التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

١
٢

٣

٤

سورة النّمل

سورة النّمل مكّيّة ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا ، ومائة وألف وتسع وأربعون كلمة ، وثلاث وتسعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) ؛ قال ابن عبّاس : (طس اسم من أسماء الله ، أقسم به أنّ هذا القرآن الآيات الّتي وعدتم بها) (١) فقال قتادة : (هو اسم من أسماء القرآن) (٢). وقيل : هو اسم من أسماء السّورة. وقوله تعالى : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) (١) معناه : وآيات الكتاب المبين بالحلال والحرام.

وقوله تعالى : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) ؛ يجوز أن يكون (هُدىً) في موضع رفع ؛ أي هو هدى ، والمعنى : (هُدىً) أي بيان من الضّلالة لمن عمل به ، (وَبُشْرى) بما فيه من الثواب للمصدّقين به أنه من عند الله.

ثم عرّفهم فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٣) ؛ ظاهر المعنى.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٤) أي زيّنّا لهم صلاتهم حتى رأوها حسنة ، (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي يتردّدون فيها متحيّرين ، (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٥) ؛ لأنّهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : ج ١١ ص ١٦٠.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٦٠٩٠).

٥

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) ؛ أي إنّك لتعي القرآن وحيا من عند الله تعالى ، أنزله بعلمه وحكمته.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) ؛ أي واذكر إذ قال موسى لامرأته : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) ؛ أبصرتها ، وكانت امرأته يومئذ ابنة شعيب عليه‌السلام ، فقال لها حين ضلّ الطريق : أنّي أبصرت نارا ، فامكثوا هاهنا ، (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) ، أي حتّى آتيكم من عند النار بخبر الماء والطريق ، فإن لم أجد أحدا يخبرني عن الطريق آتيكم بشعلة نار ، وهو قوله تعالى : (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) ؛ والشّهاب : خشبة فيها نور ساطع ، (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٧) ؛ أي لكي تصطلوا من البرد ، وكان ذلك في شدّة الشّتاء ، يقال : صلى بالنار وأصلى بها إذا استدفأ ، والمعنى : أو آتيكم بالشّعلة المقبسة من النار لكي تذودوا (١) من البرد.

والشّهاب : هو النار المستطار ، ومنه قوله (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(٢) والقبس والجذوة : كلّ عود أشعل في طرفه نار. قرأ أهل الكوفة (بشهاب قبس) منوّن على البدل أو النعت للشهاب.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) ؛ معناه : فلما جاء موسى إلى النار التي رآها نودي نداء الوحي : أن بورك من في طلب النار وهو موسى ، (وَمَنْ حَوْلَها) من الملائكة. وهذه تحيّة من الله لموسى بالبركة كما حيّا إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ، فقالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.

وقيل : المراد بالنار هو النّور ، وذلك أن موسى رأى نورا عظيما ، ولذلك ذكره بلفظ النار ، ومن في النار هم الملائكة ؛ لأن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، ومن حولها هو موسى ؛ لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها. وأهل اللغة يقولون : بورك فلان ؛ وبورك فيه ؛ وبورك له وعليه ، بمعنى واحد. والمراد بالبركة هاهنا ما نال موسى من كرامة الله له بالنبوّة.

__________________

(١) في المخطوط : (تذوقوا) ، والصحيح كما أثبتناه ، أو (لكي تستدفئوا من البرد).

(٢) الصافات / ١٠.

٦

قوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨) ؛ كلمة تنزيه عمّا تظنّ المشبهة أنّ الله تعالى كان في تلك النار ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا.

قوله تعالى : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩) ؛ أي أنا الدّاعي الذي يدعوك ، أنا الله العزيز في ملكي ، الحكيم في أمري وقضائي.

فإن قيل : بماذا عرف موسى؟ قلنا : إنّما عرف نبوّة نفسه أن ذلك النداء من الله تعالى حتى جعل يدعو الناس إلى نبوّة نفسه بالمعجزة ، وذلك أنه رأى شجرة أخضر ما يكون من الشّجر في أنضر ما يكون ، لها شعاع يرتفع إلى السّماء في الهواء ، والنار تلتهب في أوراقها والأغصان ، فلا النار تحرق الأوراق ولا رطوبة الشجر والأغصان تطفئ النار ، فلما رأى ذلك بخلاف العادة ، علم أنه لا يكون ذلك إلّا من صنع الله تعالى.

قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) ؛ أي وقيل له : ألق عصاك من يدك ، فألقاها فاهتزّت (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) ؛ أي تضطرب كأنّها جانّ ، والجانّ : الحيّة البيضاء الخفيفة السريعة ، السريع شدّة الاضطراب يقال لها المسلّة. وإنّما شبّهها بالجانّ في خفّة حركتها وسرعة انتشارها عن الأعين ، وشبّهها في موضع آخر بالثّعبان لعظمها.

