التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

قوله تعالى : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨) ؛ معناه : أم جاءهم أمر بديع لم يأت آباءهم ؛ أي ألم يعلموا أن الرّسل قد أرسلوا إلى من قبلهم؟ والمعنى : أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين فأنكروه وأعرضوا عنه. ويحتمل أن يكون معناه : بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين فأنكروه وتركوا التدبر له (١). لأن (أَمْ) بمعنى : (بل).

قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ؛) بالصّدق والأمانة قبل إظهار الدّعوة؟ (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٦٩). قال ابن عبّاس : (كانوا يعرفون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صغيرا وكبيرا صادق اللّسان وفيّ العهد) وفي هذا توبيخ لهم بالإعراض عنه بعد ما عرفوا صدقه وأمانته.

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ؛) أي قالوا : إنّ محمّدا مجنون ليصدّوا الوجوه ويصرفوها عنه ، وقد كذبوا في ذلك ، فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يفعل ، (بَلْ جاءَهُمْ ؛) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْحَقِّ ؛) أي بالقرآن الذي لا تخفى صحّته وحسنه على أحد ، (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٠).

قوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ ،) قال مقاتل والسدي : (الحقّ هو الله) والمعنى : لو جعل مع نفسه شريكا كما تحبّون ، (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ؛) كقوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٢). وقيل : معناه : لو وضع الحقّ على أهوائهم لهلك أهل السّموات والأرض ؛ لأنّ الحقّ يدعو إلى المحاسن ، والهوى يدعو إلى القبائح ، ولو جعل الهوى متبوعا لبقيت الأمور على الظّلم والجهالات ، فتخلط الأمور أقبح الاختلاط ، ولم يوثق بالوعد والوعيد ، فأدّى ذلك إلى الفساد ؛ لأن الهوى هو ميل النفس إلى المشتهى من غير داعي الهوى.

__________________

(١) سقطت من المخطوط مع تصحيف كلمة (تركوا) ، وتمامه ضبط كما في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ١٣٩.

(٢) الأنبياء / ٢٢.

٣٨١

قوله تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ ؛) أي أعطيناهم القرآن الذي فيه عزّهم وشرفهم ، وأمروا بالعمل بما فيه ، (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ ؛) القرآن ، (مُعْرِضُونَ) (٧١) ؛ وهو نظير قوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(١) وقوله (كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ)(٢) والمعنى : تولّوا عمّا جاءهم به من شرف الدّنيا والآخرة.

قوله تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ؛) معناه : أم تسألهم على تبليغ الرّسالة الجعل فيتثاقلون لذلك ، قوله تعالى : (فَخَراجُ رَبِّكَ) أي ما وعد الله لك من الأجر والثواب في الآخرة ، (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٧٢) ؛ أي أفضل المعطين. وأصل الخرج والخراج : الضريبة والعلّة ، كخراج الأرض.

وقال النضر بن شميل : (سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج ، فقال : الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه ، والخرج ما تبرّعت به من غير وجوب) (٣) ، قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٣) ؛ أي إلى طريق قائم يرضاه الله وهو الإسلام.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٧٤) معناه : وإنّ الذين لا يصدّقون بالقيامة عن دين الحقّ لناكبون ؛ أي مائلون عادلون ، ومنه النّكباء. وقيل : معناه : إنّهم في الآخرة عن صراط جهنّم يسقطون يمنة ويسرة.

قوله تعالى : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٥) ؛ أي ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من الشدّة التي أصابت أهل مكّة من الجوع والقحط الذي أخذهم سبع سنين للجّوا في طغيانهم ؛ أي لتمادوا في ضلالتهم يتحيّرون ويتردّدون. وقيل : ولو رحمناهم في الآخرة فرددناهم إلى الدّنيا لعادوا إلى الكفر كما كانوا. قال الله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)(٤).

__________________

(١) الزخرف / ٤٤.

(٢) الأنبياء / ١٠.

(٣) ذكره الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ٥٢. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ١٤٢ مختصرا.

(٤) الأنعام / ٢٨.

٣٨٢

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ؛) يعني الجوع الذي أصابهم بدعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اللهمّ سنين كسنيّ يوسف](١) فجاعوا حتى أكلوا الوبر والدم (٢) ، (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) (٧٦) ؛ أي فما خضعوا لربهم وما تضرّعوا ولا انقادوا في الأمر لله وما رغبوا إليه في الدّعاء ، ولو كشف عنهم العذاب لم يشكروا ، والاستكانة : طلب السّكون ، والتّضرّع : طلب كشف البلاء من القادر عليه.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ؛) قيل : إنه القتل يوم بدر ، وقيل : إنه عذاب الآخرة ، (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٧) ؛ أي آيسون يتحيّرون ، والإبلاس : اليأس مع التحيّر. وقيل : لمّا أصابهم من الجوع ما أصابهم ، جاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أنشدك الله والرّحم ، ألست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ قال [بلى] قال : فإنّك قد قتلت الآباء بالسّيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٣).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٧٨) ؛ أي خلق لكم السمع تسمعون به ، والأبصار تبصرون بها ، والقلوب تعقلون بها ، فشكركم فيما أعطي (٤) إليكم قليل (٥) ، والأفئدة هي القلوب. قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ؛) أي خلقكم في الأرض ، (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٧٩) ؛ أي تجمعون إلى موضع الحساب والجزاء.

__________________

(١) تقدم.

