التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

قوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (١٠٩) ؛ أي ما أدري متى توعدون به من العذاب.

قوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) (١١٠) معناه : إن الله يعلم ما تعلنون به من القول ، ويعلم ما تكتمون من سرّكم ، لا يغيب من علمه شيء منكم. قوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ ؛) أي وما أدري لعلّ تأخير العذاب اختبار لكم ؛ ليرى كيف صنعكم ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١١١) ؛ آجالكم ؛ أي تمتّعون إلى انقضاء آجالكم.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ؛) أي قل لهم يا محمّد : رب احكم بعذاب أهل مكّة الذي هو حقّ نازل بهم ، والحقّ : ها هنا هو العذاب ، كأنه استعجل العذاب لقومه ، فعذّبوا يوم بدر. قال قتادة : (كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا شهد قتالا قال : [رب احكم بالحقّ]) (١) ، قال الكلبيّ : (فحكم عليهم بالقتل يوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، ويوم الخندق). والمعنى : أفضل بيني وبين المشركين بما يظهر به من الحقّ للجميع.

وقرأ حفص : (قل رب احكم بالحقّ) على الخبر ؛ أي قال الرسول ذلك. وقرأ الضحّاك ويعقوب : (قيل رب احكم بالحقّ) بإثبات الياء على وجه الخبر ؛ أي هو أحكم الحاكمين ، وكيف يجوز أن يسأله أن يحكم بالحقّ ، وهو لا يحكم إلّا به.

قوله تعالى : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢) ؛ أي على كذبكم وباطلكم وقولكم : ما هذا إلّا بشر مثلكم ، وقولكم : اتّخذ الرحمن ولدا. والوصف بمعنى المكذب كقوله تعالى (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ)(٢) ، وقوله (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)(٣).

آخر تفسير سورة (الأنبياء) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٨٢٦). وعبد الرزاق في التفسير : ج ٢ ص ٣٩٥. وفي الدر المنثور : ج ٥ ص ٦٨٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة).

(٢) الأنعام / ١٣٩.

(٣) الأنبياء / ١٨.

٣٢١

سورة الحجّ

سورة الحجّ مكّيّة إلّا الآيات : قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) إلى آخر الآيتين ، وقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) إلى آخر الآيتين ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) إلى آخر هذه السّورة ، فهذه الآيات مدنيّات ، وكلّ شيء في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدنيّ ، وكلّ شيء فيه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكّيّ وفيه مدنيّ ، ولا يوجد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا مدنيّا فقط ، هكذا روي عن ابن عبّاس.

وعدد آيات السّورة ثمان وتسعون آية ، وخمسة آلاف وخمسة وتسعون حرفا ، ومائتان وإحدى وتسعون كلمة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) ؛ قال ابن عبّاس : (يريد يا أهل مكّة اتّقوا ربّكم ، واحذروا عقابه إنّ زلزلة قيام السّاعة شيء عظيم) أي هول عظيم ، لا يوصف لفظه ، والزّلزلة : شدّة الحركة مع الحال الهائلة.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ؛) أي يوم ترون تلك الزّلزلة تذهل في ذلك اليوم كلّ مرضعة عمّا أرضعت ؛ أي تنسى. وقيل : تشتغل ، وقيل : تترك ، يقال : ذهلت عن كذا إذا تركته. وقيل : معنى الآية : يوم ترون الزلزلة تشتغل كلّ مرضعة عن ولدها بغير فطام ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ،) وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وهذا إنّما يكون على وجه التّشبيه ، والمعنى : أن لو كانت ثمّ مرضعة لذهلت عن ولدها ، وحامل لوضعت حملها.

٣٢٢

قوله تعالى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ؛) أي من شدّة الفزع والخوف من عذاب الله يتحيّرون كأنّهم سكارى ، (وَما هُمْ بِسُكارى ؛) من الشّراب ، (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢) والمعنى : ترى الناس كأنّهم سكارى من ذهول عقولهم لشدّة ما يمر بهم فيضطربون اضطراب السّكران ، وسكارى جمع سكران. وقرأ أهل الكوفة (سكري وسكرى) بغير ألف. قال الفرّاء : (هو وجه جيّد في العربيّة ؛ لأنّه بمنزلة الهلكى والجرحى والمرضى) (١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم : يا آدم ؛ قم فابعث بعث النّار. فيقول : لبّيك وسعديك ؛ وما بعث النّار؟ فيقول : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النّار ، وواحد إلى الجنّة. فعند ذلك يشيب الصّغير ، وتضع الحامل ما في بطنها ، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى].

قالوا : يا رسول الله! أيّنا ذلك الرّجل الّذي يبقى؟ قال : [أبشروا ؛ إنّي لأرجو أن يكون من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد] ثمّ قال : [إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة] فكبّرنا وحمدنا ، ثمّ قال : [إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة] فكبّرنا وحمدنا (٢) ، ثمّ قال : [إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة ، وأهل الجنّة مائة وعشرون صفّا ، ثمانون منها أمّتي](٣) ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا بغير حساب ، مع كلّ واحد سبعون ألفا] فقال عكاشة بن محيص : أدع الله أن يجعلني منهم ، فقال : [أنت منهم] فقام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم ، فقال : [سبقك بها عكاشة](٤).

__________________

(١) معاني القرآن : ج ٢ ص ٢١٤.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب التفسير : باب وَتَرَى النَّاسَ سُكارى : الحديث (٤٧٤١).

