التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ أخوف ما أخاف على أمّتي شيئين : طول الأمل واتّباع الهوى ، فأمّا طول الأمل فينسي الآخرة ، وأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ](١).

قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥) ؛ أي أجل ينتهون إليه لا يهلكهم الله حتى ينتهون إليه ، لا يهلك أمّة قبل أجلها الذي كتب لها ، ولا تؤخّر عن أجلها طرفة عين ، فلا يفتر هؤلاء الكفار بتأخير وقت إهلاكهم ، فإنه إذا جاء الوقت الذي كتب الله هلاكهم فيه ، لم يتأخّروا عنه كما لا يتقدمون عليه.

وفي هذا بيان أنه لا يموت أحد ولا يقتل إلّا لأجله الذي جعله الله له ، ولا يعترض على هذا بقول من قال : يجب أن لا يكون القاتل ظالما للمقتول ؛ لأنه لو لم يقتله كان يموت في ذلك الوقت! قلنا : كان يموت من غير ألم القتل ، فكان القاتل بإيصال ذلك الألم إليه ظالما له.

قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) ؛ أي قال الكفار من أهل مكّة وهم : عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه ؛ قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أيّها الذي نزل عليه الذّكر في دعواه وفي زعمه إنّك لمجنون في دعواك أنه نزل عليك هذا. فإنّهم كانوا لا يقرّون بأن القرآن أنزل عليه ، وقوله تعالى : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ؛) أي هلّا تأتينا بالملائكة من السّماء يشهدون أنّك رسول الله ، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧) ؛ فيما تدّعي.

قوله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ؛) جواب من الله لهم يقول : ما تتنزّل الملائكة من السّماء إلا بالرّسالة والعقاب والموت ، كلّ ذلك حقّ. قوله تعالى : (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨) ؛ أي وما كانوا إذا مؤجّلين إذا نزلت عليهم الملائكة ، بل يستأصلون بالعذاب حينئذ ، إلا من يكون له المعلوم من حاله أنه يؤمن.

__________________

(١) في كنز العمال : الحديث (٤٣٧٦٤) عزاه المتقي الهندي إلى ابن النجار عن جابر ، وابن عساكر عن علي موقوفا ، وقال : فيه يحيى بن مسلمة حدّث بالمناكير. والحديث (٤٣٧٦٥) عزاه إلى الحاكم في تاريخه والديلمي عن جابر.

٤١

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ؛) الذي جعلناه معجزا لا يقدر على الإتيان بمثله ، فهو محفوظ من الزّيادة والنقصان ، ويقال : هو محفوظ من كيد المشركين بالإبطال.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (١٠) ؛ أي ولقد أرسلنا رسلا من قبلك في الأمم الأوّلين ، والشّيع : جمع شيعة ، والشّيعة : الأمّة والفرقة.

قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١١) ؛ في إنكار التوحيد والبعث ، كما يفعل بك قومك. قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ؛) بأن تسمعهم ويفهمهم ثم لا يؤمنون به. وقيل : معناه : كذلك نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين حتى يمتنعوا عنه. والسّلك : إدخال الشيء في الشيء. قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) بعذاب الاستئصال عند معاندتهم في التكذيب.

قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ؛) أي لو فتحنا على هؤلاء الكفار بابا من السّماء ينظرون إليه ، فظلّوا يصعدون إليه وينزلون عنه ، لم يؤمنوا وقالوا : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي غطّيت أبصارنا وأغشيت عن حقيقة الرّؤية ، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥) ؛ نحن قوم قد سحرنا ، وتخيّل لنا هذه الأشياء على خلاف حقائقها ، كما قالوا حين انشقّ القمر وعاينوه : هذا سحر مستمرّ.

ومن قرأ (سكرت) بالتخفيف فهو من السّكر ، وقراءة التشديد ؛ لتكثير الفعل والمبالغة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ؛) وهي منازل الشّمس والقمر والكواكب التّسعة ، وهي اثنا عشر برجا : أوّلها الحمل والثور إلى آخرها. قوله تعالى : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) (١٦) ؛ أي زيّنا السماء بالكواكب للناظرين إليها. قوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧) ؛ أي حفظنا السماء أن يدخل فيها شيطان يمكنه الاستماع إلى كلام الملائكة.

٤٢

قال ابن عبّاس : (كانت الشّياطين لا تحجب عن السّموات كلّها ، وكانوا يقعدون في السّماء مقاعد للسّمع ، فيستمعون إلى ما هو كائن في الأرض من الملائكة ، فينزلون به على كهنتهم ، فيتكلّم به الكهنة للنّاس ، حتّى بعث عيسى عليه‌السلام فمنعوا من ثلاث سموات ، وكانوا يصعدون إلى أربع سموات إلى أن بعث الله النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمنعوا من السّموات السّبع ، وحرست السّماء بالنّجوم والملائكة ، فما منهم أحد يريد استراق السّمع إلّا رمي بشهاب ، فمنهم من يأتي على نفسه ، ومنهم من يخبل) (١). فذلك قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٨) ؛ أي نجم مضيء حارّ يتوقد لا يخطؤه ، والشّهاب : هو الكوكب المنقضّ.

قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ؛) أي بسطناها ، (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ؛) أي جبالا ثوابت أوتادا لها ، (وَأَنْبَتْنا فِيها ؛) أي في الجبال ، (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩) ؛ من كلّ ما يوزن مثل الذهب والفضة والحديد والصّفر والنّحاس والرصاص. ويجوز أن يكون المعنى : وأنبتنا في الأرض من كلّ شيء من النبات والثمار مقدور مقسوم لا يجاوز ما قدّره الله على ما تقتضيه الحكمة. وأما تخصيص الموزون فلأنّ ما يكال من الحبوب يعاقبه الوزن أيضا.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي جعلنا لكم في الأرض معايش مما تأكلون وتشربون وتلبسون ، وقوله تعالى : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠) ؛ أي وجعلنا لمن لستم له برازقين معايش من الدواب وغيرها ، وجاءت (من) لغير الناس كقوله تعالى (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ)(٢) الآية. وقيل : المعنى : وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، كأنه قال : جعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم العبيد والدوابّ ، وكفيناكم مؤنة أرزاقها.

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ؛) أي ما من شيء تحتاجون إليه من النّبات والثمار والأمطار ، إلّا ومفاتيحه إلينا وهو في مقدورنا. قوله

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ١٠ ؛ نقله القرطبي عن الكلبي عن ابن عباس.

(٢) النور / ٤٥.

٤٣

تعالى : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١) ؛ أي ما ننزّل الرزق والمطر إلا بمقدار معلوم تقتضي الحكمة إنزاله ، ويعلم الخزّان مقاديره ، كما روي في الخبر : [مع كلّ قطرة ملك يضعها في موضعها ، إلّا يوم الطّوفان فإنّه طغى الماء يومئذ على خزّانه ، فلم يحفظوا ما خرج منه يومئذ](١).

قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ؛) أي ذات لقاح تأتي بالسّحاب وتلقح الشّجر ، فالريح هي الملقّحة للسّحاب ؛ أي المحمّلة للسحاب المطر ، قال ابن مسعود : (يبعث الله الرّيح فتلقح السّحاب ، ثمّ تمرّ به فيدرّ كما تدرّ النّعجة ، ثمّ يمطر) ، وعنه أيضا قال : (خلق الله الماء في الرّيح فتفرغه الرّيح في السّحاب ثمّ تمرّ به) (٢). قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ؛) يعني المطر ، (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (٢٢) ؛ أي لستم لذلك الماء بخازنين ولا مفاتيحه بأيديكم.

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣) ؛ أي نحيي بالبعث في الآخرة ، ونميت في الدنيا ونحن الوارثون لما في السّموات والأرض بعد موت أهلها ، ومعنى الإرث : الخلائق كلّهم يموتون ولا يبقى إلا الله عزوجل ، وما يبقى للحيّ بعد الميت يسمّى ميراثا.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٢٤) أي علمنا الأوّلين منكم وعلمنا الآخرين ، وقيل : ولقد علمنا السّابقين منكم إلى الطاعة ، ولقد علمنا المتأخّرين عن الطاعة.

وعن ابن عبّاس قال : (كانت امرأة حسناء تصلّي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر النّساء ، وكان بعضهم يتقدّم في الصّفّ الأوّل لئلّا يراها ، وكان بعضهم يكون في آخر الصّفّ ، فإذا ركع تقول هكذا ، ونظر إليها من تحت إبطه ، فأنزل الله هذه الآية) (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان عن الحكم بن عتيبة بلاغا.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٥٩٤٦) عن ابن مسعود بأسانيد.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٥٩٧٣).

٤٤

قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ؛) أي يجمعهم للجزاء والحساب ، (إِنَّهُ حَكِيمٌ ؛) في أفعاله ، (عَلِيمٌ) (٢٥) ؛ بما يستحقّه كلّ واحد منهم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦) ؛ يعني آدم ، والصّلصال : هو الطّين اليابس الذي لم تصبه نار ، فإذا ضربته صلّ ؛ أي صوّت ، وإذا مسّه النار فهو فخّار. والحمأ : جمع الحمأة ، وهو الطّين المتغيّر إلى السّواد. والمسنون : متغيّر الرّائحة إلى النّتن من قوله (لَمْ يَتَسَنَّهْ)(١) وهو الذي أتت عليه السّنون.

وذلك أن آدم كان في الأصل ترابا ثم عجن ذلك التراب بالماء فصار طينا ، ثم صار حمأ مسنونا ثم صوّر ، وترك مصوّرا حتى يبس فصار صلصالا ، فمكث أربعين سنة ثم صار بشرا ، لحما ودما وعظما ، ثم نفخ فيه الروح.

قوله تعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧) ؛ قيل : إن الجانّ أبو الجنّ وهو إبليس ، فمن أسلم من ولده فهو جنّيّ ، ومن كفر فهو شيطان ، وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل آدم ، وقال الكلبيّ : (الجنّ ولد الجنّ وليس هو بإبليس ، إنّما إبليس أبو الشّياطين).

