التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا)(١) وقال (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)(٢) وقال (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً)(٣). ويقال : إنه لم يرد بالحشر في هذه الآية الحشر عن القبر ، وإنما أراد به الحشر عن موضع المحاسبة ، فإنّهم يسحبون عن ذلك الموضع على وجوههم على هذه الصّفات. وعن أنس : أنّ رجلا قال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال : [إنّ الّذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه](٤).

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [يحشر النّاس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف مشاة ، وصنف ركبان ، وصنف على وجوههم] قيل : يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال : [إنّ الّذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ، يتّقون بوجوههم كلّ حدب وشوك](٥).

قوله تعالى : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ؛) أي مصيرهم إليها. وقوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (٩٧) ؛ أي كلّما سكن لهبها من جانب زدناها اشتعالا من جانب آخر ، يقال للنار اذا سكن لهبها : خمدت ، فإذا أطفئت ولم يبق فيها شيء من النار قيل : همدت ، وقال ابن عبّاس : (معنى قوله تعالى (خَبَتْ) أي سكنت) (٦) ، وقال مجاهد : (طفئت) ، وقال قتادة : (لانت وضعفت) ، وقوله تعالى : (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي وقودا.

ثم بيّن الله تعالى لماذا يزدادون سعيرا ، فقال تعالى : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا ؛) أي ذلك العذاب جزاء كفرهم بدلائلنا ، وإنكارهم للبعث ، وهو قولهم : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (٩٨).

__________________

(١) الكهف / ٥٣.

(٢) الفرقان / ١٢.

(٣) الفرقان / ١٣.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب التفسير : سورة الفرقان : الحديث (٤٧٦٠) ، وطرقه في الحديث (٦٥٢٣). ومسلم في الصحيح : كتاب صفات المنافقين : باب يحشر الكافر على وجهه : الحديث (٥٤ / ٢٨٠٦).

(٥) أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح : أبواب التفسير : الحديث (٣١٤٢) ؛ وقال : (حديث حسن) وفيه علي بن زيد بن جدعان ؛ ضعيف.

(٦) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧١٣٦) و (١٧١٤٠) عن الضحاك.

١٤١

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ؛) في صغرهم وضعفهم ، ونظير هذا قوله (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ)(١) وقوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)(٢) ولأنّ من قدر على خلق الأكبر علم أنه قادر على خلق الأصغر ، فإذا قدر على خلق أمثالهم قدر على إعادتهم.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ ؛) أي جعل لإعادتهم وقتا لا شكّ فيه أنه كائن ، (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) (٩٩) ؛ جحودا مع وضوح الدلالة والحجج.

وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١٠٠) ؛ جواب لقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) المعنى : لو أنتم تملكون مقدورات رحمة ربي إذا لأمسكتم لأنفسكم مخافة أن يفنى بالإنفاق ولا يبقى لكم ، وقوله تعالى : (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ ،) أي خشية الفقر والحاجة ، وقيل : خشية أن ينفقوا فيفتقروا.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ؛) أي تسع دلالات واضحات ، قال ابن عبّاس : (هي العصا واللّسان ، فإنّه كان في لسانه عقدة فرفعها الله ، كما قال : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي)(٣) والبحر واليد ، والآيات الخمس : وهي الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم) (٤). وقال محمّد بن كعب : (هذه الخمس والعصا واللّسان وانفجار الماء من الحجر ، والطّمس كما قال (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ)(٥)) (٦). وقيل : هي الخمس والعصى ويده والسّنون ونقص من الثمرات.

__________________

(١) النازعات / ٢٧.

(٢) غافر / ٥٧.

(٣) طه / ٢٧ ـ ٢٨.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧١٤٥).

(٥) يونس / ٨٨.

(٦) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧١٤٧).

١٤٢

قال محمّد بن كعب في الطّمس : (كان الرّجل منهم مع أهله في فراشه ، وإذا قد صارا حجرين ، وأنّ المرأة القائمة تخبز وقد صارت حجرا ، وأنّ المرأة في الحمّام وأنّها لحجر ، وكانت تنقلب الفواكه والفلوس والدّراهم والدّنانير أحجارا).

وروي : أنّ يهوديّا قال لصاحبه : تعال حتّى نسأل هذا النّبيّ ، فأتياه فسألاه عن هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) قال : [لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم الله ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تأكلوا الرّبا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تفرّوا من الزّحف ، وعليكم خاصّة يا يهود أن لا تعدوا في السّبت] فقبّلوا يده وقالوا : نشهد أنّك نبيّ (١).

قوله تعالى : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ؛) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقع له العلم من عند الله ، فكان لا يحتاج في معرفة ذلك إلى الرّجوع إلى أهل الكتاب ، فكأنّه تعالى قال : فاسأل أيها السامع وأيها الشّاكّ بني إسرائيل إذ جاءهم موسى بالبيّنات ، قال ابن عباس : (فاسأل بني إسرائيل ، يعني المؤمنين من قريظة والنّضير).

قوله تعالى : (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٠١) ؛ أي إنّي لأظنّك يا موسى قد سحرت فلذلك تدّعي النبوة ، وقيل : هذا مفعول بمعنى فاعل كأنه قال : إنّي لأظنك ساحرا ، وقيل : المسحور المخدوع.

