التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

وقوله تعالى : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ؛) أي إذا أخرج يده من هذه الظّلمات لم يرها ولم يقارب أن يراها من شدّة الظلمات ، فكذلك الكافر لا يبصر الحقّ والهدى. وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) ؛ أي من لم يهده الله فما له من إيمان ، ومن لم يجعل الله له نورا في الدّنيا ، فما له من نور.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ الله تعالى خلقني من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر ، وخلق المؤمنين من أمّتي من نور عمر ، وخلق المؤمنات من أمّتي من نور عائشة. فمن لم يحبّني ويحبّ أبا بكر وعمر وعائشة ؛ فما له من نور فينزل عليه ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور](١).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ ؛) معناه : ألم تعلم ؛ (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ ؛) أي ينزّهه ؛ (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء وغيرهم ، وكنّى عن الجميع بكلمة (مَنْ) تغليبا للعقلاء على غيرهم. وقيل : أراد بالآية العقلاء ، وهذا عموم أراد به الخصوص في أهل الأرض وهم المؤمنون.

قوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ؛) أي ويسبح له الطير باسطات أجنحتها في الهواء ، والبسط في اللغة : الصّفّ (٢) ، والصّفّ في اللغة هو البسط ، ويسمّى القديد صفيفا لأنه يبسط. وخصّ الطير بالذّكر من جملة الحيوان ؛ لأنّها تكون بين السّماء والأرض ، وهي خارجة عن جملة من في السّموات والأرض.

قوله تعالى : (كُلٌّ ؛) أي كلّ من هؤلاء ، (قَدْ عَلِمَ ؛) الله ؛ (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.) قال المفسّرون : الصلاة لبني آدم ، والتسبيح عامّ لما سواهم من الخلق. وفيه وجوه من التأويل :

__________________

(١) أخرجه الثعلبي في التفسير : ج ٧ ص ١١١ ، عن أنس ، وفي إسناده متهمون. وذكره السيوطي في ذيل اللآلي : ج ١ ص ٥٠ ، فالحديث موضوع.

(٢) (الصف) سقطت من المخطوط.

٤٤١

أحدها : كلّ مصلّ ومسبح قد علم الله تعالى صلاته وتسبيحه ، والثاني : أن معناه : كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه ، والثالث : قد علم كلّ منهم تسبيح الله وصلاته ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١) ؛ من الطاعة وغيرها. وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي له تقديرهما وتدبيرهما وتصريف أحوالهما ، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤٢).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ؛) أي ينشؤه ويسوقه سوقا دفيقا قطعا قطعا ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ؛) أي يجمع بين قطع السّحاب المتفرقة ، والسّحاب جمع واحده سحابة ، والتّأليف ضمّ بعض إلى بعض حتى يجعله قطعة واحدة.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً ؛) أي متراكما بعضه فوق بعض ، (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ؛) أي ترى المطر يخرج من وسطه وأثنائه ، والخلال جمع الخلل مثل الجبال والجبل. قال الليث : (الودق المطر كلّه ، شديده وهيّنه ، وخلال السّحاب مخارج القطر منه). قرأ ابن عبّاس والضحاك : (من خلله) (١).

قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ؛) أي من جبل في السّماء ، وتلك الجبال من برد. قال ابن عبّاس : (أخبر الله أنّ في السّماء جبالا من برد) (٢) ومفعول الإنزال محذوف ، تقديره : وينزّل الله من جبال برد فيها ، واستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه ، ومن الأولى لابتداء الغاية ، لأن ابتداء الإنزال من السّماء ، والثانية للتبعيض ؛ لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السّماء ، والثالثة لتبيين الجنس ؛ لأن جنس تلك الجبال البرد ، كما تقول : خاتم من حديد.

وكان عمر رضي الله عنه يقول : (جبال السّماء أكثر من جبال الأرض) ، (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ ؛) أي فيصيب بالبرد من يشاء فيهلكه ويهلك زرعه ، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ ؛) فلا يضرّه في زرعه وثمره.

__________________

(١) ذكره ابن عطية في التفسير : ص ١٣٦٧.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩١٣.

٤٤٢

قوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) ؛ أي يكاد ضوء برق السّحاب يذهب بالأبصار من شدّة ضوئه وبريقه ولمعانه ؛ لأن من نظر إلى البرق خيف عليه ذهاب البصر. قرأ أبو جعفر : (يذهب بالأبصار) بضمّ الياء وكسر الهاء.

