التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

من البلايا والنوائب الشدائد ، وبشّر (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ؛) في أوقاتها ، وحذفت النون لطول الاسم ، قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٥) ؛ أي يتصدّقون من الواجب وغيره.

قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ؛) جمع بدنة وهي الناقة والبقرة ، والبدانة الضخامة ، والمعنى : والإبل جعلناها لكم من أعلام دين الله ؛ أي جعلناها لكم فيها عبادة لله من سوقها إلى البيت وتقليدها وإشعارها ونحرها والإطعام منها ، قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ؛) يعني النفع في الدّنيا والآخرة.

قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ ؛) أي عند نحرها ، وصوافّ جمع الصّافّة وهي القائمة على ثلاث قوائم قد عقلت ، وكذا السّنة في الإبل ، ومعنى الآية : فاذكروا اسم الله على نحرها قياما معقولة إحدى يديها وهي اليسرى. وعن يحيى بن سالم قال : (رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته ، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها) (١) يعني اليسرى.

وروي عن ابن مسعود كان يقول : (صوافّن) بالنون وهي المعقولة (٢) ، من قولهم : صفن الفرس إذا قام على ثلاث قوائم ، قال الله تعالى : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ)(٣). وقرأ الحسن ومجاهد : (صوافي) بالياء أي صافية خالصة لله تعالى (٤).

قوله تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها ؛) أي سقطت بعد النحر ، فوضعت جنوبها على الأرض وخرجت روحها ، (فَكُلُوا مِنْها ؛) ولا يجوز الأكل من البدن إلّا بعد خروج الروح ، لأن ما بين عن الحيّ فهو ميت. وأصل الوجوب الوقوع ، ومنه وجبت الشمس إذا وقعت في المغيب ، ووجب الحائط إذا وقع ، ووجب القلب إذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٠٤٩).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٠٥٨). وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن الأنباري عن قتادة).

(٣) ص / ٣١.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٠٥٤).

٣٤١

وقع فيه الفزع ، ووجب الفعل إذا وجب ما يلزم به فعله. قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها) أمرنا بإباحة ورخصة مثل قوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) ، وقوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)(٢).

قوله تعالى : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ؛) اختلفوا في معناها ، فروي عن ابن عبّاس ومجاهد : (أنّ القانع هو الّذي يقنع ويرضى بما عنده ولا يسأل ، والمعترّ الّذي يعترض لك أن تطعمه من اللّحم) ، يقال : قنع قناعة إذا رضي قانع ، وعراه واعتراه إذا سأله ، وكذلك قال عكرمة وقتادة : (إنّ القانع هو المتعفّف الجالس في بيته ، والمعترّ السّائل الّذي يعتريك ويسألك) (٣).

قال سعيد بن جبير والكلبيّ : (القانع هو الّذي يسأل ، والمعترّ هو الّذي يتعرّض لك ويريك نفسه ولا يسألك) (٤) ، فعلى هذا يكون القانع من القنوع وهو السّؤال ، يقال منه : قنع الرجل يقنع إذا ذهب يسأل ، مثل ذهب فهو قانع. قال الشمّاخ :

كمال المرء يصلحه فيغنى

مفاقره أعفّ من القنوع (٥)

أي من السّؤال. وقال زيد بن أسلم : (القانع هو المسكين الّذي يطوف فيسأل ، والمعترّ الصّديق الزّائر ، والمعترّ الّذي يعتري القوم للحمهم وليس بمسكين إلّا أنّه ليست له ذبيحة ، يأتي القوم لأجل لحمهم) (٦).

وقرأ الحسن : (والمعتري) بالياء من قولهم : اعتراه إذا غشيه لحاجته. وروى عطاء عن ابن عبّاس : (أنّ القانع الّذي يسأل ، والمعترّ الّذي يأتيك بالسّلام ، ويريك

__________________

(١) المائدة / ٢.

(٢) الجمعة / ١٠.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٠٧٥ ـ ١٩٠٧٦).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٠٨٠).

(٥) ذكره الطبري في جامع البيان : النص (١٩٠٨٢). والزجاج في معاني القرآن : ج ٣ ص ٣٤٨. والمفاقر : وجوه الفقر ، والقنوع السؤال.

(٦) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩٠٨٦).

٣٤٢

وجهه ، ولا يسأل) ، وعن مجاهد : (أنّ القانع جارك الغنيّ ، والمعترّ الّذي يعتريك من النّاس).

فعلى هذا تقتضي الآية : أن المستحبّ أن يتصدّق بالثّلث ؛ لأن في الآية أمر بالأكل وإعطاء الغنيّ وإعطاء الفقير السائل. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في الحرم : [الأضاحي كلوا وادّخروا](١) ، وقال تعالى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ،) فإذا جمعت بين الآية والخبر جعل الثلث للصدقة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦) ؛ أي مثل ما وصفنا من نحرها وقيامها سخّرناها لكم ؛ أي ذلّلناها لكم ؛ لتتمكّنوا من نحرها على الوجه المسنون ؛ لكي تشكروا نعم الله تعالى.

قوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) قال الكلبيّ : (كان أهل الجاهليّة ينحرون البدن للأصنام ويلطّخون البيت بدمائها قربة إلى الله فنهى عن ذلك). والمعنى : لن يرفع الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يرفع إلى الله منكم الأعمال الصالحة والتّقوى ، وهو ما أريد به وجهه الكريم.

ويقال : إنّما لا يتقبّل الله اللحوم والدماء لأنها فعل الله ، ولكن يتقبل التقوى الذي هو فعل العبد ، فيوجب الثواب على ذاك ، والمعنى : لن يتقبّل الله اللحوم والدماء اذا كانت من غير تقوى ، وإنّما يتقبّل منكم التقوى والطاعة في ما أمركم به ، بالنيّة والإخلاص به.

قوله تعالى : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ ؛) أي ذلّلها لكم ، (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) أي لتعظّموه ، (عَلى ما هَداكُمْ ؛) لدينه ، (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧) ؛ بالجنّة يعني الموحّدين المخلصين. ويقال : معنى قوله (عَلى ما هَداكُمْ) يعني ما بيّن لكم وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجّه.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك : كتاب الأضاحي : الحديث (٧٦٤٣). وأخرجه البخاري بلفظ : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [كلوا من الأضاحي ثلاثا] في الصحيح : كتاب الأضاحي : الحديث (٥٥٧٤).

٣٤٣

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ؛) أي إذا ما أمرتم فعلتم به وخالفتم فعل الجاهليّة في نحرهم وإشراكهم بالله ، فإن الله يدفع عنكم غائلة المشركين وأذاهم وينصركم عليهم ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (٣٨) أي لا يحبّ كلّ مظهر للنصيحة مضمر للغشّ والنّفاق كافر بالله وبنعمته.

قال ابن عبّاس : (يريد الّذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا وكفروا نعمه) ، قال الزجّاج : (من ذكر غير اسم الله وتقرّب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوّان كفور) (١) ، قرأ أبو عمرو وابن كثير : (يدفع) ، وقرأ الباقون : (يُدافِعُ) ، وهو بمعنى واحد.

قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ؛) قال ابن عبّاس : (هذه أوّل آية نزلت في الإذن بالقتال ، أذن الله تعالى للمؤمنين المهاجرين أن يقاتلوا كفّار مكّة بسبب ما ظلموا بأن أخرجوا من مكّة) (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩) ؛ هذا وعد لهم بالنّصر.

وقيل : كان مشركو مكّة يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يزالون محزونين من «بين» (٢) مشجوج ومضروب ، ويشكون ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول لهم : [اصبروا فإنّي لم أؤمر بالقتال](٣) حتّى هاجروا ، فأنزل الله هذه الآية بالمدينة.

قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم : (أُذِنَ) بضمّ الألف وكسر الذال ، وقرأ الباقون (أذن) بالفتح ؛ أي أذن الله لهم ، وقوله (يُقاتَلُونَ) ، قرأ نافع وابن عامر وحفص : بفتح التاء ؛ أي أذن للمؤمنين الذين يقاتلهم المشركون ، وقرأ الباقون بكسرها ، يعني أذن لهم في الجهاد يقاتلون المشركين (٤).

قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ؛) أوّل آية بدلّ من (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ) أي أخرجهم أهل مكة من منازلهم بغير جرم منهم.

__________________

(١) معاني القرآن : ج ٣ ص ٣٤٩.

(٢) (بين) سقطت من المخطوط.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٨٦٩.

(٤) ينظر : جامع البيان : ج ١٠ ص ٢٢٥.

٣٤٤

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) معناه : لم يخرجوهم إلّا بأن كانوا يوحّدون الله تعالى فأخرجوهم لتوحيدهم ، المعنى : لم يخرجوهم من ديارهم إلّا لقولهم ربّنا الله ، فيكون (أَنْ) في موضع الخفض ردا على الباء في قوله (بِغَيْرِ حَقٍّ) ، ويجوز أن تكون (أَنْ) في موضع نصب على الاستثناء.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ ؛) أي لو لا أن يدفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في زمن كلّ شيء ما بني للصلاة والعبادة نحو الصّوامع ، (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً.)

قال مجاهد والضحّاك : (يعني صوامع الرّهبان) (١) ، وقال قتادة : (الصّوامع للصّابئين ؛ وهي متعبّداتهم ، والبيع جمع بيعة ؛ وهي متعبّد النّصارى ، والصّلوات هي كنائس اليهود ، وكان اليهود يسمّونها بالعبرانيّة صلواتا ، والمساجد الّتي يصلّي فيها المسلمون) (٢).

والمعنى : لو لا كفّ الله الناس بعضهم ببعض بالجهاد ، وكفّ الظّلم لحرب في كلّ شريعة ، كلّ بنى المكان الذي يصلّى فيه ، فكان لو لا الدفع لهدم في زمن موسى عليه‌السلام الكنائس ، وفي زمن عيسى عليه‌السلام الصّوامع والبيع ، وفي زمن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المساجد. وعن مجاهد أنه قال : (البيع لليهود يسمّونها صلوات) ، وقال أبو العالية : (هي مساجد للصّابئين). فعلى هذا يكون المعنى : لهدّمت صوامع الصلوات. ويقال : أراد بالصّلوات الصلوات المعهودة التي للمسلمين ، وهدمها إبطالها وإهلاك من يفعلها.