(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٥ ص ٣٤٧. والطبراني في الأوسط : الحديث (٥٤٣). وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٤٠٣ ؛ قال الهيثمي : (هو في الصحيح باختصار رواه أحمد والبزار والطبراني في الثلاثة ورجالهم رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وقد وثق).

(٤) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الإيمان : باب موالاة المؤمنين : الحديث (٣٦٧ / ٢١٦ و ٣٧١ / ٢١٨ و ٣٧٢ / ٢١٨).

٣٢٣

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛) قال ابن عبّاس : (نزلت في النّضر بن الحارث ؛ كان يكذّب بالقرآن ويزعم أنّه من أساطير الأوّلين ، وكان كثير الجدل ، ويقول : الملائكة بنات الله ، ويزعم أنّ الله غير قادر على إحياء الموتى). والمعنى : ومن الناس من يخاصم في دين الله بغير علم ولا حجّة ، (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) (٣) ؛ أي متمرّد على الله. قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ؛) أي كتب عليه الشيطان إضلال من تولّاه ؛ (وَيَهْدِيهِ) وهدايته إياه (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤) ؛ وقيل : الهاء في قوله (كتب عليه) راجعة إلى من يتّبع الشيطان فيتقبّل منه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ؛) معناه : يا أهل مكة إن كنتم في شكّ من البعث بعد الموت ، فتفكّروا في ابتداء خلقكم فإنّ إعادتكم ليست بأشدّ من أوّل خلقكم ، ثم بيّن ابتداء خلقهم فقال : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلقنا أباكم آدم ، ثم صوّرناه لحما ودما.

قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ؛) أي ثم جعلناكم بعد ذلك من النّطفة التي تكون من الذكر والأنثى ، (ثُمَ) خلقنا (مِنَ) تلك النطفة ؛ (عَلَقَةٍ ؛) وهي قطعة من الدم (ثُمَّ ؛) جعلنا العلقة (مِنْ مُضْغَةٍ ؛) وهي القطعة من اللّحم ، تسمّى مضغة ؛ لأنّها مقدار ما يمضغ من اللّحم.

قوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ؛) أي تامّة الخلق وغير تامة الخلق ، وقيل : مصوّرة وغير مصوّرة ، وهي السّقط. قال عبد الله بن مسعود : [إذا وقعت النّطفة في الرّحم ؛ بعث الله ملكا يأخذها بكفّه فيقول : يا رب مخلّقة أو غير مخلّقة؟ فإن قال : غير مخلّقة ؛ مجّتها الأرحام دما ، وإن قال : مخلّقة ، قال : يا رب أذكر أم أنثى؟ وما رزقها وما أجلها؟ وشقيّ أم سعيد؟ وبأيّ أرض تموت؟

فيقال له : اذهب إلى أمّ الكتاب فإنّك تجد ذلك ، فاستنسخ منه صفة هذه النّطفة ، فينطلق فيستنسخها. فتخلق فتعيش في أجلها ، وتأكل رزقها ، حتّى إذا جاء أجلها ماتت ، فتذهب إلى المكان الّذي كتب لها](١).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٨٨٤٥).

٣٢٤

قوله تعالى : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ؛) أي لنبيّن لكم كمال قدرتنا وحكمنا في تصريفنا في الخلق.

وقوله تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛) أي ونترك في الأرحام ما نشاء من الولد إلى وقت التّمام ولا نسقطه. وروي عن عاصم : (ونقرّ) بالنصب على العطف ، وقراءة الباقين بالرفع على معنى : ونحن نقرّ. قوله تعالى : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ؛) أي ثم نخرجكم من الأرحام طفلا صغارا ، وإنّما لم يقل أطفالا لأنه لم يخرجهم من أمّ واحدة ، ولكن يخرجهم من أمّهات شتّى ، كأنه قال : ثم نخرج كلّ واحد منكم طفلا.

قوله تعالى : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ؛) أي ثم لنعمّركم لتبلغوا أشدّكم بمعنى الكمال والقوة ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ؛) قبل بلوغ الأشدّ ، (وَمِنْكُمْ مَنْ ؛) يعمّر حتى (يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ؛) أي هوانه وأخسّه وهو الهرم والخرف. قوله تعالى : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ؛) أي لكيلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ؛) هذه دلالة أخرى تدلهم على إحياء الموتى بإحياء الأرض الميتة ، والهامدة : هي اليابسة الجافّة ، كأنه قال : وترى الأرض يابسة جافّة ذات تراب كالنار إذا اطفئت ورمدت ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ ؛) أي على الأرض ، (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ؛) أي تحرّكت بالنبات ، وازدادت وأضعفت النبات ، وذلك أن الأرض ترتفع على النبات ، فذلك تحريكها ، وهو معنى قوله (وربت) أي ارتفعت وزادت وانتفخت للنبات ، من ربا يربو إذا ازداد.

قوله تعالى : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥) ؛ أي وأخرجت أكما من كلّ لون حسن البهجة ، ومن كلّ صنف مؤنق العين ، والبهيج الحسن. قال الله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ)(١).