قوله تعالى : (وَلَّى مُدْبِراً) ؛ أي أعرض موسى هاربا من الخوف من الحيّة ، (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع ولم يلتفت إلى شيء وراءه ، يقال : عقّب فلان إذا رجع.

فقال الله : (يا مُوسى لا تَخَفْ) ، من ضررها ، (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (١٠) ؛ أي لا يخاف عندي وفي حكمي من أرسلته ، (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ؛) من المرسلين بارتكاب الصغيرة (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) ، ثمّ تاب من بعد ذلك ، (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١) ؛ به ، فكان السبب في هذا الاستثناء أنّ موسى كان مستشعرا حقّه لما كان منه من قبل القبطيّ ، فأمّنه الله بهذا الكلام.

٧

والصغائر والكبائر من الذّنوب تسمّى ظلما ؛ ولذلك قال موسى (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي)(١). ويقال : إن قوله (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) استثناء منقطع ، ومعناه : لكن من ظلم ، فإنه يخافني إلّا أن يتوب ويعمل صالحا ، فإنّي أغفر له وأرحمه. والمعنى : إلّا من ظلم نفسه بالمعصية (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً) أي توبة وندما (بَعْدَ سُوءٍ) عمله (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) كأنه قال : لا يخاف لديّ المرسلون الأنبياء والتّائبون ، وقال بعضهم : (إِلَّا) هاهنا بمعنى (ولا) كأنه قال : (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ)(٢).

قوله تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ؛) فيه بيان أنّ الله تعالى أعطاه آية أخرى في ذلك المكان ، ومعنى (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي بيضاء لها شعاع من غير برص (٣) ، والجيب جيب القميص.

وقوله تعالى : (فِي تِسْعِ آياتٍ ؛) أظهرها بين الآيتين ، والآيات التّسع : قلب العصاة حيّة ، وجعل يده بيضاء ، وما أصاب فرعون من الجدب في بواديهم ، ونقص الثّمرات في مزارعهم ، وإرسال الطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم ، فهذه الآيات التّسع ، قوله تعالى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١٢) ؛ أي خارجين عن طاعة الله.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا ؛) أي فلمّا جاءت فرعون وقومه الآيات التسع ، (مُبْصِرَةً ؛) أي بيّنة واضحة ، (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٣) ؛ كذبوا بالآيات التسع كلّها ونسبوا موسى إلى السّحر ، (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ؛) أي جحدوا بألسنتهم وأنكروا تلك الآيات ، وعلموا بقلوبهم أنّ تلك الآيات ليست من جنس أفعال السّحر ، وأنّها من الله تعالى ، أي علموا يقينا أنّها من عند الله لكن جحدوا بها تجبّرا وتكبّرا وذلك قوله تعالى : (ظُلْماً وَعُلُوًّا ؛) أي شركا وتكبّرا عن أن يؤمنوا ، (فَانْظُرْ ؛) يا محمّد ، (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤) ؛ في الأرض بالمعاصي ، كيف أهلكهم الله بالغرق في اليمّ.

__________________

(١) القصص / ١٦.

(٢) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ١٣٧.

(٣) (غير) سقطت من المخطوط.

٨

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ؛) أي أعطيناهما معرفة الدّين وأحكام الشّريعة ، وقيل : علما بقضاء الطّير والدّواب وتسبيح الجبال ، فقابلا تلك النعمة بالشّكر ، (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا ؛) بالنبوّة والكتاب وإلانة الحديد وتسخير الشّياطين والجنّ والإنس ، (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٥).

قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ؛) أي ورث نبوّته وعلمه وملكه ، وذلك أنه كان لداود تسعة عشر إبنا ذكرا ، فورث سليمان ملكه ومجلسه ومقامه ونبوّته من بينهم.

وعن أبي هريرة قال : (نزل كتاب من السّماء إلى داود عليه‌السلام مختوما ، فيه عشر مسائل ؛ أن اسأل ابنك سليمان عنهنّ ، فإن أخرجهنّ فهو الخليفة من بعدك. قال : فدعا داود (١) سبعين قسّيسا وسبعين حبرا ، وأجلس سليمان بينهم ، وقال له : يا نبيّ الله ؛ إنّه نزل كتاب من السّماء فيه عشر مسائل ، أردت أن أسألك عنهنّ ، فإن أنت أخرجتهنّ فأنت الخليفة من بعدي. فقال سليمان : لتسأل نبيّ الله عليه‌السلام عمّا الله يراه ، وما توفيقي إلّا بالله.

