بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

الحسن ... فإذا لم يجد في ال باب أثراً يدفعه ، ولا قول صحابي ، ولا إجماعاً على خلافه ، كان العمل به أولى من القياس. وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة ، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدّم الحديث الضعيف على القياس (١).

ـ ويفصح أبو داود عن عجز ابن حنبل عن الجواب ، بالقول : ما أُحصي ما سمعت أحمد ، سُئل عن كثير ، مما فيه الاختلاف في العلم ، فيقول : لا أدري (٢).

ـ والحق ان اعتماد أحمد كان على الحديث والأثر وأقوال السلف ، أكثر من اي شيء آخر ، فهو إذاً من الفقهاء الذين غلب عليهم النقل ، ولهذا عدّه بعض المؤرخين من فقهاء المحدّثين ، ولم يعدّه ابن جرير الطبري في كتابه (اختلاف الفقهاء) من الفقهاء ، ولم يعرض لذكره فيها ، فأثار حقد أتباعه الحنبليين عليه ، وثاروا عليه ، وهدّدوه ، ولما توُفي كادوا يحولون دون دفنه في بغداد ، فاضطرت الدولة للتدخل ، منعاً للاصطدام بين تابعيه ومعاديه ، فدُفن ليلاً (٣).

ـ ولا يخفي ابن القيم حقيقة أخرى عن أحمد حين يقول إنه كان شديد الكراهة لتصنيف ال كتب ، وكان يحب تجريد الحديث ، ويكره أن يُكتب كلامه ، ويشتد عليه جداً ، فعلم الله حسن نيته وقصده ، فكُتب من كلامه وفتواه ، أكثر من ثلاثين سفراً (٤).

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) المذاهب الفقهية : ١٠٩.

(٣) المذاهب الفقهية : ١٠٩ ـ ١١٠.

(٤) المذاهب الفقهية : ١١٣.

٢٦١

ـ فيما سمع المروزي أحمد يقول : أما الحديث فقد استرحنا منه ، وأما المسائل ، فقد عزمت إن سألني أحد عن شيء ، ان لا أجيبه (١).

ـ وحين قدم أحمد بن حرب (الزاهد النيسابوري) من مكة ، سأل أحمد بن حنبل : من هذا الخراساني الذي قدم؟ قيل : من زهده كذا وكذا ، فقال : لا ينبغي لمن يدّعي ما يدّعيه (من الزهد) أن يدخل نفسه في الفتيا (٢).

ـ أما أبو بكر الأشرم ، تلميذ ابن حنبل فقد كان يحفظ الفقه والاختلاف ، فلما صَحِب أحمد بن حنبل ترك ذلك (٣).

ـ ويصرّح ابن حنبل نفسه مُحذّراً : إيّاك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (٤).

ـ وسمع عبد الله بن أحمد حنبل أباه يقول : وَددتُ أني نجوت من هذا الأمر ، كفافاً لا لي ولا عليّ (٥).

النتيجة المُستخلصة

نستدل من كل تلك الاقوال التي أدلى بها ابن حنبل وأصحابه ، وكذلك خصومه ، على ما يلي :

١ ـ لم يكن لأحمد فقه واضح ومحدّد ، وانما أقوال وآراء استخرجها من الأحاديث وفتاوى الصحابة مباشرة ، ولكون بعض الأحاديث غير صحيحة

__________________

(١) طبقات الحنابلة ـ محمد ابن ابي يعلى ١ : ٥٧.

(٢) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٤ : ٣٤١ ؛ طبقات الحنابلة ـ محمد بن ابي يعلى ١ : ١٠٧.

(٣) شذرات الذهب ـ ابن العماد الحنبلي ٢ : ١٤٢.

(٤) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١١ : ٢٩٦ ؛ الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ١ : ٣٦٠.

(٥) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١١ : ٢٢٧.

٢٦٢

وضعيفة ، وفتاوى الصحابة والتابعين ، كانت مختلفة ومتفاوتة أيضاً ، فمن الطبيعي أن تأتي أقوال ابن حنبل متناقضة ذلك التناقض الصارخ.

٢ ـ كان أحمد بن حنبل يتهرّب من الإجابة عن الاسئلة والاستفسارات ، ويكثر من قول : لا أدري ، ويحيل السائلين الى الامام الشافعي أو أبي ثور وغيره من الفقهاء ، ولهذا دلالة على ان الامام أحمد غير فقيه .. كما ان عدم درايته بالمسائل وأجوبتها ، يضعه في صف المقلّدين.

٣ ـ إن الكثير من علماء أهل السُنّة ، لم يصنّفه من الفقهاء كإبن قتيبة الدينوري وابن جرير الطبري ، واعتراف ابن خلدون بأن مذهب أحمد كان مذهب حديث ، لخلوّه من نزعة الاجتهاد الفقهي.