__________________

(١) النمل / ٦٠

٣٢٥

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ؛) أي ذلك الذي وصفناه من تعريف الخلق على هذه الأحوال في إحياء الأرض الميتة ؛ لتعلموا وتقرّوا بأنّ الله هو المستحقّ لصفات التعظيم ، وهو الإله الواحد الذي يقدر على كلّ شيء.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي ويدلّكم على أنه يحيي الموتى كما أحياكم ابتداء ، (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) ، وبأنه على كلّ شيء من الإيجاد والإعدام قدير ، ويدلّكم (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧) ؛ للحسنات والجزاء.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٨) ؛ نزلت في النّضر بن الحارث أيضا ، وقيل : نزلت في أبي جهل ، ومعناه : يجادل ليحقّ الباطل ، ويبطل ما دلّ عليه الدليل بغير معرفة ودليل ولا كتاب منير فيه حجّة ما يقول.

قوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ ؛) أي لاوي عنقه متكبرا معرضا عن ما يدعى إليه كبرا ، وهو منصوب على الحال ، والمعنى : ومن النّاس من يجادل في الله متكبرا شامخا بأنفه ، (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ؛) أي عن دين الله وطاعته.

وقوله تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ؛) أي عقوبة بالمذمّة والقتل ، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) (٩) ؛ أي عذاب النار ، فقتل النّضر بن الحارث يوم بدر أسيرا ، ومن قال : نزلت في أبي جهل فهو قتل أيضا يوم بدر.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ؛) مبالغة في إضافة الخزي إليه ، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠) ؛ ظاهر المعنى ، فإن قيل : لم قال الله تعالى : (بِظَلَّامٍ) على صفة المبالغة وهو لا يظلم مثقال ذرّة؟ فقيل : تعالى إنه لو فعل أقلّ قليل الظّلم ، لكان عظيما منه.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ؛) قال ابن عبّاس : (نزلت هذه الآيات في أناس من بني أسد بن خزيمة ، أصابتهم سنة شديدة فأجدبوا فيها ، فمضوا بعيالهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة مهاجرين ، فكانوا إذا أعطوا من

٣٢٦

الصّدقة ، وأصابوا خيرا اطمأنّوا بذلك وفرحوا به ، وإن أصابهم وجع وآفة ، وولدت نساؤهم البنات ، وتأخّرت عنهم الصّدقة ، قالوا : ما أصابنا مذ كنّا على هذا الدّين إلّا شرّ ، فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة) (١).

ومعنى الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) اي على ضعف في العبادة ، لضعف القيام على الأحرف لا يدخل في الدّين على ثبات وتمكّن. وقيل : معناه : على شكّ كأنه قائم على حرف جدار وطرف جبل ، لا يدخل في الدّين على ثبات ويقين وطمأنينة ، فهو كالمضطرب على شفا جرف ، (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ ؛) رخاء وعافية وسعة ، (اطْمَأَنَّ بِهِ) على عبادة الله بذلك الخير ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ ؛) أي محنة تضييق العيش ونحو ذلك ، (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ؛) أي رجع إلى دينه الأوّل وهو الشّرك بالله. قوله تعالى : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ؛) أي خسر في الدّنيا العزّ والغنيمة ، وفي الآخرة الجنّة ، (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١١) ؛ أي الظاهر. قرأ الأعرج ويعقوب : (انقلب على وجهه خاسرا الدّنيا والآخرة) بالألف (والآخرة) بالخفض ، ونصب (خاسر) على الحال (٢).

قوله تعالى : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ؛) أي يعبد من دون الله ما لا يضرّه إن ترك عبادته ، ولا ينفعه إن عبده ، (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٢) ؛ عن الحقّ والرّشد ، (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ؛) أي يدعو ما لا نفع له أصلا ، ومن عادة العرب أنهم يقولون لشيء لا منفعة فيه : لضرره أكثر من نفعه ، كما يقولون لشيء لا يكون أصلا : هذا بعيد. قوله تعالى : (لَبِئْسَ الْمَوْلى ؛) أي بئس الناصر ، وقوله تعالى : (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣) ؛ أي بئس الصاحب والمعاشر ، يعني الصنم.

واختلفوا في اللّام في قوله (لمن ضرّه) : قيل معناه التأخير كأنه قال : يدعو من والله لضرّه أقرب من نفعه ، وإنّما قدمت اللام للتأكيد ، ونظير هذا قولهم : عندي لما غيره خير منه ، معناه : عندي ما لغيره خير منه. وقيل (لمن ضرّه) كلام مبتدأ وخبره

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٨٦٣). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٣٧٩٧).

(٢) ينظر : جامع البيان : ج ١٠ ص ١٦٣.

٣٢٧

(لبئس المولى ولبئس العشير) ، ويكون المعنى الذي هو الضلال البعيد يدعوه ، فهذا حدّ الكلام وما بعده كلام مستأنف. وقيل : هذه اللام صلة ؛ أي يدعو من ضرّه أقرب من نفعه (١).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ؛) ظاهر المعنى ، (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١٤) ؛ بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة ، وبأهل معصيته من الهوان.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ؛) الآية ، معناه : من كان يظنّ أن لن ينصر الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليطلب سببا يصل به إلى السماء ، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ ؛) نصرة الله لنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ؛) أي يتهيّأ له الوصول إلى السّماء بحيلة ، فكما لا يمكنه أن يحتال في الوصول إلى السّماء ، كذا لا يمكنه الحيلة في قطع نصر الله تعالى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : معناه : من كان يظنّ أن لن ينصر الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يظهر على الدّين ، فليمت غيظا. وقيل : إن الهاء راجعة إلى (من كان يظنّ) كأنه قال : من كان يظنّ أن لن يرزقه الله فليمدد بحبل إلى سقف بيته وأضفى ذلك على حلقه مخنقا نفسه ليذهب غيظ نفسه.