قوله تعالى : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قال موسى لفرعون : لقد علمت يا فرعون أنّ هذه الآيات لا تدخل في مقدور العباد ، فلم ينزلها إلا ربّ السموات والأرض ، (بَصائِرَ ؛) أي حججا للناس يبصرون بها في أمر دينهم ، (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٠٢) ؛ وإني لأعلم يا فرعون إنّك هالك ، يقال : ثبر الرجل فهو مثبور ؛ أي هالك ، والظنّ قد يذكر بمعنى اليقين على ما تقدّم.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٨ ص ٦٩ ـ ٧٠ : الحديث (٧٣٩٦). والترمذي في الجامع : أبواب الاستئذان : باب ما جاء في قبلة اليد : الحديث (٢٧٣٣) ؛ وقال : حسن صحيح.

١٤٣

وقرأ الكسائيّ (لقد علمت) بضمّ التاء ، وهي قراءة عليّ (كرّم الله وجهه) وقال : (والله ما علم عدوّ الله ، ولكن موسى هو الّذي علم) (١) فبلغ ذلك ابن عبّاس فقال : (إنّه (لَقَدْ عَلِمْتَ) تصديقا لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(٢)). وقراءة النصب أصحّ وأشهر ، وليست قراءة الضمّ مشهورة عن عليّ رضي الله عنه ولا ثابتة ، وإنما رواها عنه رجل مجهول لا يعرف ، ولا تمسّك بها أحد من القرّاء غير الكسائيّ.

وقوله تعالى : (مَثْبُوراً) قال ابن عبّاس : (مغلوبا) (٣) ، وقال مجاهد : (هالكا) (٤) ، وقيل : مخبّلا لا عقل لك ، وقيل : بعيدا من الخيرات ، وقيل : سلاخا (٥) في القطيفة ، قال مجاهد : (دخل موسى على فرعون وعليه قطيفة ، فألقى عصاه فرأى فرعون ثعبانا ففزع وأحدث في القطيفة) (٦).

وروى أبو سعيد الجوهريّ قال : (كنت قائما على رأس المأمون وهو يناظر رجلا وهو يقول : يا مثبور ، ثمّ أقبل إليّ فقال : ما معنى (مَثْبُوراً)؟ قلت : لا أدري ، فقال : حدّثني الرّشيد قال : حدّثني المهدي قال : كنت جالسا عند أمير المؤمنين المنصور ، فسمعته يقول لرجل : يا مثبور ، فقلت : يا أمير المؤمنين ما معنى يا مثبور؟ قال ميمون : قال ابن عبّاس في قوله تعالى (يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) ما مثبورا؟ قال : ناقص العقل).

قوله تعالى : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ؛ أي فأراد فرعون أن يزعج بني إسرائيل ، ويخرجهم من أرض مصر قهرا. والاستفزاز : هو الخوف بالشدّة ، ويجوز أن يكون المراد به أنه قصد قتلهم ، (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) (١٠٣) ؛

__________________

(١) في جامع البيان : تفسير الآية ؛ قال الطبري : (وروي عن علي) وذكره.

(٢) النمل / ١٤.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧١٥٩).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧١٦).

(٥) سلاخه : إذا انتشر بسره ، فكأنه أحدث في قطيفته. ينظر : لسان العرب (سلخ).

(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٣٣٧.

١٤٤

أي أمرنا موسى وقومه بالخروج من مصر ، فتبعه فرعون وقومه ، فجعلنا في الماء طريقا يابسا ، فجاوز موسى وقومه البحر ، فتبعهم فرعون وقومه ، فأطبقنا الماء عليهم حتى غرقوا كلّهم.

قوله تعالى : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ ؛) من بعد هلاك فرعون ، (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ؛) الشّام وأرض مصر ، وأورث بني إسرائيل مساكنهم وديارهم ، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يفعل به وبالمشركين ما فعل بموسى وعدوّه ، فأظهر الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المشركين ، وردّه إلى مكّة ظافرا عليها.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) (١٠٤) ؛ يعني يوم القيامة جئنا بكم جميعا ؛ أي أتينا بكم من كلّ قبيلة ، واللّفيف : الجماعات من قبائل شتّى ، وقيل : جئنا بكم مختلطين لا تتعارفون ، والمعنى : جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطا ، يعني جميع الخلق ، المسلم والكافر والبرّ والفاجر.

قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ؛) يعني القرآن ، ويجوز أن تكون الهاء كناية عن جبريل ، فإن الله أنزله بالقرآن ، ونزل هو به. قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١٠٥) ؛ أي بشيرا لمن أطاع بالجنّة ، ومخوّفا بالنّذر للكفار.

قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ؛) معناه : وأنزلنا قرآنا فرّقناه شيئا بعد شيء ، فإنه كان ينزل منه شيء ، ثم يمكثون ما شاء الله ، ثم ينزل منه شيء آخر ، وكان بين أوّله وآخره عشرون سنة. وقوله تعالى : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ؛) أي على تثبّت وتوقّف ليفهموه بالتأمّل ، ويعملوا ما فيه بالتفكّر ، وهو معنى قوله تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(١). قوله تعالى : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦) ؛ تأكيدا لأنزلناه مرّة بعد مرة لعظم شأنه.

__________________

(١) المزمل / ٤.