٤ ـ لم يكن أبو الحسن الأشعري والباقلاني وعبد الله الأنصاري الهروي على الفقه المنسوب الى ابن حنبل ، بالرغم من كونهم منتسبين الى المذهب الحنبلي في الأصول التي نُقّحت على أيديهم ، مما يدلّ على انهم كانوا غير مقتنعين بأن أحمد كان فقيهاً متمكّناً ، وانما غلب عليه النقل من السلف فحسب.

٥ ـ كان الامام ابن حنبل يتهم الذين ينبرون للفتيا بعدم الزهد ، أو لديهم عمى في البصيرة ، لأن تقليد غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مذموم.

٦ ـ إن إكثار ابن حنبل من قول لا أدري أو الصمت أو الإحالة الى الغير ، يدلّ على انعدام ملكة الاجتهاد لديه.

٧ ـ ان الذين كانوا يصحبون الامام أحمد ، كأبي بكر الاشرم ، يتركون التفقّه والفقه إقتداءً بامامهم واستاذهم.

٨ ـ ان قول أحمد بن حنبل بأنه لولا الامام الشافعي لبقيت أفقيتهم كالكرة بأيدي

٢٦٣

أصحاب الرأي ، لدليل على انه كان يفتقد المقدرة على الجدال والمناظرة الفقهية التي هي من شروط المجتهد الفقيه كالشافعي.

مع مُسند أحمد بن حنبل

من الامور المسلّم بها عند الحنابلة ان الامام أحمد كان يحفظ نحو ٧٥٠ ألف حديث نبوي ، اختار منها أربعين ألف حديث ضمّها المُسند ، وكلها مروية عن سبعمائة صحابي ، وان الامام ابن حنبل لم يرو فيه إلا عمّن ثبت عنده صدقه وديانته ، اذ يقول في المقدمة بأن هذا الكتاب قد جمعه وانتقاه من أكثر من ٧٥٠ ألف حديث ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعليهم الرجوع اليه فإن وجدوه وإلا فليس بحجة (١).

وماذا يعني الامام أحمد بذلك؟ لاشك انه يُريد التنبيه بأن هذه الاحاديث المنتقاة كلها صحيحة ولذا فان اختلف المسلمون في حديث هل هو صحيح أو موضوع؟ فإن الميزان هو كتاب المُسند ، فإن وجدوه فيه فيعني أنه صحيح وان لم يضمّه المُسند ، فهو موضوع وسقيم او مشكوك في أمره.

وبذلك يؤكد علماء الحنابلة بأن المذهب الحنبلي تأصّل في المُسند ، لكونه الفيصل في صحة الحديث من سقمه ، وبناء على المذهب يعتمد تقريباً على الحديث وأقوال السلف ، فان المُسند والحال هذه ، هو الاساس في فتاوى المذهب وأحكامه.

فماذا يقول علماء السُنّة المعاصرون لاحمد أو الذين جاءوا بعده في المُسند وقيمته العلمية ومنزلته الفقهية؟

__________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ٢ : ٣١ ؛ اضواء على السنة المحمدية ـ محمود ابو رية : ٣٢٨.

٢٦٤

مسند ابن حنبل في رأي العلماء السنّة الكبار

ـ أفرد فيه أحمد حديث كل صحابي على حدة من حديثه صحيحاً كان أو سقيماً.

ـ المسانيد جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والغريب والشاذ والمنكر ، والخطأ والصواب ، والثابت والمقلوب (١).

ـ أحمد : صحّ من الحديث سبعمائة ألف وكسر .. وقال أبو زرعة كان احمد يحفظ ألف الف حديث (٢).

ـ أبو نعيم؟ .. وقد يروي الامام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم لإتهام رُواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك ليعتبر بها ويستشهد بها ، وقد يكون الصحابي كذاباً في الباطن وليس مشهوراً بالكذب ، بل يروي كثيراً من الصدق فيروى حديثه ، وكثير من المصنفين يعزّ عليه تمييز ذلك على وجهه بل يعجز عن ذلك ، فيروي ما سمعه كما سمعه ، والدرْك على غيره لا عليه .. وليس كل ما رواه أحمد في المُسند وغيره يكون حجة عنده ، بل يروي ما رواه أهل العلم ، وشرطه في المُسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده وإن كان في ذلك ما هو ضعيف .. وأما كتب الفضائل فيروي ما سمعه من شيوخه ، سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً (٣).

ـ ابن تيمية : ان أحمد بن حنبل كان يروي ما رواه الناس وإن لم يثبت صحته ،

__________________

(١) اضواء على السنة المحمدية ـ أبو رية : ٢٩٦.

(٢) كشف الظنون ـ حاجي خليفة ١ : ٥٩٧.

(٣) اضواء على السنة المحمدية ـ أبو رية : ٣٢٦.

٢٦٥

وليس كل حديث رواه أحمد في الفضائل ونحوها صحيحاً ، ولا كل حديث رواه في مُسنده صحيح ، وقد تكون بعض الأحاديث ضعيفة وباطلة.

