التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

بعذاب الله](١).

وقرأ أبو جعفر وأشهب العقيلي : (لنحرقنّه) بنصب النون وضمّ الراء ؛ أي لنبردنّه بالمبرد ، يقال : حرقت الشيء أحرقه أذا بردته (٢) ، والمحرق هو المبرد ، وهذه القراءة تدلّ على أن العجل كان ذهبا ، ولكن كان له خوار. قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي لنذرّيه في البحر تذرية ، يقال : نسف فلان الطعام بالمنسف إذا ذرّاه ليطير عنه قشوره وترابه.

قوله تعالى : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ؛) أي قال لهم موسى : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود للخلق سواه ، فهو الذي يستحقّ العبادة لا العجل. قوله تعالى : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨) ؛ أي أحاط علمه بكلّ شيء ، فلا يخفى عليه شيء من أعمال العباد.

قوله تعالى : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ؛) أي كما قصصنا عليك يا محمّد خبر موسى وقومه كذلك نقصّ عليك من أخبار من قد مضى وتقدّم من أخبار الرّسل وأممهم ، (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (٩٩) أي وقد أكرمناك بالقرآن العظيم.

قوله تعالى : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) (١٠٠) ؛ أي من أعرض عن القرآن فلم يؤمن به فإنه يحمل يوم القيامة إثما. والوزر ها هنا : الحمل الثقيل من الإثم. قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيهِ ؛) أي مقيمين في عقوبة ذلك الإثم وعذابه ، (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) (١٠١) ؛ أي ساء وزرهم ، يومئذ حملا.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الجهاد والسير : الحديث (٣٠١٧). والترمذي في الجامع : كتاب الحدود : باب ما جاء في المرتد : الحديث (١٤٥٨).

(٢) في مختار الصحاح : (حرق) قال الرازي : (و (حرق) الشيء بالتخفيف ، برده وحكّ بعضه ببعض).

٢٦١

قوله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ؛) قرأ أبو عمرو بنون مفتوحة ، وقرأ الباقون بياء مضمومة غير تسمية الفاعل ، والصّور : قرن ينفخ فيه يومئذ ؛ ليقوم الناس من قبورهم مثل بوق الرّحيل وبوق النّزول.

قوله تعالى : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (١٠٢) ، قيل : معناه : قد ازرقّت أعينهم من شدّة العطش ؛ لأن العطش إذا اشتدّ يغيّر سواد العين إلى الزّرقة. وقيل : معناه : عميا ، ومعنى الزّرقة الخضرة في سواد العين كعيني السّنّور ، والمعنى في هذا : تشويه الخلق سواد الوجوه ، وزرقة العيون.

قوله تعالى : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ ؛) أي يتشاورون فيما بينهم ، يقول بعضهم لبعض : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) (١٠٣) ؛ أي ما لبثتم من النّفخة الأولى إلى الثانية إلّا عشر ليال ، وذلك أنّهم يكفّ عنهم العذاب فيما بين النّفختين وهو أربعون سنة ، فاستقصروا مدّة لبثهم لهول ما عاينوا. وقيل : معناه : يقولون ما لبثتم في الدّنيا إلّا عشر ليال ، وذلك لشدّة ما يرون من هول يوم القيامة ينسون ما لبثوا في الدّنيا.

قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ؛) أي أعلمهم عندهم ، (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (١٠٤) ؛ نسوا مقدار لبثهم لشدّة وهمهم ، فقالوا هذا القول وهو كذب منهم.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ؛) أي يسألك الكفار عن حال الجبال يوم القيامة : أين تذهب مع عظمها. وقال ابن عبّاس : (سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية (١).

قوله تعالى : (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١٠٥) ؛ أي يصيّرها رملا تسيل سيلا ، ثم يرسل عليها الرياح فتفرّقها كتذرية الطعام من القشور والتراب ، فيصيّرها كالهباء وكالصّوف المنفوش.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل للبغوي : ص ٨٢٧.

٢٦٢

قوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) (١٠٦) ؛ أي أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها ، والصّفصف : الأملس الذي لا نبات فيه. قوله تعالى : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١٠٧) ؛ قال ابن عبّاس : (العوج : الأودية ، والأمت : الرّوابي) (١) ، وقال مجاهد : (انخفاضا وارتفاعا) (٢) ، وقال قتادة : (لا ترى فيها صدعا ولا أكمة) (٣) ، وقال الحسن : (العوج : ما انخفض من الأرض ، والأمت : ما يستر من الرّوابي) ، ويقال : مدّ حبله حتى ما ترك فيه أمتا ، وملأ سقاءه حتى ما ترك فيه أمتا ؛ أي انثناء.

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ؛) أي يومئذ يتّبعون داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو اسرافيل لا عوج لدعائه ، وقيل : لا عوج لهم عن دعائه ؛ أي لا يزيغون عنه ، بل يتبعونه سرايا لا يعدلون عن الطريق يمينا ولا شمالا ولا يملكون التأخّر.

قوله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ ؛) أي ذلّت الأصوات لهيبة الرّحمن ، وقيل : سكنت الأصوات له ، فوصف الأصوات بالخشوع ، والمعنى لأهلها ، قوله تعالى : (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (١٠٨) ؛ أي إلّا صوتا خفيّا يعني صوت نقل الأقدام إلى المحشر.