قوله تعالى : (مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي من نار حارّة ، قال ابن مسعود : (سمومكم هذه جزء من سبعين جزءا من السّموم الّذي خلق منه الجانّ) (٢) ، ويقال : السّموم نار صافية لا دخان لها ، ومن هذا سمّيت الريح المحرقة الحارّة سموما. وأما المارج الذي ذكره الله تعالى في قوله (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ)(٣) فمعنى المارج ما اختلط من لهب النار.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٨) ؛ قد تقدّم تفسيره ، (فَإِذا سَوَّيْتُهُ ؛) أي جمعت خلقه باليدين

__________________

(١) البقرة / ٢٥٩.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٠٠٠). وابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٢٣٨٢)

(٣) الرحمن / ١٥.

٤٥

والرجلين والعينين وسائر الأعضاء ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ،) وأدخلت فيه روحا فصار بشرا بعد ما كان طينا يابسا ، (فَقَعُوا لَهُ ؛) على وجوهكم ، (ساجِدِينَ) (٢٩) ؛ أي خاضعين له بالتحيّة ، (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) ؛ لآدم سجود تحيّة له ، وعبادة لله ، وقوله تعالى : (أَجْمَعُونَ) يدلّ على اجتماعهم في السّجود في حالة واحدة.

قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ؛) (٣١) أي امتنع من السّجود لآدم ، (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ ؛) أي كيف ينبغي أن أسجد له ، وأنا أشرف منه أصلا وهو ، (خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣) ، من طين يتصلصل مجوّف محتاج إلى الطعام والشراب ، وهو من حمأ ، والحمأ ظلمة وسواد ، والمسنون من الحمأ منتن ، (قالَ ؛) الله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها ؛) أي من الجنّة ، وقيل : من الأرض ، فألحقه بجزر البحار ، (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٣٤) ؛ أي مطرود من الرحمة ، مبعد من الخير ، (وَإِنَّ عَلَيْكَ ؛) مع هذا ، (اللَّعْنَةَ ؛) لعنة الله ولعنة الخلائق ، (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٥) ؛ يوم الجزاء وهو يوم القيامة ، وهو أوّل من عصى الله من أهل السّموات والأرض.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣٦) ؛ أي أجّلني إلى يوم يبعث الخلائق ، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت ، (قالَ ؛) الله تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨) أي وقت النّفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض ، وبين النفخة الأولى والثانية أربعون سنة.

وهذا لم يكن إجابة من الله لإبليس إلى ما سأل ؛ لأنه لم يكن أجله ما دون آخر التكليف ثم أجّله إليه ، ولكن كان في علم الله أنه لم يسأل لكان أجله يمتدّ إلى آخر التكليف ، فيكون هذا جواب إهانة لا جواب له.

فلما لم يعط الخبيث ما سأل من النّظرة ، (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ؛) أي خيّبتني من جنّتك ورحمتك ، (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) لبني آدم ، (فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩) ؛ من الشهوات واللذات حتى يختاروها على ما عندك.

٤٦

قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) ؛ من قرأ بكسر اللام فمعناه : الذين أخلصوا الطاعة لك ، ومن نصبها فمعناه : الذين أخلصتهم لنفسك.

قوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١) ؛ أي افعل ما شئت ، فإن طريقك عليّ لا تفوتني ، وهذا تهديد لإبليس ، وقيل : معناه : عليّ ممرّ من أطاعك وعليّ ممرّ من عصاك ، كما قال : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(١) ، وقيل : معناه : إن هذا دين مستقيم عليّ بيانه والهداية إليه.

قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ؛) أي لا تقدر أن تحملهم على المعصية وتكرههم عليها ، (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) ، ولكن من يتّبعك فإنما يتّبعك باختياره.

قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٣) ؛ أي لموعد إبليس ومن تبعه. قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ؛) بعضها أسفل من بعض ، وكلّ طبق منها أشدّ حرّا من الذي فوقه سبعين ضعفا ، والباب الأوّل أهون حرّا ، ولو أن رجلا بالمشرق فكشف عنها بالمغرب لخرج دماغه من منخريه من شدّة حرّها.

والطبق الأول : جهنّم ، فيه أهل القبلة من أهل الكبائر إذا ماتوا غير تائبين. الثاني : لظّى ، وفيه النّصارى. والثالث : الحطمة ، وفيه اليهود. الرابع : السّعير ، وفيه المجوس. الخامس : سقر ؛ وفيه المشركين وأهل الأهواء المختلفة ، السادس : الجحيم ، وفيه الصّابئون والزنادقة ، السابع : الهاوية ، وفيه المنافقون ، فذلك قوله تعالى : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤).

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٤٥) ؛ أي المتّقين للمعاصي بالإيمان والطّاعة في بساتين وأنهار ظاهرة تنبع مثل الفوّارات ، وتجري بلا أخدود ، يقال لهم يوم القيامة : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ؛) ادخلوا الجنة بسلام ؛ أي سلام من الآفات ، وقيل : بتحيّة من الله ، (آمِنِينَ) (٤٦) ، من كلّ ما تكرهون.

