائع.

قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢) ؛ قال المفسّرون : هذا إنكار من موسى أن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى ، واللفظ لفظ خبر (٣) وفيه تبكيت للمخاطب على معنى : إنّك لو كنت لم تقتل بني إسرائيل كانت أمّي مستغنية عن قذفي في اليمّ ، فكأنّك تمنّ عليّ بما كان بلاؤك سببا له. وقيل : معناه : إنّ فرعون لمّا قال لموسى : ألم نربك فينا وليدا؟ قال له موسى : تلك نعمة تعدّها عليّ لأنّك عبّدت بني إسرائيل ؛ أي استعبدتهم ، ولو لم تعبدهم لكفلني أهلي فلم يلقوني في اليمّ. يقال : استعبدت فلانا وأعبدته وتعبّدته وعبّدته ؛ أي اتّخذته عبدا.

وقيل : معنى الآية : أتمنّ عليّ بذلك وأنت استعبدت بني إسرائيل ، فأبطلت نعمتك عليّ بإساءتك إليهم باستعبادك إيّاهم؟ وبأن أخذت أموالهم وأنفقت على موسى منها؟ وكانت أمّي هي التي تربيني ، فأيّ نعمة لك عليّ.

__________________

(١) يوسف / ٩٥.

(٢) البقرة / ٢٨٢.

(٣) في المخطوط : (تخيير) وهو غير مناسب ، وضبط كما في معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ٦٧.

٤٨٩

قوله تعالى : (أَنْ عَبَّدْتَ) في موضعها وجهان ؛ أحدهما : النصب بنزع الخافض ، والثاني : الرفع على البدل من (نعمتي) (١).

قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٣) ؛ أي قال له فرعون : وما ربّ العالمين؟ أي قال له فرعون : أيّ شيء ربّ العالمين الذي تدعوني إليه ، (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٢٤) ؛ بأنّ المستحقّ للربوبيّة من يكون هذه صفته ، وأنّ هذه الأشياء التي ذكرت ليست من فعلكم.

فلما قال موسى ذلك تحيّر فرعون ولم يردّ جوابا ينقض به هذا القول. (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) (٢٥) ؛ مقالة موسى؟! و (قالَ) موسى : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٦) ؛ بيّن أنّ المستحقّ للربوبية من هو ربّ أهل كلّ عصر وزمان ؛ أي الذي خلق آباءكم الأوّلين ، وخلقكم من آبائكم.

فلم يقدر فرعون على جوابه ، ف(قالَ) فرعون لجلسائه : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) ؛ أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن له إلها غيري.

فلم يشتغل موسى بالجواب عن ما نسبه إليه من الجنون ، ولكن اشتغل بتأكيد الحجّة والزّيادة ، (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨) ؛ توحيد الله ، فإن كنتم ذوي عقول لم يخف عليكم ما أقول.

فلم يجبه فرعون بشيء ينقض حجّته ، بل هدّده و (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٩) ؛ أي لأحبسنّك مع من حبسته في السّجن. ظنّ بجهله أن يخافه ويترك عبادة الله ويتخذ فرعون إلها. وكان سجن فرعون أشدّ من القتل ؛ لأنه كان إذا حبس الرجل طرحه في مكان وحده لا يسمع فيه شيئا ، ولا يبصر فيه شيئا ، وكان يهوي به في الأرض. و (قالَ) موسى لفرعون حين توعّده بالسّجن : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٣٠) ؛ يعني لو جئتك بأمر ظاهر تعرف فيه صدقي وكذبك. و (قالَ ؛) فرعون على وجه التهزئة : (قالَ فَأْتِ بِهِ

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٢ ص ٢٧٩. وإعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ١٢١.

٤٩٠

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣١). (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٢) أي حيّة صفراء ، ذكر عظيم أعظم ما يكون من الحيّات ، قال فرعون : فهل غير هذه؟! (وَنَزَعَ يَدَهُ ؛) من جيبه ، (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ ؛) بياضا نوريّا لها شعاع الشّمس ، (لِلنَّاظِرِينَ) (٣٣).