والهمس : الصوت الخفيّ كأخفاف صوت الإبل في المشي. وقال ابن عبّاس : (معنى الهمس تحريك الشّفاه بغير منطق) وهو قول مجاهد (٤) ، والكلام الخفيّ ، والمعنى على هذا التفسير : سكنت الأصوات فلا يجهر أحد بكلام إلّا كالمشير من الإشارة بالشّفة ، وتحريك الفم من غير صوت.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٣٥٧).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٣٥٨).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٣٦٠).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٣٦٧). وفي الدر المنثور : ج ٥ ص ٦٠٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد).

٢٦٣

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ؛) أي لا تنفع لأحد من الناس إلّا من أذن الله أن يشفع له فذاك الذي تنفعه الشفاعة ، وقيل : لا تنفع شفاعة أحد إلّا من أذن له الرّحمن في أن يشفع. قوله تعالى : (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩) ؛ في الدّنيا وهم المؤمنون ، فإنّ الله لا يرضى إلّا قول المؤمنين.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ؛) هذا كناية راجعة إلى الّذين يتّبعون الداعي ؛ أي يعلم ما قدّموا واخلفوا. قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١١٠) ؛ الكناية تعود إلى ما في قوله (ما بين أيديهم وما خلفهم) أي هو يعلم ذلك.

قوله تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ؛) أي ذلّت الوجوه وخضعت واستسلمت للحيّ الذي لا يموت ، القائم الذي لا ندّ له ، والعاني في اللغة : هو الأسير ، ومنه قولهم : أخذت الشيء عنوة ؛ أي غلبة بدل المأخوذ منه ، قال الشاعر :

مليك على عرش السّماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجد

وقال الحسن : (القيّوم : القائم على كلّ نفس بما كسبت حتّى يجزيها). قوله تعالى : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١) ؛ أي خاب من ثواب الله من حمل شركا ، ومعنى خاب أي خسر.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً ؛) في سيّئاته ، (وَلا هَضْماً) (١١٢) ؛ بالنّقصان من حسناته ، والهضم : النّقص ؛ يقال : هضمني فلان حقّي ؛ أي نقصني ، وهذا شيء يهضم الطعام أي ينقص نقله.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ؛) أي وهكذا أنزلناه قرآنا على اللّغة العربية ، (وَصَرَّفْنا فِيهِ ؛) أي وكرّرنا فيه ، (مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ؛) وقيل : معنى (وَصَرَّفْنا) أي بيّنّا فيه من الوعيد ، يعني الوقائع في الأمم المكذّبة ؛ لكي يتّقوا الشّرك بالاتّعاظ بمن قبلهم ، (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣) ؛ أي يحدث لهم القرآن اعتبارا فيذكروا به عقاب الله ، وقيل : معناه : أو يحدث لهم

٢٦٤

ذكرا شرفا بإيمانهم ، كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(١) أي شرف لك ولقومك.

قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ؛) أي ارتفعت صفة الرّحمن فوق كلّ شيء سواه ، لأنه أقدر من كلّ قادر ، وأعلم من كل عالم ، وكلّ قادر وعالم سواه محتاج إليه ، وهو غنيّ عنه ، قوله (الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي يحقّ له الملك ، وإن كان ملك سواه يملك بعض الأشياء ويبيد ملكه.

قوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ؛) قال الحسن : [كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أنزل عليه الوحي عجّل بقراءته مخافة نسيانه ، وكان يقرأ مع الملك مخافة أن يذهب عنه ، فنهي عن ذلك] فقال (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) أي بقراءته من قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته عليك) (٢). قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤) ؛ أي زدني حفظا لا أنساه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ؛) أي أمرناه أن لا يأكل من الشّجرة من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي ، وتركوا الإيمان بي ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، والمعنى أن هؤلاء الذين صرّف لهم في القرآن الوعيد إذ ضيّعوا عهدي وخالفوا أمري ، فإنّ أباهم آدم عليه‌السلام عهدنا إليه أيضا ، (فَنَسِيَ ؛) وترك عهدي وما أمر به ، (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) ؛ أي لم نجد له حفظا لما أمرنا به.

وقال الحسن : (معناه : ولم نجد له صبرا عمّا نهي عنه ، ولم نجد له رأيا معزوما عليه) ، حيث أطاع عدوّه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له. قال الحسن : (كان عقل آدم كعقل جميع ذرّيّته) ، قال الله (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً). وجاء في الحديث : [لو وزن حلم بني آدم مذ كان آدم إلى أن تقوم السّاعة لرجح حلم آدم على

__________________

(١) الزخرف / ٤٤.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : ج ٧ ص ٢٤٣٧. وفي الدر المنثور : ج ٥ ص ٦٠٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه).

٢٦٥

حلمهم ، وقد قال الله تعالى : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)](١).