(٢) في المخطوط : (الوس بالدم) والصحيح كما أثبتناه. وهو يسمى العهلز. أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٣٩٧) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك : ج ٣ ص ١٥٥ : كتاب التفسير : باب كراهة السمر : الحديث (٣٥٣٩). والبيهقي في دلائل النبوة : ج ٤ ص ٨١. وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٧٣ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني وفيه علي بن الحسين بن واقد ، وثقه النسائي وغيره ، وضعفه أبو حاتم. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٩٣٩٨) بإسناد آخر.

(٤) في المخطوط : (طبع) وهو غير مناسب.

(٥) في اللباب في علوم الكتاب : ج ١٤ ص ٢٤٦ ؛ ذكر ابن عادل قال : (قال أبو مسلم : وليس المراد أنّ لهم شكرا وإن قلّ ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة : ما أقلّ شكر فلان).

٣٨٣

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ؛) أي يحييكم في أرحام أمّهاتكم ، ويميتكم عند انقضاء آجالكم ، (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ؛) أي له ملك اختلافهما ومرورهما يوما بعد ليلة ، وليلة بعد يوم ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٨٠) ؛ أدلّة الله تعالى تستدلّون به على وحدانيّة الله تعالى.

قوله : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) (٨١) ؛ أي لم يعقلوا أدلّتنا ولم يستدلّوا بها علينا ، بل كذبوا بالبعث كما كذب آباؤهم قبلهم ، والمعنى : كذبت قريش بالبعث مثل ما كذب الأولون ، (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (٨٢) ؛ بعد الموت.

قوله تعالى : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ؛) أي خوّفنا بهذا الذي تخوّفنا به من قبل أن تخوّفنا به ، (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨٣) أي ما هذا الذي تخوّفنا به يا محمّد إلّا أحاديث الأوّلين.

قوله تعالى : (قُلْ ؛) لهم يا محمّد : (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها ؛) من الخلق والعجائب ، أجيبوا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨٤) ؛ خالقها. ثم أجاب الله عنهم لمّا علم أنّهم لا يجيبون فقال : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ) لهم يا محمّد : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٨٥) ؛ فتستدلّون على أنّ من له ملك السّموات والأرض وما فيهما قادر على البعث والنّشور ، فإنّ من ملك الأرض ومن فيها ملك إنشاءها بعد هلاكها.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٨٧) ؛ عقابه على إنكار البعث. ومن قرأ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ومعناه : كأنه قال : لمن السّموات؟ فقال : لله.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ ؛) أي من ذا الذي له خزائن كلّ شيء وهو يغيث ويمنع من السّوء ، ولا يمنع منه من أراد به سوء ، أجيبوا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ؛) ملكوت كلّ شيء ، (قُلْ) لهم يا محمّد (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (٨٩) ؛ أي تصرفون عن الحقّ إلى ما ليس له أصل ولا حقيقة ، وقد ألقي إليكم حقائق الأدلة.

٣٨٤

والمعنى بقوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي كيف يخيّل لكم الحقّ باطلا ، والصحيح فاسدا.

قوله تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ ؛) أي جئناهم بالحقّ وبيّنّا لهم ، يعني أتيناهم بالتوحيد والقرآن ، (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٩٠) ؛ فيما يضيفون إلى الله من الولد والشّريك.

قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ؛) هذا ردّ على اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، وعلى النصارى في قولهم : المسيح ابن الله ، وعلى من قال من المشركين : الملائكة بنات الله ، (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ،) هذا ردّ على عبدة الأوثان. وقوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ؛) معناه : لو كان معه آلهة لا نفرد كلّ إله بخلقه ، لا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ، (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ؛) أي لطلب بعضهم قهر بعض ، فلم ينتظم أمرهما كما لا ينتظم أمر بلد فيه ملكان قاهران.

قوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ ؛) أي تنزيها لله (عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) ؛ من اتّخاذ الولد والشريك ، (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ؛) من خفضه جعله نعت الله ، ومن رفعه كان خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو عالم ، فقراءة الخفض هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقراءة الباقين بالرفع (١). ومعنى الآية : عالم ما غاب عن العباد وما علمه العباد ، (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩٢).

قوله تعالى : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) (٩٣) ؛ معناه : قل يا محمّد رب أرني ما يوعدون من العذاب والنّقمة ؛ يعني القتل ببدر. وقيل : معناه : قل يا محمّد : يا (رَبِّ ؛) إن أريتني ما يوعدون من العذاب ، (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) ؛ أي منهم. قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ

__________________

(١) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ١٨٦. وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ١٤٧ ؛ قال القرطبي : (وقرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي : (عالم) بالرفع على الاستئناف ، أي هو (عالم الغيب). الباقون بالجر على الصفة لله. وروى رويس عن يعقوب : (عالم) إذا وصل خفضا و (عالم) إذا ابتدأ رفعا).

٣٨٥

لَقادِرُونَ) (٩٥) ؛ أي نحن قادرون على تعذيبهم ، لكنّ الإمهال لحكمة تقتضي ذلك.

قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ؛) يعني بالإحسان الإعراض والصّفح ، والسّيّئة : أذى المشركين إيّاه ، وهذا قبل الأمر بالقتال ، والمعنى : اذكر لهم المقاتلة والحجة على طريق التلطّف والاستدعاء إلى الحق كما قال تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً)(١). قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) (٩٦) ؛ أي بما يكذّبون وبما يقولونه من الشّرك فيجازيهم عليه.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٩٧) ؛ أي اعتصم بك وأمتنع بك من همزات الشّياطين ، وهمزات الشياطين : دفعهم الناس إلى المعاصي بالإغواء ، ويقال : الهمزة هي الوسوسة الشّاغلة عن أمر الله تعالى ، (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨) ؛ عند القراءة وعند الموت وعند الغضب. وعن الحسن : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام إلى الصّلاة فهلّل وكبّر ثلاثا ؛ وقال : [أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ، من همزه ولمزه ونفثه ونفخه] فسئل عن همزه ؛ فقال : [هو أخذ الشّيطان للإنسان حتّى يصرع ويجنّ] وسئل عن نفثه ؛ فقال : [هو الشّعر] وسئل عن نفخه ؛ فقال : [إنّه الكبر](٢).