__________________

(١) الفجر / ١٤.

٤٧

قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ؛) أي نزعنا ما في صدور أهل الجنّة من أسباب العداوة من الحقد والحسد والتباغض ، (إِخْواناً ؛) أي حتى يصيروا بمنزلة الإخوان ، (عَلى سُرُرٍ ؛) من ذهب ، (مُتَقابِلِينَ) (٤٧) في الزيادة تسير بهم سررهم في الجنان ، بعضها إلى بعض ، والسّرر جمع سرير. وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : (إنّي لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزّبير من الّذين قال الله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)(١).

قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ؛) أي لا يتعبون أنفسهم في طلب العيش ، (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٤٨) ؛ ولا يخافون الإخراج منها أبدا ، شباب لا يهرمون ؛ أصحاء لا يسقمون ؛ أحياء لا يموتون.

قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤٩) ؛ أي أخبر عبادي أنّي أنا الغفور لذنوب من تاب ، الرحيم لمن مات على التوبة. قوله تعالى : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠) ؛ لمن استحقّه.

قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١) ؛ أي أخبرهم عن أضياف إبراهيم وهم الملائكة ، إلّا أنه قال (عَنْ ضَيْفِ) لأن الضيف مصدر. قوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ؛) قد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى : (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (٥٢) ؛ أي قال لهم إبراهيم حين لم يطعموا من طعامه : إنّا منكم فزعون ، والوجل : هو الفزع ، (قالُوا لا تَوْجَلْ ؛) أي لا تخف ، (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٥٣) ؛ بمولود إذا ولد كان غلاما ، وإذا بلغ كان عليما ، (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي ؛) بالولد ، (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ؛) بالشّيب. قوله تعالى : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (٥٤) ؛ قال هذا على جهة التعجّب. وقيل : أراد فتبشّرون بهذا من عند الله ، أو من تلقاء أنفسكم. (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ ؛) أي بأمر الله ، فإنّ أمر الله لا يكون إلا حقّا ، (فَلا تَكُنْ مِنَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٠٢٦ و ١٦٠٢٨ و ١٦٠٢٩).

٤٨

الْقانِطِينَ) (٥٥) ؛ من رحمة الله ، ثم (قالَ ؛) لهم : كيف أقنط من رحمة الله ، (وَمَنْ يَقْنَطُ ؛) منها ، (مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (٥٦).

قوله تعالى : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٥٧) ؛ أي ما شأنكم أيّها المرسلون ؛ لأنّهم رسل الله ، (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى ؛) أي لهلاك ، (قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٥٨) ؛ وهم قوم لوط.

وقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ ؛) أي إلّا خاصّة الذين آمنوا به ، (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٩) ؛ من الهلاك. قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠) ؛ استثناء من الهاء والميم ، وكانت امرأته منافقة واسمها واعلة ، فقدّر عليها الهلاك ، والغابرون هم الباقون في موضع العذاب.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) (٦١) ؛ أي لما جاء الملائكة آل لوط ، (قالَ ؛) لهم لوط : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٦٢) ؛ وإنما قال لهم ذلك ؛ لأنّهم جاؤه على هيئة وجمال لم يكن قد شاهد مثلهم في الجمال ، وكان يعلم طلب قومه لأمثالهم ، فخاف عليهم منهم فقال : إنّكم قوم أنكر مجيئكم إليّ في هذه الديار (١) ، (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٦٣) ؛ أي بالعذاب الذي يكون فيه. قوله تعالى : (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ ؛) بأمر من الله ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦٤) ؛ في ذلك.

قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ؛) أي ببعض من اللّيل عند السّحر ، (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ ؛) أي كن فيمن يسير خلفهم ؛ كي لا ينالهم العذاب ، وقوله تعالى : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي لا يتخلف في موضع الهلاك ، وقيل : لا يلتفت إلى شيء يخلّفه ؛ أي لا يعرج على شيء ، (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥) بالمضيّ إليه وهو صفد (٢).

__________________

(١) في المخطوط : (هذه الدثار) وهو تصحيف.

(٢) صفد : قرية من قرى لوط. قاله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٣٨.

٤٩

قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ؛) أي وأوحينا إليه ذلك الأمر. قوله تعالى : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ ؛) في موضع نصب بدل من قوله (ذلِكَ الْأَمْرَ) ، وقيل : في موضع خفض ؛ لأن المعنى بأنّ دابر هؤلاء مقطوع ، وقطع الدّابر هو الإتيان على آخرهم بالهلاك حتى لا يبقى منهم أحد. وقوله تعالى : (مُصْبِحِينَ) (٦٦) ؛ أي مستأصلون عند الصّباح ، ولا يبقى لهم نسل ولا عقب.

قوله تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (٦٧) ؛ أي أهل مدينة قوم لوط وهي سدوم ، يبشّر بعضهم بعضا بأضياف لوط لعملهم الخبيث ، فإنّهم كانوا يجاهرون بهذه الفاحشة ، وقال لهم لوط : (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨ وَاتَّقُوا اللهَ ؛) في الحرام ، (وَلا تُخْزُونِ) (٦٩) ؛ ولا تذلّون في أمري ، (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) (٧٠) ؛ أي عن ضيافة الغرباء.