والأولى أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ هذه المواضع المذكورة التي يجري فيها اسم الله تعالى لا يجوز أن تهدم في شريعة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كلّ من كان له ذمّة ، أو جهاد من الكفّار ، فأما في ديار الحرب فيجوز للمسلمين هدمها إذا فتحت دارهم عنوة ، ولم يقرّوا عليها بالجزية ، كما يجوز هدم سائر دورهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩١١١).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩١١٤ و ١٩١١٦ و ١٩١٢٢ و ١٩١٢٨).

٣٤٥

قوله تعالى : (لَهُدِّمَتْ) الهدم هو نقض البناء. قرأ أهل الحجاز (لَهُدِّمَتْ) بالتخفيف. فإن قيل : لم قدّم مصلّيات الكافرين على مساجد المؤمنين؟ قيل : لأنّها أقدم ، وقيل : لقربها من الهدم ، وقرب المساجد من الذّكر ، كما خرّج السّابق في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) إلى قوله تعالى : (بِالْخَيْراتِ)(١).

قوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ؛) أي لينصرنّ الله تعالى من ينصر دينه ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠) ؛ أي لقويّ على أخذ الأعداء ، عزيز أي ممتنع بالنعمة منهم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ؛) نعت للذين ينصرون بدين الله ؛ أي هم الذين إن مكّنهم الله في الأرض ينصرهم الله في عدوّهم حتى يمكّنوا في البلاد ، لم يعملوا ما عمله الذين من قبلهم ، ولكن أقاموا الصلاة المكتوبة ، (وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ،) وأعطوا الزكاة المفروضة ، وأمروا بالحقّ ونهوا عن الباطل. قال مقاتل : (هم أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٢) ، وقال الحسن : (هم هذه الأمّة أهل الصّلوات الخمس). وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١) ؛ بطل كلّ ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور كلها إليه بلا منازع ولا مدّع.

قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ ؛) في هذه الآية تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : إن يكذّبوك ـ قومك ـ فقد كذبت الأمم أنبياءهم من قبلك ، وقوله : (وَكُذِّبَ مُوسى ؛) أي كذبه فرعون ، (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ؛) أي أمهلتهم ، وأخّرت عقوبتهم ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ؛) بالعقوبة ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٤) ؛ أي فكيف كان إنكاري عليهم حتى بيدوا أو خرّبت قراهم ، فأبدلتهم بالنعمة نقمة ؛ وبالكثرة قلّة ؛ وبالحياة هلاكا. قال الزجّاج : (معناه : فأنكرت أبلغ الإنكار).

__________________

(١) فاطر / ٣٢.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : ص ٢٤٩٨ : النص (١٣٩٧٧) عن أبي العالية.

٣٤٦

قوله تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ؛) أي كم من قرية أهلكناها بالعذاب بكفرهم. وقرى أهلكناها ، والاختيار أهلكتها بالتاء لقوله (فَأَمْلَيْتُ) ، قوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ؛) أي ساقطة على سقوفها ، وذلك أن السّقف يقع قبل الحيطان ، ثم تقع الحيطان عليه ، قوله تعالى : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ؛) أي كم بئر عطلها أربابها وكم من (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) ؛ عطّله أهله. والمشيد هو المجصّص ، والشّيد الجصّ والنّورة ، ويجوز أن يكون معنى المشيد الرفيع ، يقال : شاد البناء وأشاده إذا أطلاه بالشّيد.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ؛) أي أفلم يسر قومك يا محمّد في أرض اليمن والشّام ؛ لينظروا آثار المهلكين ، فيعقلوا بقلوبهم ما نزل بمن كذب من قبلهم ، ويسمعوا بآذانهم خبر الأمم المكذّبة. قوله تعالى : (فَتَكُونَ لَهُمْ) نصب على جواب الجحد.

قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ؛) الهاء في قوله (فَإِنَّها) عماد ، وهو إضمار على شريطة التفسير ، والمعنى : فإنّ الأبصار لا تعمى ؛ أي يرون بأبصارهم ، (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) ؛ قلوبهم بذهابها عن إدراك الحقّ بما يؤدّي إليه الدليل.

وفي الآية دليل أنّ العقل في القلب بخلاف ما قاله الفلاسفة والأطباء : أن محلّ العقل الرأس الدماغ ؛ لأن العقل لو لم يكن في القلب لم يوصف القلب بأن يعمى ، كما لا توصف بذلك اليد والرّجل ، وأما وصف القلوب بأنّها في الصّدور فعلى وجه التأكيد ، كما في قوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(١) ، وقوله تعالى (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٢).

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ؛) أي ويستعجلونك يا محمّد بالعذاب ، كما قالوا : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ)(٣) ،

__________________

(١) آل عمران / ١٦٧.

(٢) الأنعام / ٣٨.

(٣) الشعراء / ١٨٧.

٣٤٧

وقالوا (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)(١) ، ولن يخلف الله وعده في إنزال العذاب بهم في الدّنيا. قال ابن عبّاس : (يعني يوم بدر).

قوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧) ؛ معناه : إنّهم يستعجلون بالعذاب ، وإنّ يوما من أيّام عذابهم في الآخرة ألف سنة ، فكيف يستعجلونه؟! قال الفرّاء في هذه الآية : (وعيد لهم بالعذاب في الدّنيا والآخرة) (٢).

وقيل : معناه : وإنّ يوما عند الله وألف سنة في قدرته لواحد ، فليس تأخّر العذاب عنهم إلّا تفضّلا من الله عليهم. قال الزجّاج : (أعلم الله أنّه لا يفوته شيء ، وإنّ يوما عنده وألف سنة سواء ، ولا فرق بين إيقاع ما يستعجلونه من العذاب في تأخيره في القدرة ، إلّا أنّ الله تفضّل بالإمهال ، فسواء عنده في الإمهال يوم وألف سنة ؛ لأنّه قادر عليهم متى شاء أخذهم) ، قال الكوفيّون وابن كثير : (ممّا يعدّون) بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء (٣).

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨) ؛ ظاهر المعنى.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٤٩) ؛ أي قل لهم يا محمّد : يا أهل مكّة إنّما أنا لكم رسول مخوّف بالنار لمن عصى الله بلغة يعرفونها ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ؛) لدينهم ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٥٠) ؛ حسن في الجنّة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ؛) أي والذين أسرعوا في تكذيب آياتنا ، وإبطال الدين مبالغين لله ظانّين أن يعودنا ويفوتنا بقولهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٥١) ؛ قال قتادة :

__________________

(١) الأنفال / ٣٢.

(٢) في معاني القرآن : ج ٢ ص ٢٢٩.

(٣) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٢ ص ١٧٤.

٣٤٨

(ظنّوا بجهلهم أنّهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم ، وهيهات) (١). وهذا كقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا)(٢) ، ومن قرأ (معجزين) فمعناه : أنّهم كانوا يعجزون مع من اتبع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ينسبونهم إلى العجز.

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ؛) قال ابن عبّاس وابن جبير والضحّاك : (وذلك أنّ الشيطان أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة جبريل وهو قائم يصلّي عند الكعبة يقرأ سورة (والنجم) حتّى اذا انتهى إلى قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٣) ألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى) ، فلما سمع المشركون أعجبهم ذلك ، فلما انتهى إلى آخر السورة سجد ، وسجد معه المسلمون والمشركون إلّا الوليد بن المغيرة ، فإنه لم يقدر على السّجود لكبره ، فقال : ائتوني بالتّراب ، فأتوه بالتراب فوضعه على كفّه ، ثم سجد على كفّه ، فلما نزل جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر له ذلك ، فقال جبريل : ما جئتك بهذه ولا أنزله الله تعالى ، فقال : أتاني شيء في مثل صورتك فألقاه عليّ) (٤).

وهذا حديث أنكر أهل العلم إجراءه على ظاهره ، وقالوا : كيف يجوز أن يجعل الله للشيطان على رسوله هذا السلطان ، أو يختار لرسالته من لا يميّز بين وحي الله ووساوس الشّيطان؟! ومن المعلوم أن من نسب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم به إلى ما يرجع إلى تعظيم الأصنام فقد كفر ، إلّا أنه يحتمل أن يكون الشيطان ألقى في تلاوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يقله ، وخيّل إلى من سمع تلاوته من الذين كانوا بالبعد منه أنه جرى على لسانه ، وإنّما هو من لسان الشيطان ، وكان ذلك فتنة للتابعين ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما من أن يجري

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٩١٥٣). وابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ٢٥٠٠.

(٢) العنكبوت / ٤.

(٣) النجم / ١٩ و ٢٠.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٩١٥٨ و ١٩١٥٩ و ١٩١٦٠).

٣٤٩

على لسانه ما لم ينزّله الله. وقد يذكر التّمنّي ويراد به القراءة كما قال الشاعر (١) :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقي حمام المقادر

وقال جماعة من المفسّرين : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمان قومه ، وتمنّى في نفسه من الله أن يأتيه ما يقارب بينه وبين قومه ، فجلس ذات مرّة بهم في مجلس كثير أهله ، وأحبّ يومئذ أن يأتيه من الله شيء فقرأ عليهم سورة النّجم ، فلما بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترتجى) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وقالوا : قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر ، ومضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءته ، فلما ختم السورة سجد في آخرها وسجد معه المسلمون والمشركون إلّا الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص فإنّهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها ؛ لأنّهما كانا شيخين كبيرين لم يستطيعا أن يسجدا.

وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا (٢) وقالوا : قد عرفنا أن آلهتنا تشفع لنا ، فنزل جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا محمّد لقد تلوت قومك ما لم آتك به عن الله عزوجل ، فاشتدّ ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحزن حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا ، فأنزل الله هذه الآية تطيّب نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخبره (٣) بأن الأنبياء قبله كانوا مثله ، ولم يبعث نبيا إلّا تمنّى أن يؤمن قومه ، ولم يتمنّ ذلك نبيّ إلّا ألقى الشيطان عليه ما يرضي قومه. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمّد على ما ذكره من منزلة آلهتنا عند الله فغيّر ذلك وجاء بغيره (٤).