وهذا مثل ضرب لهذا الجاهل ؛ أي مثل هذا الذي يظنّ أن لن يرزقه الله على سبيل السّخط مثل من فعل هذا الفعل بنفسه ، هل كان ذلك إلا زائدا في ثلاثة؟ وهل تذهب حقيقة نفسه غيظه في رزقه؟ وإنّما ذكر النّصرة بمعنى الرّزق ؛ لأن العرب تقول : من ينصرني نصره الله ؛ أي من يعطيني أعطاه الله. قوله تعالى : (ما يَغِيظُ) (١٥) ؛ (ما) بمعنى المصدر ؛ أي هل يذهبنّ كيده وحيلته غيظه.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ ؛) أي وكذلك أنزلنا القرآن على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلالات واضحات ، (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي ؛) إلى النبوّة ، (مَنْ يُرِيدُ) (١٦) ؛ وقيل : يهدي إلى الدّين وإلى الثواب.

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٦٣.

٣٢٨

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ؛) أي إنّ الذين آمنوا بمحمّد والقرآن وجميع أصناف الكفّار من اليهود ، (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ؛) بين هؤلاء الفرق الخمس وبين المؤمنين ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) بأن يدخل المؤمنين الجنّة ، وتلك الفرق النار ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١٧) ؛ أي عليم بكلّ شيء من أعمال هؤلاء.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ؛) أي ألم تعلم يا محمّد أنّ الله يسجد له أهل السّموات من الملائكة ، (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ؛) من الجنّ والإنس من المؤمنين.

قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ؛) يسجدون لله ؛ أي يخضعون ؛ لأنّ سجود هذه الأشياء خضوعها وانقيادها لخالقها فيما يريد منها. وقال أبو العالية : (ما في السّماء نجم ولا شمس ولا قمر إلّا وهو يسجد لله حين يغيب ، ثمّ لا ينصرف حتّى يؤذن له) (١).

قوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ؛) أي وكثير من الكفّار الذين سيؤمنون من بعد ، وانقطع ذكر الساجدين ثم استثناه فقال : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ؛) أي ممّن لا يوحّده وأبى السجود ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ؛) أي من يهن الله بالشّقاء ، فما أحد يكرمه بالسعادة ، (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨) ؛ من الإهانة والكرامة والشّقاوة والسعادة ، وهو المالك للعقوبة والمثوبة.

قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ؛) أراد بالخصمين المؤمنين والكفار ، وقيل : أهل الكتاب وأهل القرآن ، والمعنى : اختصموا في دين ربهم ، فقالت اليهود والنصارى : نحن أولى بالله منكم ؛ لأنّ نبيّنا قبل نبيّكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، وقال المسلمون : نحن أحقّ بالله منكم ، آمنّا بكتابنا وكتابكم ونبيّنا ونبيّكم ، وأنتم كفرتم بنبيّنا حسدا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٨٨٢).

٣٢٩

وقيل : أراد بالخصمين الفريقين الذين تبارزوا يوم بدر. والخصم يقع على الواحد والجميع ، ألا ترى أنه جعل الكفار خصما ، والمؤمنين خصما ، ولهذا قال (اخْتَصَمُوا) ؛ لأنّهما جمعان وليس برجلين. وكان أبو ذرّ رضي الله عنه يقسم أنّ هذه الآية نزلت في ستّة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر بثلاثة من المؤمنين وهم : (حمزة ؛ وعليّ ؛ وعبيدة بن الحارث) وثلاثة من المشركين وهم : (عتبة ؛ وشيبة ؛ والوليد بن عتبة) ، قال : وقال عليّ رضي الله عنه : (إنّي لأوّل من يبعث للخصومة يوم القيامة بين يدي الله عزوجل) (١).

قوله تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ؛) أي نحاس قد أذيب في النار فيجعل على أبدانهم بمنزلة الثياب ، وليس شيء إذا حمي أشدّ حرّا من النّحاس ، (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١٩) ؛ وهو الماء الحارّ الذي قد انتهى حرّه ، قوله تعالى : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) (٢٠) ؛ أي يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رؤوسهم ما في بطونهم من الشّحوم حتى يخرج من أدبارهم ، وتذاب به الجلود أيضا ، فإن جلودهم تتساقط من حرّ الحميم. والصّهر الإذابة ، يقال : صهرت الإلية بالنّار أصهرها ؛ أي أذبتها.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١) ؛ المقامع جمع مقمعة ؛ وهي مدقّة الرّأس. روي أنّ الملائكة يضربون وجوههم بأعمدة من حديد ، فيهوون في النّار سبعين خريفا. قال مقاتل : (تضرب الملائكة رأس الكافر بالمقمعة فينقب رأسه ، ثمّ يصبّ فيه الحميم الّذي انتهى حرّه ، فينفذ الجمجمة حتّى يخلص إلى جوف الكافر ، فيسلت ما في جوفه من الأمعاء حتّى يحرق قدميه) (٢).

قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها ؛) أي كلما رفعتهم النار بلهبها فحاولوا الخروج منها في غمّ العذاب أعيدوا في النار بضرب المقامع ، وقيل لهم : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢) ؛ أي المحرق مثل الأليم بمعنى المؤلم. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قوله تعالى (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٨٨٥). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٣٨١٦). والأثر رواه البخاري في الصحيح : كتاب التفسير : باب (هذانِ خَصْمانِ :) الحديث (٤٧٤٣).

(٢) في تفسير مقاتل : ج ٢ ص ٣٨٠.