فإن قيل : كيف سمّى العصا ثعبانا في هذه الآية ، وسماها جانا في آية أخرى حيث قال (كَأَنَّها جَانٌ)(١) والجانّ الخفيفة؟ قلنا : إنّما سمّاها ثعبانا لعظم حسّها ، وسمّاها جانّا لسرعة مشيته وحركته ، وفي ذلك ما يدلّ على عظم الآية.

فلم يكن لفرعون دفع لما شاهد إلّا أن (٢) قال : هذا «سحر» سحرتموه ، فأوهم أصحابه أنه لا صحّة له ، وذلك قوله تعالى : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (٣٤) ؛ قال ابن عبّاس : (وكان الملأ حوله خمسمائة من أشراف قومه ، عليهم الأسورة) فقال لهم : إنّ هذا لساحر حاذق بالسّحر ، (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ؛) يلقي الفرقة والعداوة بينكم فيخرجكم من بلادكم ، (بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٣٥) ؛ أي ما ذا تشيرون عليّ في أمره ، ولو تفكّر هؤلاء الجهّال في قوله ذلك لعلموا أنه ليس بإله لافتقاره إلى رأيهم ، ولكنّهم لفرط جهلهم موّه عليهم.

قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٣٧) ؛ أي قال له الملأ : أخّر أمره وأمر أخيه لا يناظرهما إلى أن يبعث إلى المدائن الشّرط يحشرون السّحرة ، ليصنع السّحرة مثل ما صنع موسى ، ولا يثبت له عليك حجّة.

قوله تعالى : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٣٨) ؛ أي لميعاد يوم زينتهم وهو يوم عيدهم ، (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) (٣٩) ؛ اجتمعوا لتنظروا إلى السّحرة ، (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ؛) أي نتّبع دينهم ، (إِنْ كانُوا هُمُ

__________________

(١) القصص / ٣١.

(٢) في المخطوط : (الآن).

٤٩١

الْغالِبِينَ) (٤٠) ؛ لموسى ، ويقال : أرادوا بالسّحرة موسى وهارون (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) على سحرهم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً ؛) أي جعلا ، (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) (٤١) ؛ لموسى. (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ ؛) مع ما أعطيتكم من الأموال ، (إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٢) ؛ في المرتبة والمنزلة وللدخول عليّ.

قوله تعالى : (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٤٣) ؛ أي اطرحوا من أيديكم ما تريدون طرحه من الحبال والعصيّ ، وهذا أمر تهديد لا أمر تحقيق ، (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ ؛) أي بمنعته ، (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) (٤٤) ؛ لموسى ، فامتلأ الوادي حيّات ، فهابه ذلك ، فقيل لموسى : ألق عصاك ، (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٤٥) ؛ فألقاها فصارت حيّة عظيمة تلقف ما صنعوا من السّحر ، ثم أخذها موسى فعادت عصا كما كانت ، ولو لم يوجد لما تلقفه أثر.

قوله تعالى : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (٤٦) ؛ فسجدت السّحرة عند ذلك لله تعالى لما علموا أن ذلك ليس بسحر ، وإنّما هو من عند الله ، و (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٧) ؛ قال لهم فرعون : إيّاي تعنون؟ قالوا : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ؛) أي صدّقتم به قبل أن آمركم بذلك ، (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٩) ، وكان فرعون أوّل من قطع وصلب. قال ابن عبّاس : (إنّهم من سرعة سجودهم لله كأنّهم ألقوا).

قوله تعالى : (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) (٥٠) ؛ أي قالت السّحرة : لا يضرّنا ما تصنع بنا في الدّنيا في جنب ثواب الله في الآخرة ، إنّا إذا رجعنا إلى ربنا مؤمنين لنأخذ حقّنا من الظالم ، (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا ؛) شركنا أي يتجاوز تأخّرنا ، (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥١) ؛ أي بأن كنّا أوّل المؤمنين لموسى من أهل الجمع اليوم ، فكانوا سحرة في أوّل النهار شهداء في آخره.