قوله تعالى : (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي ؛) أزوّجكموهنّ ، (إِنْ كُنْتُمْ ؛) لا بدّ ، (فاعِلِينَ) (٧١) ؛ مثل هذا الفعل ، وذلك أنه لم يجد ما يتّقي به أضيافه أبلغ من عرض بناته عليهم للتزويج ، وافتداء ضيفه ببناته في الشّفاعة ، وقد كان علم أنّهم لا يرغبون في التزويج. وقيل : أراد بقوله (بَناتِي) بنات قومي ؛ لأن نساء أمّة كلّ نبيّ بمنزلة بناته في نفقته عليهنّ.

قوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢) ؛ هذا قسم بحياة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقسم بحياة أحد غيره ، تقديره : لعمرك قسمي ، إلّا أنه حذف الخبر ، وجوابه : إنّهم لفي غفلتهم يتحيّرون.

قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (٧٣) ؛ أي وقت الإشراق ، وذلك أنّ الملائكة قلعوا مدائنهم وقت الصّبح ، فرفعوها إلى قريب من السّماء ، ثم قلبوها عند طلوع الشمس ، وصاح بهم جبريل حينئذ ، (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٧٤) ، وقد تقدّم تفسير باقي الآية في سورة هود.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٧٥) ؛ أي في إهلاك قوم لوط لآيات للمتفرّسين ، والمتوسّمون هم النّظّار المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة السّمة. قوله تعالى : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (٧٦) ؛ أي إنّ قريات قوم لوط

٥٠

لبطريق واضح ولا يندرس ولا يخفى على طريق قومك إلى الشّام ، والمعنى أن الاعتبار بها ممكن. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧) ؛ أي لدلالة للمؤمنين الذين يصدّقون بذلك.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) (٧٨) ؛ أي وقد كان أصحاب الأيكة وهو قوم شعيب لظالمين بكفرهم ، والأيكة : الشّجر الملتف الكبير ، وكان شعيب بعث إلى قومين ، إلى أهل مدين كانوا يطفّفون الكيل والوزن فأهلكوا بالصّيحة ، وبعث إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظّلّة.

ويقال : إن مدين والأيكة واحد ، كانت الأيكة عند مدين ، فخرجوا من مدين إليها يطلبون الرّوح عندها ، فأخذهم عذاب يوم الظّلة ، واضطرم المكان عليهم نارا فهلكوا عن آخرهم. قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ؛) أي بالعذاب ، (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩) ؛ أي إن قريات لوط ومواضع شعيب لعلى طريق مبين.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) (٨٠) ؛ أي ولقد كذب قوم صالح ومن تقدّم من المرسلين ، والحجر ديار ثمود ، وإنما سمّوا أصحاب الحجر ؛ لأن الحجر اسم لواد كانوا يسكنون عنده ، وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا ؛) يريد الناقة ، (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٨١).

قوله : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) (٨٢) أي ينقبون بيوتهم في الجبال آمنين من الموت لطول أعمارهم ، وقيل : من الحرّ وسقوط السّقف. قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) (٨٣) أي وقت الصّبح صاح بهم جبريل فهلكوا ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ؛) من عذاب الله ، (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٤) ؛ من الأموال.

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ؛) أي للحقّ وإظهار الحق لم نخلقهما عبثا ، (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ؛) يعني القيامة لمجازاة الناس كلّهم ، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (٨٥) ؛ أي أعرض عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم ، فإنّ مجاوبة السّفيه سفه ، قال مجاهد : (هذا منسوخ بآية

٥١

القتال). قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٨٦) ؛ أي الخالق للإنسان ، العالم بتدبير خلقه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) ؛ أي أكرمناك يا محمّد بسبع من المثاني ، قيل : هي السبع الطّوال ، وهي السور السبع من أوّل البقرة إلى الأنفال والتوبة ، وهما جميعا سورة واحدة ، وسميت هذه السورة مثاني ؛ لأنّه ثنّى فيها الأقاصيص ، والأمر والنهي ، والوعيد ، والمحكم ، والمتشابه.

وقال ابن عبّاس : (السّبع المثاني فاتحة الكتاب) (١) هكذا روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قال : [ما أنزل الله في التّوراة والإنجيل والزّبور مثل فاتحة الكتاب ، وإنّها السّبع المثاني](٢).

وإنما سمّيت هذه السورة مثاني ؛ لأنّها تثنى في كلّ صلاة. وإنما خصّ هذه السورة من جملة القرآن تعظيما لها ؛ لأن كمال الصلاة متعلّق بها ، كما خصّ جبريل وميكائيل من جملة الملائكة تعظيما لهما. قوله تعالى : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) أي وآتيناك القرآن العظيم.