قال : أخبرني يا نبيّ : ما أبعد الأشياء؟ وما أقرب الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الّذي إذا ركبه الرّجل حمد آخره؟ وما الأمر الّذي إذا ركبه الرّجل ذمّ آخره؟

فقال سليمان : أمّا أقرب الأشياء فالآخرة ، وأمّا أبعد الأشياء فما فاتك من الدّنيا ، وأمّا آنس الأشياء فجسد فيه روح ، وأمّا أوحش الأشياء فجسد لا روح فيه ، وأمّا القائمان فالسّماء والأرض ، وأمّا المختلفان فاللّيل والنّهار ، وأمّا المتباغضان فالموت والحياة ، وأمّا الأمر الّذي إذا ركبه الرّجل حمد آخره فالحلم على الغضب ، وأمّا الأمر الّذي إذا ركبه ذمّ آخره فالحدّة على الغضب.

قال : ففكّ الختم فإذا هي هذه المسائل سواء على ما نزل من السّماء. فقال القسّيسون والأخبار : لن نرضى حتّى نسأله عن مسألة ، فإن هو أخرجها فهو الخليفة

__________________

(١) في المخطوط : (سُلَيْمانُ) والسياق يقتضي (داوُدَ) فأثبتناه.

٩

من بعدك. فقال سليمان : سلوني وما توفيقي إلّا بالله ، قالوا : ما الشّيء الّذي إذا صلح صلح كلّ شيء منه؟ وإذا فسد فسد كلّ شيء منه؟ قال : هو القلب ؛ إذا صلح صلح كلّ شيء منه ، وإذا فسد فسد كلّ شيء منه. قالوا : صدقت! أنت الخليفة من بعده. ودفع إليه داود قضيب الملك ، ومات من الغد).

وعن محمّد بن جعفر عن أبيه قال : (أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستّة أشهر ، ملك أهل الدّنيا كلّهم من الجنّ والإنس والشّياطين والدّواب والطّير والسّباع ، وأعطي علم كل شيء ، ومنطق كلّ شيء) (١).

وقوله تعالى : (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ؛) صوت منه. قال الفرّاء : (مَنْطِقَ الطَّيْرِ : معنى كلام الطّير ، جعله كمنطق الرّجل إذا فهم) (٢). قال مقاتل : (كان سليمان جالسا إذ مرّ به طائر ، فقال لجلسائه : هل تدرون ما قال هذا الطّائر؟ قالوا : لا! قال : إنّه قال لي : السّلام عليك أيّها الملك المسلّط على بني إسرائيل. ومرّ سليمان ذات يوم على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه ويصيح ، فقال لأصحابه : هل تدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا : الله أعلم! قال : إنّه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدّنيا العفاء) (٣).

وعن الكلبيّ قال : (صاح ورشان عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا! قال : إنّه يقول : لدو للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة عند سليمان ؛ فقال : إنّها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح هدهد فقال : إنّه يقول : كما تدين تدان ، وصاح طاووس عنده ؛ فقال : إنّه يقول : من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده ؛ فقال : إنّه يقول : استغفروا الله يا مذنبين. وصاح

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك : كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء : الحديث (٤١٩٥). وتعقب الذهبي هذا الخب فقال : (هذا باطل).

(٢) معاني القرآن : ج ٢ ص ٢٨٨. وفي أصل المخطوط : (منطق الطير كلامه) وضبط النص كما في معاني القرآن للفراء.

(٣) ذكره القرطبي أيضا عن مقاتل ؛ ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ١٦٥. والبغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٤ عن فرقد السّبخي.

١٠

خطّان عنده ، فقال : إنّه يقول : قدّموا خيرا تجدوه. وهدرت حمامة ؛ فقال : إنّها تقول : سبحان ربي الأعلى ملئ سمواته وأرضه. وصاح قمريّ ؛ فقال : إنّه يقول : سبحان ربي القدّوس. وصاح باز فقال : إنّه يقول : سبحان ربي وبحمده. والضّفدع يقول : كلّ شيء هالك إلّا وجهه. والقطاة تقول : من سكت سلم. والحدأة تقول : سبحان المذكور بكلّ لسان) (١).

وعن مكحول قال : (صاح درّاج عند سليمان عليه‌السلام فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا! قال : إنّه يقول : على العرش استوى) (٢). وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ الدّيك يقول في صياحه : اذكروا الله يا غافلين](٣). وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنه قال : (إذا صاح النّسر قال : يا ابن آدم عش ما عشت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من النّاس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمّد) (٤).

