التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

وحاصل التأويل النهي عن أن تحلف على شيء وهو منطو على خلافه ، وأن يغرّ غيره يمينه. قوله تعالى : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ؛) أي إنما يخبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢) ؛ في الدّنيا من الحقّ والباطل.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ؛) أي أهل ملّة واحدة ودين واحد ، (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ؛) بتوفيقه فضلا منه ، (وَلَتُسْئَلُنَّ ،) يوم القيامة ، (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣) ؛ من الخير والشرّ.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ؛) أي مكرا وخديعة ، (فَتَزِلَّ قَدَمٌ ؛) فتزلّوا عن طاعة الله كما تزلّ قدم الرجل ، (بَعْدَ ثُبُوتِها) جعل الله زلّة القدم عبارة عن سخط الله ، وثبات القدم عبارة عن رضى الله.

وقيل : معنى قوله تعالى : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) أي فتهلكوا بعد أن كنتم آمنين ، وقال ابن عبّاس : (فتزلّ عن الإيمان بعد المعرفة) (١). قوله تعالى : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ ؛) يعني العذاب ، (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ؛) أي بما منعتم الناس عن دين الله ، (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٩٤) ؛ في الآخرة.

قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ؛) أي لا تختاروا الحلف بالله كذبا عرضا يسيرا من الدّنيا ، ولكن أوفوا بها ، (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي فإنّ ما عند الله من الثواب في الآخرة على الوفاء هو خير لكم مما عندكم ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩٥) ؛ ثواب الله.

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ١٧٣ ؛ قال القرطبي : (مبالغة في النهي لعظم موقعه في الدين وتردّده في معاشرات الناس ؛ أي لا تعقدوا الأيمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزلّ قدم بعد ثبوتها ؛ أي عن الإيمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شرّ عظيم ويسقط فيه ؛ لأن قدم الإنسان إذا زلّت نقلت الإنسان من حال الخير إلى حال الشرّ). وقلت : فالدعوة صريحة إلى حسن النوايا وتحسينها في التعامل وعقد العهود وأخذ المواثيق وإعطائها ، ويا ليت كثيرا من الناس يعلمون ، لصلح الحال لا محالة.

٨١

قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ؛) أي يفنى ولا يبقى ، (وَما عِنْدَ اللهِ ؛) من الثواب في الآخرة على الوفاء ، (باقٍ ،) هو خير لكم مما عندكم يدوم ويبقى. قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ؛) قرأ ابن كثير وعاصم بالنّون ، وقرأ الباقون بالياء ، ومعناه : الذين صبروا على الوفاء وعلى الطاعة ، (أَجْرَهُمْ ؛) بالطاعات ، (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦) ؛ دون إسرارها ، ويعفو عن سيّئاتها.

قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ رجلا من حضرموت يقال له عيدان بن الأشوع (١) قال : يا رسول الله إنّ الأشعث بن قيس الكنديّ جاورني في أرضي فاقتطعها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ليشهد لك أحد] قال : إنّ القوم كلّهم يعلمون أنّي صادق ، ولكنّه أكرم عليهم منّي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأشعث : [ما يقول صاحبك؟] قال : الباطل والكذب يا رسول الله ، قال : [أتحلف؟] قال : نعم ، فهمّ بالحلف.

فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ...) إلى آخر الآيتين. فقرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأشعث فقال : أمّا ما عندي فينفد ، وأمّا ما بصاحبي فيجزى بأحسن ما كان يعمل ، اللهمّ إنّه صادق في ما قال ، لقد اقتطعت أرضه ، والله ما أدري كم هي ، ولكن يأخذ ما شاء من أرضي ومثلها معها بما أكلت من تمرها. فأنزل الله هذه الآية بعد ذلك في الأشعث (٢) :

قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛) أي من عمل صالحا فيما بينه وبين ربه وأقرّ بالحقّ وهو مع ذلك مؤمن (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧) قيل : المراد بها القناعة بما يؤتى من الرّزق الحلال ، كما روي عن وهب بن منبه أنه قال : (الحياة الطّيّبة هي القناعة بما رزق).

__________________

(١) في الإصابة في تمييز الصحابة : ج ٤ ص ٧٦٠ : الترجمة (٦١٤٩).

(٢) في الإصابة في تمييز الصحابة : ج ٢ ص ٤٧١ : ربيعة بن عيدان : الرقم (٢٦١٩) ؛ قال ابن حجر : (رواه الطبراني من طريق عبد الملك بن عمير عن علقمة بن وائل عن أبيه ... وذكره) ثم قال : (وأصله في مسلم من حديث علقمة دون تسميتهما. وله طرق).

٨٢

وقيل : هي أن يكون صدره منفرجا بما يعتقده من دلائل الله تعالى ، وبما يعرفه من وجوب مفارقة المعاصي ، فيصير قليل الهمّ في أمور دنياه. وقيل : الحياة الطيّبة الجنة ؛ لأنه لم يطب لأحد حياة إلّا فيها.

قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨) أي إذا أردت قراءة القرآن ، ونظيره (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(١) ، وقوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)(٢).