١٤٥

قوله تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ؛) أي قل يا محمّد لأهل مكّة : آمنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا ، وهذا وعيد لهم ؛ أي إن آمنتم وإن لم تؤمنوا ، فالله غنيّ عنكم وعن إيمانكم ، وإيمانكم لا ينفع غيركم ، وكفركم لا يضرّ سواكم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ؛) أي من قبل نزول القرآن ، والمراد بهم مؤمنوا أهل الكتاب ، (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ؛) القرآن ، (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ؛) أي يقعون على وجوههم (سُجَّداً) (١٠٧) ، لله ، والمراد بالأذقان الوجوه ، كذا قال ابن عبّاس.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) (١٠٨) ؛ أي يقولون في سجودهم : تنزيها لله عما لا يليق به ، وقد كان وعد ربنا كائنا لا محالة. وهؤلاء الذين سجدوا كانوا يسمعون أنّ الله يبعث نبيّا من العرب وينزّل عليه كتابا ، فلما سمعوا القرآن سجدوا لله وحمدوه على إنجاز الوعد ببعث الرسول والكتاب ، وقالوا : قد كان وعد ربنا مفعولا.

قوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ؛) أي يسقطون على الوجوه يبكون في السّجود ، (وَيَزِيدُهُمْ ؛) البكاء في السّجود ، (خُشُوعاً) (١٠٩) ؛ إلى خشوعهم ؛ لأن مخافتهم الله داعية إلى طاعته ، والإخلاص في عبادته.

وفي الآية دليل على أنّ البكاء في الصّلاة من خوف الله لا يقطع الصلاة ؛ لأن الله مدحهم عليه. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنّه كان يصلّي ، فيسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء](١). وعن عبد الله بن شدّاد قال : (كنت أصلّي خلف عمر رضي الله عنه صلاة الصّبح ، وكان يقرأ سورة يوسف حتّى إذا بلغ (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ)(٢) سمعت نشيجه ، وأنا في آخر الصّفوف).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ٢٥ و ٢٦. وأبو داود في السنن : كتاب الصلاة : باب البكاء في الصلاة : الحديث (٩٠٤). والنسائي في السنن : كتاب السهو : باب البكاء في الصلاة : ج ٣ ص ١٣ صحيح.

(٢) الآية / ٨٦.

١٤٦

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ؛) فقال ابن عبّاس : (تهجّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة بمكّة ، فجعل يقول في سجوده : [يا الله يا رحمن]. فقال أبو جهل : إنّ محمّدا ينهانا أن نعبد الهين وهو يدعو إلها آخر مع الله يقال له الرّحمن! وهم لا يعرفون الرّحمن ، فأنزل الله هذه الآية) (١).

ومعناها : قل يا محمّد : أدعوا الله يا معشر المؤمنين ، أو ادعوا الرّحمن ، إن شئتم فقولوا : يا رحمن ، وإن شئتم فقولوا : يا الله يا رحمن ؛ (أَيًّا ما تَدْعُوا ،) أيّ أسماء الله تدعوه بها ، (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ،) فأسماؤه كلّها حسنة فادعوه بصفاته. وقوله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا) قال بعضهم : (ما) في هذا صلة ، ومعناها التأكيد ، تقديره : أيّا تدعون ، ومثله : عمّا قليل ، وخذ ما هنالك ، و (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ)(٢).

قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ؛) قال ابن عبّاس : (نزلت بمكّة ، كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به ، ولعبوا وصفّقوا وصفّروا ولغطوا ، كلّ ذلك ليغلطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا به يؤذونه ، وإذا خافت بالقراءة لم يسمعه أصحابه ، فأنزل الله هذه الآية) (٣). أي لا تجهر بقراءتك في الصّلاة فيسمعها المشركون فيؤذونك ، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك. وقال الحسن : (معناه : ولا تجهر بقراءتك في الصّلاة كلّها ولا تخافت بها في الصّلاة كلّها ، ولكن اجهر بها في بعض الصّلوات ، وخافت بها في بعض الصّلوات).

وسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر عن قراءته باللّيل ، فقال : (أخافت بها كي لا أؤذي جاري ، أناجي ربي وقد علم بحاجتي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أحسنت] وسأل عمر رضي الله عنه عن قراءته باللّيل فقال : أرفع صوتي أوقظ الوسنان وأطرد الشّيطان ، فقال : [أحسنت] فلمّا نزلت هذه الآية قال لأبي بكر : [زد في صوتك] وقال لعمر : [انقص من

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧١٩٤).

(٢) آل عمران / ١٥٩.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧٢٠٨) بإسنادين. والبخاري في الصحيح : كتاب التفسير : الحديث (٤٧٢٢).

١٤٧

صوتك](١)(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠). وعن ابن عباس أن معنى الآية : (لا تصلّ مراءاة للنّاس ولا تدعها مخافة للنّاس) (٢). وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أحسن الناس قراءة؟ فقال : [الّذي إذا سمعت قراءته رأيت أنّه يخشى الله تعالى](٣).

قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ؛) فيرثه ؛ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ،) يعاونه عليه ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ،) أي من أهل الذل وهم اليهود والنصارى ، يودون إخراج رؤوسهم ويقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال مجاهد : (معناه : لم يحالف ، ولم يبتغ نصر أحد) (٤) والمعنى أنه عزوجل لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير.

وقوله تعالى : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١) ؛ أي عظّمه عظمة تامة عن أن يكون له شريك أو ولي وصفه بأنه أكبر من كل شيء ، وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، الغنيّ عن كل شيء. معتقدا لذلك بقلبك ، عاملا على أمره فيما أمرك. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنّه كان إذا أفصح الولد من بني عبد المطّلب علّمه هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...) الآية](٥).