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه وأول ليلة أو أول ليله ، أي قرأ القرآن كله أول الليل. وسيأتي بلفظ آخر قريبا.

(٢) في المخطوط : (فأسمعوا) وهو غير مناسب.

(٣) في المخطوط : (ويخبره).

(٤) روايات من حديث محمّد بن كعب القرظي ، أخرجه الطبري في جامع البيان : الرقم (١٩١٥٥ ـ ١٩١٥٦).

٣٥٠

وقال عطاء عن ابن عبّاس : (إنّ شيطانا يقال له الأبيض أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فألقى في قرآنه : إنّها الغرانيق العلى وأن شفاعتها لتترجى ، ولم يقلها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل سمعه القوم من الشيطان ، وكلّ ذلك فتنة من الله تعالى لعباده المسلمين والمشركين ، فالمشركون ازدادوا كفرا بذلك ، والمسلمون اشتدّ عليهم الأمر).

ومعنى الآية : وما أرسلنا من قبلك من رسول وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا وشفاها ، ولا نبيّ وهو الذي تكون نبوّته إلهاما أو مناما ، فكلّ رسول نبيّ ، وليس كلّ نبيّ مرسل. قوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي أحبّ شيئا واشتهاه وحدّث نفسه من غير أن يؤمر به (ألقى الشّيطان في أمنيته) أي في قراءته وتلاوته ، ونظيره قوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ)(١) أي قراءة تقرأ عليهم. قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر

وقال الحسن : (أراد بالغرانيق الملائكة) يعني أن شفاعتهم ترتجى منهم لا من الأصنام. قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يبطله ويزيله ثم يحكم الله آياته فيثبتها ، (وَاللهُ عَلِيمٌ ؛) بمصالح عباده ، (حَكِيمٌ) (٥٢) ؛ في تدبيره.

قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ؛) أي ليجعل ما يلقي الشيطان في قراءته فتنة للذين في قلوبهم شكّ ونفاق ؛ لأنّهم افتتنوا بما سمعوا فازدادوا عتوّا ، وظنّوا أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الشيء من عند نفسه فيبطله.

قوله تعالى : (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ؛) يعني المشركين كذلك ازدادوا فتنة وضلالة وتكذيبا ، سمّاهم قاسية قلوبهم ؛ لأنّها لا تلين لتوحيد الله ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ؛) يعني أهل مكّة ، (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) ؛ أي مشاقّة بعيدة عن الحقّ.

قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ؛) معناه : وليعلم المؤمنون رجوعك إلى الصواب ، إنّ ذلك حقّ من ربك فتخضع وتذلّ له قلوبهم. وقيل : معناه : وليعلم الّذين أوتوا العلم التوحيد والقرآن.

__________________

(١) البقرة / ٧٨

٣٥١

قال السديّ : (التّصديق أنّه الحقّ) أي إنّ نسخ ذلك وإبطاله حقّ من الله ، (فَيُؤْمِنُوا بِهِ ؛) وتصديق النّسخ ، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ؛) أي ترقّ قلوبهم للقرآن فينقادوا لأحكامه ، بخلاف المشركين الذين قيل : لهم (والقاسية قلوبهم).

قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤) ؛ فيه بيان أن هذا الإيمان والإخبات إنّما هو بلطف الله وهدايته إياهم ، والمعنى : وإنّ الله لهاديهم إلى دين يرضاه.

قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ؛) أي في شكّ من القرآن ، (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ؛) يعني ساعة موتهم ، (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥٥) ؛ يعني يوم بدر في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد (١) ، سمّاه الله العقيم الذي لا يأتي بخير. وقيل : يوم القيامة سمّاه الله عقيما لأنه لا مثال له في عظم أمره.

قوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ؛) أي الملك يوم القيامة لله تعالى من غير منازع ولا مدّع ، لا يظهر الأمر فيه إلّا لله تعالى ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧) ؛ فيقضي فيه بين المؤمنين والكافرين بإدخال المؤمنين الجنّة ، وإدخال الكافرين النار.

قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً ؛) معناه : والذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوطانهم في طاعة الله من مكّة إلى المدينة ، ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقا حسنا وهو نعيم الجنة ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٥٨).

قوله تعالى : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ؛) يعني به المنازل التي أعدّها الله لهم في الجنّة ، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، خالدين فيها لا يبغون

__________________

(١) ينظر : جامع البيان : ج ١٠ ص ٢٥٣.

٣٥٢

عنها حولا ، قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ ؛) أي عليم بمصالح عباده ونيّاتهم ، (حَلِيمٌ) (٥٩) لا يعجّل بعقوبة أعدائه.

قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ؛) الآية ؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك ، ثم قال (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ، (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ ؛) نزلت هذه الآية في قوم من المشركين لقوا جماعة من المسلمين فقاتلوهم في الشّهر الحرام ، فنهاهم المسلمون عن ذلك فأبوا ، فلما أبوا قاتلهم المسلمون فنصروا ؛ أي ومن عاقب بالقتال بمثل ما عوقب به ؛ أي بالقتال في الشهر الحرام ثم بغي على الدافع لينصرنّه الله على من بغى عليه ، (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ ؛) أي متجاوز عن من فات (غَفُورٌ) (٦٠) ؛ لمن مات على التوبة.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ؛) أي ذلك النصر بأنه القادر على ما يشاء ، فمن قدرته أنه يولج الليل في النهار ، (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٦١) ؛ أي سميع لمن دعاه بصير بعباده.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ؛) أي ذلك الذي نقلته من نصرة المؤمنين بأنّ الله ذو الحقّ في فعله وقدرته ، (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ ؛) المشركون ؛ (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ؛) ليس فيه نفع ولا ضرر ، (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ ؛) على كلّ شيء بقدرته ، (الْكَبِيرُ) (٦٢) ؛ الذي يصغر كلّ شيء سواه.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ؛) أي ألم تعلم وتشاهد أنّ الله أنزل من السّماء ماء ؛ يعني المطر ، فتصبح الأرض ذات خضرة بالنبات ، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ ؛) بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض ، (خَبِيرٌ) (٦٣) ؛ بما في قلوب العباد وبما يصلح لهم.

قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ؛) عبدا وملكا ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ ؛) عن عباده ، (الْحَمِيدُ) (٦٤) ؛ إلى أوليائه وأهل طاعته ، وقيل : الغنيّ عن إيمان الخلق وطاعتهم ، المحمود في أفعاله.

٣٥٣

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ؛) أي ألم تعلم أنّ الله ذلّل لكم ما في الأرض ؛ يعني البهائم التي تركب ، وسخّر لكم (وَالْفُلْكَ ؛) أي السّفن ؛ (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.)

قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ؛) أي حبس عنكم السّماء حتى لا تقع عليكم فتهلكوا. قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي إلّا بإرادته ، (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٦٥) ؛ أي متفضّل على عباده ، منعم عليهم.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ؛) أي أحياكم في أرحام أمّهاتكم ، ولم تكونوا شيئا. وقيل : معناه : أحياكم بعد أن كنتم نطفة ميتة ، ثم يميتكم بعد إنقضاء آجالكم ، ثم يحييكم بعد الموت عند البعث للحساب ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (٦٦) ؛ يعني المشرك الجحود لنعم الله حتى ترك توحيده بعد ظهور الآيات الداعية إلى الحقّ.

قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ؛) أي لكلّ أهل دين جعلنا شريعة هم عاملون بها ، وقيل : موضعا تعتادونه لعبادة الله ، ومكانا تعيشونه وتعملون الخير فيه. وقيل : معناه : لكلّ أمّة جعلنا عبرا. وقال قتادة : (موضع قربان يذبحون فيه) ، وقيل : المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأضحى : [إنّ أوّل نسك في يومنا هذا الصّلاة ثمّ الذبح](١). وقيل : أراد بالمنسك في هذه الآية المذبح الذي يتقرّبون فيه بذبائحهم إلى الله تعالى ، كما جعل مكانا منحرا للإنسان ؛ لأن النّسك إذا أطلق أريد به الذبح من جهة القربة ، كما قال (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)(٢).

قوله تعالى : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ؛) معناه : النّهي عن المنازعة بعد ظهور ما يوجب نسخ الشرائع المتقدّمة ، كما يقال : لا يخاصمك فلان في هذا الأمر. وقيل : معناه : لا ينازعنّك في أمر الذبح ، وذلك أن كفار قريش خاصموا رسول الله

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده : ج ٤ ص ٢٨٢. والبيهقي في السنن الكبرى : ج ٥ ص ٩٨.

(٢) البقرة / ١٩٦.

٣٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في أمر الذبيحة ؛ وقالوا : ما لكم تأكلون ما قتلتم بأيديكم ، ولا تأكلون ما قتله الله؟

قوله تعالى : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (٦٧) ؛ أي أدع إلى دين ربك وطاعته إنّك على هدى مستقيم ، وقيل : على دلالة ودين مستقيم. (وَإِنْ جادَلُوكَ ؛) على سبيل المراء والتّعنّت كما يفعله السفهاء ، (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (٦٨) ؛ أي إدفعهم بهذا القول ، ولا تجادل إلّا لتبيين الحقّ ، والمعنى : وإن خاصموك في أمر الذبيحة فقل الله أعلم بما تعملون من التكذيب فهو يجازيكم به ، وهذا قبل الأمر بالقتال. وقوله تعالى : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) أي يقضي بينكم يوم القيامة ، (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٦٩) من الدّين والذبيحة.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ؛) أي قد علمت وأيقنت ذلك ، وهذا استفهام يراد به التقرير ، وقيل : معناه : ألم تعلم يا محمّد أنّ الله يعلم أعمال أهل السّماء والأرض وأسرارهم؟ (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ؛) يعني ما يجري في السّماء والأرض ، كلّ ذلك مكتوب في اللّوح المحفوظ ، (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧٠) ؛ أي أنّ علم الله بجميع ذلك عليه يسير سهل.

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ؛) معناه : ويعبدون من دونه الأصنام ما لم ينزّل به كتابا ولا حجّة ، وما ليس لهم به علم أنّها آلهة ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٧١) ؛ أي وما للمشركين من مانع يمنع عذابا عنهم ، نزلت هذه الآية في أهل مكّة.