ـ ابن تيمية : مجرّد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحاً يجب العمل به ، بل الامام أحمد روى أحاديث كثيرة لتُعرف ويبيّن للناس ضعفها (١). وابن الجوزي أثبت ان في مُسند أحمد حديثاً موضوعاً ، وبيّن ان فيه أحاديث قد علم انها باطلة (٢).

ـ ابن كثير : في مُسند أحمد أحاديث ضعيفة بل موضوعة (٣).

ـ العراقي : وجود الضعيف في المُسند ، فهو مُحقق بل فيه أحاديث موضوعة ، وقد جمعتها في جزء (٤).

ـ أبو الخطاب : أصحاب الامام أحمد يحتجون بالأحاديث التي رواها في مُسنده وأكثرها لا يحلّ الاحتجاج بها ، وانما أخرجها الامام أحمد حتى يُعرف من أين الحديث مخرجه والمنفرد به أعدل أو مجروح ، ولا يحلّ لمسلم عالم أن يذكر الا ما صحّ لئلا يشقى في الدارين ، لما صحّ عن سيد الثقلين أنه قال : « من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (٥).

ـ والحق ان في المُسند ، أحاديث كثيرة ضعيفة ، وقد بلغ بعضها في الضعف إلى أن

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) انظر : مجموعة الفتاوى ـ ابن تيمية ١ : ٢٤٨ ؛ اضواء على السنة المحمدية ـ أبو رية ٣٢٦.

(٣) انظر : اضواء على السنة المحمدية ـ بو رية : ٣٢٧.

(٤) المصدر السابق.

(٥) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٣٢٨.

٢٦٦

أُدخلت في الموضوعات (١).

ـ وجاء في مقدمة مًسند أحمد : كتب أحمد المُسند في أوراق مفردة (مسودّة) ، ومات قبل تنقيحه وتهذيبه ، ثم ان ابنه عبد الله ، ألحق به ما يشاكله ، فوق الاختلاط من المسانيد ، فبقي كثير من الأحاديث في الاوراق والأجزاء لم يظفر بها. وهذا جواب على ما أشكل قول الامام أحمد : عملت هذا الكتاب إماماً إذا اختلف الناس في سُنّة عن رسول الله رجع اليه (٢).

ـ ويعلّق الذهبي على قول أحمد : ان هذا الكتب قد جمعته ... فارجعوا إليه ، فإن وجدتموه ، وإلا فليس بحجة : هذا القول منه على غالب الأمر ، وإلا فلنا أحاديث قوية في الصحيحين والسنن والأجزاء ، ما هي في المُسند ، وقدر الله أن الامام قطع الرواية قبل تهذيب المُسند ، وقبل وفاته بثلاث عشرة سنة (٣).

ـ ويُروى عن ابن الجوزي قوله : في مُسند أحمد ما ليس بصحيح ، والامام روى المشهور والجيد والرديء ، ثم هو قد ردّ كثيراً ما روى ، ولم يجعله مذهباً له ، اليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول ، وأحاديث كثيرة في المُسند ، ثد طعن فيها أحمد (٤).

ـ ويذهب الفرّاء الى القول : انما روى أحمد في مُسنده ما اشتهر ، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم (٥).

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) طبقات الحنابلة ـ محمد بن ابي يعلى ١ : ١٨٤ ؛ طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ٢ : ٣١.

(٣) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٣٢٨.

(٤) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٣٢٩.

(٥) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١١ : ٣٢٧.

٢٦٧

وأحمد يقول : قصدت في المُسند المشهور ، فلو أردت أن أقصد ما صحّ عندي ل أرو في هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير ... لست أخالف ما ضعُف من الحديث اذا لم يكن في الباب شيء يدفعه (١).

ـ ويضيف الفراء : وقد أخبر (أحمد) عن نفسه كيف طريقه في المُسند ، فمن جعله أصلاً للصحة فقد خالفه وترك مقصده (٢).

ـ فيما يقول ابن قتيبة : قطع أحمد بن حنبل رواية الحديث قبل وفاته بسنين كثيرة من سنة ٢٢٨ هـ ، فدخل في الروايات عنه ما دخل من الأقوال البعيدة عن العلم ، إما من سوء الضبط أو من سوء الفهم أو تعمّد الكذب (٣).

ـ ويستغرب العسقلاني : رواية أحمد ، حديث ربيعة بن أمية بن خلف ال جمعي ، وهو ممن أسلم في الفتح ... وحدّث عنه بعد موته ، ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصّر بسبب شيء اغضبه. وإخراج حديث مثل هذا مُشكل (٤).

ـ ومن الاحاديث الغريبة في المُسند : ان إمرأة أبي حُذيْفة قالت : يا رسول الله ان سالماً مولى أبي حذيفة يدخل عليّ وهو ذو لحية. فقال الرسول : ارضعيه. فقالت : كيف أرضعه وهو ذو لحية ، فقال رسول الله : ارضعيه ، فكان يدخل عليها (٥).