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (٩٩) ؛ أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدّنيا عند معاينة الموت. والمعنى : حتّى إذا عاين أحدهم الموت وأعوانه قال : رّب ارجعون إلى الدّنيا.

وإنّما قال : (رَبِّ ارْجِعُونِ) بلفظ الجماعة لأن الله تعالى يخبر عن نفسه بما يخبر به عن الجماعة في قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ)(٣) وأمثاله ، وكذلك العرب

__________________

(١) طه / ٤٤.

(٢) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ٥ ص ٢٥٣. وعبد الرزاق في المصنف : ج ٢ ص ٨٤ : الحديث (٢٥٨٠).

(٣) ق / ٤٣.

٣٨٦

تخاطب الرجل الواحد بلفظ الجماعة كما يقول الرجل لآخر : أنتم تفعلون كذا ونحن نفعل كذا ، ومنه قوله تعالى : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ)(١).

قوله تعالى : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ؛) قال ابن عبّاس : (معناه : أشهد أن لا إله إلّا الله وأعمل طاعة الله) (٢)(فِيما تَرَكْتُ ؛) أي في ما مضى من عمري ، قال الله تعالى : (كَلَّا) لا يرجع إلى الدّنيا ، ولا يجوز أن يكون (لعلّ) في هذه الآية للشّكّ ؛ لأنه لا معنى لذلك مع حرصه على الرّجعة والنجاة من الموت والعذاب ، وإنّما المعنى : لكي أعمل صالحا ، و (كَلَّا) كلمة ردع وزجر وتنبيه أي لا يكون له ذلك.

قوله تعالى : (إِنَّها ؛) أي من مسألة الرّجوع إلى الدّنيا ، (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ،) عند موته ولا فائدة في ذلك ، (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٠٠) ؛ أي من أمامهم حاجز وحجاب بينهم وبين الرّجوع إلى الدّنيا ، وهم فيه إلى يوم يبعثون ، فالقبر حاجز ، وكل فصل بين شيئين برزخ.

قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (١٠١) ؛ قال ابن عبّاس : (يعني النّفخة الأولى) (٣). وقيل : هي النفخة الثانية. وقوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ،) قال الحسن : (والله إنّ أنسابهم لقائمة بينهم كما قال الله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ)(٤) ولكنّهم لا ينتفعون بأنسابهم ولا يتعاطفون عليها ، فكأنّهم لا أنساب لهم).

وقيل : معناه : لا تفاخر بينهم كما يتفاخرون في الدّنيا ، ولا يتساءلون كما تسأل العرب في الدّنيا : من أيّ قبيل أنت؟ وقيل : لا يسأل بعضهم بعضا عن خبره وحاله كما كانوا في الدّنيا ؛ لشغل كلّ واحد منهما بنفسه ، ولا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل شيئا من ذنوبه.

__________________

(١) القصص / ٩.

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ١١٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٤٢٤).

(٤) عبس / ٣٤ ـ ٣٥.

٣٨٧

قوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ؛) يعني بالطاعات ؛ (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٢) ؛ وقيل : فمن ثقلت موازينه بكلمة التّوحيد ، فأولئك هم المفلحون ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ولو وضعت السّموات السّبع وما فيهنّ والأرض في كفّة ، رجحت بجميع ذلك](١).

قوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ؛) يعني بكلمة الشرك (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (١٠٣) ؛ ظاهر المعنى. قوله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ؛) قيل : الفلح هو الإحراق ، يقال : لفحته النار إذا أحرقته ، وتأثير الفلح أعظم من تأثير النّفح ، والنفح مذكور في قوله (نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ)(٢). قوله تعالى : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١٠٤) ؛ الكلوح : تقلّص الشّفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان.

قال الحسن : (تغلظ شفاههم ، وترتفع شفته العليا ، وتنزل شفته السّفلى ، فتظهر الأسنان ، فهو أقبح ما يكون). قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وتشويه النّار حتّى تقلّص شفته العليا فتبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السّفلى حتّى تبلغ سرّته](٣) ، قال ابن مسعود : (ألم تر إلى الرّأس المسموط بالنّار كيف بدت أسنانه وقلّصت شفتاه) (٤).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) ؛ أي تجحدون ، (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ؛) بكثرة معاصينا ، (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) (١٠٦) ؛ في الدّنيا فلم نهتد. قرأ الكوفيّون غير عاصم : (شقاوتنا) بالألف وفتح الشّين ، وهما بمعنى واحد. الشّقوة : هي المضرّة اللّاحقة في العاقبة ،

__________________

(١) الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٥ ص ٣٦٥ : الحديث (٤٧٢٢) وهنا ساقه بمعناه. والترمذي في الجامع : أبواب الإيمان : باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله : الحديث (٢٦٣٨) ، وقال : حديث حسن غريب.

(٢) الأنبياء / ٤٦.

(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٣ ص ٨٨. والترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٢٥٨٧). والحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : باب بيان عذاب أهل النار : الحديث (٣٥٤٢).