٣٣٠

قال : [لو وضع مقمع من حديد على الأرض ، ثمّ اجتمع عليه الثّقلان ما رفعوه من الأرض](١).

ثم ذكر الله الخصم الآخر فقال : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ؛) قد تقدّم تفسيره في سورة الكهف.

قرأ أهل المدينة وعاصم : (وَلُؤْلُؤاً) بالنصب على معنى (يحلّون فيها لؤلؤا) ، ومن قرأ بالخفض كان المعنى (يحلّون فيها من أساور من لؤلؤ).

وقوله تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٢٣) ؛ ظاهر المراد. قال أبو سعيد الخدريّ : [من لبس الحرير في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإن دخل الجنّة لبسه أهل الجنّة ولم يلبسه هو](٢).

قوله تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ؛) أي هدوا في الدّنيا إلى القول الطيّب ، وهو قول لا إله إلّا الله ، وقيل : إلى القرآن. قوله تعالى : (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤) ؛ فالله الحميد ، والصّراط : طريق الجنّة. والمعنى : أرشدوا إلى الإسلام. ويجوز أن يكون (الْحَمِيدِ) نعتا للصراط كما في قوله تعالى (حَقُّ الْيَقِينِ)(٣). وقيل : معنى الآية : وأرشدوا إلى القول الطيّب في الآخرة مثل قول الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ)(٤).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ؛) معناه : إنّ الذين كفروا بمحمّد والقرآن (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عطف المضارع على المضاف ؛ لأن المراد بالمضارع الماضي أيضا. ويجوز أن يكون المعنى الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدّون عن سبيل الله مع كفرهم ، والمعنى : يمنعون الناس عن طاعة الله وعن

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب الأهوال : باب أول شافع : الحديث (٨٨٠٩) ؛ وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده : ج ٣ ص ٢٣ مرفوعا. وابن حبان في السنن : الحديث (٥٤٣٧). والحاكم في المستدرك : كتاب اللباس : الحديث (٧٤٨) وصححه.

(٣) الواقعة / ٩٥.

(٤) الزمر / ٧٤.

٣٣١

الطّواف في (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ؛) وهم أبو سفيان وأصحابه الذين صدّوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية.

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ؛) معناه : الذي جعلناه للناس كلّهم ، لم يخصّ به بعضهم دون بعض سوى المقيم فيه ، والذي يأتي من غير أهله ، وليس الذين صدّوا عنه بأحقّ به من غيرهم.

قيل : المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الحرم كلّه ، كما في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١) وكان العهد بالحديبية. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ مكّة لا يحلّ بيع رباعها ولا إجارة بيوتها](٢). وقيل : إن المراد بالمسجد الحرام نفس المسجد سوى المعتكف فيه. المجاور والبادي الذي يكون ملازما له في حرمته وحقّ الله عليهما فيه سواء.

قرأ حفص : (سَواءً) بالنصب بإيقاع الجعل عليه ، لأن الجعل يتعدّى إلى مفعولين. وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء ، وما بعده خبره. وقيل : (سواء) خبر مبتدأ متقدّم تقديره : العاكف فيه والبادي سواء (٣).

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥) ؛ معناه : ومن يرد فيه إلحادا بظلم ، وفي هذا دليل أن المراد بالمسجد الحرام كلّ الحرم ، فإن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره ، فعلى هذا يكون قوله (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي سواء في النّزول ، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل يكون فيه. وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وإجارتها في أيام الموسم.

__________________

(١) التوبة / ٧.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١ ص ٣٣ ؛ قال القرطبي : (كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه ، والصحيح أنه موقوف ، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذكره). والحديث أخرجه الدارقطني في السنن : ج ٣ ص ٥٨ : الرقم (٢٢٣ ـ ٢٢٧).

(٣) ينظر : جامع البيان : ج ١٠ ص ١٨١.

٣٣٢

قال عبد الله بن أسباط : (كان الحجّاج إذا قدموا مكّة لم يكن أحد من أهل مكّة أحقّ بمنزله منهم) (١) ، روي : (أنّها كانت تدعى السّوائب في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن) (٢).

والإلحاد هو الشّرك بالله تعالى ، وقيل : كلّ ظالم فيه فهو ملحد. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [احتكار الطّعام بمكّة إلحاد](٣). وأمّا دخول الباء في قوله : (بِإِلْحادٍ) فعلى معنى : ومن إرادته فيه بأن يلحد بظلم. وقيل : الإلحاد دخول مكة بغير إحرام ، وأخذ حمام مكّة وأشياء كثيرة لا يجوز للمحرم أن يفعلها. قوله تعالى : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) خبر لكل ما تقدّم من الجملتين من قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) ، ومن قوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ).

قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ؛) معناه : واذكروا إذ جعلنا البيت مثوى لإبراهيم ومنزلا. قال الحسن : (بوّأناه نزّلناه) ، وقال مقاتل : (دللناه عليه) (٤) ، وقيل : هيّأنا ، نظيره (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ)(٥) ، (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ)(٦) ، (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً)(٧) ، وقيل : معنى (بَوَّأْنا) أي بيّنّا له مكان البيت.

قال السديّ : (لمّا أمر الله تعالى ببناء البيت لم يدر إبراهيم أين يبني ، فبعث الله إليه ريحا ، فكشفت له ما حول الكعبة عن الأساس الأوّل الّذي كان البيت عليه قبل أن يرفع أيّام الطّوفان) (٨) ، وقال الكلبيّ : (فبعث الله إليه سحابة على قدر البيت

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٩٠٥).