قوله تعالى : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ؛) أي يقلّبها في الذهاب والمجيء والزيادة والنّقصان ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٤٤) ؛ أي إنّ في ذلك التقلّب ، وفيما ذكر عبرة لذوي العقول من الناس ، يقال : فلان صاحب بصر ؛ أي صاحب عقل.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ؛) من النّطفة ، من ماء الذكر والأنثى ، والخلق من الماء أعجب ؛ لأنه ليس شيء إلّا وهو أشدّ طوعا من الماء ؛ لأنّ الماء لا يمكن إمساكه بيده ولا أن يبني عليه ولا أن يتخذ منه شيء. والمعنى : والله خلق كلّ حيوان شاهد في الدّنيا ، ولا تدخل الجنّ والملائكة في هذا لأنّا لا نشاهدهم.

وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ؛) كالحيّات والهوام والحيتان ، وإنّما قال فمنهم (مِنْ) تغليبا للعقلاء ، ولو كان لما لا يعقل لقال : فمنهم من يمشي على بطنه ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ؛) كالإنسان والطّير ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ؛) كالبهائم والسّباع. والدّابّة اسم لكلّ حيوان من مميّز أو غيره.

قوله تعالى : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٥) ؛ ظاهر المعنى ، قرأ الكوفيّون غير عاصم (والله خالق) على الاسم.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ؛) يعني القرآن هو مبيّن الهدى والأحكام ، (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٦) ؛ أي يرشد من يشاء إلى دين الإسلام الذي هو دين الله وطريق رضاه وجنّته.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ؛) يعني المنافقين يقولون صدّقنا بتوحيد الله وبالرّسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطعناهما فيما حكما ، (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ؛) أي ثم تعرض طائفة منهم ، (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ؛) أي من

٤٤٣

بعد قولهم آمنّا ، (وَما أُولئِكَ ؛) الذين أعرضوا عن حكم الله ورسوله ، (بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٧).

قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ؛) معناه : إذا دعوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم الرسول فيما اختلفوا فيه ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (٤٨) ؛ عما يدعون إليه ، نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهوديّ حين اختصما في أرض ، فجعل اليهوديّ يجذبه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحكم بينهما ، وجعل المنافق يجذبه إلى كعب بن الأشرف ، يقول : إنّ محمّدا يحيف عليه ، فذلك قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)(١) عن الكتاب والسّنة.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (٤٩) ؛ معناه : وإن يكن لهم القضاء على غيرهم يأتون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسرعين مطيعين منقادين لحكمه. والإذعان : الإقرار بالحقّ مع الانقياد له. قال الزجّاج : (الإذعان : الإسراع مع الطّاعة) (٢).

قوله تعالى : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥٠) ؛ لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التوبيخ ، وذلك أشدّ ما يكون في الذمّ كما جاء في المبالغة في المدح :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (٣)

يعني أنتم كذلك.

قوله : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ؛) انتصب (قَوْلَ) على خبر كان ، واسمها (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا).

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩١٤.

(٢) ذكره ابن عادل في اللباب : ج ١٤ ص ٤٢٨.

(٣) المطايا : جمع مطيّة ، وهي الدابّة تمطو في مشيها ، أي تسرع. وأندى : أسخى. والرّاح : جمع راحة ، وهي الكفّ. والهمزة في (ألستم) ليست للاستفهام ، وإنما هي لتقرير هذا الإخبار بثبوته ، مدحا لعبدالملك بن مروان.

٤٤٤

وذلك أن عليّا رضي الله عنه باع من عثمان رضي الله عنه أرضا بالمدينة لا ينالها الماء ، فجاء قوم عثمان فندّموا عثمان على ما صنع وقالوا له : لا تذهب في خصومتك مع عليّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّه يحكم له! فلم يقبل منهم عثمان ، وتحاكما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى لعليّ رضي الله عنه ، فأبى قوم عثمان أن يرضوا بقضائه ، فقال عثمان رضي الله عنه : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي سمعنا قولك يا رسول الله وأطعنا أمرك ورضينا بحكمك وقضائك ، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرّ بهم. وقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥١) ؛ يعني الرّاضين بقضاء الله ورسوله.

فلما نزلت هذه الآية أقبل عثمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (يا رسول الله ؛ والله لئن شئت لأخرجنّ من أرضي كلّها الّتي أملكها وأدفعها إليه) (١) فأنزل الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ ؛) معناه : ومن يطع الله ورسوله فيما ساءه وسرّه ويخش الله فيما مضى من ذنوبه ويتّق الله فيما بعد فلم يعص الله ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) ، برضى الله وحسناته.

وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ؛) أي حلفوا بالله وبالغوا في القسم ، (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ،) من مالهم كلّه لفعلوا ، (قُلْ) لهم : (لا تُقْسِمُوا ؛) أي لا تحلفوا ، وتمّ الكلام ها هنا. ثمّ قال : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ؛) أي هذا القول منكم يعني القسم طاعة حسنة.