(٤) في الدر المنثور : ج ٦ ص ١١٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو نعيم في الحلية).

٣٨٨

والسّعادة : هي المنفعة التي تكون في العاقبة. والشّقوة بفتح الشّين بمنزلة الفعلة الواحدة ، وكسر الشّين في هذا دالّ على الكثرة واللّزوم (١).

قوله تعالى : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها ؛) أي من النار إلى الدّنيا ، (فَإِنْ عُدْنا) إلى التّكذيب والمعاصي ، (فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧).

قوله تعالى : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) ؛ (اخْسَؤُا) كلمة إهانة ومذلّة ؛ وهي في الأصل لطرد الكلاب ، تقول : خسأت الكلب إذا طردته ؛ فخسأ أي تباعد. قال الزجّاج : (معناه تباعدوا تباعد سخط ، وابعدوا بعد الكلب ، ولا تكلّمون في رفع العذاب عنكم ، ولا تسألون الخروج من النّار ، فإنّي لا أدفع عنكم العذاب ، ولا أهوّنه عليكم) (٢).

قال عبد الله بن عمرو : (أنّ أهل جهنّم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم ، ثمّ يقول : إنّكم ماكثون ، ثمّ ينادون ربّهم : ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون. فلا يجيبهم مقدار عمر الدّنيا ، ثمّ يردّ عليهم : إخسئوا فيها ولا تكلّمون بعد ذلك ، ويكون لهم زفير كزفير الحمير ، وشهيق كشهيق البغال ، وعويّ كعويّ الكلاب) (٣).

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ ؛) أي يقال لهم : إنه كان طائف من عبادي يقولون : (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١٠٩) ؛ وهم الأنبياء والمؤمنون ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب بما عاملوا الأنبياء والمؤمنين باتّخاذهم سخريّا.

وقوله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ؛) أي تسخرون منهم وتستهزئون بهم. قرأ نافع وحمزة والكسائيّ : بضمّ السّين ها هنا وفي ص ، وقرأ الباقون بكسرها وهما

__________________

(١) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٠ ؛ قال الزجاج : (معنى اخْسَؤُا : تباعدوا تباعد سخط ، يقال : خسأت الكلب أخسؤه : إذا زجرته ليتباعد).

(٣) رواه الحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٥٤٤). وابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ٢٥٠٨ : الأثر (١٤٠٤٦).

٣٨٩

لغتان ، ولم يختلفوا في الزّخرف أنه بالضّمّ ؛ لأنه بمعنى التّسخير (١).

قوله تعالى : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (١١٠) ؛ لاشتغالكم بالسّخرية منهم وبالضّحك ، فنسب الأنبياء إلى عباده المؤمنين ، وإن لم يفعلوا ؛ لما أنّهم كانوا السبب فيه.

قوله تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا ؛) على أذيّتكم واستهزائكم ، (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) (١١١) ؛ في الجنّة. قرأ حمزة والكسائيّ (إنّهم) بالكسر على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالفتح على معنى جزيتهم بالفوز (٢).

قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) (١١٢) ؛ أي كم لبثتم في القبور؟ وقيل المكث في الدنيا ، يقول الله تعالى للكفار يوم البعث : كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ؛) فيرون أنّهم لم يلبثوا إلّا يوما أو بعض يوم لعظم ما هم فيه من العذاب ، نسوا ذلك. ويقال : يلحقهم دهشة وحيرة فينسون ذلك. وقوله تعالى : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) (١١٣) ؛ يعني الملائكة الذين يحفظون عليهم آجالهم. وقرأ ابن كثير : (قل كم لبثتم) على فعل الأمر ، وقوله : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ؛) في جنب لبثكم في العذاب (٣) ؛ (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١٤)

قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي أظننتم أنا خلقناكم للعبث تأكلون وتشربون وتفعلون ما تريدون وتموتون ، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥) ؛ أي فلا تحشرون للحساب ، ولا ترجعون إلى موضع لا تملكون فيه لأنفسكم ضرّا ولا نفعا؟

قال ابن عبّاس : (معناه : أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا كما خلقنا البهائم ، لا ثواب لها ولا عقاب عليها لما قال (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً)(٤) أي يهمل

__________________

(١) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ١٨٧.

(٢) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ١٨٩.

(٣) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ١٨٩.

(٤) القيامة / ٣٦.

٣٩٠

كما تهمل البهائم؟ قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ؛) أي هو الملك الحقّ الذي له الملك ؛ لأنه ملك غيره ، وكلّ من ملك غيره فملكه مستعار له ، فإنه لا يملك إلّا بتمليكه الله إياه ، فكأنه لا يعتدّ بملكه في ملك الله.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦) ؛ سمي العرش كريما لكثرة خيره بمن حوله ، يقال : فلان كريم ؛ أي كثير الخير.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ؛) أي من يدع مع الله إلها آخر لم ينزل بعبادته كتاب ولا بعث لها رسول ولا حجّة له عليه ، فإنّما حسابه عند ربه ، فهو يجازيه بما يستحقّ كما قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(١) ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (١١٧) ؛ أي لا يسعد من جحد وكذب ، ولا يأمن ولا ينجو من عذاب الله الكافرون.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨) ؛ يحتمل أن يكون أمرا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار منه ، كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّي لأستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة](٢) ، ويروى [مائة مرّة](٣).