٤٩٢

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ؛) أي ببني إسرائيل ليلا ، (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٥٢) ، وأخبرهم أنّ فرعون وقومه يتّبعونهم وينجيهم الله من ضررهم ، فأسرى بهم موسى ليلا إلى البحر ، (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٥٣) ؛ يحشرون النّاس ويجمعون له الناس الجيش ، ثم قال فرعون لقومه : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) (٥٤) ؛ يعني موسى وأصحابه ، والشّر ذمة : الفئة القليلة ، والشّر ذمة في كلام العرب : القليل من كلّ شيء من الناس والأموال.

روي أنّ هؤلاء الذين اشغلهم فرعون يومئذ ستّمائة ألف وسبعون ألفا ، وكان هامان على مقدّمة فرعون ومعه ألفا ألف ، وفرعون في أكثر من خمسة عشر ألف ألف.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) (٥٥) ؛ أي لفاعلون ما يغيظنا لإظهارهم خلاف ديننا ، وأخذهم حبلنا وقتلهم أبكارنا. وذلك أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن اجمع أولاد بني إسرائيل كلّ أهل أربعة أبيات في بيت ، ثم اذبحوا الأولاد واضربوا بدمائها على أبوابكم ، فإنّي سآمر الملائكة لا يدخلون بيتا على بابه دم ، وسآمرهم بقتل أبكار آل فرعون ، ثم أسر بعبادي ، ففعل ذلك ، فلمّا أصبحوا ، قال فرعون : هذا عمل موسى وقومه ، قتلوا أبكارنا وأخذوا أموالنا ، فأخذ في طلبهم. قوله تعالى : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) (٥٦) ؛ قرأ الكوفيّون وابن عامر (حاذِرُونَ) بالألف ؛ أي شاكّون في السّلاح ، ذوو أداة وقوّة وكراع ، وبنوا اسرائيل لا سلاح لهم. وقرأ الباقون (حذرون) أي مسقطون خائفون شرّهم (١).

قوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥٧) ؛ يعني فرعون وقومه من بساتين وعيون جارية ، (وَكُنُوزٍ ؛) أي وخزائن مدّخرة من الذهب والفضّة ، (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٥٨) ؛ أي مجالس رفيعة من مجالس الملوك والرؤساء ،

__________________

(١) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٧١ ؛ قال الزجاج : (وجاء في التفسير أن معنى حاذِرُونَ : مؤدون ، أي ذوو أداة ، أي ذوو سلاح ، والسلاح أداة الحرب ، فالحاذر المستعدّ. والحذر المتيقّظ). وينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٢١.

٤٩٣

(كَذلِكَ ؛) فعلنا بهم ، (وَأَوْرَثْناها ؛) وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم ، (بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) ؛ وذلك أنّ الله ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه ، وأعطاهم جميع ما كان لفرعون من الأموال والعقار والمساكن.

قوله تعالى : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (٦٠) ؛ يعني قوم فرعون أدركوا موسى وقومه حين أشرقت الشمس. قوله تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٦١) ؛ أي فلمّا توافى الفريقان ، وتقابلا بحيث يرى كلّ فريق صاحبه ، وعاين بعضهم بعضا ، قال أصحاب موسى : سيدركنا قوم فرعون ، ولا طاقة لنا بهم! (قالَ) لهم موسى : (كَلَّا ؛) أي لن يدركنا ، ارتدعوا وانزجروا عن هذه المقالة ، (إِنَّ مَعِي رَبِّي ؛) ناصري وحافظي ، (سَيَهْدِينِ) (٦٢) ؛ إلى طريق النّجاة منهم.

قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ؛) فصار اثنا عشر طريقا ، لكلّ سبط طريق ، ووقف الماء لا يجري ، وكان بين كلّ طريقين قطعة من الماء ، (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣) ؛ كالجبل العظيم ، وهذا البحر بحر القلزم ، تسلك الناس فيه من اليمن ومكّة إلى مصر.