وفائدة الأمر بالاستعاذة قبل القراءة نفي وسواس الشّيطان عند القراءة ، وقد أجمعت الفقهاء على أنّ الاستعاذة قبل القراءة إلّا ما روي عن أبي داود بن عليّ ومالك أنّهم قالوا : (الاستعاذة بعد القراءة) أخذوا بظاهر الآية.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٩٩) ؛ أي إنّ الشيطان ليس له سلطنة على المؤمن إلا في الوسوسة ، (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ،) على الذين يقبلون دعاءه ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ ؛) بالله ، (مُشْرِكُونَ) (١٠٠) ؛ فإنّهم جعلوا له سلطانا على أنفسهم.

قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ؛) أي اذا نسخنا آية أو أتينا مكانها أخرى ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ؛) أي بمصالح العباد ، ينزّل في كلّ وقت ما هو الأصلح لهم ، (قالُوا ؛) أي قالت كفار قريش : (إِنَّما أَنْتَ) يا محمّد ، (مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) ؛ كاذب في الناسخ والمنسوخ ، مختلق من تلقاء نفسك! وذلك أن المشركين قالوا : إنّك يا محمّد تسحر أصحابك ، وتأمرهم اليوم بأمر وتنهاهم عنه غدا! قال الله : ولكنّ أكثرهم لا يعلمون صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا حقيقة القرآن.

__________________

(١) المائدة / ٦.

(٢) الأنعام / ١٥٢.

٨٣

قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ؛) أي قل نزّل القرآن جبريل من ربك ، (بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ؛) ويقوّيهم لإيمانهم ؛ ليزدادوا تصديقا ويقينا ، (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ كفّار مكّة كانوا يقولون : إنّ القرآن ليس من عند الله ، وإنّما يعلّم النّبيّ بشر ، أرادوا بذلك جبرا ويسارا كانا عالمين نصرانيّين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدّثهما ويعلّمهما ، وكانا يقرءآن كتابهما بالعربيّة ، وكانا قد أسلما) (١). وقيل : كانوا يعنون بقولهم (بَشَرٌ) : سلمان الفارسيّ.

قوله تعالى : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ؛) أي لسان الذي يميلون إليه ويزعمون أنّه يعلّمك أعجميّ ، (وَهذا ؛) القرآن الذي يقرءونه ، (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) ؛ فكيف يقدر الأعجميّ على تعليم مثله. قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ ؛) إلى ثوابه ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) ؛ وجيع في الآخرة.

قوله تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥) ؛ معناه : إنما يكذب على الله من لا يؤمن بدلائله ، بيّن الله أن الذين نسبوه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الافتراء هم أحقّ به.

وقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ؛) يجوز أن يكون من كفر رفعا على البدل من (الكاذبين) ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ ، وقوله تعالى (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) خبر له أو خبر لقوله (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً). والمراد بقوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : عمّار بن ياسر.

روي : أنّ المشركين أخذوه في طريق مكّة ، فعذبوه حتّى سبّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر آلهتهم بخير ، فلمّا فعل ذلك تركوه ، فأتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يمسح الدّموع من عينيه ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٥٥٢ ـ ١٦٥٥٧).

٨٤

فأخبره القصّة ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كيف وجدت قلبك؟] قال : مطمئنا بالإيمان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن عادوا فعد](١).

وقوله عليه‌السلام : [إن عادوا فعد] على جهة الإباحة والرّخصة دون الإيجاب ، فإنّ المكره على الكفر إذا صبر حتى قتل كان أعظم لأجره ، والإكراه السماح لإجراء كلمة الكفر على اللّسان ، وهو أن يخاف التلف على نفسه ، أو على عضو من أعضائه إن لم يفعل ما أمر به.

قوله تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ،) أي فسح صدره للكفر بالقبول وأتى به على الاختيار ، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦) قيل : إنّها نزلت في أبي سرح القرشي رجع إلى الشرك ، وباح بالكفر ولحق بمكّة.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ؛) أي ذلك العذاب بأنّهم اختاروا الحياة الدّنيا على ثواب الآخرة ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٠٧) ؛ إلى جنّته وثوابه.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٠٨) ؛ قد تقدّم تفسيره. قوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ ؛) أي حقّا (فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩) ؛ أي خسروا أنفسهم.

قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ؛) نزلت في قوم بمكّة بعد هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، ثم إنّهم هاجروا إلى المدينة من بعد ما عذبهم أهل مكة ، (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا ؛) مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصبروا على الجهاد ، فوعدهم الله المغفرة لما كان فيهم من التخلّف عن الهجرة.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٥ ص ١٧٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل). وأخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٦٥٦٣). والحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٤١٣) ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

٨٥

وذلك أنّهم كانوا مستضعفين بمكّة وكانوا مؤمنين ، فعذبهم أهل مكة حتى ارتدّوا عن الإسلام ليسلموا من شرّهم ، ثم هاجروا من بعد ما فتنوا ؛ أي من بعد ما عذّبوا ، ثم جاهدوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصبروا على الجهاد ، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها ؛) تلك الفتنة وتلك الفعلة التي فعلوها من التلفّظ بكلمة الكفر ، (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٠) ؛ وقرأ ابن عامر (فتنوا) بفتح الفاء ؛ أي فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للفتنة.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ؛) يجوز أن يكون (يَوْمَ) منصوبا بنزع الخافض أي في يوم تأتي كلّ نفس ، ويجوز أن يكون المعنى : واذكر يوم تأتي كلّ نفس ، وهو يوم القيامة ، يجادل فيه كلّ إنسان عن نفسه ، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) ؛ برّة أو فاجرة ، (ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١) ، جزاء ما عملت من خير أو شرّ ، لا ينقص من ثواب محسن ، ولا يزاد على عقاب مسيء.