وعن ابن مسعود : أنّه مرّ بشابّ مبتلى ، فقرأت في أذنه (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) حتّى ختم السّورة فبرئ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وما ذا قرأت في أذنه؟] فأخبره ، فقال : [والّذي بعثني بالحقّ نبيّا ؛ لو أنّ رجلا مؤمنا قرأها على جبل لزال](٤).

آخر تفسير سورة (المؤمنون) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) الغاشية / ٢٦.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٥ ص ١٢٤ : الحديث (٤٢٣٤). والإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٢٨٢. وابن ماجة في السنن : كتاب الأدب : الحديث (٣٨١٦).

(٣) رواه الطبراني في الأوسط : ج ٣ ص ٤٥٦ : الحديث (٢٩٧٨). والإمام أحمد في المسند : ج ٥ ص ٣٩٤. وابن ماجة في السنن : كتاب الأدب : باب الاستغفار : الحديث (٣٨١٥).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : النص (١٤٠٧٠). وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ١٢٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه).

٣٩١

سورة النّور

سورة النّور مدنيّة ، وهي خمسة آلاف وستّمائة وثمانون حرفا ، وألف وثلاثمائة وستّ عشرة كلمة ، وأربع وستّون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها ؛) أي هذه سورة أنزلنا جبريل عليه‌السلام بها ، وقرأ طلحة بن مصرّف (سورة) بالنصب على معنى : أنزلنا سورة كما يقال : زيدا ضربته ، ويجوز أن يكون نصبا على الإغراء (١). قوله تعالى : (فَرَضْناها) أي أوحينا فيها أحكاما وفرائض مختلفة عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة ، وجحد من قرأ بالتخفيف ، قوله (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)(٢) أي أحكام القرآن ، والتشديد في (فرّضناها) لكثرة ما فيها من الفرائض (٣). قال مجاهد : (يعني الأمر بالحلال والنّهي عن الحرام) (٤). قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١) ؛ أي دلالات واضحات على وحدانيّتنا وأحكامنا لكي تتّعظوا فتعملوا بما فيها.

قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ؛) قال سيبويه : (معناه في الفرائض عليكم الزّانية والزّاني ؛ لأنّه لو لا ذلك لنصب بالأمر الّذي في قوله : فاجلدوا) (٥). والجلد في اللّغة : ضرب الجلد ، يقال : جلده ؛ إذا ضرب جلده ورأسه ، إذا ضرب رأسه وبطنه ، إذا ضرب بطنه.

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٨٨. والكشاف للزمخشري : ج ٣ ص ٢٠٣.

(٢) القصص / ٨٥.

(٣) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٨٨. والكشاف للزمخشري : ج ٣ ص ٢٠٣.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٤٥٦).

(٥) ينظر : الكتاب لسيبويه : ج ١ ص ١٤٣ ـ ١٤٤ ، ذكره بمعناه.

٣٩٢

ومعنى الآية : الزّانية والزّاني إذا كانا حرّين بالغين عاقلين بكرين غير محصنين ، فاضربوا كلّ واحد منهما مائة جلدة. فأمّا إذا كانا مملوكين ، فيحدّ كلّ واحد منهما خمسون جلدة في الزّنا لقوله تعالى في الإماء : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ)(١) يعني إذا عقلن فعليهنّ نصف حدّ الحرائر.

وإذا كان الزّاني محصنا فحدّه الرجم ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعز بن مالك الأسلميّ بزناه ، وكان قد أحصن. وكان عمر عليه‌السلام يقول : (إنّي لأخشى إن طال الزّمان أن يقول قائل : لا نجد الرّجم في كتاب الله تعالى ، فيضلّوا بترك الفريضة أنزلها الله ، وقد قرأنا : [الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة] ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، ولو لا أنّ النّاس يقولون : زاد عمر في كتاب الله لكتبت ذلك على حاشية الكتاب) (٢). واجتمعت الأمة على رجم المحصنين إذا زنيا إلّا الخوارج.

وأما الإحصان في هذا فهو أن يكون حرّا بالغا عاقلا مسلما قد تزوّج قبل ذلك نكاحا صحيحا ، ودخل بزوجته في وقت كانا جميعا فيه على صفة الإحصان ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمّد ، فإنّهما يشرطان هذه الشّرائط السبعة في إحصان الزّاني.

وأما أبو يوسف فلا يجعل الإسلام من شرائط الإحصان ، ولا يشترط كونهما على صفة الإحصان وقت الدّخول في النكاح الصحيح ، فجعل الرجل البالغ العاقل المسلم محصنا بالدخول بزوجته الأمة والصبيّة والكتابيّة ، ويجعل الزوجين الرّقيقين محصنين بالدخول في النكاح الذي بينهم إذا أعتقا بعد ذلك ، فإن لم يوجد الدخول في ذلك النكاح بعد العتق إلى أن زنى واحد منهما ، فهما غير محصنين عنده.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رجلا من الأعراب جاء إلى رسول الله : أنشدك الله

__________________

(١) النساء / ٢٥.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الحدود : باب رجم الحبلى : الحديث (٦٨٣٠). ومسلم في الصحيح : كتاب الحدود : باب رجم الثيب بالزنى : الحديث (١٥ / ١٦٩١). والإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٢٩ بإسناد صحيح.

٣٩٣

إلّا قضيت لي بكتاب الله ، فقال الخصم الآخر : نعم يا رسول الله ؛ اقض بيننا بكتاب الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [قل] قال : إنّ ابني كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته ، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرّجم ، فافتديته بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني مائة جلدة وتغريب عام ، وأنّ على امرأة هذا الرّجم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم ردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها] قال : فغدا عليها ، فاعترفت ؛ فأمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجمت (١).

قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ؛) أي لا تأخذكم بهما رأفة ورحمة يمنع عن إقامة الحدّ ، ويحلّ بمقدار عدده وصفته ، فإنه ليس من صفات المؤمنين تضييع حدود الله ، وقوله تعالى : (فِي دِينِ اللهِ ،) قال ابن عبّاس : (في حكم الله) كقوله (فِي دِينِ الْمَلِكِ)(٢) أي في حكمه ، (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ،) ولا تعطّلوا الحدود. قرأ ابن كثير (رأفة) بفتح الهمزة. وإنّما ذكر الضّرب بلفظ الجلد لئلّا يبرّح ولا يبلغ به اللحم.

واختلف العلماء في قوله (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) فقال قوم : معناه : ولا تأخذكم الرأفة بهما فتعطّلوا الحدود ولا تقيموها شفقة عليهما ، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وعكرمة وسعيد بن جبير والنخعي والشعبيّ. وقال الزهريّ وسعيد بن المسيّب والحسن : (معناه : اجتهدوا في الجلد ولا تخفّفوا كما يخفّف في حدّ الشّرب ، بل يوجع الزّاني ضربا ، ولا يخفّف رأفة له ، كأنّه قال : لا تأخذكم بهما فتخفّفوا الضّرب ، بل أوجعوهما ضربا) (٣).

قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ؛ أي ليكن إقامة الحدّ عليهما بحضرة جماعة من المؤمنين ليستفيض الخبر بهما ، ويبلّغ الشاهد

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب الشروط : الحديث (٢٧٢٤). ومسلم في الصحيح : كتاب الحدود : الحديث (٢٥ / ١٦٩٧ ـ ١٦٩٨).

(٢) يوسف / ٧٦.

(٣) جامع البيان : الآثار (١٩٤٦٠ ـ ١٩٤٦٨).

٣٩٤

الغائب ، فيرتدع الناس عن مثله ، ويرتدع المضروب ويستحيي فلا يعود إلى مثل ذلك. واختلفوا في مبلغ عدد الطائفة ، فقال الزهريّ : (أقلّه ثلاثة) ، وقال ابن زيد : (أربعة بعد شهود الزّنا) (١) ، وقال قتادة : (نفر من المسلمين) (٢).

وفي الخبر : [إقامة حدّ في أرض خير لأهلها من مطر أربعين يوما](٣). وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [يا معشر النّاس ؛ اتّقوا الزّنا فإنّ فيه ستّ خصال ؛ ثلاث في الدّنيا وثلاث في الآخرة ، فاللّاتي في الدّنيا : تذهب البهاء ، وتورث الفقر ، وتنقص العمر. وأمّا اللّاتي في الآخرة : فتوجب السّخط ؛ وسوء الحساب ؛ والخلود في النّار](٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أعمال أمّتي تعرض عليّ في كلّ يوم مرّتين ، فاشتدّ غضب الله على الزّناة](٥). وعن وهب بن منبه قال : (مكتوب في التوراة : الزّاني لا يموت حتى يفتقر ، والقوّاد لا يموت حتى يعمى).

فإن قيل : لم بدأ الله بذكر الزّانية قبل ذكر الزّاني فقال تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (١٩٤٨٢).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (١٩٤٧٩).

(٣) رواه النسائي في السنن : كتاب قطع السارق : باب الترغيب في إقامة الحد : ج ٨ ص ٧٦. وابن حبان في الإحسان : كتاب الحدود : الحديث (٤٣٩٧). والطبراني في الكبير : ج ١١ ص ٢٦٧ : الحديث (١١٩٣٢) ، وفي الأوسط بلفظ : [وحدّ يقام في الأرض بحقّه أزكى فيها من مطر أربعين عاما].

(٤) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء : ج ٤ ص ١١١ ؛ وقال : (غريب من حديث الأعمش ، تفرد به مسلمة ، وهو ضعيف الحديث) من حديث حذيفة. وأخرجه ابن عدي في الكامل : ج ٨ ص ١٩ ـ ٢٠ : ترجمة مسلمة بن علي : الرقم (١٧٨ / ١٧٩٩) ؛ وقال : (منكر ... متروك الحديث). وبلفظ [إياكم والزنا فإن فيه أربع خصال ...] أخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٧٠٩٢) عن ابن عباس. وفي مجمع الزوائد : ج ٦ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه عمرو بن جميع ، وهو متروك).

(٥) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ١٦٧. ولم أقف عليه.

٣٩٥

وبذكر السّارق قبل ذكر السّارقة في آية السّرقة فقال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(١)؟ قيل : لأن الرجل هو الذي يسرق غالبا ، والمرأة هي السبب في الزّنا غالبا ، فأخرج الخطاب في المؤمنين على الأغلب.

قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ؛) قال ابن عبّاس : (نزلت هذه الآية في قوم من المهاجرين ، دخلوا المدينة ولم يكن لهم مساكن ولا مال يأكلون منه ولا أهل يأوون إليهم ، وفي المدينة باغيات سافحات يكرين أنفسهمّ ويضربن الرّايات على أبوابهنّ يكتسبن بذلك ، وكان أولئك المهاجرين الفقراء يطلبون معايشهم بالنّهار ويأوون إلى المساجد باللّيل ، فقالوا : لو تزوّجنا منهنّ فعشنا معهم إلى يوم يغنينا الله عنهنّ ، وقصدوا أن يتزوّجوهنّ وينزلوا منازلهنّ ، ويأكلوا من كسبهنّ ، فشاوروا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فنهوا أن يتزوّجوهنّ على أن يحلّوهنّ والزّنا) (٢).