وقال بعضهم : هذه الآية نزلت في المنافقين ؛ كانوا يحلفون لئن أمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج إلى الجهاد ليخرجنّ ، ولم يكن في نيّتهم الخروج (٢) ، فقيل لهم : لا تقسموا طاعة معروفة مثل من قسمكم بما لا تصدّقون ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥٣) ؛ يعني عليم بما تعملون من طاعتكم بالقول «و» مخالفتكم بالفعل (٣).

__________________

(١) لم أقف عليه ، إلا أن القرطبي ذكر في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ٢٩٣ قصة قريبة من هذا المعنى بين المغيرة بن وائل من بني أمية وعلي رضي الله عنه ، وقال : (ذكره الماوردي).

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩١٥ بمعناه.

(٣) في المخطوط : (بالقول مخالفتكم بالفعل) من دون (و).

٤٤٥

وقوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ؛) ظاهر المعنى ، وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ؛) أي فإن أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فإنّما على الرسول ما حمّل من التبليغ وأداء الرسالة ، وعليكم ما حمّلتم من الطاعة ، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤) ؛ أي ليس عليه إلّا أن يبلّغ ويبيّن لكم.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أقاموا بمكّة مدّة قبل الهجرة لا يمكنهم إظهار الإسلام ، ولا أذن لهم في القتال ، وكذلك بعدما هاجروا إلى المدينة وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وكانوا لا يبيتون إلّا مع السّلاح ولا يصبحون إلّا فيه.

فجاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ؛ أهكذا جالدتّنا أبدا؟ فإنزل الله هذه الآية (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)(١) أي ليبوّأنّهم أرض المشركين من العرب والعجم كما استخلف بني اسرائيل بأرض مصر والشّام بعد إهلاك الجبابرة بأن أورثهم أرضهم وديارهم وجعلهم سكّانا وملوكا.

وقوله تعالى : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ؛) أي وليوسّع لهم البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على جميع الأديان ، (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ؛) وقوله تعالى : (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ؛) يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال ؛ أي لأفعلنّ ذلك في حال عبادتهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٨٣٥) بمعناه. وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ٢٩٧. وأخرجه الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٢١ و ٢٢٢ مرسلا. وأخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٨ ص ١٧ : الحديث (٧٠٢٥). والحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٥٦٤). وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٨٣ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات).

٤٤٦

قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥٥). وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) ؛ ظاهر المراد.

قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ؛) أي ولا تحسبنّ كفار مكة يا محمّد فائتين من عذاب الله أو يفوتنا هربا ، فقدرة الله تعالى محيطة بهم ، (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ؛) أي ليستأذنكم في الدّخول عليكم عبيدكم وإمائكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم أي من أحراركم من الرّجال والنساء ، والمعنى : ليستأذنكم عبيدكم وإمائكم والذين لم يبلغوا الحلم من صغير أولادكم من الأحرار في الدّخول عليكم في ثلاث أوقات من الليل والنهار يكون الغالب فيها كشف العورات.

ثمّ بيّن الأوقات الثلاث فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ؛) أي وقت القيام من المضاجع والتّهيّؤ للصّلاة بالطهارة ، (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ؛) وهو وقت القيلولة ، (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ؛) أراد به العشاء الأخيرة ، وهذه الأوقات الثلاثة : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ؛) لأنّ الإنسان يضع ثيابه فيها في العادة.

من قرأ (ثَلاثَ) بالرفع ، فمعناه : هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم. ومن قرأ (ثلاث) بالنصب جعله بدلا من قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). قال السديّ : (كان أناس من الصّحابة يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه السّاعات الثّلاث ليغتسلوا ثمّ يخرجوا إلى الصّلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا الغلمان والمماليك أن يستأذنوا في هذه الثّلاث ساعات إذا دخلوا).

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ؛) أي لا جناح عليكم ولا عليهم في أن لا يستأذنوا في غير هذه الأوقات.

٤٤٧

قوله تعالى : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ؛) أي طوّافون عليكم يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيئون ويتردّدون في أحوالهم واشتغالهم بغير إذن ، يريد أنّهم خدمكم ، شئ فلا بأس أن يدخلوا في غير هذه الأوقات بغير إذن. قال مقاتل : (معناه : يطوف بعضهم وهم المماليك على بعض وهم الموالي) (١).

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ؛) أي هكذا يبيّن الله لكم الدّلالات والأحكام في أمر الاستئذان ، (وَاللهُ عَلِيمٌ ؛) بمصالح العباد ، (حَكِيمٌ) (٥٨) ؛ فيما حكم من استئذان الخدم في هذه الأوقات الثلاثة.

قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ؛) معناه : إذا بلغ الأطفال من أحراركم وعبيدكم فليستأذنوا في جميع الأوقات وفي عموم الأحوال ، (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) المذكورين من قبلهم على ما بيّن الله في كتابه ، يعني بقوله ؛ الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستئذان على كلّ حال في قوله (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) فليس للعبد البالغ أن يدخل منزل مولاه ولا للولد البالغ أن يدخل على أمّه وعلى ذات محارمه في كلّ وقت إلّا بإذن (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٩).

قوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ ؛) معناه : والقواعد من النّساء اللاتي قعدن عن الحيض من الكبر وهنّ العجائز اللاتي لا يردن النكاح لكبرهنّ ، فليس عليهنّ حرج في ، (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ؛) يعني الجلباب والرّداء والقناع الذي فوق الخمار لأجل الثياب.

قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ،) التّبرّج : أن تظهر المرأة محاسنها من وجهها وجسدها ، والمعنى من غير أن يردن بوضع الجلباب أن يرى زينتهن. قال مقاتل : (ليس لها أن تضع الجلباب ، تريد بذلك أن تظهر قلائدها وقرطها وما عليها من الزّينة) (٢).

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٢٥.

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٢٦.

٤٤٨

وقوله تعالى : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ؛) معناه : وأن يستعففن فلا يضعن الجلباب في الملاءة والقناع فهو خير لهنّ من أن يضعن ، (وَاللهُ سَمِيعٌ ؛) مقالة العباد ، (عَلِيمٌ) (٦٠) ؛ بأعمالهم. يقال : امرأة عداد أقعدت عن الحيض ، فإذا قال : قاعدة بالهاء أراد به جالسة ، والجمع فيهما جميعا قواعد.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ؛) وذلك أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا أزمانهم وكانوا يدفعون إليهم المفاتيح ويقولون لهم قد أبحنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم في غيب امتثالا لقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(١) فنزلت هذه الآية رخصة لهم.

ومعناها : نفي الحرج عن الزّمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو وخلفه بحفظ ماله ؛ لأنّهم كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مما يحفظونه ، فأعلمهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم في ذلك (٢).

وذهب الحسن إلى أن معنى الآية : (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في ترك الخروج إلى الجهاد).

قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ؛) أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم ، أراد بهذا بيوت أبنائكم ونسلهم ، وإنّما أضاف بيوت الأبناء إليهم لأنّهم من أنفسهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنت ومالك لأبيك](٣) ، ولهذا قابله ببيوت الآباء ، فقال : (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ؛) ولم يقل بيوت أبنائكم ، فعلم أن المراد بقوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت أبنائكم وأزواجكم ، وبيت المرأة كبيت الزّوج.

__________________

(١) النساء / ٢٩.

(٢) نقله الطبري عن بعض المفسرين في جامع البيان : مج ١٠ ج ١٨ ص ٢٢٤.

(٣) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٢٠٤. وأبو داود في السنن : كتاب البيوع : الحديث (٣٥٣٠). والبيهقي في السنن الكبرى : الحديث (١٦١٧٧).

٤٤٩

قوله تعالى : (أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ ؛) أخرج الكلام على وفق العادة ؛ لأن الغالب من أحوال هؤلاء أن تطيب أنفسهم بذلك ، فجاز الأكل من بيوتهم بغير إذن لدلالة الحال.

فأمّا إذا علم أن صاحب البيت لا تطيب نفسه بذلك ، لا يحلّ له أن يتناول شيئا من ذلك ، (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ؛) يعني بيوت عبيدكم وإمائكم ، وذلك أن السيّد يملك بيت عبده ، أو المفاتح معناها الخزائن ، كقوله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ)(١) أي خزائن الغيب.

ومعناه : المفاتيح التي يفتح بها الخزائن ، يعني بذلك الوكلاء والأمناء والعبيد الذين يملكون أمر الخزائن وتكون مفاتحها بأيديهم ، فليس عليهم في الأكل جناح إذا كان أكلا يسيرا مثل أن يأكل من ثمر حائط يكون قيّما عليه أو يشرب من لبن ماشية يكون قيّما عليها. وقال السديّ : (الرّجل يولّي طعامه غيره يقوم عليه ، فلا بأس أن يأكل منه) (٢).

قوله تعالى : (أَوْ صَدِيقِكُمْ ؛) يعني صديقا يسرّه أن يأكل من طعامه ، وإنّما أطلقه على عادة الصحابة رضي الله عنهم كما روي في سبب نزول هذا : أنّ مالك بن يزيد والحارث بن عمرو كانا صديقين ، فخرج الحارث غازيا وخلّف مالكا في أهله وخزائنه ، فلمّا رجع من الغزو رأى مالكا مجهودا ، قال : ما أصابك؟ قال : لم يكن عندي شيء ، ولم يحلّ لي أن آكل من مالك ، فنزل قوله تعالى (أَوْ صَدِيقِكُمْ)(٣).