__________________

(١) المستدرك ـ ابن تيمية ٢ : ٩١.

(٢) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١١ : ٣٢٧.

(٣) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٣٣٠.

(٤) فتح الباري ـ ابن حجر ٧ : ٣.

(٥) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٤ : ٢٦٠ ؛ مسند احمد ٦ : ٣٦٥.

٢٦٨

الاستنتاج

١ ـ إعتراف علماء المسلمين من الحنابلة وغيرهم ، بأن المُسند فيه السقيم والضعيف والموضوع والغريب والباطل والشاذ والمُنكَر ، باتفاق العلماء ، وانه لا يمكن الركون للمُسند ولا يسوغ الاحتجاج به والتعويل عليه.

٢ ـ إحتجاج أصحاب الامام أحمد ، بأحاديث المُسند ، والكثير منها لا يحلّ الاحتجاج به ، وهذا يدلّ ان هؤلاء كانوا يثقون بالمُسند كما يثق به أحمد بن حنبل ، غير ان الذين دقّقوا في المُسند من علماء المذاهب الاسلامية الأخرى ، وحتى من المذهب الحنبلي نفسه ـ كإبن تيمية ـ اكتشفوا ضعف المُسند ، وهشاشة الكثيرة من الاحاديث فيه.

٣ ـ إدّعاء الكثير من العلماء بأن أحمد كان يعلم بأن العديد من أحاديث المُسند ، ضعيف وموضوع ، وانها ليست حجة عنده ، ولكن أراد أن يتعرّف الناس على ضعفها ويشخصون رواتها المشكوك في أمرهم ، والمجهولين. هذا الادعاء مجرّد للدفاع عن أحمد نفسه الذي كان يطمئن لاحاديث مُسنده ويثق بها ، ولكن بعد مجيء كتب الصحاح كالبخاري ومسلم وغيرهما ، وفيها أحاديث صحيحة قوية لم تكن في المُسند ، كما ان البخاري ومسلماً لم ينقلوا إلا حديثاً واحداً من المُسند ، واضطر العلماء للادلاء بأقوالهم تلك حتى لا يتّهموا أحمد بن حنبل بعدم القدرة على تمييز الصحيح من السقيم ، وان مذهبه لا يمكن الركون إليه.

٤ ـ غير ان ابن القيم له دفاع آخر عن أحمد ومُسنده عندما أصرّ بأن المُراد من الضعيف عند ابن حنبل ، ليس الباطل ولا المنكر ولا المتّهم ، بحيث لا يسوغ العمل به ، وانما الحديث الضعيف هو قسم من أقسام الصحيح والحسن ، والعمل به أولى من القياس ، وان المجتهدين من علماء المذاهب الأخرى ،

٢٦٩

يوافقون أحمد على ذلك. وهذا دفاع ينسف الحجج الأخرى التي وُضعت للتستر على المُسند وصاحبه.

٥ ـ التأكيد على ان أحمد قطع رواية الحديث قبل وفاته بسنين عديدة ربما ١٣ سنة ، فدخل في الرواية ما دخل من سوء الضبط ، أو من سوء الفهم ، أو تعمّد الكذب ، كما ان الامام ترك المُسند أوراقاً مفردة ، ومات قبل تنقيحه وتهذيبه ، ووقع الخلط فيه بعد ذلك ، فلماذا لم يُهذّب الامام أحمد مُسنده وينقحه ، وقد عاش ١٣ عاماً بعد إيقاف الرواية؟ ولماذا قال ان كتابه هذا ، حجّة وميزان للأحاديث وهو لم ينقحها بعد؟ ألا ينبغي له أن يقول قوله الخطير هذا بعد التنقيح حتى لا يأتي تلامذته من الحنابلة ، ويستنسخون المُسند كحقيقة لا تقبل الطعن والشك كما هو معلوم.

٦ ـ ويكفي ان في مُسند أحمد ، حديث ربيعة بن خلف وهو من الطلقاء ، وقد ارتدّ وتنصّر بعد ذلك ، أو حديث رضاعة الكبير الذي هو واضح البطلان عند المسلمين ، إذ كيف يحق لامرأة أبي حذيفة أن ترضع سالماً وهو ذو لحية واجنبي غير محرم لها ، حتى يصبح ابنها وحلاً لها ، كيف تكشف صدرها لرجل حتى يرضعه ويمسّه مباشرة بفمه؟ انها من مهازل المُسند الذي دوّنه أحمد بن حنبل ، وانتقاء من ٧٥٠ ألف حديث منسوب لرسول الله.

٧ ـ تُرى لِمَ أصرّ الحنابلة على التمسّك بأحاديث المُسند ، بعد أن ثَبت ضعفها وسقمها ، واستنبطوا الاحكام والفتاوى منها بالرغم من بروز أحاديث قوية وصحيحة في الصحاح والسنن ، وهي تعارض أحاديث المُسند بكل وضوح؟

إنه الإصرار والعناد والتمسّك بأصول مذهب لا يقوم على أساس متين.