وروي أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّي كثير الدّين كثير الهمّ ، فقال : [إقرأ آخر سورة بني إسرائيل (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ...) إلى آخر السّورة ، ثمّ قل : توكّلت على الّذي لا يموت ثلاث مرّات](٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧٢١١).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٢١٨).

(٣) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط : ج ٧ ص ١١٥ عن ابن عمر رضي الله عنهما ، بلفظ : [من إذا قرأ رأيت أنّه يخشى الله].

(٤) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٣٥٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم) وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٢٢١).

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧٢٢٢) عن قتادة مرسلا. وعبد الرزاق في المصنف عن عبد الكريم بن أبي أمية ، وعنه عن عمير بن شعيب ووصله ابن السني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال السيوطي في الدر المنثور : ج ٥ ص ٣٥٣.

(٦) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٣٥٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو يعلى وابن السني) وذكره بمعناه وكثير من لفظه عن أبي هريرة.

١٤٨

وعن ابن عباس أنه قال : (من قرأ سورة بني إسرائيل في سفر أو حضر إيمانا واحتسابا ضرب الله عليه سورا من حديد من الغرق والحرق والبرق). وعن عبد الحميد أنه قال : (من قرأ آخر بني إسرائيل ، كتب الله له من الأجر مثل السّموات السّبع والأرضين السّبع ، والبحار والجبال).

آخر تفسير سورة (الإسراء) والحمد لله رب العالمين

انتهى الجزء الثاني من المخطوط وفيه كتب الناسخ فاصلة

الجزء الثالث من تفسير القرآن العظيم

إلى مؤلفه الفاضل الهمام

شيخ الإسلام الطبراني الكبير نفع الله به جميع العالمين

١٤٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه التّوفيق والإعانة

سورة الكهف

سورة الكهف مكّيّة غير آيتين منها (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) إلى آخرهما ، وعدد حروفها ستّة آلاف وثلاثمائة وستّون حرفا ، وكلماتها ألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة ، وآياتها مائة وعشر آيات عند الكوفيّين ، وأحد عشر عند البصريّين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ؛) أي الذي أنزل على عبده محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ؛ (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١) ؛ أي لم يجعله ملتبسا لا يفهم ، ومعوجّا لا يستقيم. قوله تعالى : (قَيِّماً ؛) أي مستقيما عدلا ؛ أي مستويا قيما على الكتب كلّها ناسخا لشرائعها.

قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ؛) أي لينذر العبد الذي أنزل عليه الكتاب بأسا شديدا ؛ أي لينذر الكفّار عذابا شديدا من عند الله. قوله تعالى : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢) أي ثوابا حسنا في الجنة ؛ (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (٣) ؛ أي مقيمين في ذلك الأجر خالدين فيه.

قوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (٤) ؛ وهم قريش واليهود والنصارى ، فإنّ قريشا قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله.

قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ؛) أي هم وآباؤهم كلّهم مقلّدين ليس لهم على ذلك بيان ولا حجّة ، بل قالوا جهلا. قوله تعالى : (كَبُرَتْ

١٥٠

كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ؛) أي كبرت مقالتهم تلك كلمة تخرج من أفواههم ما ؛ (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٥) ؛ و (كَلِمَةً) نصب على التمييز ، وإنّما كبرت هذه الكلمة ؛ لأن صاحبها يستحقّ بها العذاب ، ومن ذلك سميت الكبيرة كبيرة ؛ لأن عقابها يزيد على استطاعة صاحبها.

قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ؛) فيه نهي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إهلاك نفسه حزنا عليهم بسبب إعراضهم عن الإيمان لشدّة شفقته عليهم ، وحقيقة الأسف الحزن على من فات.

ومعنى الآية : فلعلّك قاتل نفسك ، يقال بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا من شدّة حزنه على الشيء أو وجده بالشيء ، وقوله تعالى : (عَلى آثارِهِمْ) أي من بعدهم ، يعني من بعد تولّهم وإعراضهم عنك إن لم يؤمنوا ، (بِهذَا الْحَدِيثِ ؛) يعني القرآن ، وقوله تعالى : (أَسَفاً ؛) (٦) أي حزنا.

قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ؛) أي جعلنا جميع ما على الأرض من الأشجار والثّمار والنبات والمياه والذهب والفضة والحيوان لهم منها زينة للأرض ، وجعلناها محفوفة بالشّهوات.

قوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) ؛ أي لنأمرهم فننظر أيّهم أعمل بطاعة الله هذا أم هذا. قال الحسن : (أيّهم أزهد في الدّنيا وأترك لها) (١). وقال مقاتل : (أيّهم أصلح فيما أوتي من المال ، ويحسن العمل ، ويزهد في ما زيّن له من الدّنيا).

ثم بيّن الله تعالى أنه يعني ذلك كلّه ؛ فقال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨) ؛ أي يجعل ما عليها من الحيوان والنّبات ترابا يابسا مستويا على الأرض ، والجرز الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات ، ويقال : سنة جرزا إذا كانت حرّة. قال عطاء : (يريد يوم القيامة يجعل الله الأرض جرزا لا ماء فيها ولا نبات).

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٣٦١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن). وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الرقم (١٢٧٠٦).

١٥١

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩) ؛ أي لم يكونوا بأعجب ، فقد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. قال الزجّاج : (أعلم الله أنّ قصّة أهل الكهف ليست بعجيبة ؛ لأنّ خلق السّموات والأرض وما بينهما أعجب من قصّة أصحاب الكهف).