والمعنى : لا يرغب في نكاح الزانية إلّا زان مثلها ، ونظيره قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) ميل الخبيث إلى الخبيث وميل الطيّب إلى الطيب ، وقد يقع الطيب مع الخبيث ، لكن الأعمّ والأغلب ما ذكرنا.

قوله تعالى : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣) ؛ أي حرّم على المؤمنين تزويج تلك الباغيات المعلنات بالزّنا ، وفيه بيان أن من يتزوج بامرأة منهنّ فهو زان ، فالتحريم كان خاصّة على أولئك دون الناس.

ومذهب سعيد بن المسيّب : أنّ التحريم كان عامّا عليهم وعلى غيرهم ، ثم نسخ التحريم بقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)(٣) ، فإن تزوج الرجل امرأة وعاين منها الفجور لم يكن ذلك تحريما بينهما ولا طلاقا ، ولكنه يؤمر بطلاقها تنزّها عنها ، ويخاف عليه الإثم في إمساكها ؛ لأن الله تعالى شرط على المؤمنين نكاح المحصنات من المؤمنات.

__________________

(١) المائدة / ٣٨.

(٢) بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٩٤٨٩ ـ ١٩٤٩١).

(٣) النور / ٣٢.

٣٩٦

من المؤمنات.

وروي أنّ رجلا قال : يا رسول الله ؛ إنّ امرأتي لا تردّ يد لامس! فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [طلّقها] فقال : إنّي أحبّها ، وأخاف إن طلّقتها أن أصيبها حراما ، فقال له : [أمسكها إذا](١). إلّا أنّ هذا الحديث فيه خلاف الكتاب ؛ لأن الله تعالى أذن في نكاح المحصنات ، ثم أنزل الله في القاذف لامرأته آية اللّعان ، وسنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التفريق بينهما ، ولا يجتمعان أبدا ، فكيف يأمره بالوقف على عاهرة لا تمتنع عمّن أرادها ، والحديث الذي ذكر لم يصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن صحّ فتأويله أنّها امرأة ضعيفة الرّأي في تضييع مال زوجها ، فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق ، وهذا التأويل أشبه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحرى لحديثه (٢). ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى الزّنا.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه : (أنّ هذه الآية نزلت في مرثد

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب النكاح : باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء : الحديث (٢٠٤٩) عن ابن عباس رضي الله عنهما. والنسائي في السنن : كتاب النكاح : باب تزويج الزانية : ج ٦ ص ٦٧ ـ ٦٨ ؛ وقال : (هذا الحديث ليس بثابت ، وعبد الكريم ليس بالقوي ، وهارون ابن رئاب أثبت منه وقد أرسل هذا الحديث ، وهارون ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم). قلت : فالحديث من طريق هارون أولى. ثم لا أظن أن الحديث في موضوع الزنا ، والأرجح موضوع المال والمحافظة عليه ، وهو كما قال الإمام الطبراني بعد في تأويله ، وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد وغيره.

(٢) ربما يقال : (لو كان المراد السخاء لقيل : لا تردّ يد ملتمس ؛ إذ السائل يقال له : الملتمس ، لا لامس. وأما اللمس فهو الجماع أو بعض مقدماته ، وأيضا السخاء مندوب إليه ، فلا تكون المرأة معاقبة لأجله مستحقة للفراق). وهذا الجواب يقبل الدور والجواب عليه ؛ لأن التأويل اللغوي محتمل وليس قطعيا ، فلا يصلح في الجواب لما فيه من خلاف ، لا سيما موضوع النص هو اليد وليس الفرج ، ومتعلق اليد السؤال غالبا ، وتناول المال. ثم لعمومات الشريعة في الباب يفهم النص على غير ما ذهب إليه البعض والله أعلم.

٣٩٧

الغنويّ ، كان قد أمره النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يحمل ضعفة (١) المسلمين من مكّة إلى المدينة ، ومن المدينة إلى مكّة ، وكانت له صديقة في الجاهليّة يقال لها : عناق ، فلقيته بمكّة فدعته إلى نفسها فأبى وقال : إنّ الإسلام قد حال دون ذلك ، فقالت له : فانكحني ، فقال : حتّى أشاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسعت به إلى المشركين ، فهرب إلى المدينة وأخبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشاوره في تزوّجها ، فأنزل الله هذه الآية) (٢). وبيّن أن نكاح المشركة زنا ؛ لأنّها لا تحلّ له ، وقرن بين الزّنا والشّرك على طريق المبالغة في الزّجر عن الزّنا حين كان القوم يألفون الزنا ألفا شديدا.

وكان بحسب ظاهر الآية أن يكون للزاني أن يتزوج المشركة ، وللزّانية أن تتزوج المشرك ، ولا خلاف أن ذلك غير جائز ، وأنّ نكاح المشركات وتزوّج المشركين منسوخ بقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ،) وبقوله (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)(٣).

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ معنى الآية : الزاني لا يطأ إلّا زانية ؛ أي لا يزني حين يزني إلّا بزانية مثله ، وكذلك الزانية لا يزني بها إلّا زان مثلها ، حتى إذا طاوع أحدهما الآخر ، فهما سواء في استحقاق الحدّ وعقاب الآخرة ، فكأنّ المراد بالنكاح الوطء.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ؛) أي يرمونهم بالزنا ، (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ؛) على صحّة قذفهم إياهنّ بالزنا ، (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً.). والمحصنات : الحرائر المسلمات البالغات العاقلات العفيفات عن فعل الزّنا. وفي ذكر عدد الأربعة من الشّهود دليل على أن المراد القذف بصريح الزنا ؛ لأن هذا العدد

__________________

(١) الضّعفة : الأسارى عند أهل مكة من المسلمين المستضعفين. في رواية أبي داود والترمذي والنسائي.