٢٧٠

أحمد بن حنبل والتشبيه

من الأخطاء التي وقع فيها الامام أحمد بن حنبل ، اعتباره النصوص الواردة في القرآن الكريم حول الاستواء والفوقية والنزول والعلو ، وفي الوجه والعين واليد والقدم ، غير معلومة الكُنْه والحقيقة ، وانها صفات الله بلا تأويل ولا تعطيل ، مع تنزيه الله من سمات الحدوث ومشابهة المخلوقات (١).

أنسي الامام أحمد بأن مفردات اللغة العربية ، تحمل الكثير من عبارات الاستعارة والمجاز؟ أليس هناك عبارات دارجة ، مثل : «وقع المجرم في قضية العدالة» أو «تسلّم فلان كرسي الحكم» أو «تربع الرجل على العرش» أو «هم تحت يدي» أو «تلاحقه عيون السلطة» أو «استوى على كرسي الحكم» أو «قلّب أوجه القضية»؟ هل هذه العبارات تشير الى أيد وعيون وأوجه ، حقيقة أم مجازية؟ فلماذا نستثني الله تعالى من قواعد البلاغة ، كالمجاز والاستعارة ، ونطبّقه على المخلوقات؟

وعلى فرض ان هذه الصفات ، خاصة بالله ولا تشبه صفات المخلوقات ، طبق الآية الكريمة : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (٢) أي غير معلومة الكُنْه والحقيقة ، ولكنها في كل الأحوال ، هي صفات تعبّر عن جوارح ، فهل الله بحاجة الى عين ليرى ، أو يد ليمسك بها الأشياء ، أو قَدَم يسير بها؟ بينما هو غين عن الحواس أو هذه الوسائل التي هي من صفات المخلوقين ، يستعينون بها في حياتهم ، فلماذا يتّصف الله بصفات وحواس مهما يكن كُنْهها وحقيقتها؟ هي في الحقيقة صفات مخلوقين يفتقرون إليها دون الخالق الغني الحيد. ثم ان صفات الله هذه التي يؤمن بها ابن حنبل وأمثاله هي صفات حقيقية لا

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ١٠٧.

(٢) الشورى ١١.

٢٧١

يمكن الادعاء بأنها غير صفات المخلوقين ، لماذا؟ لأنه من البديهي عندما تتناهى كلمات الى سمع الإنسان مثل : يد ، قدم ، عين ، وجه ، ساق ، حيث تتجسّد في ذهنه هذه الصفات المعروفة لديه ـ بداهة ـ دون أدنى شك ، فضلاً عن ان هذه الصفات لابدّ وأن تحدّد وجهة معينة وتشغل حيزاً من الفراغ ، يعني : تُجسّم تلك الصفات ، وبالتالي تُجسّد وتجسّم صاحبها وهو الله تعالى ، فكيف يدّعي ابن حنبل بأنه منزّهٌ لله تعالى ولا يؤمن بالتجسيم والحلول؟

ابن حنبل وقضية خلق القرآن

قضية خلق القرآن ، هي الأخرى من القضايا التي تمسك بها أحمد بن حنبل ، وعانى ما عانى من أجلها ، مع انها لم تستحق كل تلك المعاناة والتضحية من قبل الامام أحمد ، ليصرّ على رأيه ، ولم يستشر العلماء الآخرين ، قبل أن يتمادى في موقفه من قضية خلْق القرآن ، وهل هو قديم أم هو حادث ومخلوق؟ تُرى ما الفرق بين القرآن والمخلوقات الأخرى؟ فالله تعالى كان في علمه الأزلي انه سيخلق الانسان ، وذلك قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام ، ومن ثم خلق سُلالة الانسان ، فهل يعني ان الله خلق الانسان منذ الازل ام ان الانسان حادث مخلوق بإجماع الأئمة والعلماء؟

فلِمَ نستثني القرآن من الخلْق ، مع ان الله تعالى كان في علمه انه سيُنزل القرآن في مقاطع زمنية متوالية ، وذلك حسب الحوادث التي وقعت في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كانت الآيات والسور النازلة تحكي قصصاً وحوادث ووقائع حدثت منذ خلق النبي آدم والانبياء الآخرين ، والى نزول الرسالة الاسلامية ، حيث ذكرت بالتفصيل ، مجريات العهد النبوي يوماً بيوم ، فالآية الكريمة التي تقول : قَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي

٢٧٢

زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا (١) هل تعني ان الله قد خلق «خولة بنت الأزور» وزوجها منذ القديم والأزل ، وهما يتحاوران أم خلقهما لاحقاً؟