والكهف : الغار في الجبل ، والرّقيم : قيل : هو واد دون فلسطين ، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف ، وقيل : الرقيم لوح من حجارة ، وقيل : من رصاص كتبوا فيه أسماء أهل الكهف وقصّتهم ثم وضعوه على باب الكهف وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم ؛ أي المكتوب ، والرقيم : الخطّ والعلامة ، والرقيم : الكتابة.

قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ قريشا بعثوا خمسة رهط إلى اليهود يسألونهم عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا لهم : إنّه يزعم أنّه نبيّ مرسل واسمه محمّد ، وهو فقير يتيم وبين كتفيه خاتم ، وإنّا نزعم أنّه يتعلّم من مسيلمة ، فإنّه يقول : أنا مرسل من عند الرّحمن ، ونحن لا نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة ـ يعنون مسيلمة ـ.

فلمّا أتى هؤلاء الرّهط المدينة ، أتوا أحبار اليهود وعلمائهم فسألوا عنه ووصفوا لهم صفته وخاتمه ، قالوا : نحن نجده في التّوراة كما وصفتموه ، ولكن سلوه عن ثلاث خصال ، فإن كان نبيّا أخبركم بخصلتين ، ولم يخبركم بالثّالثة؟ فإنّا سألنا مسيلمة عن هذه الخصال فلم يدر ما هي ، وأنتم سلوه عن خبر ذي القرنين ، وعن الرّوح ، وعن أصحاب الكهف.

فرجعوا وأخبروا قريشا بذلك ، فسألوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله. فأبطأ عليه جبريل خمس عشرة ليلة ، وشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ نزل جبريل بهذه الآية (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(١)) (٢).

__________________

(١) الكهف / ٢٣.

(٢) في السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٣٢١ ذكره في معناه. وذكره السيوطي في الدر المنثور : ج ٥ ص ٣٧٦ عن مجاهد ؛ وقال : (أخرجه ابن المنذر).

١٥٢

ثم أخبره عن أصحاب الكهف وحديث ذي القرنين وخبر أمر الرّوح ، وحدّثه أن مدينة بالروم كان فيها ملك كافر يدعو إلى عبادة الأوثان والنّيران ، ويقتل من خالفه ، وفي المدينة شابّ يدعو إلى الإسلام سرّا ، فتابعه فتية من أهل المدينة ، ففطن بهم الملك فأخذهم ، ودفعهم الى آبائهم يحفظونهم ، فمرّوا بغلام راع ، فبايعهم ومعه كلبهم حتى إذا أتوا غارا فدخلوه ، وألقى الله عليهم النّوم سنين عددا ، والملك طالب لهم لم يقف على أمرهم ، وعمي عليه خبرهم ، فسدّوا باب الكهف ليموتوا فيه إن كانوا هنالك.

ثم عمد رجل إلى لوح رصاص ، فكتب فيه أسماءهم وأسماء آبائهم ومدينتهم ، وأنّهم خرجوا فرارا من دين ملكهم في شهر كذا في سنة كذا وألزقه بالسدّ ، وكان السدّ في داخل الكهف ، وذكر القصة إلى آخرها ، فهذا اللوح الرصاص هو الرّقيم. فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا بذلك ، فلما أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول اليهود أخبرهم بخصلتين ولم يخبرهم بالثالثة ، قال كفار قريش : (سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ)(١).

وقال محمّد بن اسحق : (كثرت في أهل الإنجيل الخطايا ، وطغت الملوك حتى عبدوا الأصنام والأوثان ، وفيهم بقايا على دين المسيح بن مريم متمسّكون بعبادة الله وتوحيده. وكان ممن فعل ذلك ملك من ملوكهم يقال له دقيانوس (٢) ، وكان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت ، فسار حتى دخل مدينة أهل الكهف وهي أقسوس.

فلما دخلها عظم على أهل الإيمان ، واستخفوا منه وهربوا إلى كلّ ناحية ، فأراد دقيانوس أن يجمع له أهل الإسلام ، واتخذ شرطا من الكفّار من أهلها وأمرهم باتباع المسلمين ، وأحصرهم فجعلوا يتبعون المسلمين حتى أخذوهم ومضوا بهم الى دقيانوس ، فخيّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فمنهم من رغب في الحياة ، ومنهم من قال : لا أعبد غير الله ؛ فقتله.

__________________

(١) القصص / ٤٨.

(٢) عند الطبري في جامع البيان : (دقينوس)

١٥٣

فلما رأى ذلك أهل الإيمان جعلوا يصبرون للعذاب والقتل ، فقتلهم وقطع لحومهم ، وربطها على سور المدينة ونواحيها كلّها ، وعلى كلّ باب من أبوابها حتى عظمت المحنة على المسلمين. فلما رأى الفتية ذلك قاموا وصلّوا واشتغلوا بالتسبيح والدّعاء إلى الله ، وكانوا من أشراف الرّوم ، وكانوا ثمانية نفر ، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون : ربّنا ربّ السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفعها عنهم.

فبينا هم كذلك إذ دخلوا عليهم الشّرط إلى مصلّاهم فوجدوهم سجودا يبكون ويتضرّعون إلى الله ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفتنته ، فقالوا لهم : ما خلفكم من أمر الملك ، انطلقوا اليه.