واختلفوا في المجادلة المذكورة في الآية ، قال بعضهم : هو قول الكفّار : ما كنّا مشركين ، وقولهم : ربّنا هؤلاء أضلّونا. ومعنى الآية : إنّ كلّ أحد لا تهمّه إلا نفسه ، فهو يخاصم ويحتجّ عن نفسه ، لا يتفرّع إلى غيره.

قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ؛) يعني مكّة كان أهلها آمنين لا يهاج أهلها ولا يغار عليها ، بخلاف قرى سائر العرب ، لأن العرب كانت لا تقصد مكّة احتراما لحرم الله ، وقوله تعالى : (مُطْمَئِنَّةً) أي قارّة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا الانتقال ، كما يحتاج إليه سائر العرب.

قوله تعالى : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ؛) أي كان الرزق واسعا على أهل مكّة يحمل إليهم من البرّ والبحر ، كما قال تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ)(١) ، (فَكَفَرَتْ ؛) فكفر أهل مكّة ، (بِأَنْعُمِ اللهِ ،) حين كذبوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخالفوه ، وكذبوا بالقرآن بعد قيام الحجّة عليهم ، (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ،) فعاقبهم الله سبع سنين بالقحط ، وخوّفهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن عساكره وسراياه ، (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) ، من تكذيبه.

__________________

(١) القصص / ٥٧.

٨٦

روي أنه بلغ بهم من الجوع ما لا غاية بعده حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب ، وكان ذلك بدعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اللهمّ اشدد وطأتك على مضر ، اللهمّ سنين كسنيّ يوسف](١) فاستجاب الله دعاءه حتى صار أمرهم إلى هذه الحالة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ؛) أراد به محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ ؛) الذي تقدّم ذكره من الجوع والخوف ، (وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣) ؛ وكانوا ظالمين لأنفسهم.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٥) ؛ أي كلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله حلالا طيّبا إلى آخر الآيتين ، قد تقدّم تفسيرهما في سورة البقرة.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ؛) أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم بالحلّ والحرمة ، فتحلّوا الميتة ، وتحرّموا بعض الزّرع والأنعام ، كما تقدّم ذكره في سورة الأنعام. قوله تعالى : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ؛) أي لتكذبوا على الله بقولكم إنّ هذا من عند الله.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١١٦) ؛ أي لا يظفرون بالمراد ، ولا ينجون يوم القيامة ، إنما لهم في الدّنيا (مَتاعٌ قَلِيلٌ ؛) ثم يتعقّبهم ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧).

قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ؛) أراد به ما بيّنه الله في سورة الأنعام ، وقد تقدّم هناك ، وفيه بيان أن التحريم الذي كان في اليهود كان من قبل الله ، وأنه مخالف للتحريم الذي كان في كفّار مكة. وقوله تعالى : (وَما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الأذان : باب يهوي بالكبير حين يسجد : الحديث (٨٠٤). ومسلم في الصحيح : كتاب المساجد وموضع الصلاة : باب استحباب القنوت : الحديث (٢٩٥ / ٦٧٥).

٨٧

ظَلَمْناهُمْ ؛) أي وما ظلمناهم بتحريم ذلك ، فإنّ تحريمها كان عقوبة لهم ، ولا تكون العقوبة ظلما ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٨) ؛ بمخالفتهم أمر الله تعالى.

قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٩) ؛ فيه بيان أنّ من ارتكب المعاصي ، وخالف أمر الله ، واستعمل الجهالة في ارتكابه ، لم يمنعه ذلك من التوبة ، فإنه إذا تاب وأصلح في المستقبل ، محا الله عنه كلّ السيئات ، قال ابن عبّاس : (كلّ سوء يعمله ابن آدم فهو جاهل فيه ، وإن كان يعلم أنّ ارتكابه ركوب سيّئة).

قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ؛) فيه بيان أنّ إبراهيم كان هو القدوة للناس بالخير ، وسمّي الإمام (أُمَّةً) ؛ لأنه يجمع خصال الخير ، ويقال للرجل المنفرد بدين لا يشركه فيه غيره : أمّة ، ويقال للعالم : أمّة ، والأمّة : الرجل الجامع للخير.

قوله تعالى : (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) القانت : هو الدائم على الطاعة ، والقنوت : هو الدوام على الطاعة ، والقانت : هو المطيع ، والحنيف قد تقدّم تفسيره ، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠) ؛ كما ادّعاه كفار قريش ، فإنّهم يدّعون أنّهم يتبعون دين إبراهيم.

قوله تعالى : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ؛) أي كان إبراهيم شاكرا لنعم الله عليه ، وانتصب قوله (شاكِراً) على البدل من قوله (أُمَّةً قانِتاً). وقوله : (اجْتَباهُ ؛) أي اصطفاه بالنبوّة واختاره ، (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٢١) ؛ أي إلى دين الإسلام.

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ؛) قال ابن عبّاس : (يعني الذّكر الحسن) ، وقال الحسن : (هي النّبوّة) ، وقال مجاهد : (لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(١) وقال مقاتل : (يعني الصّلاة عليه مقرونة بالصّلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قولهم : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم). قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٢٢) ؛ أي مع المرسلين في الجنّة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٥٩٤).