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ؛) أي وإذا يقرأ عليهم القرآن تعرف في وجوههم الإنكار للقرآن من الكراهة والعبوس ، (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا ؛) أي يكادون يسطون بالمؤمنين ليردّوهم. وقيل : معناه : يكادون يقعون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدّة الغيظ. وقيل : يكادون يسطون إلى المؤمنين أيديهم بالسّوء. يقال : سطا فلان على فلان إذا تناوله بالسّطو والعنف ، وأخذه بالشدّة والإخافة.

٣٥٥

قوله تعالى : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ ؛) أي قل يا محمّد أفأخبركم بشرّ عليكم من غيظكم على التالي لآيات الله وهو (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛) يصيرون إليها ، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٢) ؛ وقيل : إنّ الكفار قالوا : والله ما رأينا قوما أقلّ حظّا منكم يا أصحاب محمّد ، قال الله تعالى : قل يا محمّد : أفأخبركم بشرّ من ذلكم ؛ أي بشرّ مما قلتم : النار من دخلها فحاله شرّ من حالنا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ؛) معناه : يا أهل مكّة بيّن مثل آلهتكم فاستمعوا له : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ؛) من الأصنام ، (لَنْ يَخْلُقُوا ؛) أي لن يقدروا أن يخلقوا ، (ذُباباً ؛) مع صغره وقلّته ، (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ؛) العابد والمعبود على ذلك ، وكان لهم ثلاثمائة وستّون صنما حول الكعبة.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ؛) قال ابن عبّاس : (كانوا يطلون أصنامهم بالزّعفران والعسل ، فيأتي الذّباب فيحمله فلا يقدرون أن يستردّوه من الذّباب) (١). وقال السديّ : (كانوا يجعلون للأصنام طعاما ، فيقع عليه الذّباب فيأكل منه فلا يستطيعون إنقاذه منه) (٢) ف (ضَعُفَ الطَّالِبُ ؛) من الأصنام ، (وَالْمَطْلُوبُ) (٧٣) ؛ هو الذباب. وقال الضحّاك : (معناه ضعف العابد والمعبود) (٣). وقيل : معناه : ضعف الذّباب الطالب لما يأخذه من الصّنم ، وضعف المطلوب يعني الصّنم. وقيل : ضعف الطالب من هذا الصنم المتقرّب إليه ، والصنم المطلوب منه ذلك.

وقيل : إن المشركين كانوا خرجوا في عيد لهم بأصنامهم ، وقد زيّنوها باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، وطيّبوها بأنواع الطّيب وغشّوها بالحليّ والحلل ، فجاء ذباب فأخذ شطبة من تلك الزّينة ـ أي قطعة ـ فطار بها في الهواء ، فأراهم الله تعالى العبرة في ضعفهم وضعف معبودهم ، فلا أحد مما لا يمكنه الاستنقاد من الضعيف.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ٢٥٠٥.

(٢) ينظر : معالم التنزيل للبغوي : ص ٨٧٥.

(٣) ينظر : معالم التنزيل للبغوي : ص ٨٧٥.

٣٥٦

قوله تعالى : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ؛) أي ما عرفوه حقّ معرفته ، ولا عظّموه حقّ تعظيمه حيث عدلوا به من لا يقدر أن يخلق ذبابا ، أو يستنقذ من ذباب ما ذهب به منه ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤) ؛ أي قويّ على خلقه ، عزيز في ملكه ، لا يقدر أحد على مغالبته.

قوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ؛) معناه : الله يختار من الملائكة رسلا يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، (وَمِنَ النَّاسِ) يعني من النبيّين. أخبر الله عزوجل أنّ الاختيار إليه ، ويختار من يشاء ممن خلقه ، فيجعلهم رسله وأنبياءه يبعثهم إلى خلقه ، فأطيعوهم واحذروا معصيتهم ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ؛) بمقالتكم ، (بَصِيرٌ) (٧٥) ؛ بأعمالكم وضمائركم. قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ؛) أي يعلم ما بين أيدي الملائكة ورسله قبل أن يخلقهم ، (وَما خَلْفَهُمْ) أي ما يكون بعد فنائهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٧٦) ؛ عواقب الأمور.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ؛) أي صلّوا ، قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ؛) أي بجميع العبادات ، (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ؛) من أنواع البرّ مثل صلة الرّحم ، وبرّ الوالدين ، ومكارم الأخلاق ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٧٧) ؛ روي أنّهم كانوا في أوّل الإسلام يسجدون بغير ركوع ، حتى نزلت هذه الآية.

قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ؛) أي جاهدوا المشركين بحسب الطّاقة واستفراغها ، ولا تخافوا في الله لومة لائم ، وقال بعض المفسّرين : معناه : اعبدوا الله حقّ عبادته وأطيعوه حقّ طاعته. قال السديّ : (هو أن يطاع فلا يعصى) (١) وقال مقاتل : (نسختها آية التّغابن (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٢)) ، وقيل : هو مجاهدة النّفس والهوى ، وذلك حقّ الجهاد وهو الجهاد الأكبر.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : ج ٨ ص ٢٥٠٦.

(٢) الآية / ١٦.