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) سبب نزول هذه الآية : أن بني كنانة ـ وهم حيّ من العرب ـ كان الواحد منهم يجوع أيّاما ولا يأكل حتّى يجد ضيفا فيأكل معه ، وإذا لم يجد أحدا فلا يأكل شيئا ، وربّما

__________________

(١) الأنعام / ٥٩.

(٢) (٢ و ٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩١٩.

(٣) (٢ و ٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩١٩.

٤٥٠

كانت معه الإبل مجفّلة فلا يشرب من ألبانها حتّى يجد من يشاربه ، فأعلم الله تعالى أن الرجل منهم إذا أكل وحده فلا إثم عليه. ومعنى (أَشْتاتاً) متفرّقين.

ويستدلّ من هذه الآية أن للجماعة في السّفر أن يخلطوا طعامهم فيأكلوا جميعا أو يأكل واحد منهم من زاده ولا حرج عليه في ذلك. والغرض من هذه الآيات : نفي الحرمة عن كلّ ما تطيب به الأنفس.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنه في سبب نزول هذه الآيات : (أنّ الله تعالى لمّا أنزل قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(١) تحرّج المسلمون من مؤاكلة المرضى والزّمنى والعميان والعرج ، وقالوا : قد نهانا الله عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطّيّب من الطّعام ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة ، والمريض لا يستوفي حقّه من الطّعام ، فأنزل الله هذه الآيات).

والمعنى : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج. وقال الضحّاك : (كان العميان والعرجان يتنزّهون عن مؤاكلة الأصحّاء ؛ لأنّ النّاس يتقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم ، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقذّرا ، فأنزل الله هذه الآيات).

قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ؛) أي يسلّم بعضكم على بعض ، وإنّما قال (عَلى أَنْفُسِكُمْ) لأن المؤمنين كنفس واحدة. وقيل : هذا في دخول الرجل بيت نفسه ، والسّلام على أهله ومن في بيته. قال قتادة : (إذا دخلت بيتك فسلّم على أهلك فهم أحقّ من سلّمت عليه ، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين ، ومن السّنّة إذا دخل الرّجل بيت نفسه أن يسلّم على أهله ، فإنّه يزداد بذلك بركة في بيته وأهله) (٢).

__________________

(١) النساء / ٢٩.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٤٩٠٢). وفي الدر المنثور : ج ٦ ص؟؟ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي).

٤٥١

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا دخلتم بيوتكم فسلّموا على أهليكم ، وإذا طعمتم طعاما فاذكروا اسم الله عليه ، فإنّ الشّيطان إذا سلّم أحدكم لم يدخل بيته ، وإذا ذكر اسم الله على طعامه قال لجنده من الشّياطين : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإن لم يسلّم حين يدخل بيته ولم يذكر اسم الله على طعامه ، قال الشّيطان لجنده : أدركتم العشاء والمبيت](١).

قوله تعالى : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ؛) أي افعلوا ذلك تحيّة أمركم الله بها ، لكم فيها البركة والمغفرة والثواب ، (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ؛) أي هكذا بيّن الله لكم الدلالات والأحكام ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١) ؛ أي لكي تعقلون.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ ؛) في الآية ثناء على المؤمنين ، وإذا كانوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر جامع ؛ أي في أمر طاعة يجتمعون عليه لحقّ الجمعة وصلاة العيدين والجهاد وأشباه ذلك ، (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.)

قال المفسّرون : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة ، وأراد الرّجل أن يخرج لطاعة أو عذر ؛ لم يخرج حتّى يقوم بحيال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يراه ، فيعرف أنّه إنّما قام ليستأذن ، فيأذن لمن يشاء منهم. قال مجاهد : (وإذا أذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده) (٢).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استأذن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرّجوع من غزوة تبوك إلى

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ٣ ص ٣٨٣. ومسلم في الصحيح : كتاب الأشربة : الحديث (١٠٣ / ٢٠١٨). وابن ماجة في السنن : كتاب الدعاء : الحديث (٣٨٨٧). وأبو داود في السنن : كتاب الأطعمة : الحديث (٣٧٥٦).

(٢) ذكره الطبري في جامع البيان : مج ١٠ ج ١٨ ص ٢٣٣.

٤٥٢

المدينة لعلّة كانت به (١). قوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ؛) قيل : إنّ هذا منسوخ بقوله تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(٢) ، قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ ؛) أي استغفر لهؤلاء المستأذنين إذا استأذنوك لعذرهم ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ ؛) للنّاس ، (رَحِيمٌ) (٦٢) ؛ بهم.

قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ؛) أي ادعوه بالخضوع والتعظيم ، وقولوا : يا رسول الله ؛ ويا نبيّ الله ، في لين وتواضع وخفض صوت ، ولا تقولوا : يا محمّد! ولا يا أبا القاسم! كما يدعو بعضهم بعضا باسمه.

قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ؛) أراد به المنافقين ، كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب النّاس يوم الجمعة عابهم في خطبته ، فإذا سمعوا ذلك نظروا يمينا وشمالا ، فإن أبصرهم أحد لم يقوموا ، وإن لم يبصرهم أحد قاموا فخرجوا من المسجد يتسلّلون (٣). والتّسلّل الخروج في خفية.

واللّواد : أن يستر بعضه بعضا ثم يمضي ، يقال : لاودت بفلان ملاوذة ولواذا. قال ابن عبّاس : (هو أن يلوذ بغيره فيهرب من المسجد من غير استئذان).

قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ؛) أي ليحذر الذين يعرضون عن أمر الله ويخالفون في أمره ، (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ؛) أي بليّة ، (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣) في الآخرة.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي له كلّ ذلك ملكا وقدرة وإحاطة ، (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ؛) أي يعلم ما يبديه كلّ منكم وما يخفيه ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ؛) معناه : يعني يعلم يوم يبعثون متى هو ، (فَيُنَبِّئُهُمْ ؛) فيه ؛ (بِما عَمِلُوا ؛) أي يجزيهم بما عملوا في دار الدّنيا ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤) ؛ من أعمال العباد وغير ذلك.

__________________

(١) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٢٧.

(٢) التوبة / ٤٣.

(٣) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٢٨. ونقله ابن عادل في اللباب : ج ١٤ ص ٤٦٣ عن الكلبي.

٤٥٣

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ سورة النّور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي](١).

آخر تفسير سورة (النور) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ٦٢ ، وإسناده واه.

٤٥٤

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكّيّة ، وهي ثلاث آلاف وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا ، وألف وثلاثمائة واثنتان وتسعون كلمة ، وسبعة وسبعون آية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة الفرقان دخل الجنّة بغير حساب](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ ؛) أي عظمت وكثرت بركات الله. والبركة : هي الخير الكثير. وقيل : معناه : تبارك : أي تعالى ، قوله : (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ ؛) أي الذي نزّل جبريل بالفرقان ، (عَلى عَبْدِهِ ،) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) ؛ أي معلما بموضع المخافة. والفرقان : البيان الذي يفرّق به بين الحقّ والباطل ، ويزجر عن القبائح ، ويدعو إلى المحاسن ، ويعني بالعالمين : الجنّ والإنس.

قوله تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي لله خزائن السّموات والأرض والقدرة على أهلها ، (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ؛) كما قال اليهود والنصارى والمشركون ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ؛) فيعاونه على ملكه ، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) ؛ أي قدّر طوله وعرضه ولونه ورزقه وأجله.

قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ؛) فمعناه : واتخذ كفار مكّة من دون الله آلهة يعبدونها ؛ هي الأصنام لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون ، ما من شيء يكون منها من ذهب أو فضّة أو صفر

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٢٨٩.

٤٥٥

أو خشب إلّا والله خالقها ، (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ؛) أي لا يملكون الأصنام لأنفسها دفع ضرّ ولا جرّ نفع ؛ لأنّها جماد لا قدرة لها ، (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣) ؛ أي لا يملك أن يموت أحد ولا يحيي أحد ، ولا تملك بعثا للأموات ، فكيف يعبد هؤلاء من لا يقدر على أن يفعل شيئا من هذا؟ ويتركون عبادة ربهم الذي يملك ذلك كلّه. يقال : أنشر الله الأموات فنشروا ؛ أي أحياهم فحيوا.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ؛) أي قال الذين كفروا : ما هذا القرآن إلّا كذب اختلقه محمّد من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون من أهل الكتاب ، يعنون (جبرا) مولى لقريش ، ويسار أبا فكيهة مولى لبني الحضرميّ ، وعدّاسا مولى لحويطب بن عبد العزّى (١) ، كان هؤلاء يقرأون التوراة قبل أن يسلموا ، فلما أسلموا رأوا التوراة تشبه القرآن ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمرّ بهم ويتعاهدهم ، فمن ذلك قال الكفار : وأعانه عليه قوم آخرون (٢).

قوله تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (٤) ؛ أي قال الكفار هذه المقالة شركا وكذبا ، زعموا أن القرآن ليس من الله ، والمعنى : فقد جاءوا بظلم وزورا فيما قالوا ، فلمّا سقطت الباء أفضى إليه الفعل فنصبه (٣). والزّور : وضع الباطل في موضع الحقّ.

قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ؛) أي قال النّضر بن الحارث وأصحابه : هذا القرآن أحاديث الأوّلين في دهرهم كما كنت أحدّثكم عن الأعاجم ، (اكْتَتَبَها ؛) محمّد أي أنسخها من عداس وجبر ويسار ، (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ،) فهي تقرأ عليه ، (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) ؛ أي أمر أن يكتب له فهي تقرأ عليه غدوة وعشيّة ليحفظها.