٨٨

قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٢) ؛ أي أمرناك يا محمّد باتّباع ملّة إبراهيم في مجانبة الكفّار ، كما كان إبراهيم يتجنّبهم.

فإن قيل : كيف يجوز أن يوصي الفاضل بمتابعة المفضول ، ونبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أفضل الأنبياء؟ فكيف أمره الله بمتابعة إبراهيم عليه‌السلام؟ قيل : إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان قد سبق إلى اتّباع الحقّ ، ولا يكون في سبق المفضول إلى اتّباع الحقّ عيب على الفاضل في اتّباعه.

قوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤) ؛ وهم اليهود ، وذلك أنّ موسى قال لبني إسرائيل : تفرّغوا إلى الله في كلّ سبعة أيّام يوما واحدا ، فاعبدوه في يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه شيئا من أمور الدّنيا ، وستّة أيام لمعايشكم وصنائعكم ، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه ، وقالوا : لا نبتغي إلّا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، يعنون السّبت ، فجعل ذلك عليهم فيه ، وقالت جماعة منهم : بل أعظم الأيّام يوم الأحد ؛ لأنه اليوم الذي بدأ الله فيه بخلق الأشياء ، فاختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم ؛ أي تركوا تعظيم يوم الجمعة.

قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ؛) أي أدع إلى سبيل دين الله (بِالْحِكْمَةِ) يعني بالنبوّة ، (وَالْمَوْعِظَةِ) يعني القرآن ، وقيل : التخويف بالعذاب على جهة إظهار الشّفقة عليهم ليكون ذلك أقرب إلى إجابتهم. قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ؛) أي بالرّفق واللّطف ، وذكر أحسن ما عنده من الحجج ، وأعرض عن أذاهم ، ولا تقصّر في أداء الرسالة والدّعاء إلى الحقّ ، قيل : إن هذه الآية نسختها آية السّيف. وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) ؛ أي هو أعلم بمن يقبل الهدى ومن لا يقبله ، فيجزي كلّا على ما عمل.

وقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ؛) وذلك أنّ حمزة ابن عبد المطّلب وأصحابه الذين قتلوا يوم أحد مثّل بهم المشركون ، عمدوا

٨٩

إلى حمزة فشقّوا بطنه ، وأخذت منه هند بنت عتبة كبده ، فجعلت تلوكها ثم تطرحها ، وقطعوا مذاكيره وجدعوا أنفه وأدنيه ، ومثّلوا به أشدّ المثلة ، وكذلك سائر شهداء أحد مثّل بهم المشركون ، بقروا بطونهم ، وقطعوا مذاكيرهم.

فلما نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمّه حمزة لم ينظر إلى شيء قطّ أوجع إلى قلبه منه ، فقال : [رحمة الله عليك ، فإنّك كنت فعّالا للخير ، وصّالا للرّحم ، والله لئن أظفرني الله بهم لأقتلنّ بك سبعين منهم ، ولأمثّلنّ سبعين منهم] وقال المسلمون : والله لئن أمكننا الله منهم لنمثّلنّ بالأحياء فضلا عن الأموات. فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦) ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أصبر ولا أمثّل] وكفّر عن يمينه (١) ، فنزل قوله تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ ؛) أي ما صبرك إلّا بمعونة الله وتوفيقه ، ولا تقدر على الصّبر في الحزن الذي لحقك بسبب الشّهداء ، إلا أن يسهّل الله عليك.

قوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ؛) أي لا تحزن على الكفّار إذا امتنعوا من الاستجابة لك. وقيل : لا تحزن على الشّهداء ، فإن الله أنزلهم منازلهم في الجنّة ، لو رأيتهم في الكرامة التي أكرمهم الله بها لغبطتهم عليها. قوله تعالى : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧) ؛ أي لا يضيق صدرك من مكرهم ، فيكون ذلك شاغلا عن ما كلّفته من الدّعاء إلى سبيل ربك. قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨) ؛ أي مع المتّقين المحسنين ، وهم المسلمون ينصرهم ويظهرهم على الكفار ويعينهم عليه.

آخر تفسير سورة (النحل) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) أخرجه الدارقطني في السنن : ج ٤ ص ١١٨ : كتاب السير : الحديث (٤٧).

٩٠

سورة الإسراء

سورة بني إسرائيل مكّيّة ، إلّا ثمان آيات ، من قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ) إلى قوله : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ،) فإنّها مدنيّات ، وهي ستّ آلاف وأربعمائة وستّة وخمسون حرفا ، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، ومائة وإحدى عشرة آية.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ومن قرأها فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين ، أعطي من الجنّة قنطارين من الأجر!] والقنطار ألف ومئتا أوقيّة ، والأوقيّة خير من الدّنيا وما فيها (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ؛) أي سبحان الذي أسرى بعبده محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة واحدة من مسجد مكّة إلى مسجد بيت المقدس.

وسمّي مسجد بيت المقدس المسجد الأقصى ؛ لأنه لم يكن وراءه مسجد يعبد الله فيه. وقيل : لأنه أبعد المساجد التي تزار ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النّائم واليقظان ، إذ أتاني جبريل بالبراق ...] وذكر حديث المعراج (٢).