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) (١١٦) ؛ قد تقدّم تفسيره. قوله تعالى : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ؛) أي لك ولامرأتك ، فلا تميلا إليه ، ولا تعيلا منه ، (فَلا يُخْرِجَنَّكُما ؛) أي فيكون ذلك سبب خروجكما ، (مِنَ الْجَنَّةِ ؛) إلى شدائد الدنيا وجوعها وعطشها وفقرها وتعبها في طلب المعاش ، وهذا معنى قوله : (فَتَشْقى) (١١٧) ؛ أي تتعب بالأكل من كدّ يدك ، وما تكسبه لنفسك ، والمعنى : إنّ عيشك لا يكون إلّا من كدّ يمينك وعرق جبينك. قال سعيد بن جبير : (أهبط الله إلى آدم ثورين ، فكان يحرث عليهما ، ويمسح العرق عن جبينه) (٢) فهو شقاؤه الذي قال الله تعالى ، وكان من حقّه أن يقول : فيشقيا أو تشقى أنت وزوجك ، لكن غلّب المذكّر ؛ لأن تعبه أكثر ، وقيل : لأجل رؤوس الآي.

قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) (١١٨) ؛ أي إنّك ما دمت مقيما في الجنّة على طاعة الله فلا تجوع فيه ولا تعرى ؛ أي لكثرة أثمارها وأثوابها ونعيمها ، (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها ؛) أي لا تعطش ، (وَلا تَضْحى) (١١٩) ؛ أي ولا تبرز إلى الشّمس ؛ لأنه ليس في الجنّة شمس ، إنّما هو ظلّ ممدود. وقرئ : (وإنّك لا تظمأ) بكسر الهمزة عطفا على (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ) ، وقرئ بالنصب عطفا على (أن لا تجوع).

قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ؛) أي وسوس له ليأكل من الشجرة ف (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ؛) أي على شجرة من أكل منها خلّد ولم يمت ، (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠) ؛ ويبقى في ملك لا يبلى ولا يفنى.

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر المنثور موقوفا على محمّد بن كعب : ج ٥ ص ٦٠٤ ؛ وقال : (أخرجه ابن المنذر). وذكره ابن عادل الحنبلي في اللباب في علوم الكتاب موقوفا على أبي أمامة الباهلي : ج ١٣ ص ٤٠٢.

(٢) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٦٠٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر).

٢٦٦

قوله تعالى : (فَأَكَلا مِنْها ؛) أي أكل آدم وحوّاء من الشجرة على وجه الخطأ في التأويل لا تعمّدا في المعصية إذ الأنبياء عليهم‌السلام لا يقيمون المعصية ، وهم أشدّ خوفا من الله أن يفعلوا ذلك. لأنّ بعض المفسّرين قال : إن الله تعالى أشار بالنّهي إلى شجرة بعينها ، فقال له : لا تأكل من هذه الشجرة ، وأرادوا جنس تلك الشجرة ، فنسي آدم الاستدلال بذلك على الجنس ، فحمل النهي على العين. وهذا كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه أخذ الذهب بإحدى يديه ، والحرير بالأخرى ، وقال : [هذان حرامان على ذكور أمّتي ، حلّ لإناثهم](١) وأراد به الجنس دون العين.

قوله تعالى : (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ؛) أي ظهرت لهما عوراتهما ، وإنّما جمع السّوءات ولم يثنّهما ؛ لأن كلّ شيء من شيء فهو جمع في موضع التثنية. قوله تعالى : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما ؛) أي جعلا يقطعان عليهما ، (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ؛) ويجعلانه على سوءاتهما.

وقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ ؛) أي عصاه بأكل الشجرة ، (فَغَوى) (١٢١) ؛ أي فعل ما لم يكن له فعله. وقيل : ضلّ حين طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله. وقيل : الغيّ الفساد ؛ أي فسد عليه عيشه ، وقيل : (فَغَوى) أي أخطأ ، وقيل : خاب في طلبه في أكل الشجرة.

قوله تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ؛) أي اجتباه للرّسالة ، وقيل : قرّبه ، (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١٢٢) ؛ إلى ذكره ، وقيل : اصطفاه فتاب عليه وهداه حين قال (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)(٢) الآية.

__________________

(١) عن عمر بن الخطاب ؛ أخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٣٦٢٩). في مجمع الزوائد : ج ٥ ص ١٤٣ ؛ قال الهيثمي : (وفيه عمرو بن جرير وهو متروك). وعن علي بن أبي طالب ؛ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : كتاب الصلاة : باب الرخصة في الحرير والذهب للنساء : الحديث (٤٣٢٠).

(٢) الأعراف / ٢٣.

٢٦٧

قوله تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً ؛) قد تقدم تفسيره ، قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ؛) يعني آدم وذريّته وإبليس وذريّته ، قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ؛) أراد به الكتاب والرّسول ، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ؛) أي من اتّبع الكتاب والرسول ، (فَلا يَضِلُ) في الدّنيا ، (وَلا يَشْقى) (١٢٣) في الآخرة. قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (ضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل به أن لا يضلّ ولا يشقى) (١).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ؛) أي عن موعظتي ، وقيل : عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتّبعه ، (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ،) الضّنك : الضيّق والشدة والصّعوبة. قال ابن عبّاس : (يعني أنّ عيشه يكون منغّصا عليه غير موقن بالخلف والجزاء) ، وقال عبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدريّ والسديّ : (معنى قوله (مَعِيشَةً ضَنْكاً) عذاب القبر ؛ يضيق عليه حتّى تختلف أضلاعه) (٢) ، وقال الحسن : (هو الضّريع والزّقّوم في النّار) ، قال عكرمة : (هو أكل الحرام في الدّنيا الّذي يؤدّيه إلى النّار).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [أتدرون ما المعيشة الضّنكة؟] قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : [عذاب الكافر في قبره ، والّذي نفسي بيده إنّه ليسلّط عليه تسعة وتسعون تنّينا ، لكلّ تنّين سبعة رؤوس ، ينهشونه ويلسعونه ويخدشون لحمه إلى يوم القيامة ، ولو أنّ تنّينا نفخ في الأرض لم تنبت شيئا](٣). وقال ابن زيد : (المعيشة الضّنكى : الزّقّوم والغسلين والضّريع) ، وقال الضحّاك : (الكسب الخبيث) ، وقيل : إذا كان العبد سيّء الظنّ بالله ضاق عليه عيشه وضنك. وقال ابن جبير : (معنى قوله : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي سلبه القناعة حتّى لا يشبع).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٤٠٨). وابن أبي حاتم في التفسير : ج ٧ ص ٢٤٣٨.