قوله تعالى : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) (٦٤) ؛ يعني قوم فرعون ؛ أي قرّبناهم إلى الهلاك ، وقذفناهم في البحر ، وأدنينا بعضهم من بعض ، وجمعناهم فيه بما يسرّنا لبني إسرائيل من سلوك البحر ، فكان ذلك سبب قربهم من البحر حين اقتحموه. وسمّي (المزدلفة) مزدلفة لاجتماع الناس فيها (١) ، فلمّا تكامل جنود فرعون في البحر انطبق عليهم فغرقوا جميعا ، (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) (٦٥) ؛ من الغرق ، (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٦٦) ؛ أي فرعون وقومه.

__________________

(١) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٧٢ ؛ قال الزجّاج : (وقال أبو عبيدة : أَزْلَفْنا : جمعنا ثَمَّ الْآخَرِينَ ، قال : ومن ذلك سمّيت مزدلفة جمعا).

٤٩٤

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ؛) أي إنّ في ذلك الانفلاق الذي صار نجاة بني اسرائيل ، وفي الانطباق الذي كان سبب غرق آل فرعون لآية على توحيد الله وصدق نبوّة موسى ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٦٧) ؛ أي لم يكن قوم فرعون مع وضوح الأدلة على وحدانيّة الله مصدقين ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ؛) أي القاهر المنتقم من الكفّار ، (الرَّحِيمُ) (٦٨) ، بعباده ، ولم يكن آمن من أهل مصر غير آسية بنت مزاحم ، وحزقيل المؤمن ، ومريم بنت ناموثية التي دلّت على عظام يوسف (١) ، فلذلك قال (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ). وقيل : معنى قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي العزيز في انتقامه من أعدائه حين أغرقهم ، الرّحيم بالمؤمنين حين أنجاهم.

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) (٦٩) ؛ أي إقرأ يا محمّد على قومك ،

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) (٧١) ؛ أي فنقيم عليها عابدين ، مقيمين على عبادتها ، قال بعض العلماء : إنّما (فَنَظَلُّ لَها) لأنّهم كانوا يعبدونها بالنّهار دون الليل ، (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (٧٣) ؛ أي هل يسمعون دعاءكم إن دعوتموهم أو ينفعونكم إن دعوتموهم ، أو يضرّونكم إن لم تدعوهم. وقال ابن عبّاس : (معناه : أو يرزقونكم أو يكشفون عنكم الضّرّ).

قوله تعالى : (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٧٤) ؛ فنحن نقتدي بهم ، (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) (٧٦) ؛ أي قال لهم إبراهيم : أفرأيتم هذا الذي تعبدونه أنتم وآباؤكم المتقدّمون ، (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧٧) ؛ أي فإنّني أعاديهم ، أتبرّأ منهم. وقوله تعالى : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ.) روي أنّهم كانوا يعبدون الله مع الأصنام ، فتبرّأ إبراهيم من جميع ما يعبدونه إلّا من عبادة الله. وإنّما قال (عَدُوٌّ لِي) على التوحيد في موضع الجمع على معنى : أنّ كلّ واحد منهم عدوّ لي.

__________________

(١) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٥٣.

٤٩٥

ويقال : إنّ قوله تعالى (عَدُوٌّ) في موضع المصدر ، كأنّه قال ذوو عداوة ، فوقعت الصفة موقع المصدر ، كما يقع المصدر موقع الصفة في رجل عدل ، ويجوز أن يكون قوله تعالى (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع ، معناه : ولكنّ ربّ العالمين الذي خلقني ليس بعدوّ لي هو يهدين ؛ أي يرشدني إلى الحقّ ، وذلك أنّهم كانوا يزعمون أن أصنامهم هي التي تهديهم ، فقال إبراهيم ردّا عليهم : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨) ؛ إلى الدّين والرّشد لا ما تعبدون.