__________________

(١) تقدم أنه حديث لا يصح.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٢٠٥ ؛ قال القرطبي : (ثبت الإسراء في جميع مصنّفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كلّ أقطار الإسلام ، فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش عمّن رواه عشرين صحابيّا). وفي الصحيح أخرجه البخاري : كتاب الصلاة : باب كيف فرضت الصلاة : الحديث (٣٤٩). والطبري في جامع البيان : الحديث (٧ / ١٦٦ و ٩ / ١٦٦) بطوله.

٩١

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (أسري به من بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب أخت عليّ كرّم الله وجهه ، والحرم كلّه مسجد). وعن الكلبي عن أبي صالح عن أمّ هانئ أنّها كانت تقول : (ما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا وهو في بيت) ، قال مقاتل : (كان الإسراء قبل الهجرة بسنة).

قوله تعالى : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) صفة بيت المقدس ، بارك الله فيما حوله بالأشجار والأثمار والأنهار حتى لا يحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. وقيل : يعني (بارَكْنا حَوْلَهُ) : جعلناه موضعا للأنبياء عليهم‌السلام ، وفيه مهبط الملائكة ، وفيه الوحي ، وفيه الصّخرة. قوله تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ؛) أي من عجائب قدرتنا ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ؛) لمقالة قريش وإنكارهم (الْبَصِيرُ) (١) ؛ بهم وبأعمالهم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لمّا كان ليلة أسري بي وأنا بين النّائم واليقظان ، جاءني جبريل عليه‌السلام وقال لي : يا محمّد قم ، فقمت فإذا جبريل معه ميكائيل ، فقال لي : توضّأ ، فتوضّأت ، ثمّ قال لي : انطلق يا محمّد ، فقلت : إلى أين؟ فقال : إلى ربك. فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد ، فإذا بالبراق دابّة فوق الحمار ودون البغل ، خدّه كخدّ الإنسان ، وذنبه كذنب البعير ، وأظلافه كأظلاف البقر ، وصدره كأنّه ياقوتة حمراء ، وظهره كأنّه درّة بيضاء ، عليه رحل من رحال الجنّة ، خطوه منتهى طرفه. فقال لي : اركب ، فلمّا وضعت يدي عليه شمس ، فقال جبريل : مهلا يا براق ؛ أما تستحي! فو الله ما ركبك نبيّ أكرم على الله من هذا ، هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فارتعش البراق ، وتصبّب عرقا حياء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ خفض حتّى لزق بالأرض ، فركبته واستويت على ظهره.

قام جبريل نحو المسجد الأقصى يخطو مدّ البصر ، والبراق يتبعه لا يفوت أحدهما الآخر حتّى أتيت بيت المقدس ، فإذا بالملائكة قد نزلوا من السّماء يتلقّوني بالبشارة والكرامة من عند الله ، فلمّا وصلت باب المسجد أنزلني جبريل ، وربط البراق بالحلقة الّتي كانت تربط بها الأنبياء ، وكان للبراق خطام من حرير الجنّة ، فصلّيت في المسجد ركعتين ، والملائكة خلفي صفوففا يصلّون معي.

٩٢

ثمّ أخذ جبريل بيدي ، وانطلق بي إلى الصّخرة فصعد بي عليها. وإذا معراج أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسّماء ، إحدى عارضيه من ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء ، ودرجه زمرّد مكلّل بالدّرّ والياقوت ، فاحتملني جبريل حتّى وضعني على جناحيه ، ثمّ صعد بي ذلك المعراج حتّى وصل بي إلى السّماء الدّنيا.

فقرع الباب فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قالوا : من معك؟ قال : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ففتحوا الباب فدخلنا ، فقالوا : مرحبا ولنعم المجيء جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فأتيت على آدم فسلّمت عليه ، فقلت : يا جبريل من هذا؟ قال : أبوك آدم ، فسلّمت عليه فقال : مرحبا بك ، بالابن الصّالح والنّبيّ الصّالح.

ثمّ انطلقنا حتّى أتينا السّماء الثّانية ، فاستفتح جبريل ففتحوا لنا وقالوا : مرحبا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولنعم المجيء جاء رسول الله ، فأتيت على عيسى ويحيى فقلت : يا جبريل من هذان؟ قال : عيسى ويحيى ابنا الخالة ، فسلّمت عليهما ، فقالا : مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصّالح.

ثمّ انطلقنا إلى السّماء الثّالثة فاستفتح جبريل ، فقالوا : من هذا؟ قال : جبريل ومعي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففتحوا وقالوا : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ، قال : فأتيت على يوسف عليه‌السلام فقال : مرحبا بالأخ الصّالح.

ثمّ أتينا السّماء الرّابعة فكان من الاستفتاح والجواب مثل ما تقدّم ، فوجدت إدريس فقال لي : مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصاّلح. وفي السّماء الخامسة وجدت هارون فقال لي كذلك ، وفي السّماء السّادسة وجدت موسى فقال لي كذلك ، وفي السّماء السّابعة وجدت إبراهيم فقال لي : مرحبا بالابن الصّالح والنّبيّ الصّالح.

ثمّ رفعت إلى سدرة المنتهى ، وإنّ نبقها مثل قلال هجر ، وورقها كأذان الفيلة ، ورأيت أربعة أنهار تجري من أصلها ، فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال : النّهران الباطنان في الجنّة ، وأمّا النّهران الظّاهران فالنّيل والفرات ، وفيها ملائكة لا يعلم عددهم إلّا الله ، ومقام جبريل في وسطها ، فلمّا انتهيت إليها فقال لي جبريل : تقدّم ، فقلت : تقدّم أنت يا جبريل! فقال : بل تقدّم أنت يا محمّد ؛ فأنت أكرم على الله منّي.