(٢) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٦٠٧ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في عذاب القبر عن أبي سعيد الخدري مرفوعا).

(٣) رواه ابن حبان في الصحيح : الحديث (٣١٢٢). والآجري في الشريعة : ج ٣ ص ١٢٧٣ : الحديث (٨٤٠) ، وإسناده حسن.

٢٦٨

قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١٢٤) ؛ قال ابن عبّاس : (عمى البصر) ، وقال مجاهد : (أعمى عن الحجّة ؛ أي لا حجّة له يهتدي إليها) (١) ، (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (١٢٥) ؛ بعينيّ ، (قالَ كَذلِكَ ؛) تكون كما (أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها ؛) أي فتركتها وأعرضت عنها ، (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (١٢٦) ؛ أي تترك في النار.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ؛) أي كما جزينا من أعرض عن القرآن ، كذلك نجزي من أسرف على نفسه بالمعاصي ، (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧) ؛ أي أشدّ من عذاب الدّنيا وأدوم ، لأن عذاب الدّنيا ينقطع.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ؛) من قرأ بالياء فمعناه : ألم نبيّن ، يعني كفّار مكّة كم أهلكنا قبلهم من القرون ، والمعنى : ألم نبيّن لهم طرق الاعتبار بكثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيب الرسل فيعتبروا ويؤمنوا. وكانت قريش تتّجر إلى الشّام فترى مساكن قوم لوط وثمود وعلامات الإهلاك. ومن قرأ بالنّون فمعناه : ألم نبيّن لأهل مكة بيانا يهتدون به فيرتدعوا عن المعاصي. قوله تعالى : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (١٢٨) ؛ أي لذوي العقول.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (١٢٩) ؛ معناه : ولو لا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفّار إلى يوم القيامة ، قوله (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لكان العذاب لازما لهم ، واقعا في الحال. وتقدير الآية : ولو لا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى لكان لازما ؛ أي لكان العذاب لازما لهم في الدّنيا ، كما لزم القرون الماضية الكافرة.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ؛) أي فاصبر يا محمّد على ما يقولون من الشّتم والتكذيب فسيعود عليهم وبال ذلك ، قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ؛) أي صلّ صلاة الفجر ، (وَقَبْلَ غُرُوبِها) ؛ يعني صلاة

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٤٢٦).

٢٦٩

العصر ، (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ؛) يعني المغرب والعشاء ، وآناء اللّيل ساعاته.

قوله تعالى : (وَأَطْرافَ النَّهارِ ؛) يعني صلاة الظهر ، قال قتادة : (كأنّه ذهب إلى أنّه آخر النّصف الأوّل من النّهار طرف ، وأوّل النّصف الثّاني طرف). وقال الحسن : (وَقَبْلَ غُرُوبِها) : الظّهر والعصر ، (وَأَطْرافَ النَّهارِ) : صلاة التّطوّع). قوله تعالى : (لَعَلَّكَ تَرْضى) (١٣٠) ؛ قرأ الكسائيّ وأبو بكر بضمّ التاء ؛ أي تعطى الرّضى بالدرجات الرفيعة ، يرضاك الله ويسمى مرضيّا ، وتصديقه قوله تعالى : (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)(١). وقرأ الباقون (تَرْضى) بفتح التاء ؛ أي لعلّك ترضى بالثّواب والشّفاعة ، ودليل ذلك قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(٢) ، والمعنى : أقم هذه الصّلوات لكي تعطى من الثواب ما ترضى (٣).

قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ؛) أي لا تنظرنّ بعين الرّغبة إلى ما متّعنا به رجالا منهم زينة الحياة الدّنيا ، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ؛) أي لنختبرهم في ما أعطيناهم من الزّينة. وقيل : لنجعله فتنة لهم وضلالا بأن أزيد لهم في النعمة ، فيزدادوا كفرا وطغيانا.

قال أبو رافع : (بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يهوديّ ، فقال : [قل له : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثني إليك لتسلفه كذا وكذا من الدّقيق ، أو تبيعه وتصبر عليه إلى هلال رجب] فأتيته ، فقال : والله ما أبيعه ولا أسلفه إلّا برهن! فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : [والله لو باعني أو أسلفني لقضيته ، وإنّي لأمين في الأرض ، إذهب بدرعي إليه] ثمّ حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، فنزلت هذه الآية كأنه يعزّيه عن الدّنيا) (٤).

__________________

(١) مريم / ٥٥.