ثم خرجوا من عندهم الى دقيانوس وأخبروه بخبرهم ، وقالوا : أنت تجمع الجمع وهؤلاء الفتية يعصون أمرك ، فأرسل إليهم الشّرط فأتوا بهم تفيض أعينهم من الدّمع ، معفورة وجوههم بالتراب ، فقال دقيانوس : ما منعكم أن تشهدوا الذبح للأصنام ، وتعبدوها وتجعلوا أنفسكم كغيركم ، إختاروا إمّا تعبدوا الأصنام مثل الناس ، وإما أن نقتلكم.

فقال مكسلمينا (١) : إن لنا إلها تملأ السموات والأرض عظمته ، لن ندعو من دونه إلها أبدا ، ولن نفعل هذا الذي تدعونا إليه ، ولكنّا نعبد الله ونسبحه ونحمده خالصا من أنفسنا ، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة ، وأما الأصنام فلا نعبدها أبدا ، إصنع بنا ما بدا لك) (٢).

وقال الضحاك : (قال أصحاب مكسلمينا كلهم لدقيانوس مثل هذه المقالة ، فقال دقيانوس : إنّي سأؤخّركم ، وأمهلكم حتى تراجعوا عقولكم ، واجعل لكم مدّة تتشاورون فيها ، فإن أبيتم طاعتي وخالفتم أمري وقعت بكم العقوبة ، وما منعني أن أعجّل قتلكم إلّا أنّي أراكم شبابا جديدا شبابكم ، فلا أحبّ أن أهلككم حتى أجعل

__________________

(١) في جامع البيان : النص (١٧٢٧٠) ؛ قال الطبري : (وهم ثمانية نفر : رئيسهم مكسلمينا ، وهم أبناء عظماء المدينة).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٢٦٩ و ١٧٢٧٠).

١٥٤

لكم مدّة تنظرون فيها ما يصلح لكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم وأمر بإخراجهم من عنده. فعمد كلّ واحد منهم إلى بيت أبيه واخذ له منه زادا ، وخرجوا هاربين فمرّوا بكلب ، فتبعهم فطردوه ثم تبعهم ، ففعلوا ذلك مرارا ، فقال لهم الكلب : ما تخشون منّي أنا أحبّ أحباب الله ، فمتى نمتم كنت أحرسكم).

وقال ابن عباس : (كانوا سبعة هربوا ليلا ، فمرّوا براع ومعه كلب ، فتبعهم على دينهم ، فوصلوا إلى كهف قريب من البلد فلبثوا فيه ، ليس لهم عمل إلّا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ، وجعلوا نفقتهم على يد واحد منهم يقال له : يمليخا ، فكان يشتري لهم متاعهم من المدينة سرّا ، وكان من أجملهم وأجلدهم ، وكان إذا أراد أن يدخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يسألون الناس ، ثم يأخذ ورقة ويشتري طعاما ، ويتجسّس الأخبار ، ويسمع هل يذكر هو وأصحابه ، ثم يعود إلى أصحابه ، فلبثوا كذلك ما لبثوا.

ثم إنّ دقيانوس الجبار شدّد على من بقي من المسلمين ، وأمرهم بالذبح للطواغيت ، وكان يمليخا حينئذ هناك متنكّرا ، فسمع بأنّ دقيانوس يطلب الفتية ويسأل عنهم ، فرجع يمليخا هاربا إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أنّ دقيانوس يسأل عنهم ، ففزعوا ووقفوا سجودا يتضرّعون إلى الله ، يتعوّذون به من فتنتهم ، وذلك عند غروب الشّمس فبينا هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ، ونفقتهم عند رؤوسهم.

فلما كان من الغد إلتمسهم دقيانوس فلم يجدهم فغضب غضبا شديدا ، وأرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم ، وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني ، فقالوا : ما ندري أين ذهبوا ، ولقد أخذوا أموالنا وهربوا ، وليس لنا في ذلك ذنب لأنّا لم نعصك فلا تعاقبنا فيهم. فخلّى سبيلهم وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية ، فبلغه الخبر أنّهم ارتفعوا الجبل فالتمسهم هناك حتى وجدوا الكهف ، فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسدّ عليهم.

١٥٥

قال دقيانوس : سدّوا باب الكهف ، ودعوهم فيه يموتون جوعا وعطشا ، وليكن كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم ، وهو يظنّ أنّهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد توفّى الله أرواحهم في النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف وقد غشيه ما غشيهم ، يقلّبون ذات اليمين وذات الشّمال ، وبقي دقيانوس ما بقي ، ثم مات وقرون بعده كثيرة وجاءت ملوك بعد ملوك).

وقيل : إنّ دقيانوس لمّا أتى إلى كهفهم يطلبهم كان كلّما أراد رجل أن يدخل عليهم الكهف أرعب ، فلم يطق الدخول ، فجعلوا يقولون لو قدرنا أن ندخل عليهم لقيناهم فلم يستطع أحد الدخول إليهم ، قال : سدّوا عليهم باب الكهف فيموتون جوعا وعطشا ، ففعلوا ذلك.

فلما مضى على ذلك قرون وأزمان جاء راعي غنم إلى الكهف بغنمه فأدركه المطر عند الكهف ، ففتح الكهف ليدخل غنمه فيه من المطر فوجدهم هناك ، فردّ الله عليهم أرواحهم ، فجلسوا فرحين مستبشرين ، وظنّوا أنّهم أصبحوا من ليلتهم ، فقاموا إلى الصّلاة فصلّوا ، لا ترى في ألوانهم ولا في أجسامهم شيء يكرهونه ، وهم يحسبون أنّ دقيانوس في طلبهم.