٣٥٧

وقال بعضهم : هو حقّ الجهاد (١) ؛ لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين رجع من بعض غزواته : [رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر](٢). وقال بعضهم : في حقّ الجهاد أنه [كلمة عدل عند سلطان جائر](٣). وقال الحسن : (هو أن تؤدّي جميع ما أمرك الله به ، وتجتنب جميع ما نهاك الله عنه ، وتترك رغبة الدّنيا). وقال الضحّاك : (معناه : جاهدوا بالسّيف من كفر بالله ، وإن كانوا الآباء والأبناء).

قوله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ ؛) أي اختاركم لدينه وجهاد أعدائه ، والاجتباء : هو اختيار الشّيء بما فيه من الصّلاح ، يقال : الحقّ يجتبى ، والباطل يتّقى. قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ؛) أي ما جعل عليكم في شرائع دينكم من ضيق ، وذلك أنه ما يتخلّص منه بالتوبة ، وما يتخلّص منه بردّ المظلمة ، ويتخلص منه بالقصاص ، وليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به ، بل من أذنب ذنبا جعل الله له مخرجا منه بالتوبة والكفّارات ، ولم يبق في ضيق ذلك الذنب. وقال مجاهد : (يعني الرّخص عند الضّرورات كالقصر ؛ والتّيمّم ؛ وأكل الميتة ؛ والإفطار عند المرض والسّفر).

قوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ؛) أي إلزموا واتّبعوا ملّته ، وقيل : معناه : وسّع عليكم في الدّين كملّة أبيكم إبراهيم ، إلّا أنه لمّا حذف حرف الجرّ نصب الملّة ، وإنّما أمر باتّباع ملّة إبراهيم ؛ لأنّها داخلة في ملّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنّما قال : (أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) وإن لم يكن جميعهم من نسبه ؛ لأن حرمة إبراهيم عليه‌السلام على المسلمين كحرمة الوالد على الولد ، وحقّه كحقّ الوالد ، كما قال تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)(٤).

__________________

(١) في جامع البيان : تفسير الآية : مج ١٠ ج ١٧ ص ٢٦٨ ؛ قال الطبري : (وحق الجهاد : هو استتفراغ الطاقة فيه).

(٢) ذكره البغوي أيضا في معالم التنزيل : ص ٨٧٦.

(٣) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الملاحم : باب الأمر والنهي : الحديث (٤٣٤٤). والترمذي في الجامع : أبواب الفتن : الحديث (٢١٧٤).

(٤) الأحزاب / ٦.

٣٥٨

قوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ؛) نزول القرآن ، (وَفِي هذا ؛) القرآن ، كما روي أنّ الله تعالى أوحى إلى إبراهيم : يبعث بعدك نبيّ فيكون قومه مسلمين. وقيل : معناه : إن إبراهيم سمّاكم المسلمين ، كما قال في دعائه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)(١).

قوله تعالى : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ؛) أي ليكون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة بطاعة من أطاع في تبليغه ، وعصيان من عصى ، (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ؛) أنّ الرّسل بلّغتهم.

قوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ؛) أي أدّوهما كما وجبتا. قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ ؛) أي واعتصموا بدين الله وتمسّكوا به. وقيل : معناه : اتّقوا بالله وتوكّلوا عليه ، (هُوَ مَوْلاكُمْ ؛) أي هو ربّكم وحافظكم ، (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨) ؛ أي فنعم الحافظ لكم ، ونعم الناصر.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ سورة الحجّ ؛ أعطي من أجر حجّة وعمرة اعتمرها بعدد من حجّ واعتمر فيما مضى وفيما يبقى](٢).

آخر تفسير سورة (الحج) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) البقرة / ١٢٨.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ١٦٩.

٣٥٩

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون مكّية ، وهي أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان ، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة ، ومائة وثماني عشرة آية.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة بالرّوح والرّيحان ، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١) ؛ أي فاز ونجا وسعد المصدّقون بالله ورسوله ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [لمّا خلق الله جنّة عدن ، فيها ما لا عين رأت ؛ ولا أذن سمعت ؛ ولا خطر على قلب بشر ، قال لها : تكلّمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون ـ ثلاثا ـ ثمّ قالت : أنا حرام على كلّ بخيل ومراء](٢). قرأ طلحة بن مصرّف : (قد أفلح المؤمنون) على المجهول ؛ أي أبقوا (٣) في الثواب ، وحرف (قَدْ) في اللّغة لتزيين الكلام وتحسينه ، وقيل : لتقريب الحالة الماضية الى الحالة الآتية ، فدلّ على أن فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال ، وهو أبلغ في الصّفة من تجريد ذكر الفعل ، والفلاح هو البقاء والنجاح.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٢٠١ وإسناده واه.

(٢) رواه الحاكم مختصرا في مستدركه : ج ٣ : كتاب التفسير : الحديث (٣٥٣٢). وأخرجه الطبري في جامع البيان بلفظ آخر عن كعب. وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ٨٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن عدي والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس).

(٣) في المخطوط : (اتقوا) وهو غير مناسب ، وجرى التصحيح كما في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ١٠٣.

٣٦٠