(٢) الضحى / ٥.

(٣) ينظر : جامع البيان : ج ٩ ص ٢٩١.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٤٥٣ ـ ١٨٤٥٤). وابن أبي حاتم في التفسير : النص (١٣٥٨٧). وفي الدر المنثور : ج ٥ ص ٦١٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في المعرفة).

٢٧٠

وقيل : معنى قوله تعالى (أَزْواجاً) أي أصنافا من نعم الدّنيا وزهرتها. قوله : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٣١) ؛ أي ورزق ربك الذي وعدك في الجنّة خير وأبقى مما رزق هو.

قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ؛) أي وأمر قومك الذين على دينك ، (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً ؛) لخلقنا ولا لنفسك ، لم نخلقك لحاجتنا إليك كحاجة السّادة إلى عبيدهم ، بل (نَحْنُ نَرْزُقُكَ ؛) ونرزق جميع خلقنا. قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) ؛ أي والعاقبة المحمودة لمن يتّقي الله ولا يعصيه ، وتقديره : والعاقبة لأهل التقوى. [وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل عليه بعض الضيّق في الرّزق أمر أهله بالصّلاة ، ثمّ قرأ هذه الآية (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) إلى آخرها](١).

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ؛) أي قال المشركون من أهل مكّة : هلّا يأتينا محمّد بآية من ربه كما أتى بها الأنبياء ، نحو الناقة والعصا ، (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٣٣) ؛ أي بيان ما في التّوراة والإنجيل من البشارة بما وافقهما من صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : معناه : أولم يأتهم ما في الصّحف الأولى من أنبياء الأمم الذين أهلكناهم لمّا سألوا الآيات ثم كفروا بها ، فماذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤالهم الآية كحال أولئك. وهذا البيان إنّما قصّ عليهم في القرآن.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ ؛) أي لو أنّا أهلكناهم بعذاب الاستئصال من قبل إرسال الرّسل لقالوا : هلّا أرسلت إلينا رسولا يرشدنا إلى دينك فنتّبع دلائلك ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ ؛) في الدّنيا بالقتل ونفضح في الآخرة بالعذاب. والمعنى : ولو أنّا أهلكنا كفّار مكّة بعذاب من قبل بعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزول القرآن لقالوا يوم القيامة :

__________________

(١) رواه الطبراني في الأوسط : الحديث (٨٩٠). والبيهقي في شعب الإيمان : الحديث (٩٧٠٥). وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٦٧ ؛ قال الهيثمي : (ورجاله ثقات).

٢٧١

ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك فنتّبع آياتك من قبل أن ينزل العذاب ، (وَنَخْزى) (١٣٤) ؛ في جهنّم.

قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ؛) أي قل لهم يا محمّد : كلّ منّا ومنكم منتظر ، فانتظروا نحن ننتظر بكم ما وعدنا الله فيكم من النّصر والفتح ، وأنتم تنتظرون بنا أن نموت فتستريحون منّا ، وذلك أنّهم كانوا يقولون : نتربّص بمحمّد ريب المنون. قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٢٥) ؛ فستعلمون بعد هذا إذا قامت القيامة من أصحاب الدّين المستقيم ، ومن اهتدى إلى الرّشد والصلاح نحن أم أنتم!

وعن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ سورة طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار](١).

آخر تفسير سورة (طه) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) ينظر : تفسير الكشاف : ج ٣ ص ٩٧ ، والحديث موضوع.

٢٧٢

سورة الأنبياء

عليهم‌السلام

سورة الأنبياء مكّيّة ، وهي أربعة آلاف وثمانمائة وسبعون حرفا ، وألف ومائة وثمان وعشرين كلمة ، ومائة واثنتا عشرة آية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) حاسبه الله حسابا يسيرا ، وصافحه وسلّم عليه كلّ نبيّ ذكر اسمه في القرآن](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ؛) أي اقترب لأهل مكّة حسابهم ، والمعنى : اقتربت القيامة ، واقترب للنّاس حسابهم ، والحساب هنا : إظهار ما للعبد وما عليه ليجازى على ذلك.

قوله تعالى : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١) ؛ أي في غفلة عمّا يفعل الله بهم ذلك اليوم ، معرضون عن التّأهّب له بالإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. وقيل : معناه : وهم في غفلة عن قرب الحساب والموت ، معرضون عن الفكرة في ذلك ، والتّأهّب له ، وهذا من الله تنبيه وعظة ؛ لئلّا يغفلوا عن الآخرة.

قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ ؛) أي ما يأتيهم من وحي ، (مُحْدَثٍ ؛) تنزيله ، والإحداث يعود إلى الانزال. قوله تعالى : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢) ؛ قال ابن عبّاس : (يستمعون القرآن مستهزئين).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي بإسناد واه في الكشف والبيان : ج ٦ ص ٢٦٨.

٢٧٣

قوله تعالى : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ؛) منصوب بقوله (يَلْعَبُونَ) ، ومعناه : غافلة قلوبهم عما يراد بهم ، معرضة عن ذكر الله. قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ؛) أي تناجوا فيما بينهم سرّا.

ثم بيّن من هم فقال : (الَّذِينَ ظَلَمُوا ؛) أي الذين أشركوا بالله ، و (الَّذِينَ) في موضع الرفع بدل من الضمير في (أَسَرُّوا) كما في قوله تعالى (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)(١) ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ) خفض نعتا للناس ؛ أي اقترب للناس الذين هذا حالهم.