ثم قالوا ليمليخا : ما الذي قال الناس في شأننا بالأمس؟ فقال : سمعت أنّهم يلتمسونكم ، فقال مكسلمينا : يا إخوتاه ؛ إعلموا أنّكم ملاقو الله فلا تكفروه بعد إيمانكم إذا طلبكم غدا ، فقالوا ليمليخا : إذهب إلى المدينة استمع لنا الأخبار ، وما الذي يذكره الناس فينا عند دقيانوس.

فدخل المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق ؛ لئلّا يراه من الناس أحد يعرفه فيعلم دقيانوس ، ولم يعلم يمليخا أنّ دقيانوس وقومه قد هلكوا منذ ثلاثمائة سنة ، فرأى يمليخا على باب المدينة علامة أهل الإيمان فعجب ، وجعل ينظر يمينا وشمالا مستخفيا ، ثم ذهب إلى الباب الثاني فرأى عليه كذلك ، فخيّل إليه أنّ المدينة ليست بالتي كان يعرف.

ثم رأى أناسا كثيرا يتحدّثون لم يكن يراهم قبل ذلك ، فخيّل إليه أنه حيران ، وجعل يقول لعلّ هذه غشية ، ثم سمع الناس يتحدّثون بحديث أهل الإسلام ،

١٥٦

ويحلفون بالله ، ويذكرون عيسى بن مريم ، فقال : لعلّ هذه مدينة أخرى ، فقام كالحيران ، فرآه إنسان فسأله ما هذه المدينة؟ فقال : هذه أفسوس ، فقال : ذاهب العقل.

ثم دخل السّوق ليشتري طعاما فأخرج الورق الذي معه فأعطاها رجلا وقال : بعني بهذه طعاما ، فعجب الرجل من نقشها وضربها ، ثم أعطاها رجلا من أصحابه لينظر إليها ، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ، فقالوا : هذا أصاب كنزا من كنوز الأوّلين ، فإما أن تشاركنا فيه ، ونخفي أمرك وإلّا سلّمناك إلى السّلطان يقتلك؟

فقال في نفسه : قد وقعت في الذي كنت احذر منه ، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم ، وفزع حتى أنه ما أطاق يخبرهم بشيء ، فلمّا رأوه لا يتكلّم أشاعوا خبره ، وجعلوا يقودونه في سكك المدينة وهم يقولون : هذا رجل وجد كنزا ، فاجتمع عليه أهل المدينة فجعلوا ينظرون إليه ويتعجبون ، ويقولون : ما هذا الرجل من أهل المدينة ، وما رأيناه فيها قط ولا نعرفه؟ ولو قال لهم : أنا من هذه المدينة لم يصدّقوه ، وكان متيقّنا أنّ أباه وإخوته في المدينة ، وأنه يسألونه من جملة الناس إذا سمعوا بخبره.

ثم إنّهم انطلقوا به إلى رئيس المدينة ومدبري أمرها وهما رجلان صالحان ، اسم أحدهما آرنوس والآخر أسطوس ، وظنّ يمليخا حين مضوا به أنّهم يمضون به إلى دقيانوس ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : اللهمّ إله السماء والأرض أفرغ اليوم عليّ صبرا ، وأولج معي روحا تؤيّدني به عند هذا الجبّار.

فلما انتهوا به إلى الرّجلين الصالحين سكن خوفه ، فأخذ الرجلان الورق ، فنظرا إليه وعجبا منه ، وقالا : يا فتى أين الكنز الذي وجدته؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا ، فقال يمليخا : والله ما وجدت كنزا ، ولكن هذا ورق آبائي ، ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن لا أدري ما شأني ولا أدري ما أقول لكم.

فقال أحدهما : ممن أنت؟ فقال : أمّا أنا فكنت أرى أنّي من أهل هذه المدينة ، فقال له : من أبوك؟ ومن يعرفك بها؟ فأتاهم باسم لأبيه فلم يعرفوه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تخبر بالحقّ ، فلم يدر يمليخا ما يقول ، فقال رجل : هذا

١٥٧

مجنون ، وقال آخر : إنه ليس بمجنون يجنّن نفسه حتى تطلقوه ، ونظر اليه آخر شزرا وقال : أتظنّ أنّا نصدّقك ونطلقك؟ فإن هذه الورق لضربه أكثر من ثلاثمائة سنة ، وأنت غلام شاب وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار.

فقال يمليخا : أتعرفون شيئا أسألكم عنه؟ قالوا : سل ؛ قال : ما فعل دقيانوس ، قالوا لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملك يسمّى دقيانوس ، ولم يكن إلّا ملك قد هلك منذ زمان طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال يمليخا : والله لقد كنا فتية وإنه أكرهنا على عبادة الأوثان ، فهربنا منه عشيّة أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسّس الأخبار ، فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي.

فلما سمع أرنوس ما يقول يمليخا قال : يا قوم لعلّ هذا آية من آيات الله جعلها الله لنا على يدي هذا الفتى ، فامضوا بنا معه يرينا أصحابه. فمضوا معه ومضى جميع أهل المدينة ، فلمّا سمع الفتية الذين في الكهف الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، وقد كان أبطأ عليهم يمليخا ، ظنّوا أنه دقيانوس جاء في طلبهم ، فسبق يمليخا القوم وجاء إليهم فسألوه عن شأنه فأخبرهم بالخبر كله ، فعرفوا أنّهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزّمان كله ، وإنّما أوقضوا ؛ ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث ، وليعلموا أنّ الساعة لا ريب فيها ، فلما فرغ يمليخا من كلامه قبض الله روحه وأرواحهم ، وعمي على أولئك القوم باب الكهف فلم يهتدوا إليه (١).