وروي أنّ قوما من أهل العراق من أهل الكتاب وفدوا على ابن عبّاس رضي الله عنهما ؛ فقال له : أنت ابن عمّ الذي يزعم أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : (نعم). قالوا : يا قوم قد عرفنا الكتب ، وعرفنا ما فيها ونحن نسألك عن سبعة أشياء ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنّا وصدّقنا ، قال : (اسألوني تفقّها ولا تسألوني تعنّتا). قالوا : أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والزّرزور والدّراج؟ وما يقول الدّيك في صياحه؟ والضّفدع في نقيقه؟ والحمار في نهيقه ، والفرس في صهيله؟

فقال : (أمّا القنبر فإنّه يقول : اللهمّ العن مبغضي محمّد وآل محمّد. وأمّا الزّرزور فإنّه يقول : اللهمّ إنّي أسألك قوت يوم بيوم يا رزّاق. وأمّا الدّراج فيقول : الرّحمن على العرش استوى. وأمّا الدّيك فإنّه يقول : اذكروا الله يا غافلين. وأمّا الضّفدع فإنّه يقول : سبحان المعبود في لجج البحار. وأمّا الحمار فإنّه يقول : اللهمّ

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٣. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ ، كله من كلام فرقد السبخي.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٤.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٤.

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٤. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ٣ ص ١٦٦.

١١

العن العشّار. وأمّا الفرس فإنّه يقول «إذا التقى الصّفّان» (١) : سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح). فقالوا : يا ابن عبّاس نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، وحسن إسلامهم (٢).

قوله تعالى : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ؛) يعني من أمر الدّنيا والآخرة ، وقال مقاتل : (يعني الملك والنّبوّة وتسخير الرّياح والجنّ والشّياطين) (٣). وقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) ؛ أي الزيادة الظّاهرة على ما أعطي غيرنا.

قوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ؛) أي جمع له من كلّ جهة جماعة من الجنّ والإنس والطّير. والحشر : جمع الخلق من موضع إلى موضع ، ومنه المحشر لعرصات يوم القيامة. قال ابن عبّاس : (كان معسكر سليمان مائة فرسخ ، خمسة وعشرون فرسخا للإنس ، وخمسة وعشرون فرسخا للجنّ ، وخمسة وعشرون فرسخا للسّباع ، وخمسة وعشرون فرسخا للطّير) (٤).

ووجه تسخير الطّير له أنّ الله زاد في عقولها حتى كانت تفهم ما يقال ويراد منها ، وتقبل الأدب وتخاف وتحذر ، وكان لسليمان عليه‌السلام ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة صريحة ، وسبعمائة سريّة ، فيأمر الرّيح العاصف فترفعه ، ويأمر الرّحا فتسير به ، فأوحى الله وهو يسير بين السّماء والأرض : أنّي قد زدت في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق إلّا جاءت به الرّيح فأخبرتك به.

قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) ؛ قال قتادة : (كان على كلّ صنف من جنوده وزعة ترد أولاهم على آخرهم ليجتمعوا ويتلاحقوا) (٥) وهو من الوزع الذي هو الكفّ ، يقال : وزعته أزعه وزعا ، والشّيب وازع ؛ أي مانع. قال الليث : (والوازع

__________________

(١) ما بين (()) سقطت من المخطوط.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٤.

(٣) قاله مقاتل بمعناه في التفسير : ج ٢ ص ٤٧١ ـ ٤٧٢.

(٤) أخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب التواريخ : باب تسخير سليمان عليه‌السلام الإنس : الحديث (٤١٩٧) عن محمّد بن كعب وسكت عنه.

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٤٥٢). وينظر : المحرر الوجيز : ص ١٤١٦.

١٢

في الحرب الموكّل بالصّفوف يزع من تقدّم منهم) (١).

ومعنى الآية : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي كان يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ، وكانوا يجتمعون ويتفرّقون ويقومون في مسيرهم على مراتبهم. والإيزاع هو المنع من الذهاب ، والوازع هو القيّم بأمر الجيش ، ومن ذلك قول الحسن : (لا بدّ للنّاس من وزعة) (٢) أي من سلطان يكفّهم ، ويقال : لا بدّ للسّلطان من وزعة ؛ أي من يمنع الناس عنه. وأصل الوزع الكفّ والمنع ، ومنه الحديث : [إنّ الله ليزع بالسّلطان أكثر ممّا يزع بالقرآن](٣).