وقوله تعالى : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (٧٩) ؛ أي هو رازقي ، فمن عنده طعامي فهو الذي يشبعني إذا جعت ، ويرويني إذا عطشت ، (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٨٠) ؛ أي يعافيني من المرض ، وذلك أنّهم كانوا يقولون : المرض من الزّمان ، والأغذية والشّفاء من الأطبّاء والأدوية ، فأخبر إبراهيم أنّ الذي أمرض هو الذي يشفي وهو الله عزوجل ، ولم يقل إبراهيم فأمرضتني ؛ لأنه يقال مرضت ، وإن كان المرض بخلق الله وقضائه ، ولا يقال أمرضني الله.

قوله تعالى : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) (٨١) ؛ أي هو الذي يميتني في الدّنيا ثم يحييني في الآخرة للبعث ، (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي ؛) معناه : والذي أعلم وأرجو أن يغفر لي يوم الحساب. وذكره بلفظ الطّمع ؛ لأن ذلك أقرب إلى حسن الأدب. وقال بعض المفسّرين (١) : يعني الكذبات الثلاث ، قوله : إنّي سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله لسارة : هي أختي. وزاد الحسن والكلبيّ قوله أيضا للكواكب : هذا ربي.

قال الزجّاج : (إنّ الأنبياء بشر (٢) يجوز أن تقع منهم الخطيئة ، إلّا أنّهم لا تكون منهم الكبيرة ؛ لأنّهم معصومون) (٣). قوله تعالى : (يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) ؛ أي يوم الجزاء والحساب.

__________________

(١) هو مجاهد كما في جامع البيان : الأثر (٧٠٢٥٧).

(٢) في المخطوط : إن الأنبياء ليس يجوز أن ...) والصحيح كما أثبتناه ، (إن الأنبياء بشر يجوز أن ...) ، وكما هو في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ١١٢ ، وبه يستقيم المعنى.

(٣) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٧٢ ـ ٧٣ ؛ قال الزجاج : (ومعنى خطيئتي : أن الأنبياء بشر ، وقد يجوز عليهم الخطيئة ، إلا أنهم صلوات الله عليهم لا تكون منهم كبيرة ؛ لأنهم معصومون).

٤٩٦

قوله تعالى : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً ؛) يريد به النبوّة بعد نبوّة ، وإنّما أراد : زدني علما إلى علم وفقها إلى فقه ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٨٣) ؛ أي بالنبيّين من قبلي في الدرجة والمنزلة والثواب. والصلاح هو الاستقامة على ما أمر الله به. وقوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) ؛ أراد به الثناء الحسن ؛ أي اجعل لي ثناء حسنا في الدّين يكون بعدي إلى يوم القيامة. وقد استجاب الله دعاءه حين أحبّه أهل الأديان كلّهم. وقيل : واجعل لي في ذرّيتي من يقوم بالحقّ ويدعو إليه ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتّبعه ، فإنّهم هم الذين أظهروا شرائعه وفضائله.

قوله تعالى : (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (٨٥) ؛ أي أدخلني الجنّة واجعلني من الذين يرثون الفردوس ، (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) ؛ أي من المشركين ، وإنّما دعا إبراهيم لأبيه لموعدة وعدها إياه ، فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرّأ منه ، وكان هذا الدعاء قبل أن يتبرّأ منه. والضّالّ هو الذاهب عن طريق الحقّ.

قوله تعالى : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٨٧) ؛ أي لا تفضحني ولا تهتك ستري يوم القيامة ، يوم تبعث الخلق. وقيل : معناه : ولا تعذّبني يوم تبعث الخلائق ، وإنّما قال ذلك مع علمه أنه لا يخزيه ، إمّا على طريق التّعبّد وإما حثّا لغيره على أن يقتدي به في مثل هذا الدّعاء.

ثم فسّر ذلك اليوم ؛ فقال : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (٨٨) ؛ أي لا ينفع ذا المال ماله الذي كان في الدّنيا ، ولا ينفعه بنوه ولا يواسونه بشيء من طاعتهم ، ولا يحملون شيئا من معاصيه ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) ؛ يعني من الشّرك والنفاق ، فإنه ينفعه سلامة قلبه. وقيل : القلب السّليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن ، وقلب الكافر المنافق مريض.