__________________

(١) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٣٠.

(٢) ينظر اختلاف قولهم كما ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ٤٥.

٤٥٦

قوله تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ ؛) أي قل لهم يا محمّد : أنزل القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،) لا يخفى عليه شيء فيهما ، (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً ؛) لمن تاب وآمن ، (رَحِيماً) (٦) ؛ لمن مات على التوبة.

قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ؛) أي قال المشركون على وجه الذمّ والتّعيير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لهذا الرسول يأكل مما يأكل الناس ، ويمشي في الطّرق كما نمشي لطلب المعيشة. والمعنى : أنه ليس بملك لأن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ، والملوك لا يسبقون ، (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٧) ؛ يكون معه شريكا في النبوّة ، (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ؛) ينتفع به ، (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ؛) من ثمرها ، يعني بستانا يأكل من ثمره ، ومعنى قوله تعالى (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي ينزل عليه مال ينفعه ولا يحتاج إلى طلب المعاش. وقوله تعالى (يَأْكُلُ مِنْها) قرأ حمزة والكسائيّ وخلف بالنّون ؛ أي نأكل من جنّته.

قوله تعالى : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨) أي قال المشركون للمؤمنين : ما تتّبعون إلّا رجلا مخدوعا مغلوبا على عقله قد سحر وأزيل عنه الاستواء.

قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) معناه : انظر يا محمّد كيف ضربوا لك الأمثال ، يعني : مثّلوه بالمسحور وبالمحتاج. وقيل : معناه : انظر كيف وصفوا لك الأشياء : إنك ساحر وكاهن وكذاب وشاعر ومجنون ، فضلّوا عن الصواب والهدى وأخطاؤا النسبة ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٩) ؛ أي فلا يجدون طريقا إلى إلزام الحجّة ولا مخرجا لأنفسهم بإثبات العذر في ترك الإيمان به ، وذلك أنّهم جعلوا معذرتهم في ذلك أشياء ليست بعذر.

أما أكل الطّعام فإنه كان في الرّسل قبله ، فلم يكن ذلك عذرا في ترك الإيمان به ، ولو أنزل ملكا لكان يحتاج إلى أن ينزل من السّماء ويتردّد في الأرض لتبليغ

٤٥٧

الرسالة ، كما قال تعالى (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً)(١) ولو جعل الملك شريكا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاونا له في الإنذار ، أدّى ذلك إلى استصغار كلّ واحد منهما في أنه لا يكون كلّ واحد منهما قائما بنفسه في أداء الرسالة.

وأما الكنز فإنه قد وجد كثير من الفراعنة ولم يوجب ذلك اتباعهم ، وعدم مع كثير من الأنبياء الذين أقرّ الخلق برسالتهم ، وكذلك الحياة ؛ ولأن الأنبياء صلوات الله عليهم إنّما يبعثون لتزهيد الناس في الكنوز والحياة ، وترغيبهم في الآخرة ، فكيف يجوز أن يمنعوا الناس عنه ويشتغلوا به هم؟

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (١٠) ؛ قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ ملكا أنزل من السّماء ، فقال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله يخيّرك بين أن يعطيك خزائن كلّ شيء ، ومفاتيح كلّ شيء لم يعطها أحد قبلك ، ولم يعطها أحد بعدك من غير أن ينقصك شيئا ممّا ادّخر لك في الآخرة ، وبين أن يجمعها لك في الآخرة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بل يجمعها لي في الآخرة]) (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [خيّرني جبريل بين أن أكون نبيّا ملكا وبين أن أكون نبيّا عبدا ، فاخترت أن أكون نبيّا عبدا ؛ أشبع يوما وأجوع يوما ، أحمد الله إذا شبعت ، وأتضرّع إليه إذا جعت](٣).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف النّعل ، ويرقّع الثّوب ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه ، وكان قد مات ذكر الدّنيا عن نفسه ، ويقول : (وا عجبا كلّ العجب للمعترف بدار الخلود وهو يعمل لدار الغرور).

__________________

(١) الأنعام / ٩.

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٢٣٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن مردويه) وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٩٣٣).

(٣) في تخريج أحاديث الإحياء : ج ٥ ص ٢٠٢٨ ؛ قال العراقي : (رواه أبو يعلى من حديث عائشة ، والطبراني من حديث ابن عباس ، وكلا الحديثين ضعيف). وأخرج الترمذي شطرا من الحديث في الجامع : أبواب الزهد : باب ما جاء في الكفاف : الحديث (٢٣٤٧) ، وقال : حسن.