وقوله تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ؛) أي لا تنظرنّ بعين الرّغبة إلى ما أعطينا من الأموال رجالا من بني قريظة والنّضير وغيرهم من قريش ، فإنّ ما نعطيك من النبوّة والقرآن أعظم مما أعطيناهم من الأموال ، (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ؛) بما أنعمنا عليهم من ما لم ننعم به عليك.

ويقال : لا تحزن على هلاكهم إن لم يؤمنوا ، وهذا القول أقرب ؛ لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يجوز أن يحسد أحدا بما أنعم الله به عليه من نعيم الدّنيا ، وإنما كان يحزن على إصرارهم على الكفر. قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) ؛ أي

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦١٠٣ و ١٦١٠٤) عن ابن مسعود رضي الله عنه ، والأثر (١٦١٠٥) عن ابن مسعود رضي الله عنهما.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٦١٣١). والترمذي في الجامع الصحيح : أبواب التفسير : الحديث (٣١٢٥) ، وفي أبواب فضائل القرآن : الحديث (٢٨٧٥) ، وقال : حسن صحيح.

٥٢

تواضع ، وألن جناحك للمؤمنين ؛ لكي يتّبعك الناس على دينك ، ولا ينفروا من عندك.

قوله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (٨٩) ؛ أي المعلّم بموضع المخافة ، المبين لكم بلغة تصدّقونها. قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) (٩٠) ؛ قال الحسن : (معناه : وأنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين وهم اليهود والنّصارى) (١). سمّاهم مقتسمين ؛ لأنّهم اقتسموا كتب الله تعالى ، فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ، وهم ، (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١) ؛ أي فرّقوه فآمنوا ببعضه وهو ما وافق دينهم ، وكفروا ببعضه وهو ما خالف دينهم ،

وقال بعضهم : رهط من أهل مكّة ، قال مقاتل : (ستّة عشر رجلا بعثهم الوليد ابن المغيرة أيّام الموسم ، فاقتسموا الأعقاب (٢) ، وقعدوا على طريقها ، فإذا جاء الحجّاج قال فريق منهم : لا تغترّوا بهذا الخارج منّا المدّعي النّبوّة فإنّه مجنون ، وقالت طائفة أخرى على طريق أخرى : إنّه كاهن ، وقالت طائفة أخرى : شاعر ، والوليد قاعد على باب المسجد نصّبوه حكما ، فإذا سئل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : صدق أولئك يعني المقتسمين) (٣).

قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) هم هؤلاء المقتسمين جزّءوا القرآن ، فقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : كذب ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : أساطير الأوّلين ، وقال بعضهم : مفترى. ومعنى التّعضية : التفريق ، يقال : عضيت الشيء إذا فرّقته. قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٢) ؛ أي في الآخرة ، (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣) ؛ من تفريق القرآن ، وصرفهم الناس عن دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب التفسير : سورة الحجر : الحديث (٤٧٠٥ و ٤٧٠٦) عن ابن عباس قال : (آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، اليهود والنّصارى).

(٢) الأعقاب : ما بعد مكة من الطرق يفد منها الناس.

(٣) تفسير مقاتل : ج ٢ ص ٢١١ ، وينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٥٨.

٥٣

وعن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي هذه الآية قال : [فو ربك لنسئلنهم يوم القيامة عن قول لا إله إلّا الله](١) وقال عبد الله : (والّذي لا إله غيره ما منكم أحد إلّا ويسأله الله يوم القيامة فيقول : يا ابن آدم ما ذا عملت؟ يا ابن آدم ما ذا أجبت المرسلين) (٢).

واعترضت الملحدة على هذه الآية ، وعلى قوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)(٣) وحكموا عليهم بالتناقض!

والجواب : إنه لا يقال لهم هل عملتم (٤) كذا ؛ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن نقول لهم : لم عملتم كذا ، وقال قطرب : (السّؤال على ضربين : سؤال استعلام واستخبار ، وسؤال تقرير وتوبيخ ، فقوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) يعني لا يسألهم سؤال استخبار ؛ لأنّه عالم قبل أن يخلقهم ، وقوله تعالى : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) سؤال تقرير وتقريع).

قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤) ؛ أي أظهر أمرك بمكّة واتركهم حتى يجيء أمر الله بقتالهم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا بمكّة قبل نزول هذه الآية ، لا يظهر شيئا مما أنزل الله عليه ، فلما نزلت هذه الآية أظهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره وأعلنه بمكّة.

قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٩٥) بك ، (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٩٦) ؛ وهم خمسة نفر أهلكهم الله في يوم واحد ، منهم العاص بن وائل ، نزل شعبا من ذلك الشّعاب ، فلمّا وضع قدمه على الأرض قال : لدغت ، فطلبوا فلم يجدوا شيئا ، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير فمات مكانه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٦١٦٢). والترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٣١٢٦) وضعفه.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦١٦٥).

(٣) الرحمن / ٣٩.

(٤) في المخطوط : (علمتم) وهو تحريف ، والصحيح كما أثبتناه ؛ لأنه مقتضى السياق.

٥٤

ومنهم الحارث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه عطش شديد فلم يزل يشرب حتى انقدّ مكانه فمات.