ثم بيّن النّجوى الذي أسرّوه بقوله : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ؛) أطلع الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّهم قالوا : هل محمّد إلّا بشر مثلكم ، فإذن تتبعون بشر مثلكم ، (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) ؛ وأنتم تعلمون أنه سحر. قال السديّ : (قالوا متابعة محمّد متابعة السّحر) ، والمعنى : أتقبلوا السّحر ، وأنتم تعلمون أنه سحر.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ؛) أي قل لهم يا محمّد : ربي الذي أعبده وأدعوا إلى عبادته هو الله الذي يعلم ما تسرّه العباد من القول في السّماء والأرض ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٤) ؛ لذلك كلّه ، العالم بما يجري عليه ، ومن هذه صفته ، فهو الذي يجب أن يعبد دون الأصنام. وقرأ أهل الكوفة : (قالَ رَبِّي) على الخير. قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوالهم ، العليم بأفعالهم.

قوله تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ ؛) أي قال الكفار : إنّ ما أتي به محمّد تخاليط رؤيا رآها في المنام ، و (بَلْ) ها هنا انتقال إلى خبر آخر عنهم.

__________________

(١) المائدة / ٧١.

٢٧٤

قوله تعالى : (بَلِ افْتَراهُ) أي قالوا اختلقه كذبا من تلقاء نفسه ، ثم قالوا : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) فجعلوا ينقضون أقوالهم قول متحيّر لا يمكنه الجزم على أمر واحد. قوله تعالى : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥) ؛ بالآيات ، نحو انقلاب البحر ، وإحياء الموتى ، والناقة والعصا.

فقال الله تعالى مجيبا لهم : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٦) ؛ أي ما آمنت قبل مشركي مكّة (مِنْ قَرْيَةٍ) يعني أهلها ، والمعنى : ما آمنت من قرية مهلكة بالآيات المرسلة ، فكيف يؤمن هؤلاء؟ والمعنى : أنّ مجيء الآيات لو كان سببا للإيمان من غير إرادة الله لكان سببا لإيمان أولئك ، فلما بطل ذلك بطل هذا.

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ؛) يعني ما أرسلنا قبلك من الرّسل إلّا رجالا مثلك ، وهذا جواب لقولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، فقال الله تعالى : لم أرسل قبل محمّد إلّا رجالا من بني آدم لا الملائكة ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧) ؛ وأراد بأهل الذّكر علماء أهل الكتاب ؛ لأن اليهود النصارى لا ينكرون أن الرّسل كانوا بشرا ، وإن أنكروا نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : أراد بالذّكر القرآن ، والمعنى : فاسألوا المؤمنين من أهل القرآن إن كنتم يا أهل مكّة لا تعلمون. قال عليّ (كرّم الله وجهه) : لمّا نزلت هذه الآية قال : (نحن أهل الذّكر) (١).

قوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ؛) أي وما جعلنا الأنبياء ذوي أجساد لا يأكلون الطعام ، ولا يشربون الشراب ، (وَما كانُوا خالِدِينَ) (٨) ؛ لا يموتون ، وذلك أنّهم قالوا : ما لهذا الرّسول يأكل الطّعام؟ فأعلموا أن الرّسل جميعا كانوا يأكلون الطعام ، وأنّهم يموتون كسائر البشر ، وإنّما وحّد الجسد ؛ لأنه مصدر كالخلق.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٤٧٢).

٢٧٥

قوله تعالى : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٩) ؛ أي ثم أنجزنا وعد الأنبياء في إنجائنا إياهم ، وإهلاك الكفار المكذّبين بهم ، وأراد بالمسرفين الكفار ، لأن المسرف في اللغة هو الذي يتجاوز حدّ الحقّ بما تباعد عنه ، فالكافر أحقّ بهذه الصفة. قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُمْ) أي من العذاب (وَمَنْ نَشاءُ) يعني الذين صدّقوهم.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ؛) أي لقد أنزلنا إليكم كتابا يا معشر قريش ، كتابا فيه شرفكم وعزّكم أن يمسكم به يعني القرآن ، والذّكر هو الشّرف ، قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(١) أي شرف ، يقال : فلان مذكور في العلا ؛ إذا كان رفيعا. وقال الحسن : (معنى قوله تعالى (ذِكْرُكُمْ) أي ما تحتاجون إليه من أمر دينكم) (٢) ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠) ، ما فضّلكم به على غيركم ، أنزلتكم حرمي ، وبعثت فيكم نبيّا.

قوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) أي كم أهلكنا من أهل قرية كانوا مشركين ، والقصم : الكسر والدّقّ ، (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) (١١) ؛ أي وأحدثنا من بعد إهلاكهم قوما آخرين ، فسكنوا ديارهم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) (١٢) ؛ أي فلمّا أحسّ أهل القرية الكافرة عذابنا إذا هم منها يهربون سراعا هرب المنهزم من عدوّه. ومعنى قوله (أَحَسُّوا) أي رأوا ، وقيل : معناه : لمّا ذاقوا. والإحساس : هو الإدراك بحاسّة من الحواسّ الخمس.