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ ؛) أي ساروا جميعا حتّى إذا وصلوا إلى واد كثير النّمل ، قال كعب : (هو واد بالطّائف) ، وقال قتادة ومقاتل : (هو بالشّام) (٤) ، (قالَتْ نَمْلَةٌ ؛) لأصحابها على وجه التّحذير : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ؛) أي منازلكم ، (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ؛) أي لا يكسرنّكم سليمان وجنوده ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٨) ؛ بذلك ؛ أي وهم لا يعلمون بحطمكم ووطئكم ، فطارت الريح بكلام النّملة ، فأدخلته في أذن سليمان عليه‌السلام ليسمعها ، (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ؛) وكان أكثر ضحك الأنبياء عليهم‌السلام التّبسّم.

ونصب قوله تعالى : (ضاحِكاً) على الحال ، وسبب ضحكه من قولها التعجّب ، وذلك أنّ الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به عجب وضحك. قال مقاتل : (ثمّ حمد ربّه حين علّمه منطق الطّير ، وسمع كلام النّملة) (٥)(وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ

__________________

(١) نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ١٦٧ معلقا.

(٢) ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز : ص ١٤١٦.

(٣) ذكره ابن العربي في أحكام القرآن : ج ٣ ص ١٤٥٠ ؛ قال : (روى أشهب قال : قال مالك بن أنس : قال عثمان : (ما يزع الناس السلطان ، أكثر مما يزعهم القرآن). والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ١٦٨.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٦١٩٨).

(٥) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٧٢.

١٣

نِعْمَتَكَ ؛) يقال : فلان موزع بكذا ؛ أي مولع به ، وقيل : معناه : وفّقني أن أشكر نعمتك ، (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) و ، وفّقني ، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩) ؛ في الآخرة.

فإن قيل : بماذا عرفت النملة سليمان ، وعلى أيّ سبيل كانت معرفتها به؟ قلنا : إنّها كانت مأمورة بطاعته ، فلا بدّ أن تعرف من أمرت بطاعته ، ولا يمنع أن تعرف الدوابّ والبهائم هذا الضرب ، كما تعرف كثيرا من منافعها ومضارّها ، والنملة فيها من الفهم فوق هذا ، فإنّا نشاهد صنعها في إدخال رزقها وحفظه وتعهّده ، حتى إنّها تكسر ما تجمعه من الحبوب نصفين نصفين لئلّا تنبت ، إلّا اللّويزة فإنّها تكسرها أربع قطع ؛ لأنّها إذا كسرتها نصفين تنبت ، فالذي هداها إلى هذه الأمور هو الذي ألهمها معرفة سليمان عليه‌السلام.

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ؛) أي طلبها وبحث عنها ، والطّير اسم جامع للجنس ، وكانت الطير تصحب سليمان في سفره ، تظلّه بأجنحتها. قوله تعالى : (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ؛) أي قال : ما الهدهد لا أراه أعينا ؛ أي لحظته فلم تره بين الطير ، (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) (٢٠).

واختلفوا في سبب تفقّده عن حال الهدهد. قال ابن عبّاس : (كان الهدهد يرى الماء من تحت الأرض كما تراه من الزّجاج ، وكان سليمان إذا احتاج إلى الماء في مسيره ، أمر الهدهد حتّى ينظر إلى أقرب موضع من الماء ، فاحتاج في ذلك اليوم إلى الماء ، فلذلك تعرّف عن حال الهدهد).

قال عكرمة (١) : قلت : يا ابن عبّاس ؛ كيف يرى الهدهد الماء وإنّ صيّادتنا يأخذونه بالفخّ فلا يرى الخيط والشّبكة؟! قال ابن عبّاس : (ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلّا الشّيطان ، أما تعلم أنّه إذا جاء القدر ذهب البصر). وعن سعيد بن جبير : (أنّ ابن عبّاس سئل عن تفقّد سليمان الهدهد ، فقال : لأنّه كان يعرف مسافة الماء. وأنّ الصّبيّ يضع له الفخّ فيغطّي عليه بشيء من التّراب فيجيء فيقع فيه ، فقال :

__________________

(١) في جامع البيان : مج ١١ ج ١٩ ص ١٧٥ : (قال له نافع بن الأزرق).

١٤

ويحك! أما علمت أنّ القدر يحول دون البصر). وروي أنه قال : (إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللّبّ وعمي البصر) (١).

وقال وهب : (كان سبب تفقّده له لإخلاله بالنّوبة (٢) ، كما يتعرّف الوالي عن رعيّته) (٣) ، ويقال : كانت الطير تظلّه من الشّمس ، كانت تقف في الهواء مصطفّة موصولة الأجنحة ومتقاربة ، فلما أخلى الهدهد بمكانه بان ذلك لوقوع الشّمس عليه ، فلذلك تعرّف عن حاله.