والآية ـ في الحقيقة ـ حكت حوادث ووقائع قد وقعت في العهد الاسلامي ، وهكذا هناك المئات من الآيات قد روت وقائع وحوارات تخص الصحابة والمسلمين ، فهل كان هؤلاء مخلوقين منذ الأزل .. وكان القرآن منذ الأزل قد تحدّث عنهم أم ان علْم ذلك كان في الذات الالهية الأزلية لكي يروي تلك الوقائع في وقتها بعد أن يخلق الانسان؟

ثم ان الكلام أي كلام لا يتحقق وجوده الفعلي إلا بحروف وكلمات تحدث بفترات زمنية متقطعة تتخللها فترات صمت ، والكلام ـ بالتالي ـ بمجمله حادث وليس قديماً ، ولذلك قال تعالى : مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (الانبياء ٢) .. فكيف يكون كلام الله قديماً غير حادث أو مخلوق؟

والغريب بعد كل ذلك ، إصرار ابن حنبل على ان من زعم ان القرآن كلام الله ووقف ، ولم يقل ليس بمخلوق ، فهو أخبث من القول الاول ، وان قائله ملعون (٢) ، مع ان القائل بأن القرآن كلام الله ، ربما يعتقد في نفسه بأنه قديم ، ولكنه قال ذلك من قبيل الاختصار ، فكيف يستوي هذا مع القائل بأن القرآن مخلوق؟ انه تعسّف لا بقبله العقل بحال.

ولذلك خالف الكرابيسي ، الامام أحمد بعد أن كان صديقه ، في القول بقدم القرآن ، فهجره الحنابلة ، وترك الناس حديثه لطعن أحمد عليه ، فقال : ماذا نعمل مع

__________________

(١) المجادلة ١.

(٢) طبقات الحنابلة ـ محمد بن ابي يعلى ١ : ٢٩.

٢٧٣

أحمد؟ إن قلنا القرآن مخلوق. قال : بدعة ، وإن قلنا غير مخلوق ، قال : بدعة (١).

التشدّد في فكر ابن حنبل

ان التشدّد والغلو في مواقف أحمد بن حنبل وأفكاره وسلوكه ، سرى في نفوس تلامذته وأتباعه ، وتصرفاتهم ، ولكن بصورة أكثر شدّة وغلواً من استاذهم ومَثلَهم الاعلى الامام أحمد. فقال بعض كبار الحنابلة بأن كل من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم ، ومن أبغض أحمد بن حنبل فقد كفر (٢).

وقال السبكي عن الحنابلة بأنهم يرون الكذب على مخالفيهم في العقيدة بكل ما يسوءه في نفسه وماله ، وان كبير الحنابلة أستفتي في شافعي : أيشهد عليه بالكذب؟ فقال : ألست تعتقد ان دمه حلال؟ قال : نعم ، قال : فما دون ذلك ، دون دهم فإشهد ، وادفع فساده عن المسلمين.

وقال السبكي : فهذه عقيدتهم يرون انهم المسلمون ، وانهم أهل السنة ، ولو عدّوا عدداً لما بلغ علماؤهم ولا عالم فيهم على الحقيقة مبلغاً يعتبر ، ويكفّرون غالب علماء الأمّة وانما انكر على قوم غروا انفسهم اليه وهو منهم بريء (٣).

ويقولا لطبري : لا عصابة في الاسلام كهذه العصابة الخسيسة ، ويقصد الحنابلة (٤).

وفي فتنة الحنابلة بغداد سنة ٣٢٣ : مشى الرجال مع النساء والصبيان ، فاذ رأوا

__________________

(١) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٨ : ٦٥ ؛ تهذيب التهذيب ـ ابن حجر ٢ : ٣١١ ؛ المنتظم ـ ابن الجوزي ١٦ : ١٣٢.

(٢) تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٣٣ : ٥٨ ؛ الذيل على طبقات الحنابلة ـ عبد الرحمن بن احمد الحنبلي ٣ : ٥٢.

(٣) طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ٢٣٥ : ٤.

(٤) المنتظم ـ ابن الجوزي ١٣ : ٢١٧.

٢٧٤

ذلك ، سألوه عن الذي معه من هو؟ فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه الى صاحب الشرطة ، وشهدوا عليه بالفاحشة ، فأرهجوا بغداد (١).

وقد غلب على أصحاب ابن حنبل واتباعه الخشونة ، والتقليل بالنقل وعدم التأويل ، وأخذوا ما ظهر من العلوم ، وما وراء ذلك ، قالوا : الله أعلم بما فيها من خشية باريها (٢).

ومما يُؤخذ على فقه ابن حنبل انه يأخذ بالتشديد في طائفة من الأمور ، حتى اشتهر بين الناس ان مذهب ابن حنبل يمثّل العنف والضيق.

وقد وصف الخليفة الراضي في سنة ٣٢٣ هجرية ، الحنابلة لما شغبوا في بغداد ، بعد أن عاب عليهم قولهم بالتشبيه ، وان صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين ، وهيئتكم الرذلة على هيئته ، وتذكرون الكف والأصابع والرجلين ، وإنكار زيارة قبور الائمة ، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع ، وأنتم مع ذلك تجمعون على زيارة قبر رجل من العوام (ابن حنبل) ، ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله ، وتأمرون بزيارته وتدّعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء (٣).