قوله تعالى : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ ؛) أي قيل لهم : لا تركضوا وارجعوا إلى ما نعّمتم فيه وإلى منازلكم ، تقول الملائكة ذلك استهزاء بهم وتقريعا على ما فرّط منهم بحيث يسمعون النداء.

__________________

(١) الزخرف / ٤٤.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : النص (١٣٦٠٧). وفي الدر المنثور : ج ٥ ص ٣١٧ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم).

٢٧٦

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣) ؛ يقال لهم ذلك على طريق الهزؤ بهم وهو توبيخ في الحقيقة ، والمعنى : لكي تسألوا شيئا من دنياكم فأنتم أهل برّ ونعمة ، ف (قالُوا) عند ذلك : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤) ؛ لأنفسنا حيث كذبنا الرّسل ، اعترفوا بالذنب حين رأوا العذاب ، فقالوا هذا على سبيل النّدم ، ولم ينفعهم حينئذ الندم. والويل : الوقوع في الهلكة.

قوله تعالى : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥) ؛ أي فما زالت تلك الكلمة وهو قولهم : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لم يزالوا يردّدونها إلى أن ماتوا وخمدوا فصاروا كالزّرع الحصيد ، والحصيد : هو الزّرع المحصود ، والمخمود : وهو المهمود كخمود النّار إذا أطفيت.

قيل : نزلت هذه الآية في أهل خضور (١) وهي قرية من اليمن كان أهلها من العرب ، بعث الله إليهم نبيّا يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه ، فسلّط الله بختنصّر حتى قتلهم وسباهم ونكّل بهم ، فلما أتخن فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا ، فقالت لهم الملائكة على طريق الاستهزاء : لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم ، فاتّبعهم بختنصّر وأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من السّماء : يا ثارات الأنبياء ، فلمّا رأوا ذلك أقرّوا بالذنوب حيث لم ينفعهم ، فقالوا : يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين ، فما زالت تلك دعواهم حتّى جعلناهم حصيدا بالسّيوف ، كما يحصد الزرع ، خامدين أي ميّتين.

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١٦) ؛ أي ما خلقناهما عبثا ولا باطلا بل خلقناهما لأمر ؛ أي لأجازي أوليائي ، وأعذّب أعدائي. وقيل : معناه : خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيّتنا ؛ ليعتبروا بخلقهما ويتفكّروا فيهما ، فيعلمون أن العبادة لا تكون إلّا لخالقهما.

قوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا ؛) قال قتادة : (اللهو بلغة اليمن المرأة) (٢) ، وقال ابن عبّاس : (يريد النّساء) ، وقيل : جاء طاووس

__________________

(١) وتروى : خاضوراء بالألف الممدودة.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٤٩٥). وابن أبي حاتم في التفسير : النص (١٣٦١٩).

٢٧٧

وعطاء ومجاهد إلى الحسن فسألوه عن هذه الآية ، فقال : (اللهو المرأة) (١). وفي رواية الكلبيّ : (اللهو الولد) (٢). وقيل : معناه : لو أردنا أن نتّخذ شريكا أو ولدا أو امرأة لم يكن لنتّخذها مما نسبتمونا (٣) إليه من الذي لا يسمع ولا يعقل ولا من هذه النساء والولدان ، بل كما نتّخذه من جنس أشرف من هذا الجنس كما قال تعالى في آية أخرى (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ)(٤). وقيل : معناه : لو أردنا أن نتخذ ولدا نلهو به لاتّخذناه عندنا لا عندكم ؛ لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده وبحضرته.

نزلت هذه الآية في الّذين قالوا اتّخذ الله ولدا ، ولو كان ذلك جائزا في صفة الله تعالى لم يتخذ بحيث لم يظهر لكم ، ويستره حتى لا تطّلعوا عليه ، تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا. قوله تعالى : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (١٧) ؛ أي كنّا ممّن يفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله ، وقيل : (أَنْ) هنا بمعنى (ما) أي ما كنّا فاعلين.

قوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ؛) أراد بالحقّ القرآن ، وبالباطل الكفر ، وقيل : معناه : دع ذاك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، بل نقذف بالحقّ على الباطل من كذبهم ، (فَيَدْمَغُهُ) أي فيهلكه ويذهبه ، (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ؛) أي زائل ذاهب ، والمعنى : إنّا نبطل كذبهم مما تبيّن من الحقّ حتى يضمحلّ ويذهب ، ثم أوعدهم على قولهم فقال : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨) ؛ أي لكم العذاب مما تصفون الله تعالى به من الصّاحبة والولد.

ثم بيّن أن جميع الخلق عبيده ، فقال : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) عبيدا وملكا ، (وَمَنْ عِنْدَهُ ؛) يعني الملائكة ، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ؛) قال الزجّاج : (إنّ الّذين ذكرتموهم بأنّهم أولاد الله هم عباده ولا يأنفون عن عبادته ، ولا يتعظّمون عنها) ، (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) ؛ أي ينقطعون عن العبادة من الإعياء والتّعب ، من قولهم : بعير حسير اذا أعيا وقام.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٤٩٣)

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : النص (١٣٦١٥) عن عكرمة.

(٣) في المخطوط : رسم مبهم غير واضح ، واخترنا أقرب حرف له فأثبتناه.

(٤) الزمر / ٤.