قوله تعالى : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ؛) قال المفسّرون : تعذيبه إيّاه أن ينتف ريشه ثمّ يلقيه في الشّمس فلا يمنع من نملة ولا من شيء من هوامّ الأرض. ويقال : هو قصّ جناحه ، ويجوز أن يعاقب بأن لا يجري عليه القلم على وجه التأديب ، كما يؤدّب الأب ولده الصغير. وقيل : تعذيبه أن ينتف ريشه ويدعه ممعّطا (٤) في بيت النمل فيلدغوه. وقيل : معناه : لأشدّنّ رجليه وألقيه في الشّمس ، وقيل : لأطلبنّه بالقطر وأجعله في الشّمس. وقيل : لأفرّقنّ بينه وبين إلفه. وقيل : لأمنعنّه من خدمتي.

قوله تعالى : (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ؛) أي لأقطعنّ حلقه ، (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١) ؛ أي بحجّة ظاهرة توجب عذره في غيبته ، وقصّته : أنّ سليمان عليه‌السلام لمّا فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، فتجهّز للسير واستصحب من الجنّ والإنس والشّياطين والطّيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ ، وأمر الرّيح فحملتهم ، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم ، وكان ينحر كلّ يوم مدّة إقامته خمسة آلاف ناقة ، ويذبح خمسة آلاف ثور ، وعشرون ألف شاة ، وأقام بمكّة حتى قضى نسكه.

__________________

(١) هذه الروايات أخرجها الطبري في جامع البيان : الأثار (٢٠٤٥٩ ـ ٢٠٤٦٠). وابن عطية في المحرر الوجيز : ص ١٤١٧. والبغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٦.

(٢) في المخطوط : (لإجلاله نبوته).

(٣) ذكره الطبري في جامع البيان : مج ١١ ج ١٩ ص ١٧٦ من غير إسناد.

(٤) في مختار الصحاح : ص ٦٢٨ : (معط): (رجل (أمعط) بيّن المعط ، وهو الّذي لا شعر في جسده ، و (امتعط) شعره و (تمعّط) أي تساقط من داء ونحوه).

١٥

ثم سار إلى أرض اليمن فوافى صنعاء اليمن وقت الزّوال ، فأحبّ النّزول ليصلّي ويتغدّى ، فطلبوا الماء فلم يجدوه ، وكان الهدهد دليله على الماء ، فلما نزل سليمان قال الهدهد : إنّ سليمان قد اشتغل بالنّزول ، فارتفع الهدهد إلى جهة السّماء ، فنظر يمينا وشمالا فرأى خضرة بساتين مأرب في أرض بلقيس ، فمال إلى جهة الخضرة ، فالتقى بهدهد من هدهد سبأ ، فقال له : من أين أقبلت وأين تريد؟ قال : أقبلت من الشّام مع نبيّ الله سليمان عليه‌السلام ، قال له : ومن سليمان؟ قال : ملك الإنس والجنّ والشياطين والوحوش والطّيور. ثمّ قال له هدهد سليمان : وأنت من أين أقبلت؟ قال : من هذه البلاد ، قال : ومن ملكها؟ قال : امرأة يقال لها بلقيس ؛ ملكت اليمن كلّها وتحتها اثنا عشر ألف قائد ، مع كلّ قائد مائة ألف مقاتل ، فهل أنت منطلق معي ننظر إلى ملكها؟ قال : أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصّلاة إذا احتاج إلى الماء ، فقال له هدهد بلقيس : إنّ صاحبكم يسرّه أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، وما رجع إلّا وقت العصر.

قال : فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصّلاة ، طلب الهدهد لأنه نزل غير ماء ، فسأل الإنس عن الماء فقالوا : ما نعلم هنا ماء ، فسأل الجنّ والشياطين فلم يعلموا ، ففقد الهدهد فلم يجده ، فدعا بعفريت الطير النّسر ، فسأله عن الهدهد ، فقال : ما أدري أين ذهب ، فغضب سليمان عند ذلك ، وقال (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة.

ثم دعا بالعقاب وقال له : عليّ بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه حتى التزق بالهواء وارتفع حتى نظر إلى الدّنيا كالقصعة في يدي أحدكم ، ثم التفت يمينا وشمالا ، فإذا هو بالهدهد مقبل من نحو اليمن ، فانقضّ العقاب نحوه يريده ، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء ، فناشده الله تعالى ، فقال له : بحقّ الذي قوّاك وأقدرك عليّ إلّا رحمتني ولا تتعرض لي بسوء ، فولّى العقاب عنه وهو يقول له : ثكلتك أمّك! إنّ نبي الله قد حلف ليعذّبنّك أو ليذبحنّك ، ثم طارا متوجّهين نحو سليمان.