٩٣

قال : فتقدّمت وجبريل على إثري حتّى انتهائي إلى حجاب من ذهب ، فحرّكه ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ومعي محمّد ، فأخرج الملك يده من تحت الحجاب ، فاحتملني وتخلّف جبريل ، فقلت : إلى أين؟ فقال : وما منّا إلّا له مقام معلوم ، وإنّما أذن لي في الدّنوّ من الحجاب لإكرامك وإجلالك. فانطلق بي الملك في أسرع من طرفة عين إلى حجاب آخر ، فحرّكه فقال الملك : من هذا؟ فقال : هذا محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معي ، فأخرج يده من الحجاب ، فاحتملني حتّى وسعني بين يديه.

فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى سبعين حجابا ، غلظ كلّ حجاب مسيرة خمسمائة سنة ، وما بين الحجاب إلى الحجاب خمسمائة سنة ، ثمّ احتملت إلى العرش]. فانتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حيث شاء الله ، ورأى من العجائب والقدرة ما شاء الله.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أمرت بخمسين صلاة كلّ يوم ، فأقبلت حتّى أتيت موسى ، فسألني : بم أمرت؟ فقلت : بخمسين صلاة ، فقال : إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التّخفيف لأمّتك ، فقال : فرجعت إلى ربي فحطّ عنّي خمسا ، فأقبلت حتّى أتيت موسى فذكرت له ذلك ، فقال لي : ارجع فاسأله التّخفيف لأمّتك ، فرجعت فحطّ عنّي خمسا أخرى ، فلم أزل كذلك يقول لي موسى : ارجع واسأله التّخفيف ، وأنا أرجع حتّى بقيت خمس صلوات ، فقال لي موسى : اسأله التّخفيف ، فقلت له : لقد رجعت حتّى استحييت من ربي ، فنوديت : أن قد أمضيت فريضتي وخفّفت على عبادي وجعلت كلّ حسنة بعشر أمثالها](١).

قال ابن عبّاس : (فلمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر اللّيل إلى مكّة وأخبر قريشا كذبوه ، ثمّ سألوه عن صفة بيت المقدس وما كان عن يمينه حين دخل ، وما كان عن يساره حين خرج ، وما استقبله ، فأخبرهم بصفاتها كلّها ، وقال : [مررت على

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٢٠٨ ؛ قال القرطبي : (وهذه نبذة مختصرة من أحاديث الإسراء خاصة عن الصحيحين ، ذكرها أبو الربيع سليمان بن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له).

٩٤

عير بني فلان ، وهي بالرّوحاء وقد أضلّوا بعيرا لهم وهم في طلبه] قالوا : فأخبرنا عن عيرنا نحن ، قال : مررت بها بالتّنعيم ، قالوا : فما عدّتها وأحمالها وهيئتها؟ قال : [كذا وكذا ، وفيها فلان ، وتقدّمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطان ، تطلع عليكم عند طلوع الشّمس].

قال : فخرجوا يشتدّون نحو التّثنية وهم يقولون : لقد وصف محمّد شيئا فسنكذّبه ، فلمّا أتوا كداء جلسوا عليها ، فجعلوا ينظرون متى تطلع الشّمس فيكذّبوه ، إذ قائل منهم يقول : هذه والله الشّمس قد طلعت ، وقال آخر : وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق ، فيها فلان وفلان كما قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا).

وسعى ناس من المشركين إلى أبي بكر وقالوا : هذا صاحبك يزعم أنّه قد أسري به اللّيلة إلى الشّام في ليلة واحدة ، ورجع قبل الصّبح ، قال : (فكيف لا أصدّقه على ذلك؟!) قالوا : أتصدّقه أنّه ذهب إلى الشّام؟ فقال : (إن كان قال ذلك فقد صدق) قالوا : أتصدّقه أنّه ذهب إلى الشّام في ليلة واحدة ورجع قبل الصّبح؟ قال : (فكيف لا أصدّقه على ذلك) فسمّي أبا بكر الصّدّيق. وأما المشركون فقالوا : ما سمعنا بهذا قطّ ، إن هذا إلا سحر مبين (١).

فإن قيل إنما قال الله (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) فلم قلتم أسرى به إلى السّماء؟ قلنا : الأخبار في ذلك متواترة ظاهرة ، وما ذكره في سورة النجم دليل على صحّة ذلك.

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ؛) أي أعطينا موسى التوراة وجعلناه دلالة لبني إسرائيل ، (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) (٢) ؛ ربّا ، ولا تتوكّلوا على غيري ، ومن قرأ (أَلَّا تَتَّخِذُوا) بالتاء ، فهو على الخطاب بعد الغيبة مثل (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ثم قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٥ ص ١٨٦ ـ ١٨٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي حاتم ... وذكره). وذكره ابن أبي حاتم مطولا في التفسير : ج ٧ ص ٢٣٠٩ : الأثر (١٣١٨٤).