٢٧٨

قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ؛) أي يصلّون لله تعالى الليل والنهار ، (لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) ؛ أي لا يضعفون عن عبادته ولا يملّون. وقيل : معناه : ينزّهون الله ، وإنّما يقولون سبحان الله لا يملّون. قال الزجّاج : (مجرى التّسبيح منهم كمجرى النّفس منّا ، كما لا يشغلنا عن النّفس شيء فكذلك تسبيحهم دائم).

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (٢١) ؛ استفهام بمعنى الإنكار ؛ أي أعبد أهل مكة أصناما يحيون الموتى؟! وفيه تقريع لهم بأنّهم كاذبون أنّها آلهة ، لأن الإله يحيي الموتى ، وهي لا تحيي ، فكيف يستحقّ العبادة؟ قيل : معنى الآية : لم تتّخذون آلهة من الأرض ، وأصنامهم كانت من الأرض ؛ من أيّ شيء كانت ، من خشب أو حجارة أو فضّة أو ذهب ، هم ينشرون ، أيحيون الموتى.

قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ؛) لخربتا وهلك من فيهما ، وعيّن صفة الآلهة ؛ أي لو كان فيهما آلهة غير الله ؛ أي لو كان في السّماء والأرض آلهة غير الله لما قامت السّموات والأرض ؛ لأنه لو أراد أحدهما اتّخاذ جسم في مكان ، وأراد آخر اتّخاذ جسم آخر في ذلك المكان لم يخل : إما أن يوجد مرادهما أو لا يوجد مرادهما ، أو يوجد مراد أحدهما دون الآخر.

فالأول باطل ؛ لأن في ذلك وجود جسمين في مكان واحد. والثاني باطل ؛ لأنّ في ذلك كونهما عاجزين ، والعاجز لا يستحقّ الألوهيّة ، وإن وجد مراد أحدهما دون الآخر ، فالذي لا يوجد مراده يكون عاجزا لا يصلح أن يكون إلها.

والمعنى : لو كان فيهما آلهة غير الله كما يزعم المشركون ، هذا قول جميع النحويّين ؛ قالوا : (إِلَّا) ليس ها هنا باستثناء ، ولكنه مع ما بعده صفة للآلهة في معنى (غير) (١). قال الزجّاج (٢) : (فلذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الّذي قبلها (٣) ، قال

__________________

(١) والمعنى : أنه قد يقع الوصف ب (إِلَّا) كما وقع الاستثناء ب (غير) ، والأصل في (إِلَّا) الاستثناء ، وفي (غير) الصفة. ثم قد يحمل أحدهما على الآخر ، فيوصف ب (إِلَّا) ويستثنى ب (غير).

(٢) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٣ ص ٣١٥.

(٣) قال الزمخشري : (واعلم أن (إلّا) و (غير) يتقارضان) يعني أن كل واحد منهما يستعير من الآخر حكما هو اختص به ؛ وذلك أن (غير) اسم تعمل فيه العوامل ، فيجوز أن يقام مقام ـ الموصوف. ـ ينظر : شرح المفصل لابن الحاجب : ج ١ ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

٢٧٩

الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه (١)

لعمرو أبيك إلّا الفرقدان

قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) ؛ أي تنزيها عمّا يقولون عليه من الولد والشّريك ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ؛) أي لا يسأل عن أفعاله وقضائه في خلقه من إعزاز وإذلال ، وهداية وإضلال ، وإسعاد وإشقاء ؛ لأنه الربّ مالك الخلق. قوله تعالى : (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) ؛ أي يقال لهم يوم القيامة : لم فعلتم كذا؟ لأنّهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم ، والله سبحانه وتعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته.

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ؛) هذا إنكار عليهم وتوبيخ ، (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ؛) أي حجّتكم بأن رسولا من رسل الله أنبأ أمّته بأن لهم إلها غير الله.

قوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ؛) معناه : هذا القرآن فيه ذكر من معي لما يلزمهم من الحلال والحرام والخطأ والصّواب. وقيل : خبر من معي على ديني بما لهم من الثواب والعقاب ، وذكر من قبلي من الأمم من نجا منهم بالإيمان ، وأهلك بالشّرك. وقيل : معناه : هذا القرآن الذي هو ذكر من معي ، والتوراة والإنجيل هما ذكر من قبلي ، هل في جميع ذلك غير توحيد الله تعالى؟

والمعنى : هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت من قبلي ، فانظروا هل في واحد منهم أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه (٢)؟ قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٤) ؛ عن النظر في دلائل الله مقصّرين على جهلهم وتقليدهم.

__________________

ـ ينظر : شرح المفصل لابن الحاجب : ج ١ ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

(١) البيت لعمرو بن معدكرب ، وقد تقدم. وفي المخطوط ذكر الصدر منه فقط ، والشاهد يقتضي ذكر البيت كاملا. والمعنى : الفرقدان : نجمان قريبان من القطب لا يفترقان ، يقول : كلّ أخوين غير الفرقدين لا بد أن يفترقا بسفر أو موت.

(٢) في المخطوط : (هل في واحد منهم أمر أنّ الله يتّخذ إله سواه) وهي عبارة مربكة ، ويبدو أن فيه تحريف من الناسخ ، واخترنا عبارة القرطبي فهي أقرب لأسلوب المصنف رحمه‌الله.

٢٨٠