(٢) رواه أبو داود في السنن : كتاب النكاح : باب في قوله تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً : الحديث (٢٠٥١). والترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٣١٧٧). والنسائي في السنن : كتاب النكاح : باب تزوج الزانية : ج ٦ ص ٦٦. وإسناده صحيح.

(٣) البقرة / ٢٢١.

٣٩٨

لا يشترط إلّا في الزّنا ، ولا يقبل في ذلك شهادة النساء. وفي الآية دليل على أن من قذف جماعة من المحصنات لم يضرب إلّا حدّا واحدا ، وإذا كان القاذف عبدا فحدّه النّصف كما بيّنّا في حدّ الزنا.

قوله تعالى : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ؛) يعني المحدودين في القذف لا تقبل شهادتهم أبدا ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤) ؛ أي الخارجون عن طاعة الله برميهم إياهنّ زورا وكذبا.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ؛) أي ندموا على قذفهم وعزموا على ترك المعاودة (وَأَصْلَحُوا ؛) أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ ؛) لمن تاب منهم ، (رَحِيمٌ) (٥) ؛ لمن مات على التوبة.

قال ابن عبّاس : (هذا الاستثناء لا يرجع إلى الشّهادة ، وإنّما يرجع إلى الفسق) (١). وقيل : إنّ توبته فيما بينه وبين الله مقبولة ، وأما شهادته فلا تقبل أبدا ، وهو قول شريح والحسن وإبراهيم (٢) ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه.

وذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء راجع إلى الفسق وإلى ردّ الشهادة ، ويكون معنى قوله تعالى (أَبَداً) ما دام على القذف ولم يتب عنه. وأجمعوا جميعا أنّ هذا الاستثناء لا يرجع إلى الجلد ، وذلك يقتضي أن يكون مقصورا على ما يليه وهو الفسق.

وأجمعوا أن المقذوفة إذا ماتت ولم تطالب بحدّ القذف ولم يحدّ القاذف ثم تاب ، فإنه يجوز قبول شهادته ؛ لأن على أصلنا أنّ الحاكم إذا أقام الحدّ على القاذف

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٢ ص ١٨٠ ؛ قال القرطبي : (الاستثناء إذا تعقّب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما. وعند أبي حنيفة وجلّ أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور ؛ ولهذا لا تقبل شهادته ، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة) ثم ذكر سبب الخلاف.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٥٢٤ ـ ١٩٥٢٧) عن شريح بأسانيد ، و (١٩٥٣٠) عن الحسن بإسنادين ، و (١٩٥٣١) عن إبراهيم.

٣٩٩

فكذبه وأبطل حينئذ شهادته ، ولو جعل بطلان الشهادة حكما معلقا بتسمية الفسق ولم يجعل حكما على حاله مرتّبا على الجلد لبطلت فائدة قوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) من كتاب الله ؛ لأن كلّ فاسق لا تقبل شهادته إلّا بعد توبته عن الفسق.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٧) ؛ الآية ، وذلك أنّ الله سبحانه لمّا أنزل الآية التي قبل هذه الآية في قذف المحصنات وشرط فيها الإتيان بأربعة شهداء وإلّا جلد ثمانين جلدة ، قرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر.

فقال عاصم بن عديّ : يا رسول الله! جعلني الله فداك ، أرأيت إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا على بطنها ، فأراد أن يخرج من بيته فيجيء بأربعة شهداء قضى الرّجل حاجته وخرج ، وإن هو عجّل فقتله قتلتموه ، وإن تكلّم بذلك جلدتموه ، وإن سكت ؛ سكت على غيظ شديد؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كفى بالسّيف] أراد أن يقول شاهدا ، فأرسل عليه جبريل بالسّكوت ، فأمسك لئلّا يتسارع أحد من الرّجال إلى قتل أزواجهم (١).

وقال ابن عبّاس : (لمّا نزلت : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ، قرأها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر يوم الجمعة ـ فقال عاصم بن عديّ مقالته الّتي ذكرناها (٢) ـ وقال : يا رسول الله! كيف لنا بالشّهداء

__________________

(١) أدرج الطبراني رحمه‌الله رواية عبادة بن الصامت ورواية عاصم بن عدي ؛ وأصلها كما رواه البغوي في معالم التنزيل : ص ٨٩٢. ورواه أبو داود في السنن : كتاب الحدود : باب في الرجم : الحديث (٤٤١٧) ، وفيه الفضل بن دلهم ، ليس بالحافظ كان قصابا بواسط. وفي مجمع الزوائد : ج ٦ ص ٢٦٥ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني وفيه الفضل بن دلهم وهو ثقة ، وأنكر عليه هذا الحديث من هذا الطريق فقط ، وبقية رجاله ثقات).

(٢) ذكره القرطبي مختصرا في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ١٨٤. والبغوي في معالم التنزيل : ص ٨٩٢. وأصله ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٠٩. وفي جامع البيان : الأثر (١٩٥٤٥) ذكر الطبري بإسناده عن عكرمة قال : (والذي استفتى عاصم بن عدي).

٤٠٠