فلما وصل إليه قال له العقاب : قد جئتك يا نبيّ الله ، فلما قرّب إليه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرّهما على الأرض تواضعا لسليمان ، فلما دنا

١٦

منه ، قال له : أين كنت؟ لأعذّبنّك عذابا شديدا ، فقال له الهدهد : يا نبيّ الله ؛ اذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه ، فلما سمع ذلك سليمان ارتعدت فرائصه فعفا عنه.

ثم قال له : ما أبطأك عنّي؟ فقال : أحطت بما لم تحط به ، وذلك قوله تعالى : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ؛) أي لم يلبث إلّا يسيرا حتى جاء الهدهد ، (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ؛) أي علمت شيئا من جميع جهاته ، وقيل : معناه : اطّلعت على ما لم تطّلع عليه ، وجئتك بأمر لم يخبرك به الجنّ والإنس ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جميع جنودك ، (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) ؛ أي بخبر صدق ولا شكّ فيه.

وقرئ (من سبإ) بالتنوين. قال الزجّاج : (من لم يصرفه فلأنّه اسم مدينة تعرف من اليمن ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام ، ومن صرفه ؛ فلأنّه اسم البلد ، ويكون مذكّرا سمّي به مذكّر) (١). وفي الحديث : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن سبإ ، فقال : [كان رجلا له عشرة من البنين ، تيامن منهم ستّة ، وتشامّ أربعة ...](٢). وسنذكر أسماءهم وقصّتهم في سورة سبأ إن شاء الله تعالى.

قرأ عاصم ويعقوب (فَمَكَثَ) بفتح الكاف ، وقراءة العامّة بضمّ الكاف ، وهما لغتان.

قوله تعالى : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ؛) واسمها بلقيس بنت الشّرح ، وقيل : شراحيل بن ذي جدن (٣) ، وكان ملكا عظيم الشّأن ، وكان قد ملك أرض اليمن كلّها ، وكان يقول لملوك الآفاق : ليس أحد منكم كفؤ لي ، وأبى أن

__________________

(١) بمعناه ؛ قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٨٧.

(٢) رواه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢٢ ص ٢٠٢٥ : الحديث (٦٣٩). في مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٩٤ ؛ قال الهيثمي : (رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني علي بن الحسن ؛ لم أعرفه).

(٣) تاريخ الطبري : تاريخ الأمم والملوك : ج ١ ص ٢٨٩ : تاريخ ما قبل الهجرة ؛ قال الطبري : (وهي ـ فيما يقول أهل الأنساب ـ يلمقة ابنة اليشرح ؛ ويقول بعضهم : ابنة أيلي شرح ، ويقول بعضهم : ابنة ذي شرخ بن ذي جدن بن أيلي شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان).

١٧

يتزوج منهم ، فزوّجوه امرأة من الجنّ يقال لها : ريحانة بنت السكن ، فولدت بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [كان أحدهم يؤتى بلقيس جنّيا](٢) فلمّا مات أبوها ولم يخلّف أحدا غيرها طمعت في الملك ، فطلبت من قومها أن يبايعوها ، فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون ، واختاروا عليها رجلا فملّكوه عليهم ، فافترقوا فرقتين ، كلّ فرقة منهم استولت بملكها على طرف من أرض اليمن.

ثمّ إنّ هذا الملك الّذي ملّكوه أساء السّيرة في أهل مملكته حتّى كان يمدّ يده إلى حرم رعيّته ويفجر بهنّ ، فأراد أصحابه أن يخرجوه فلم يقدروا ، فلمّا رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة ، فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه ، فأجابها إلى ذلك ، وقال : ما منعني أن أبدأك بالخطبة إلّا اليأس منك ، فقالت : إنّي راغبة إليك لأنك كفؤ كريم ، فاجمع رجال قومي فاخطبني إليهم ، فجمعهم فخطبها إليهم فقالوا : لا نراها تفعل هذا ، قال : إنّها هي الّتي ابتدأتني ، فذكروا لها ذلك ، فقالت : نعم ؛ لأجل الولد ، ولم أزل كنت كارهة لذلك ، فالآن قد رضيت ، فزوّجوها منه.

فلمّا زفّت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها ، فلمّا جاءته سقته الخمر حتّى سكر ، ثمّ حزّت رأسه وانصرفت من اللّيل إلى منزلها ، فلمّا أصبح رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوبا على رأس دارها ، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها ، فاجتمعوا إليها وقالوا لها : أنت أحقّ بهذا الملك من غيرك ، فقالت : لو لا العار والشّنار ما قتلته ، ولكن عمّ فساده وأخذتني الحميّة حتّى فعلت ما فعلت ، فملّكوها فأسّست أمرها (٣).

قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ؛) قال عطاء (من زينة الدّنيا من المال والجنود) ، (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) ، أي سرير من ذهب طوله ثمانون

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٧.

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٣٥١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة). وفي في العظمة : ص ٤٢١ : الحديث (١٦ / ١٦٠٨).

(٣) ذكر مثله البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٥٧ ـ ٩٥٨.

١٨

ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه في السّماء ثلاثون ذراعا مضروب بالذهب مكلّل بالدّرّ والياقوت الأحمر والزّبرجد الأخضر. قال مجاهد : (وكان تحتها اثنا عشر ألف قيل ـ والقيل بلغة اليمن ـ تحت يدي كلّ قيل ألف مقاتل) (١). وقيل : كان سريرها له أربع قوائم : قائمة من ياقوت أخضر ، وقائمة من ياقوت أحمر ، وقائمة من زمرّد ، وقائمة من درّ ، وصفائح السرير من ذهب ، وعليه سبعة أبيات لكلّ بيت باب مغلق (٢).

قوله تعالى : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ؛) قال الحسن : (كان القوم مجوسا وكانوا يتعطّفون (٣) على وجوههم مواجهين للشّمس) ، وقوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ؛) أي حسّن لهم قبيح أعمالهم ، (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ؛) أي عن الطريق ، (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (٢٤) ؛ إلى طريق الحقّ.

قوله تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجوز أن يكون ابتداء خطاب من الله ، ويجوز أن يكون من قول الهدهد أو من قول سليمان.

قرأ الكسائيّ والأعرج ويعقوب وحميد وأبو جعفر : ألا يسجدوا بالتخفيف : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، جعلوه من أمر الله مستأنفا ، وحذفوا (هؤلاء) اكتفاء بدلالة (يا) عليها ، فعلى هذه القراءة (اسجدوا) في موضع جزم على الأمر والوقف عليه (ألا يا) ، ثم يبتدئ (اسجدوا) ، وفي قراءة عبد لله (هلّا يسجدوا لله). وقرأ الباقون (أَلَّا يَسْجُدُوا) بالتشديد على معنى وزيّن لهم الشيطان ألّا يسجدوا (٤).

وقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، الخبأ : كلّ ما غاب عن الإدراك ، مصدر وقد وقع موقع المفعول كالخلق بمعنى المخلوق والعلم بمعنى المعلوم ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٥٠٢ و٢٠٥٠٣) عن ابن عباس.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٦٢٦١).

(٣) عطف : مال. وعطف الوسادة ثناها. ومنعطف الوادي منعرجه ومنحناه.

(٤) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٣٤. وإعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ١٤١ ـ ١٤٢.

١٩

وخبأ السّموات : الأمطار ، وخبأ الأرض : النبات ، فعلى هذا تكون (فِي) بمعنى (من). قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (٢٥) ؛ أي يعلم ما يخفون في قلوبهم ، وما يعلنون بألسنتهم. وفي قراءة الكسائيّ بالتاء ، لأنّ أول الآية خطاب على قراءته بتخفيف (ألا) يا اسجدوا.

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦) ؛ أراد بالعرش في هذه الآية سرير الملك الذي عظّمه الله ورفعه فوق سموات سبع وجعله أعظم من السّموات والأرض ، ومن أعظم كلّ خلق ، وجعل الملائكة تحفّ به وترفع أعمال العباد إليه ؛ أي هو الذي يستحقّ العبادة لا غيره ، وهو ربّ العرش لا ملكة سبأ ؛ لأن عرشها وإن كان عظيما لا يبلغ عرش الله في العظم.

فلمّا فرغ الهدهد من كلامه ، (قالَ ؛) سليمان للهدهد : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ ؛) فيما أخبرتنا به من هذه القصّة ، (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٧) فنعذّبك.

ثم كتب سليمان كتابا ختمه بخاتم ودفعه إلى الهدهد ، وذلك قوله تعالى : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ؛) أي إلى أهل سبأ. وقوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ؛) أي انصرف عنهم ، وهذا على التقديم والتأخير ، تقديره : (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (٢٨) ؛ ثمّ تولّ عنهم ؛ لأن التولّي عنهم بعد الجواب ، ومعنى (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي ماذا يردّون من الجواب. وقيل : معناه : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي انصرف عنهم قليلا إلى حيث لا يرونك (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي يقولون ويردون ويحسبون.

وكان كتاب سليمان عليه‌السلام : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ ، السّلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد : فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين (١). وقال ابن جريج : (لم يزد سليمان على نص الله في كتابه) (٢). فلمّا كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه ، وقال للهدهد : اذهب به ، فأخذ الكتاب بمنقاره وذهب به.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٤٩٤).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٤٩٦).

٢٠