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٢٦ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة عن علقمة بن نضلة).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ٢٤٨٤ الرقم (١٣٨٦٥). والبيهقي في شعب الإيمان : الحديث (١١٢٢١) كلاهما عن ابن عمر.

(٤) في تفسير مقاتل : ج ٢ ص ٣٨١.

(٥) آل عمران / ١٢١.

(٦) الأعراف / ٧٤.

(٧) العنكبوت / ٥٨.

(٨) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٨٢٩). وابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ٢٤٢٦.

٣٣٣

فيها رأس يتكلّم فقامت بحيال البيت ، وقالت : يا إبراهيم إبن على قدري) ، قوله تعالى : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) أي قلنا له وأوحينا إليه أن لا تعبد معي غيري.

قوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٦) أي طهّر من ذبائح المشركين ، ومما كانوا يطرحون حوله من الدّم والفرث ، وقيل : طهّره من عبادة الأوثان ، ومن دخول المشركين فيه. قوله تعالى : (لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون حوله ، وأما القائمون الرّكّع السّجود فهم المصلّون.

قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ؛) أي وعهدنا إلى إبراهيم أيضا أن أذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا ، فقال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال : عليك الأذان وعليّ البلاغ ، فصعد أبا قبيس ، ونادى في الناس : ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتا ، وأمركم أن تحجّوه فحجّوه ، فاسمع الله نداءه جميع من في أصلاب الرجال وأرحام النّساء ، وما بين المشرق والمغرب ، والبرّ والبحر ، فلبّاه كلّ حجر ومدر ، وكلّ مؤمن ومؤمنة في أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات ، قالوا : لبّيك اللهمّ لبّيك ، فجعل الله التلبية شعارا للحجّ ، فكلّ من حجّ فهو ممن أجاب إبراهيم عليه‌السلام.

قوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ ؛) معناه : يأتوك مشاة على أرجلهم وعلى كلّ جمل مهزول أضمره السفر ، ورجال جمع راجل ، نحو صاحب وأصحاب. وعن ابن عبّاس أنه قال : (ما ندمت على شيء فاتني إلّا أنّي لم أحجّ راجلا) (١) ، وقد حجّ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما خمسا وعشرين حجّة ماشيا من المدينة إلى مكّة ، وأن النّجائب لتقاد معه.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال للحجّاج : [للرّاكب كلّ خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة ، وللحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم] قيل : وما حسنات الحرم؟ قال : [الحسنة بمائة ألف](٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٩٤٩). وابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ٢٤٨٨.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٢٦٩٦). والحاكم في المستدرك : كتاب المناسك : الحديث (١٧٣٥). وفي مجمع الزوائد : ج ٣ ص ٢٠٩ ؛ قال الهيثمي : (رواه البزار والطبراني في الأوسط

٣٣٤

قوله تعالى : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧) ؛ أي من بلدان شتّى ، من كلّ طريق بعيد ، يقال عميقة إذا كانت بعيدة القرار. وإنّما قال (يَأْتِينَ) ؛ لأنه في معنى الجمع ، وقيل : معناه : وعلى ناقة ضامرة.

وعن بشر بن محمّد قال : رأيت في الطّواف كهلا قد أجهدته العبادة ، واصفرّ لونه ، وبيده عصا وهو يطوف معتمدا عليها ، فتقدّمت إليه لأسأله ، فقال لي : من أين أنت؟ فقلت : من خراسان ، قال : من أيّ ناحية هي؟ قلت : من نواحي المشرق ، فقال لي : في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت : شهرين أو ثلاثة ، قال : أفلا تحجّون في كلّ عام وأنتم جيران البيت؟ قلت : وأنتم كم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال : مسيرة خمس سنين ، فقلت : والله إن هذا الجهد لبيّن ، والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة ، فضحك في وجهي وأنشأ يقول :

زر من هويت وإن شاطت بك الدار

وحال من زرته حجب وأستار

لا يمنعنّك بعدا من زيارته

إنّ المحبّ لمن يهواه زوّار

وقوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ؛) أي ليشهدوا ما ندبهم الله إليه مما لهم فيه نفع آخرتهم ، ويدخل في ذلك منافع الدّنيا من التجارة بيعا ورخصة. قال ابن جبير : (يعني بالمنافع التّجارة) ، وقال مجاهد : (هي التّجارة وما يرضي الله من أمر الدّنيا والآخرة) (١).

وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول إذا وقف بعرفة : (اللهمّ إنّك دعوت إلى حجّ بيتك ، وذكرت المنفعة على شهود مناسكك ، وقد جئتك فاجعل منفعة ما تنفعني به أن تؤتيني في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وأن تقيني عذاب النّار).

قوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ؛) قال الحسن : (الأيّام المعلومات العشر ، والأيّام المعدودات

__________________

ـ والكبير بنحوه وفيه قصة. وله عند البزار إسنادان أحدهما فيه كذاب والآخر فيه إسماعيل بن إبراهيم عن سعيد بن جبير ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات).

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٩٥٦).

٣٣٥

أيّام التّشريق) ، وإنّما قال لها معدودات ؛ لأنّها قليلة ، وقيل لتلك المعلومات الحرص على علمنا بحسابها من أجل وقف الحجّ في آخرها ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.