٤٥٨

ومعنى الآية : تبارك وتعالى إن شاء يجعل لك خيرا مما قالوه في الدّنيا من جنات وقصور ، وإن شاء يجعل لك قصورا في الدّنيا ؛ أي لو شاء جعل لك أفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، ويجعل لك جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الدّنيا ؛ لأنه قد شاء أن يعطيه في الآخرة.

وقوله تعالى : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) من قرأ بالجزم ، كان المعنى إن شاء جعل لك الجنات ويجعل لك قصورا في الدّنيا ، لأنه قد شاء ، وإنّما لم يجعل الحكمة التي أوجبت لك. قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم : (ويجعل) بالرفع على الاستئناف بمعنى : وسيجعل لك قصورا في الجنّة في الآخرة. والقصور : هي البيوت المشيّدة ، سمّي القصر قصرا ؛ لأنه قصر ومنع من الوصول إليه.

وعن ابن عبّاس أنه قال : (لمّا عيّر المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاقة فقالوا : ما لهذا الرّسول يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق ، ويمشي في المعاش ، تعب (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ، فنزل جبريل عليه‌السلام معزّيا له ، فقال له : يا رسول الله ؛ ربّك يقرؤك السّلام ويقول : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) لطلب المعاش في الدّنيا.

فبينما جبريل والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدّثان إذ أقبل رضوان خازن الجنان فسلّم على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه سفط من نور يتلألأ ، فقال : يا رسول الله ؛ ربّك يقرؤك السّلام ، ويقول لك : هذه مفاتيح خزائن الدّنيا مع أنّه لا ينقص حظّك في الآخرة جناح بعوضة ، فنظر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جبريل مشيرا ، ثمّ قال : [يا رضوان ؛ لا حاجة لي فيها ، العفو أحبّ إليّ وأن أكون عبدا صابرا شكورا حامدا من السّماء] فرفع جبريل رأسه ، فإذا السّموات قد فتحت أبوابها إلى العرش ، فأوحى الله تعالى إلى جنّات عدن أن تدلي أغصانها ، فإذا غرفة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف باب من ياقوتة حمراء ، فقال جبريل : يا محمّد ارفع بصرك ، فرفع فرأى منازل الأنبياء قد فصل بها من دونهم ، وإذا بمناد : أرضيت يا محمّد؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [قد رضيت]) (٢).

__________________

(١) في أسباب النزول للواحدي : ص ٢٢٤ : (حزن).

(٢) أخرجه الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

٤٥٩

قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١) ؛ معناه : لا يستطيعون سبيلا إلى إلزام الحجّة وإثبات المعذرة ، ولكن كذبوا بالسّاعة ، وأعتدنا لمن كذب بقيام السّاعة نارا مسعّرة ، (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ؛) من مسيرة خمسمائة عام ، (سَمِعُوا لَها ؛) للنار غليانا ، (تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١٢) ؛ كتغيّظ بني آدم ، وصوتا كالزّفير عند شدّة التهابها واضطرابها ، وإنّما قال (إِذا رَأَتْهُمْ) وهم يرونها على معنى : كأنّها تراهم رؤية الغضبان الذي يزفر غيظا. قيل : إنّها لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا خرّ لوجهه.

قوله تعالى : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (١٣) ؛ قال ابن عبّاس : (يطبق عليهم كما يطبق الزّجّ في الرّمح ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [والّذي نفسي بيده ؛ إنّهم يستكرهون كما يستكره الوتد في الحائط](١). والمعنى : إذا طرحوا في مكان ضيّق من النّار مقرّنين ؛ أي مغلولين قد قرّنت أيديهم من الجنّ والإنس يقولون : وا ثبوراه ، وا هلاكاه.

وفي الخبر : أنّهم إذا ألقوا على باب جهنّم ، وتضايق عليهم كتضايق الزّجّ في الرّمح ، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيّقة ، يرفعهم اللهب وتخضعهم مقامع ملائكة العذاب ، فعند ذلك يدعون بالويل والثّبور ، ويقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) ؛ فإنّ سبب الثّبور دائم لا ينقطع.

قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ؛) أي قل أذلك العذاب والسّعير خير أم جنّة الخلد التي وعد المتّقون ، وهذا على طريق التعجّب والتبعيد لا على طريق الاستفهام ؛ لأنه ليس في السعير خير.

قوله تعالى : (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) (١٥) ؛ أي كانت الجنّة للمتقين جزاء ومرجعا في الآخرة ، (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ ؛) أي لهم في جنّة الخلد ما يشاؤون ، (كانَ ؛) ذلك الخلد ، (عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦) ؛ وذلك أن المؤمنين سألوا ربّهم في الدّنيا حين قالوا (رَبَّنا وَآتِنا ما

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الحديث (١٥٠٠٥).

٤٦٠