قوله تعالى : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ؛) أي اذكر لقومك إذ أوى الفتية يعني الشباب ؛ (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ؛) ننجوا بها من قومنا ، (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١٠) ، أي اجعل لنا طريقا ومخرجا يوفّقنا إليك ، وارشدنا إلى ما يقرّبنا إليك.

قوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (١١) ؛ أي أنمناهم في الكهف سنين معدودة وهم أحياء يتعشّون ، (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ ؛) أي

__________________

(١) أخرج الطبري قصة أصحاب الكهف في جامع البيان : النصوص (١٧٢٦٨ ـ ١٧٢٧٣).

١٥٨

أيقظناهم من نومهم ؛ (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) ؛ أي ليعرف غيرهم أنه ليس فيهم من يعرف مقدار السّنين التي ناموا فيها ؛ والمراد بأحد الحزبين : الفتية ، والآخر ناس ذلك الزمان ، وقيل : أراد بأحد الحزبين : المؤمنين ، والحزب الآخر : الكافرين.

قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ؛) أي نبيّن لك خبرهم بالصّدق ؛ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ؛) أي شباب ؛ (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣) ؛ أي ثبّتناهم على الإيمان.

قوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا ؛) أي ألهمنا قلوبهم الصبر ، وشجّعناها حين قاموا بحضرة الكفّار ؛ يعني بين يدي دقيانوس الذي كان يفتن أهل الإيمان حتى قالوا بين يديه ؛ (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤) ؛ أي كذبا وجورا ، والمعنى إن عبدنا غير الله ودعونا معه إلها آخر ، قلنا قولا ذا شطط ؛ أي متجاوزا للحقّ في غاية البطلان.

قوله تعالى : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ ؛) أي قالوا : هؤلاء قومنا عبدوا من دون الله ؛ (آلِهَةً ؛) أي عبدوا الأصنام ؛ يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس ، وقوله تعالى : (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ؛) أي هلّا يأتون على عبادتهم لها ببرهان واضح.

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (١٥) ؛ أي فمن أظلم لنفسه ممن اختلق على الله كذبا بأن جعل معه شريكا في العبادة. وقوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ؛) أي قال بعضهم لبعض ، قيل : إن القائل بهذا يمليخا وهو رئيس أصحاب الكهف ؛ قال لأصحابه : إذ فارقتموهم وتنحّيتم عنهم جانبا ؛ أي عن عبادة الأصنام (وَما يَعْبُدُونَ ،) وهذا آخر الكلام ثم قال : (إِلَّا اللهَ ؛) يعني إلّا الله فلا تعتزلوه أي فلا تعتزلوا عبادته.

قوله تعالى : (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ؛) أي فصيروا إلى الكهف ، واجعلوه مأواكم ؛ (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ ؛) أي يبسط لكم ؛ (مِنْ رَحْمَتِهِ ؛) نعمته ؛

١٥٩

(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦) ؛ ما ترفقون به هناك في معايشكم يكون مخلّصا لكم من ظلم هؤلاء الكفّار. قال ابن عبّاس : (معناه : ويسهّل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه). يقال : فيه (مرفقا) بكسر الميم وفتح القاف ، وفتح الميم وكسر الفاء ، وكذلك في مرفق اليد.

قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ؛) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرأ أهل الكوفة (تزاور) بالتخفيف على حذف إحدى التّائين ، وقرأ أهل الشام ويعقوب (تزورّ) بوزن تحمرّ ، وكلّها بمعنى واحد أي تميل ، وفيه بيان أن الكهف الذي أووا إليه كان بابه نحو القطب الذي يقرب بباب نعش ، وكانت الشمس تطلع مزوارة على باب الكهف عند الطلوع وعند الغروب.

قوله تعالى : (ذاتَ الْيَمِينِ ؛) أي ناحية اليمين ، قوله تعالى : (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ؛) أي تعدل عنهم. قال الكلبيّ : (إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات يمين الكهف ، وإذا غربت تمرّ بهم ذات الشّمال يعني شمال الكهف لا تصيبه ، وكان كهفهم في أرض الرّوم ، أعلم الله أنّه يميل عنهم الشّمس طالعة وغاربة ، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتغيّر ألوانهم).

قوله تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ؛) أي في متّسع من الكهف ، هيّأ الله لهم مكانا واسعا لا يصيبهم فيه حرّ ولا سموم ، ولا يتغير لهم ثوب ولا لون ولا رائحة ، ولكن كان ينالهم فيه نسيم الرّيح وبردها. قوله تعالى : (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) القرض من قولهم : قرضته بالمقراض ؛ إذا قطعته ، كأنه قال : تقطعهم ذات الشمال. وقيل : تعطيهم اليسير من شعاعها عند الغروب ، كأنه شبّهه بقرض الدراهم التي تعطى ثم تستردّ.

قوله تعالى : (ذلِكَ ؛) أي إبقاؤهم طول السنين التي ذكرها الله نياما لا يستطيعون يستيقظون من دون طعام ولا شراب ، (مِنْ آياتِ اللهِ.) وقوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧) ظاهر المعنى.

١٦٠