ومنهم الأسود بن عبد المطلب بن الحارث ، قعد إلى أصل شجرة ، فجعل جبريل يضرب رأسه على الشّجرة حتى مات ، وكان يستغيث بغلامه ، فقال غلامه : لا أرى أحدا صنع بك شيئا غير نفسك.

ومنهم الأسود بن عبد يغوث خرج من أهله فأصابه السّموم فاسودّ حتى صار حبنا (١) ، وأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب حتى مات.

ومنهم الوليد بن المغيرة خرج يتبختر في مشيته حتى وقف على رجل يعمل السّهام ، فتعلّق سهم بثوبه فجعل رداءه على كتفه فأصاب السهم أكحله فقطعه ، ثم لم ينقطع عنه الدم حتى مات ، فذلك قوله (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي بك وبالقرآن (٢).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (٩٧) ؛ أي ولقد نعلم يا محمّد أنّك يضيق صدرك بما يقولون من التكذيب بأنّك شاعر وساحر وكاهن. قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ؛) أي فصلّ بأمر ربك ، واحمده بالثّناء عليه ، (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (٩٨) ؛ أي من العابدين لله. قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩) ؛ أي استقم على عبادة ربك وطاعته حتى يأتيك الموت ، سمّاه يقينا ؛ لأنه موقن به.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما أوحي إليّ أن أجمع المال وأكون من التّاجرين ، ولكن أوحي إليّ أن أسبح بحمد ربي وأكون من السّاجدين](٣) ، وقال الضحّاك :

__________________

(١) الحبن : انتفاخ البطن من داء.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٦١٧٦ ـ ١٦١٧٩).

(٣) أخرجه أبو نعيم في الحلية : ج ٢ ص ١٣١ عن أبي مسلم الخولاني مرسلا. وفي الدر المنثور : ج ٤ ص ١٠٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني). والبغوي في معالم التنزيل رواه بسنده عنه أيضا موصولا عن جبير بن نفير رضي الله عنه.

٥٥

(معنى قوله (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل سبحان الله وبحمده ، (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي المصلّين ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزّ به أمر فزع إلى الصّلاة) (١).

وعن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار ، وبعدد المستهزئين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢).

آخر تفسير سورة (الحجر) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) علقه ابن عطية في المحرر الوجيز : ص ١٠٨٢. والبغوي في معالم التنزيل : ص ٧٠٤.

(٢) تقدم.

٥٦

سورة النّحل

سورة النّحل مكّيّة (١) ، وهي سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف ، وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة ، ومائة وثمان وعشرون آية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأها لم يحاسبه الله بالنّعيم الّذي أنعم الله به عليه في الدّنيا](٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ؛ قال ابن عبّاس : (لمّا نزل قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)(٣) قال الكفّار بعضهم لبعض : إن يزعم أنّ القيامة قد قربت ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتّى ننظر ما هو كائن ، فلمّا رأوا أنّه لا ينزل شيئا قالوا : ما نرى شيئا ، فأنزل الله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ)(٤) ، فانتظروا قرب السّاعة ، فلمّا امتدّت الأيّام قالوا : يا محمّد ما نرى شيئا تخوّفنا به ، فأنزل الله عزوجل (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشكّ أنّ العذاب قد أتى ، فقال الله (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) يعني العذاب ، فجلس النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٥).

__________________

(١) في التفسير : ج ٢ ص ٢١٣ ؛ قال مقاتل بن سليمان : (مكّيّة كلّها غير قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) [الآية ١٢٦ ـ ١٢٨ آخر السورة]. وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) [الآية / ١١٠]. وقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ...) [الآية / ١٠٦] وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا ...) [الآية / ٤١]. وقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً ...) [الآية / ١١٢]. فإنّ هذه الآيات مدنيّات) واختلفوا في ذلك ، واتفقوا على أنها تسمى سورة النعم بسبب ما عدّد فيها من النعم.

(٢) ذكره الزيلعي في (تخريج أحاديث الكشاف) وعزاه للثعلبي عن أبي أمامة عن أبي بن كعب. وابن مردويه والواحدي في الوسيط. وهو حديث لا يصح.

(٣) القمر / ١.

(٤) الأنبياء / ١.

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦١٩٦) من طريق ابن جريج مختصرا.

٥٧

وأما ذكر لفظ الإتيان في هذا ؛ فلأنّ أمر الله في القرب بمنزلة ما قد أتى ، كما قال تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)(١). قوله تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) ؛ أي تنزيها له تعالى بصفات المدح عمّا يشركون به من الأصنام.

قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ؛) أي ينزّل الملائكة بالوحي ، (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ؛) قرأ الأعمش (ينزل) بفتح الياء وجزم النون وكسر الزّاي ، قال ابن عبّاس : (يعني بالملائكة جبريل وحده) ، ويسمّى الوحي روحا ؛ لأنّه تحيا به القلوب والحقّ ، ويموت الكفر والباطل.