وقال أبو يوسف : (الأيّام المعلومات أيّام النّحر وهي ثلاثة أيّام ، والأيّام المعدودات أيّام التّشريق وهي ثلاثة بعد اليوم الأوّل من أيّام النّحر ، فيكون اليوم الأوّل من أيّام النّحر من المعلومات دون المعدودات ، واليوم الآخر من أيّام التّشريق من المعدودات دون المعلومات ، ويومين من وسطها من المعلومات والمعدودات جميعا) ، وكان يستدلّ على هذا القول في الأيّام بهذه الآية ، فإنه تعالى قال : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، فاقتضى ظاهره أن المراد التسمية على ما ذبح من بهيمة بالمتعة والقران.

وأما على قول أبي حنيفة ، فالمراد بالذّكر إكثار الذّكر في أيام العشر ، كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [ما من أيّام العمل الصّالح أفضل فيهنّ من أيّام التّشريق ، فأكثروا فيها من التّحميد والتّكبير والتّهليل](١).

وعلى هذا يكون معنى (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) لما رزقتهم من بهيمة الأنعام ، كما قال (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ)(٢) أي لما هداكم ، وقال محمّد بن كعب : (المعلومات والمعدودات واحد). قوله تعالى : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني الهدايا والضّحايا من الإبل والبقر والغنم.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨) ؛ قال الحسن : (وذلك أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ذبحوا لطّخوا وجه الكعبة ، وشرّحوا اللّحم فوضعوه على الحجارة حتّى تأكله السّباع والطّير ، وقالوا : لا يحلّ لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله.

فلمّا جاء الإسلام قال النّاس : يا رسول الله كنّا نضعه في الجاهليّة ألا نضعه الآن؟ فنزلت هذه الآية). (فَكُلُوا مِنْها) يعني الأنعام التي تنحرون ، (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ)

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ١٣١ بهذا اللفظ. للحديث ألفاظ أخرى عند البخاري والترمذي وأبو داود وابن ماجة والطبراني والبيهقي وغيرهم.

(٢) البقرة / ١٨٥.

٣٣٦

وهو الذي قد أصابه ضرر الجوع ، و (الْفَقِيرَ) الذي لا شيء له. وقيل : البائس الذي بيّن عليه أثر البؤس بأن يمدّ يده إليك. وقيل : البائس الزّمن. وإنّما خصّص البائس الفقير ؛ لأنه أحوج من غيره.

قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ؛) قال ابن عباس : (التّفث هو المناسك كلّها) (١) ، والمراد ها هنا رمي الجمار والحلق ، ويقال : قضاء التّفث إزالة الشّعث ، وفي هذا دليل على أن المراد بقوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) دم المتعة والقران ؛ لأن الله تعالى رتّب عليه قضاء التّفث والطواف بالبيت الحرام ، لا دم ترتّب على هذه الأفعال إلّا دم المتعة والقران ، فذكر هذه الآية في جواز الأكل مما يذبح. وقيل : التّفث هو الوسخ والقذر من طول الشّعر والأظفار ، وقضاؤه وإذهابه وإزالته.

قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ؛) يعني نحر ما نذروا من البدن ، وقيل : يعني ما نذروا من أعمال البرّ في أيام الحجّ ، وربّما نذر الرجل أن يتصدّق إن رزقه الله لقاء الكعبة. قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩) ؛ يعني طواف الزّيارة بعد التروية ، أما يوم النّحر وما بعده فيسمّى طواف الإفاضة. والعتيق القديم ؛ لأنه أول بيت وضع للناس. وقيل : [أعتق من أيدي الجبابرة ، فلا يظهر عليه جبّار قط إلّا أذلّه الله](٢). وعن ابن عبّاس قال : حجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا أتى وادي عسفان قال : [لقد مرّ بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات حمر خطمهنّ اللّيف ، يحجّون البيت العتيق](٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٩٨٣). وابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ١٣٨٩٩.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٨٩٩٤). عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وذكره. وأخرجه الترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٣١٧٠) ، وقال : هذا حديث حسن غريب. والحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٥١٦) ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.

(٣) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٢٣٢.

٣٣٧

قوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ؛) أي ذلك الذي أمرتم به ، ومن يعظّم حرمات الله باجتناب ما حرّم الله تعظيما لله فهو خير له في الآخرة من ترك استعظامه. وقال بعضهم : الحرمات ها هنا البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمسجد الحرام. قوله تعالى : (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي قال : المعظّم خير له عند ربه من التّهاون ، يعني في الآخرة.

قوله تعالى : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ ؛) أي رخّصت لكم بهيمة الأنعام أن تأكلوها ، (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ؛) في كتاب الله من الميتة والدم وغير ذلك مما بيّنه الله في سورة المائدة من المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة ومما لم يذكر اسم الله عليه. وقيل : معناه : وأحلّت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم إلّا ما يتلى عليكم من الصّيد ، فإنه حرام في حال الإحرام.

قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ؛) أي فاجتنبوا عبادتها وتعظيمها وأن تذبحوا لها ، كما يفعل المشركون ، سمّاها رجسا استقذارا لها واستخفافا لها ، وذلك أنّ المشركين كانوا ينحرون هداياهم ، ويصبّون عليها الدماء ، وكانوا مع هذه النّجاسات يعظّمونها.

ويجوز أن يكون سمّاها رجسا للزوم اجتنابها كاجتناب الأنجاس. وأما حرف (مَنْ) في قوله (مِنَ الْأَوْثانِ) لتخصيص جنس من الأجناس ، والمعنى : فاجتنبوا الرّجس الذي هو من وثن.