٩٥

قوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٢) ؛ أي يا ذرّية من حملنا مع نوح ، والناس كلّهم ذرية نوح ، ثم اثنى على نوح فقال : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) لنعم الله ، كان إذا أكل أو شرب أو اكتسى أو احتذى قال : الحمد لله.

قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ ؛) أي أخبرناهم في التوراة ، (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ؛) أي لتعصنّ كرّتين بقتل النّفوس ، وتخريب الديار ، وأخذ الأموال ، (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤) ؛ ولتظلمنّ ظلما عظيما.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ؛) أي سلّطنا عليكم عبادا لنا ذوي عدّة في القتال ، (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ؛) قال ابن عباس : (وهم بختنصّر وأصحابه المجوس ، سلّطهم الله على بني إسرائيل حين عصت في أوّل الفسادين ، فقتل منهم بختنصّر أربعين ألفا ممّن كان يقرأ التّوراة ، ودخل ديارهم وطلبهم طلبا شديدا حتّى كانوا ينظرون في الأزقّة والبيوت ، هل بقي أحد لم يقتلوه ، واستأسروا من بقي بعد الأربعين ألفا ، ومضوا بهم إلى بلادهم ، فمكث الأسراء في أيديهم تسعين سنة حتّى مات بختنصّر). قوله تعالى : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (٥) ؛ أي وعدا كائنا لا محالة.

قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ؛) أي جعلنا لكم الدولة والرجعة عليهم ، (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ؛) أي وأعطيناكم أموالا وبنين ، (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (٦) ؛ أي أكثر عددا ينفرون إليهم.

وذلك أنّ رجلا من أهل الكتاب يقال له : كورش غزا أرض بابل ، وهي بلاد بختنصّر ، فظهر عليهم فقتلهم وسكن ديارهم ، وتزوّج امرأة من بني إسرائيل أخت ملك بني إسرائيل ، فطلبت من زوجها أن يردّ قومها إلى أرضهم ففعل ، فمكث في بيت المقدس مائتين وعشرين سنة ، وقامت بينهم الأنبياء ، ورجعوا الى أحسن ما كانوا عليه ، فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.)

وعن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية : [إنّ بني إسرائيل لمّا اعتدوا وقتلوا الأنبياء ، بعث الله عليهم ملك الرّوم بختنصّر ، فسار إليهم

٩٦

حتّى دخل بيت المقدس فحاصرهم وفتحها ، فقتل على دم يحيى بن زكريّا أربعين ألفا ـ وقيل : سبعين ألفا ـ وسبى أهلها ، وسلب حليّ بيت المقدس ، وكان سليمان ابن داود قد بناه من ذهب وياقوت وزبرجد ، وعموده ذهب ، أعطاه الله ذلك وسخّر الشّياطين له يأتونه بهذه الأشياء.

ثمّ سار بختنصّر بالأسارى حتّى نزل بابل فأقام بنو إسرائيل في مدّته سنة تتعبّد المجوس وأبناء المجوس ، ثمّ إنّ الله تعالى رحمهم فسلّط ملكا من ملوك فارس يقال له كورش وكان مؤمنا ، فسار إليهم فاستنقذ بني إسرائيل منهم ، واستنقذ حليّ بيت المقدس حتّى ردّه إليه ، فأقام بنو إسرائيل مطيعين الله زمانا ، ثمّ عادوا إلى المعاصي ، فسلّط الله عليهم ملكا آخر وحرق بيت المقدس وسباهم](١).

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) يعني أولى المرّتين ، واختلفوا فيها ، فعلى قول قتادة : (إفسادهم في المرّة الأولى ما تركوا من أحكام التّوراة ، وعصوا ربّهم ولم يحفظوا أمر نبيّهم موسى ، وركبوا المحارم).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : (أنّ الفساد الأوّل قتل زكريّا) (٢) ، وقيل : قتلهم شعيا نبيّ الله في الشّجرة ، قال ابن اسحق : (إنّ بعض العلماء أخبره أنّ زكريّا مات موتا ولم يقتل ، وإنّما المقتول شعيا) (٣).

قوله تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) يعني جالوت وجنوده ، وقال ابن اسحق : (بختنصّر البابليّ وأصحابه ، أولي بأس شديد ؛ أي ذوي بطش شديد في الحرب ، فجاسوا خلال الدّيار ؛ أي طافوا وداروا). وقال الفرّاء : قتلوكم بين بيوتكم (٤) ، قال حسّان (٥) :

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٦٦٤٩).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٦٤٧) عن ابن عباس وعن ابن مسعود.

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٢٠٦ ذكره القرطبي.

(٤) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٢ ص ١١٦.

(٥) ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٢١٦.

٩٧

ومنّا الّذي لاقى بسيف محمّد

فجاس به الأعداء عرض العساكر

وقيل : (فَجاسُوا) أي طلبوا من فيها كما تجاس الأخبار.

وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي المرّة الآخرة ، وهو قصدهم قتل عيسى حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريّا عليهما‌السلام ، فسلّط الله عليهم ططوس بن استيباتيوس فارس والرّوم حين قتلوهم وسبوهم ، فذلك قوله تعالى : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ.)

قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ؛) أي منفعة إحسانكم راجعة إليكم ، (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ؛) أي فإلى أنفسكم ، ولم يقل فإليها على جهة المقابلة للكلام الأول ، ومثل هذه الحروف قد تقام بعضها مقام بعض ، كما في قوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها)(١) أي إليها.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ؛) أي وعد المرّة الآخرة في الفساد ، (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ؛) بالقتل والسّبي ، (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ؛) أي مسجد بيت المقدس ، (كَما دَخَلُوهُ ؛) دخله بختنصّر وأصحابه ، (أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (٧) ؛ أي وليخرّبوا ما علوا عليه تخريبا ، والتّبار والرّماد والهلاك بمعنى واحد.

ذلك أن الله سلّط عليهم بعد مائتين وعشرين سنة ططوس بن استيباتوس الرومي ، فحاصرهم وقتل منهم مائة ألف وثمانين ، وخرّب بيت المقدس ، وذلك بعد قتلهم يحيى عليه‌السلام ، فلم يزل كذلك خرابا إلى أن بناه المسلمون ، فلم يدخله روميّ بعد ذلك إلا خائفا ، كما قال تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ)(٢).

وذهب بعضهم إلى أن بختنصّر غزا بني إسرائيل مرّتين ، ففتح مدينتهم في المرّة الأولى ، وجاسوا خلالها يقتلون فيهم ، فتابت بنو إسرائيل إلى الله تعالى فأظهرهم الله تعالى على بختنصّر فردّ عنهم ، ثم بعث الله إلى بني اسرائيل (أرضيّا) النبيّ عليه‌السلام ، فقام

__________________

(١) الزلزلة / ٥.

(٢) البقرة / ١١٤.

٩٨

فيهم بوحي الله تعالى ، فضربوه وقيّدوه وحبسوه ، فسلّط الله عليهم بختنصّر مرّة أخرى ففعل ما فعل.

قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ؛) أي بعد استقامة منكم ، (وَإِنْ عُدْتُمْ ؛) لمعصية ، (عُدْنا ؛) إلى العقوبة ، قال قتادة : (فعادوا فبعث الله عليهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعاد الله عليهم بالعقوبة بإدلالهم بأخذ الجزية والقتل ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون) (١). قوله تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨) ؛ أي محتبسا من قولك : حصرته فهو محصور إذا حبسته ، وقيل : فراشا ومهادا تشبيها بالحصير الذي يبسط ويفرش.

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ؛) أي يهدي للحالة التي هي أقوم الحالات ، والطريقة التي هي أصوب ، وقيل : يرشد إلى الكلمة التي هي أعدل الكلمات ، وهي كلمة التوحيد والطاعة لله تعالى والإيمان به وبرسله.

قوله تعالى : (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩) ؛ ثوابا عظيما وهو الجنّة ، (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠) ؛ أي إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة يبشّرهم بعذاب أليم وهو النار.

قوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ ؛) أي يدعو على نفسه وعلى ولده بالسّوء عند الضّجر والغضب ، فيقول : اللهمّ العنه اللهم أهلكه ونحو ذلك ، كدعائه ربّه بأن يهب له العافية والنّعمة ، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده ، فلو استجاب الله له إذا دعاه باللعن والهلاك ، كما يستجاب له إذا دعاه بالخير لهلك ، ولكنّ الله تعالى بفضله لا يستجيب له ، ونظير هذا (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)(٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٦٨٢ و ١٦٦٨٤).

(٢) يونس / ١١.

٩٩

قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١) ؛ أي عجولا في الدّعاء بما يكره أن يستجاب له ، وقال ابن عبّاس : (معناه ضجورا لا صبر له على السّرّاء والضّرّاء) (١). وقيل : أراد به آدم عليه‌السلام لمّا نفخ فيه الروح فبلغ إلى رجليه ، قصد القيام قبل أن يجري فيه الروح فسقط ، فقيل له : لا تعجل).

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ؛) أي علامتين تدلّان على قدرة خالقهما ، (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ؛) أي ضوء القمر ، قال ابن عبّاس : (أراد به السّواد الّذي في القمر ، وذلك أنّ الله خلق القمر أوّل ما خلقه على صورة الشّمس ، وكانت شمس باللّيل وشمس بالنّهار ، وكان لا يعرف اللّيل من النّهار ، فأمر الله جبريل فمسح بجناحيه شمس اللّيل فذهب ضوءها ، وبقي علامة جناحه وهو السّواد الّذي يرونه في جوف القمر) (٢).

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضا : (جعل الله نور الشّمس سبعين جزءا ، ونور القمر سبعين جزءا ، فأمحي من نور القمر تسعة وستّون جزءا فجعلها من نور الشّمس ، فصار ضوء الشّمس مائة وثلاثين جزءا ، والقمر جزءا واحدا) (٣).

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ؛) وهي الشّمس مبصرة مضيئة منيرة ، (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ؛) أي لتسكنوا بالليل ، وتطلبوا معايشكم بالنهار ، إلّا أنه حذف لتسكنوا بالليل ؛ لأنه ذكره في موضع آخر ، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ؛) أي جعلنا ذلك لتعلموا حساب الشّهور والأيّام ومواقيت الصلاة والصيام والحجّ ، يعني بمحو آية الليل ، (وَكُلَّ شَيْءٍ ؛) من الأمر والنهي والحلال والحرام ، (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢) ؛ أي بيّنّاه في القرآن ؛ ليكون أقرب إلى

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٦٩٤).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٦٧٠٤) بأسانيد وألفاظ ، وله طرق عن علي رضي الله عنه ومجاهد وابن كثير.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٧٣٨.

١٠٠