قوله تعالى : (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) ؛ أي أن أعلموا بالتّخويف أن لا إله إلا الله ، (فَاتَّقُونِ) (٢) ؛ أي فاتّقوا المعاصي. قوله تعالى : (أَنْ أَنْذِرُوا) في موضع النصب بنزع الخافض ؛ أي بأن أنذروا.

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) ؛ أي ليستدلّ بهما على توحيد الله ، وليعمل بالحقّ ، (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣) ؛ من أن يكون له شريك. قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٤) قال ابن عبّاس : (نزل في أبيّ بن خلف الجمحيّ حين قال (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٢)). والمعنى : خلق الإنسان من نطفة منتنة وأنعم عليه حالا بعد حال إلى أن أبلغه الحالة التي تخاصم عن نفسه ، فينكر إعادته بعد موته.

قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها ؛) أي وخلق لكم الأنعام ، وهي ذوات الحقاف والأظلاف دون الحوافر. وقوله تعالى : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) ؛ أي ما يدفّيكم من أصوافها وأوبارها من الأكسية ونحوها ، ومن القلانس واللّحاف ، ومنافع أخر من ألبانها ونسلها ، والرّكوب والحمل عليها ، والفرش والبيوت من أصوافها. قوله تعالى : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥) ؛ يعني لحومها.

__________________

(١) النحل / ٧٧.

(٢) يس / ٧٨.

٥٨

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦) ؛ أي ولكم فيها منظر حسن ، يقال : هذه مواشي فلان ، فيكون له في ذلك جمال ، قال قتادة : (وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسنمتها) (١) ، وقوله تعالى : (حِينَ تُرِيحُونَ) أي حين تريحونها في العشيّ من مراعيها إلى مباركها التي تأوي إليها ، (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي تخرجون بها بالغداة من مراحها إلى مسارحها.

قوله تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) ؛ أراد به الإبل تحمل أمتعتكم وزادكم ، وما يثقل عليكم إلى بلد قصدتموه للحجّ إلى مكّة ، أو تجارة إلى سائر البلدان ، لو لا الإبل لكان لا يمكنكم بلوغ تلك البلد إلا بجهد ومشقّة. وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧) ؛ أي متفضّل منعم عليكم.

قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ؛ أي وخلق لكم الخيل والبغال والحمير ؛ لتركبوها وتتزيّنوا بها زينة ، فيحصل لكم منافعها ، وحسن منظرها للناس ، كما قال تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٢). قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨) ؛ أي يخلق أشياء لا تعرفونها لم يسمّها لكم.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ الله تعالى خلق أرضا بيضاء مثل الدّنيا ثلاثين مرّة محشوّة خلقا من خلق الله ، لا يعلمون أنّ الله يعصى طرفة عين] قالوا : يا رسول الله أمن ولد آدم هم؟ قال : ما يعلمون أنّ الله خلق آدم؟] قالوا : فأين إبليس عنهم؟ قال : ما يعلمون أنّ الله خلق إبليس] ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣).

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٧١ ؛ حكاه القرطبي بلفظ : (ولأنّها إذا راحت توفّر حسنها وعظم شأنها وتعلّقت القلوب بها ؛ لأنّها إذ ذاك أعظم ما تكون أسنمة وضروعا). واللفظ في المتن أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٦٢١٣).

(٢) الكهف / ٤٦.

(٣) بمعناه في الدر المنثور : ج ٥ ص ١١٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وذكره). وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٨٠ عزاه القرطبي قال : ذكره الماوردي.

٥٩

وهذه الآية مما يستدلّ بها على كراهية لحم الخيل على مذهب أبي حنيفة ؛ لأنّ الله تعالى قال في الأنعام (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ولم يذكر في آية الخيل والبغال إلا الركوب والزينة.

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ ؛) أي وعلى الله بيان الهدى والضّلالة ليتّبع الهدى وتجتنب الضّلالة ، كما قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(١) ، وقال تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(٢). قوله تعالى : (وَمِنْها جائِرٌ) أي من الطّرق ما هو عادل عن الحقّ ، قال : يعني اليهوديّة والنصرانية والمجوسية ، وقال ابن المبارك : (يعني الأهواء والبدع). قوله : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩) ؛ إلى جنّته وثوابه ، ولأرشدكم كلّكم.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ؛) مثل البرك والغدران ، ولكم ، (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (١٠) ؛ ترعون أنعامكم ، يعني الكلأ والأشجار التي ترعاه الإبل.

قوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١) ؛ ظاهر المعنى.

وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٢) ؛ تسخير الليل والنّهار ، مجيء كلّ واحد منهما عقب الآخر بتقدير الله ؛ لينصرف الناس في معايشهم بالنّهار ، ويسكنوا بالليل ، وتسخير الشمس والقمر والنّجوم مجيئه بها في أوقات معلومة.

قوله تعالى : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ؛ أي وسخّر لكم ما خلق في الأرض من الدواب والأشجار وغيرها ، (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) ، ومناظره وصوره ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣) ؛ دلائل الله.

__________________

(١) الانسان / ٣.

(٢) الشمس / ٨.

٦٠