من فتاوى ابن حنبل وأتباعه

كان الامام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرُعاف والحجامة ، فقيل له : فإن كان الامام قد خرج منه الدم ، ولم يتوضأ ، هل يُصلى خلفه؟ فقال : كيف لا أصلي

__________________

(١) الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٨ : ٣٠٧.

(٢) الذيل على طبقات الحنابلة ٣ : ١٥٢.

(٣) الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٨ : ٣٠٨.

٢٧٥

خلف الامام مالك وسعيد بن المسيب؟ (١)

ويُوجب ابن حنبل غسل اليد عند القيام من النوم ، مع ان هذا سُنّة في المذاهب الأخرى ، ويُوجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء ، ويوجب الوضوء من أكل لحم الابل.

والمذهب الحنبلي يُوسع دائرة القرابة التي توجب النفقة ، فكل من يرث الفقير العاجز عن الكسب ، تجب عليه نفقته في حالة عجز هذا الفقير (٢).

وعند الحنبلية ، ان رفع اليدين عند الركوع والقيام منه مكروه شرعاً .. وقد رواه البخاري في صحيحه وغير صحيحه عن عشرات الصحابة بأسانيد كثيرة جداً ، لأن ابن حنبل لم يصح عنده لأنه لم يطّلع على أسانيد البخاري فيه (٣).

وهكذا يتضح ان فتاوى وأحكام ابن حنبل وتلامذته وأتباعه الحنابلة ، يتطرفون في التحريم ، ويُغالون في الواجبات الشرعية أكثر من سائر المذاهب الأخرى.

ومن الغريب ان اتباع أحمد بن أعد اطّلعوا على كُتب البخاري وتصحيحه لرفع اليدين عند الركوع والقيام منه ، لم يتحوّلوا عن فتوى ابن حنبل في هذه المسألة لأنهم جامدون على فتوى إمامهم بالرغم من أنه لو اطّلع على ذلك الحديث المنقول في البخاري فإنه حتماً سيغيّر فتواه ورأيه .. لكن الجمود والتحجّر هو ديدن الحنابلة على مر التأريخ.

__________________

(١) أدب الاختلاف في الاسلام : ١١٨.

(٢) الامام ابن حنبل ـ الشيخ محمد حسن شمس ـ مجلة الهداية البحرينية.

(٣) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٣٠٥.

٢٧٦

ابن حنبل وأقوال الصحابة

١. يعتمد ابن حنبل في فتاواه على نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح ، ولم يلتفت الى ما يخالفه ولو كان من كبار الصحابة ، وهذا اعتراف منه على ان الصحابة الكبار ربما يخالفون في أٌقوالهم وآرائهم القرآن والسنّة النبوية (١).

٢. عند عدم وجود النص النبوي : يتبنّى ابن حنبل فتوى الصحابي اذا لم يجد لها مخالفاً من الصحابة ، مما يدلّ على ان الصحابة يختلفون ويتعارضون في فتاواهم (٢).

٣. وعند اختلاف الصحابة في مسألة ، يختار أقرب أقوالهم الى الكتاب والسُنّة ، اذ ربما هناك أقوال للصحابة بعيدة عن الكتب والسُنّة. وكيف اذاً والحال هذه ، نثق بفتاوى وأقوال قد تتعارض أو تخالف القرآن والسُنّة النبوية ولو كانت لكبار الصحابة (٣).

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ١٠٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٢٧٧

ملاحظات على المذاهب الأربعة

بعد أن عرضنا بشيء من التفصيل المذاهب الاربعة ، وأثبتنا ان هذه المذاهب تختلف فيما بينها على قواعد الاستنباط الفقهي ، مما أدّى الى بروز خلافات فقهية حادة ، تجلّت بوضوح في الفتاوى المتضادّة والاحكام المتعارضة للمذاهب الاربعة المشهورة التي لم يكن أصحابها سوى فقهاء ضمن مئات آخرين ، حذّروا تلامذتهم من تقليدهم وإتّباعهم في آرائهم الخاضعة لاعادة النظر والتراجع والنقاش والتغيير حالما يثبت قصورها بفعل ظهور أدلّة أقوى من قبل فقهاء آخرين.

وهنا نعقد مقارنة مباشرة بين أدلة هذه المذاهب لمعرفة الأسباب التي نجمت عنها تلك الفروقات الصارخة في فتاوى وأحكام كل مذهب من تلك المذاهب الأربعة ، وهي المذاهب المعروفة بأنها أفضل المذاهب السُنّية على الاطلاق ، والمُعترف بها منذ مئات السنين ، والتي قاومت عوامل الزمن دون أن تضمحل وتتلاشى كالمذاهب الفقهية الأخرى.