وقال أهل المعاني في تفسير هذه الآيات أقوالا غير هذه ، فقال بعضهم : معنى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي الذي خلقني في الدّنيا على فطرته فهو يهدين في الآخرة إلى جنّته ، وقوله تعالى (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي يطعمني أيّ طعام شاء ، ويسقيني أيّ شراب شاء.

٤٩٧

قال محمّد بن كثير : (صحبت سفيان الثّوريّ بمكّة ، فكان يأكل من السّبت إلى السّبت كفّا من الرّمل) (١). وعن الحجّاج بن عبد الكريم قال : (خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فوجدته بحمص ، فسلّمت عليه ، فلبثت معه يومي ذلك ، فقال : لعلّ نفسك تنازعك إلى شيء من الطّعام؟ فقلت : نعم ، فأخذ رمادا وترابا وخلطهما وأعطانيه فأكلته ، ثمّ أقبل عليّ وأنشأ يقول :

اخلط التّراب بالرّماد وكله

وازجر النّفس عن مقام السّؤال

وقال أبو بكر الورّاق : (معنى يطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب) يشبعني ربي ويرويني من غير علاقة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّي أبيت يطعمني ربي ويسقيني](٢). وقال عليّ بن قادم : (كان عبد الله بن أبي نعيم لا يأكل في شهر إلّا مرّة! فبلغ ذلك الحجّاج ، فدعاه فأدخله بيتا وأغلق عليه بابه خمسة عشر يوما ، ثمّ فتحه ، ولم يشكّ أنّه قد مات ، فوجده قائما يصلّي ، فقال : يا فاسق أتصلّي بغير وضوء؟! فقال : يا حجّاج ؛ إنّما يأكل الطّعام من يخرج (٣) ويشرب ، فأنا على الطّهارة الّتي أدخلتني عليها هذا البيت) ، وقال ذو النّون : (معنى قوله تعالى (يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي يطعمني طعام المعرفة ، ويسقيني شراب المحبّة. ثمّ أنشأ يقول :

شراب المحبّة خير شراب

وكلّ شراب سواه سراب

وقال أبو يزيد البسطاميّ : (إنّ لله شرابا يقال له شراب المحبّة ، إدّخره لأفاضل عباده ، فإذا وصلوا اتّصلوا ، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر). وقال الجنيد : (يحشر النّاس يوم القيامة عراة إلّا من لبس لباس التّقوى ، وجياعا إلّا من أكل طعام المعرفة ، وعطاشى إلّا من شرب شراب المحبّة). وقوله تعالى (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ

__________________

(١) ذكره الثعلبي في التفسير : ج ٧ ص ١٦٧ ، وهو محمد بن كثير العبدي. ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب : الرقم (٦٥٠٤) مات سنة (١٢٣) وثقه البخاري وأحمد وغيره.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الصوم : الحديث (١٩٦٦). ومسلم في الصحيح : كتاب الصوم : الحديث (٥٨ / ١١٠٣).

(٣) في المخطوط ذكر كلمة «يأكل» والصحيح ما أثبتناه لضرورة السياق.

٤٩٨

يَشْفِينِ) قال جعفر الصّادق : (إنّي إذا مرضت بالذّنوب فهو يشفيني بالتّوبة). وقال بسطام بن عبد الله : (إذا أمرضتني مقاساة الخلق شفاني بذكره والأنس به) (١).

قوله تعالى : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ،) قال أهل المعرفة : يميتني بالعدل ويحييني بالفضل ، يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة ، يميتني بالفراق ويحييني بالتّلاق ، يميتني بالجهل ويحييني بالعقل ، يميتني بالخذلان ويحييني بالتوفيق.

قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٩٠) ؛ أي قربت وأدنيت لهم حتى نظروا إليها ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٩١) ؛ أي أظهرت وكشفت للضّالين عن الهدى ، (وَقِيلَ لَهُمْ ؛) للضّالّين في ذلك اليوم على وجه التّوبيخ : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ ؛) أي أين آلهتكم التي تعبدونها من دون الله؟ هل يدفعون العذاب عنكم ، (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ ؛) هل (يَنْتَصِرُونَ) (٩٣) ؛ لأنفسهم ؛ أي يدفعون عن أنفسهم.

ثم يؤمر بهم فيلقون في النار ، فذلك قوله تعالى : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) (٩٤) ؛ وقال الزجّاج : (طرح بعضهم على بعض) (٢) ، وقال ابن قتيبة : (ألقوا على رؤوسهم) ، وقال مقاتل : (قذفوا فيها هم والغاوون) (٣) ، قال السديّ : (يعني الآلهة والمشركين) (٤) ، وقال عطاء : (هم وما يعبدون من دون الله وجنود إبليس أجمعون ، يعني ذرّيّة إبليس كلّهم).

وقيل : معنى (كبكبوا) : أجمعوا وهم كفّار مكّة ، وكفار الجنّ والإنس وآلهتهم وذريّة إبليس حتى صاروا كبّة واحدة وطرحوا في النار.

قوله تعالى : (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥ قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) (٩٦) ؛ أي في النار مع آلهتهم ورؤسائهم : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٩٧) ؛ وقوله

__________________

(١) كل هذه الآثار عن الزهاد والصالحين نقلها أيضا الثعلبي في التفسير : ج ٧ ص ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٧٣.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٥٦.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٥٧٤٨).

٤٩٩

تعالى : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٩٨) ؛ أي تالله ما كنّا إلّا في ضلال مبين حيث سوّيناكم بربّ العالمين ، فأعظمناكم وعبدناكم وعدلناكم به ، يقرّون على أنفسهم بالخطأ ، (وَما أَضَلَّنا ؛) عن الهدى ، (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (٩٩) ؛ يعني الشّياطين. وقيل : أضلّونا الذين اقتدينا بهم ، (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (١٠٠) ؛ يشفع لنا من الملائكة والنبيّين والمؤمنين حين يشفعون لأهل التوحيد ، (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١٠١) ؛ أي ولا ذي قرابة يهمّه أمرنا. والحميم : القريب الذي تودّه ويودّك.

قال ابن عبّاس : (إنّ المؤمن يشفع يوم القيامة للمؤمن المذنب والصّديق الصّاحب الّذي يصدق في المودّة). وفي الحديث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [إنّ الرّجل يقول في الجنّة : ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في النّار ، فيقول الله عزوجل : أخرجوا له صديقه إلى الجنّة ، فيقول من بقي : فما لنا من شافعين ، ولا صديق حميم](١).

ثم قالوا : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ؛) أي رجعة إلى الدّنيا ، (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٢) ؛ المصدّقين بالتوحيد ليحلّ لنا الشفاعة كما حلّت لأهل التوحيد.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ؛) أي فيما أخبر من قصّة إبراهيم واختصام أهل النّار ، وتبرّؤ بعضهم من بعض لعبرة للعقلاء من بعدهم ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٠٤) ؛ أي الغالب على تعجيل الانتقام بالإمهال إلى أن يؤمنوا ، والمنعم عليهم بعد التوبة.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (١٠٥) ؛ قال الزجّاج : (دخلت التّاء ها هنا ، و (قَوْمُ) مذكّر ؛ لأنّ المراد الجماعة) (٢) أي كذبت جماعة قوم نوح ومن قبله من الرّسل ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٠٦) ؛ عذاب الله

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٤٢. وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ١١٨ ، وأخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ١٧٢ ، عن جابر بن عبد الله.

(٢) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٧٣ ؛ قال الزجاج : معناه : (دخلت التاء ، وقوم نوح مذكّرون ؛ لأن المعنى كذّبت جماعة قوم نوح).

٥٠٠