قوله تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٣٠) ؛ يعني قول الكذب ، ومن أعظم وجوه الكذب الكفر بالله ، والكذب على الله ، ويدخل في ذلك شهادة الزّور ، كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [عدلت شهادة الزّور بالإشراك بالله](١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [شاهد الزّور لا تزول قدماه من مكانها حتّى تجب له النّار](٢).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ١٨٧. والترمذي في الجامع : كتاب الشهادات : الحديث (٢٢٩٩). والبيهقي في السنن الكبرى : الحديث (٢٠٩٦٤).

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب الأحكام : الحديث (٧١٢٤). والبيهقي في السنن الكبرى : الحديث (٢٠٩٦٥).

٣٣٨

قوله تعالى : (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ؛) أي مخلصين لله مستقيمين على أمره غير مشركين في تلبية ولا حجّ ، وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم : لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إلّا شريكا تملكه يعنون الصّنم. وانتصب قوله : (حُنَفاءَ) على الحال.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ ؛) أي سقط من السّماء ، (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ؛) في الهواء فتمزّقه ، أو تذهب به الريح في موضع بعيد ؛ أي منحدر فيقع على رأسه فيهلك ، أي كما أنّ الذي سقط من السماء لا يملك نفعا ولا دفع ضرّ ، وكذلك الذي تهوي به الريح في مكان سحيق ، وكذلك المشرك لا ينتفع بشيء من أحماله ولا يقدر على شيء منها.

قرأ أهل المدينة (فتخطّفه الطّير) بالتشديد أي فتتخطفه ، فأدغم أحد التّائين في الأخرى ، والخطف : الأخذ بسرعة. قال ابن عبّاس : (يريد يخطف لحمه) ، (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ ؛) أي تسقطه ، (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١) ؛ أي بعيد. شبّه حال المشرك بحال هذا الهاوي من السّماء في أنه لا يملك حيلة حتى يسقط فهو هالك لا محالة ، إما بإسلاب الطّير ، وإما بالسّقوط في المكان السّحيق.

قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ؛) أي ذلك التباعد والهلاك لمن أشرك بالله ، من يعظّم شعائر الله ؛ أي مناسك الله. وقيل : أراد بالشّعيرة البدن ، فمن عظّمها باستمنانها واستحسانها ، (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٣٢) ؛ يعني من صفاوة القلوب. وإنّما أضاف التّقوى إلى القلوب ؛ لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب.

قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛) أي لكم في بهيمة الأنعام المنافع تركبوها ، وتشربون ألبانها قبل أن تشعروها وتسمّوها هديا إلى أن تقادوها ، وسموها هديا ، وأما إذا قلدوها وسمّوها هديا انقطعت هذه المنافع فلا يجوز له حينئذ شرب ألبانها ولا خزّ أصوافها ولا بيع أولادها.

وأما ركوبها عند الشافعيّ يجوز إذا لم يضرّ بها ، وعندنا لا يجوز إلّا اذا اضطرّ إليه. وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى رجلا يسوق بدنة ، فقال له : [ويحك!

٣٣٩

اركبها] فقال له : إنّها بدنة ، فقال : [ويحك! اركبها](١) ، وهذا عندنا محمول على أنّه عليه‌السلام إنّما أباحه لضرورة علمه من الرجل فأذن له في ذلك إن لم يجد ظهرا غيرها ، يدلّ على ذلك أنه لا يجوز له أن يوجّهها للركوب.

قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣) ؛ يعني أنّ نحرها إلى الحرم ، وعبّر عن الحرم بالبيت ؛ لأن حرمة الحرم متعلقة بالبيت ، كما قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(٢) ، ومن المعلوم أنّه لا يذبح عند البيت.

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ؛) أي لكلّ أمّة مسلمة سبقت قبلكم جعلنا لها عيدا ، قوله تعالى : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ؛) عند الذبح. وقيل : معناه : ولكلّ أمّة جعلنا عبادة في الذبح. وقيل : معناه : جعلنا متعبّدا يعبدون الله فيه.

قرأ أهل الكوفة (منسكا) بكسر السّين ؛ أي مذبحا وهو موضع القربان ، وقرأ الباقون بفتح السّين على المصدر مثل المدخل والمخرج ؛ أي هراقة الدّم أو ذبح القربات ، فمن فتح السين أخذه من نسك ينسك مثل دخل يدخل ، ويستوي فيه المكان والمصدر ، ومن كسرها أخذه من نسك ينسك مثل جلس يجلس.

قوله تعالى : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ؛) أي أخلصوا دينكم وأعمالكم لله تعالى ، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤) ؛ أي المتواضعين بالجنّة ، واشتقاق المخبتين من الخبت وهو المكان المطمئنّ ، وقال مجاهد : (يعني المخبتين : المطمئنّين إلى الله) ، وقال الأخفش : (الخاشعين) ، وقيل : الخائفين ، وقيل : هم الذين إذا ظلموا لا ينصرون.

قوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ؛) أي إذا خوّفوا بالله خافوا. قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ؛) أي وبشّر الصّابرين على ما أصابهم

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٣ ص ٢٩١. والبخاري في الصحيح : كتاب الحج : الحديث (١٦٨٩). ومسلم في الصحيح : كتاب الحج : الحديث (٣٧٢ / ١٣٢٢).

(٢) المائدة / ٩٥.

٣٤٠