المذاهب الفقهية والنص القرآني

تتفق المذاهب الاربعة على ان القرآن الكريم هو المصدر الاول للاحكام الشرعية بلا منازع ، ولا يحق لأحد الاجتهاد مقابل النص القرآني بأي حال من الأحوال ، ولكن هناك من المذاهب من يُخضع النصوص القرآنية لعمل الصحابي ، وخاصة عند أبي حنيفة وابن حنبل حيثُ يُخصّص عل الصحابي ، عموم القرآن ، لأن الصحابي لا

٢٧٨

يترك أوامر القرآن العامة إلا اذا كان يعلم بأن هناك تخصيصاً يستثنيه من العموم.

غير ان هذا الاستدلال خاطئ تماماً ، اذا ما علمنا ان الصحابة كغيرهم يصيبون ويخطئون ، وربما يرتكب بعضهم المعاصي والخطايا ، وحتى الذنوب والكبائر من الذنوب ، كما يثبت التأريخ ذلك ، وتدلّ سيرة العديد من الصحابة على انهم ربما كانوا يُخالفون أوامر القرآن الصريحة.

وقد التفت العالم المصري الكبير محمد عبده الى هذه القاعدة الفقهية الخاطئة لبعض المذهب الاسلامية ، فقال : أريد أن يكون القرآن أصلاً تُحمّل عليه المذاهب والآراء في الدين ، لا أن تكون المذاهب أصلاً ، والقرآن هو الذي يُحمّل عليها ، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها ، كما جرى المخذولون ، وتاه فيه الضالون (١).

المذاهب الأربعة والسُنّة النبوية

الأصل الثاني في عملية استنباط الأحكام الشرعية عند المذاهب الأربعة لأهل السُنّة والجماعة ، ينحصر بالسُنّة النبوية أو الحديث المروي عن رسول الله ، لكن اختلاف المذاهب يدور حول حجم الثقة والايمان بصحّة الحديث المرفوع عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلما كان الحديث النبوي لم يُدوّن في عهده ن وقد منع الخلفاء من بعده ، تدوين الحديث أو التحدّث به ، لأسباب معروفة ، ظلّ الحديث النبوي ، محفوظاً في صدور الرجال ، يتناقلونه من جيل الى جيل ، وكان عُرضة لنسيان الحفّاظ ، فضلاً عن اختراق الكذابين والوضّاعين الذين تلاعبوا بالحديث وغيّروا فيه دون أن يردعهم رادع أو وازع من دين أو ضمير.

__________________

(١) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٤٠٦.

٢٧٩

وعندما حلّ القرن الثاني للهجرة ، بدأ التدوين ولكن بصورة محدودة ، وكان أول من دوّن الحديث النبوي بصورة مفصّلة ، الامام مالك بن أنس في كتابه الموطأ ... ثم مسند أحمد بن حنبل ، ثم ظهرت كتب أخرى ، لكن هذا التدوين جرى قبل تأليف كتب الصحاح والسنن المعتبرة ، بعد تنقيح الحديث وعرضه للجرح والتعديل ، ولذا كان الحديث النبوي في أواسط القرن الثاني ، وبالضبط في عهد أبي حنيفة ، لم يكن مغربلاً ، ولذا كان أبو حنيفة النعمان لم يطمئن إلا للحديث المشهور الذي كان يؤثره على القياس والقواعد الأخرى ، غير أنّه كان يفضّل القياس على الحديث غير المشهور ثم رأي الصحابة ثم القواعد المعروفة. أما الامام مالك فكان يفضّل الحديث الحسن وحتى المُرسل على القياس والقواعد الأخرى ، بل وان عل أهل المدينة ، كان برأيه حجّة بمستوى الحديث النبوي كما ذكرنا آنفاً ، بيد ان الامام الشافعي ، ذهب الى أبعد من ذلك في التعاطي مع الحديث والسُنّة النبوية على حساب القواعد الاصولية ، ولم يكن يثق بعمل أهل المدينة ولا يعتبره حجّة أبداً ، ثم جاء أحمد بن حنبل ووثق بالحديث النبوي الى أبعد الحدود ، ففضّل الحديث الضعيف على القياس والرأي ، بل لم يعدّ القياس والرأي والاستحسان والمصالح المرسلة حجّة ابداً.

فأبو حنيفة يحتج بالحديث الصحيح والمشهور ولا يعتبر غيره حجّة في حين يحتج به مالك ، ولا يحتج مالك بالحديث الضعيف الذي يحتج به ابن حنبل دون غيره من المذاهب الاربعة.

وعمل أهل المدينة يحتج به مالك ، احتجاجه بالحديث النبوي ، دون غيره من أصحاب المذاهب ، وهكذا من الطبيعي أن يحصل تفاوت واختلاف صارخ في فتاوى وأحكام المذاهب الاسلامية الاربعة.

والحديث يعمل به الحنفي لشهرته ، ثم يأتي الشافعي فيرفضه لضعف في سنده ،

٢٨٠