كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي

كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5282-4

الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

كل شيء فإن قيل : فهل بين قولنا : كل منهم وبين قولنا : كلهم وبين قولنا : كل فرق فنقول : نعم عند قولك كلهم أثبت الأمر للاقتصار عليهم وعند قولك كل منهم أثبت الأمر أولا للعموم ، ثم استدركت بالتخصيص فقلت : منهم. وعند قولك كل أثبت الأمر على العموم وتركته عليه.

(الوجه الثاني) : إذا كان كل بمعنى كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيف قال يسبحون؟ فيقول : الجواب عنه من وجوه :

(أحدها) : ما بينا أن قوله : كل للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيار.

(ثانيها) : أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظر لكونه لفظا موحدا غير مثنى ولا مجموع ، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا ، وأما التثنية فلا يدل عليها اللفظ ولا المعنى فعلى هذا يحسن أن يقول القائل : زيد وعمرو كل جاء أو كل جاؤوا ، ولا يقول كل جاآ بالتثنية.

(ثالثها) : لما قال : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠]. والمراد ما في الليل من الكواكب أي كواكب الليل السيارة قال : (يُسَبِّحُونَ) [الأنبياء : الآية ٢٠].

(المسألة الخامسة):

هذا يدل على أن لكل كوكب سيار فلكا فما قولك فيه؟ ، نقول أما السبعة السيارة فلكل واحد كوكب أو كوكبان أو ثلاثة تدور حوله ، وتسمى هذه الكواكب سيارة السيارة أي توابع التوابع وكل واحد له أيضا حركتان حركة على نفسه وحركة حول كوكبه.

(في بيان قوله تعالى : (الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢])

وفيه مسائل :

(المسألة الأولى) :

قال صاحب الكشاف : الله مبتدأ والذي رفع السماوات خبره بدليل قوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [الرّعد : الآية ٣]. ويجوز أن يكون (الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) [الرّعد : الآية ٢] صفة ، وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) [الرّعد : الآية ٢]. خبر بعد خبر قال الواحدي : العمد الأساطين وهو جمع عماد يقال : عماد وعمد مثل أهاب وأهب ، وقال الفراء : العمد أو العمد جمع العمود مثل أديم وأدم وأدم وقضيم وقضم وقضم والعماد والعمود ما يعمد به الشيء ، ومنه يقال فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم.

٦١

(المسألة الثانية) :

اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السماوات ، وبأحوال الشمس والقمر ، وبأحوال الأرض ، وبأحوال النبات ، أما الاستدلال بأحوال السماوات فقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. فالمعنى أن هذه الأجسام العظيمة بقيت في الجو العالي ، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين :

(الأول) : أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحيز.

(والثاني) : أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير متناهية ، وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمرا واجبا لذاته ، بل لا بد من مخصص ومرجح ، ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال ، فثبت أن يقال الاجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك ، فجعل لكل مجموع نجمي سرا ساريا يسمى بقوة الجذب والدفع فهذا البرهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر ، ويدل أيضا على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز ؛ لأنه لو كان حاصلا في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته ، فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص ، وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص ، وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث فثبت أنه لو كان حاصلا في الحيز المعين لكان حادثا وذلك محال ، فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة ، وأيضا كل ما سماك فهو سماء فلو كان تعالى موجود في جهة فوق لكان من جملة السماوات فدخل تحت قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. فكل ما كان مختصا بجهة فوق فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزها عن جهة فوق.

أما قوله : (تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. ففيه أقوال :

(الأول) : أنه كلام مستأنف ، والمعنى رفع السماوات تغير عمد ، ثم قال : (تَرَوْنَها) [الرّعد : الآية ٢]. أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد.

٦٢

(الثاني) : هو أن العماد ما يعتمد عليه ، وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى الذي جعل فيها قوة سارية من بعضها إلى بعض أوجبت وقوفها ، وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي ليس لها عمد في الحقيقة إلا قوة وضعها تعالى ، وتلك القوة هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي ، وأنهم لا يرون ذلك التدبير ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك ، وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر فهو قوله سبحانه وتعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرّعد : الآية ٢].

(واعلم) أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة :

(الأول منهما) : فيه وجوه :

(الأول) : قوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [الرّعد : الآية ٢]. وحاصله يرجع إلى الاستدلال على وجود الصانع القادر العلي القاهر بحركات هذه الأجرام ؛ وذلك لأن الأجسام متماثلة فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لا بد له من مخصص.

(الثاني) : وأيضا أن كل واحد من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطء والسرعة فلا بد أيضا من مخصص لا سيما عند من يقول الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات ، وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز ، وتسكن في البعض ، فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين ، والسكون في الحيز الآخر لا بد فيه أيضا من مرجح ، وهناك وجه آخر وهو الثالث : أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه يحصل من عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلا بد من مقدر.

(الوجه الرابع) : أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية ، وبعضها مائلة إلى الشمال ، وبعضها مائلة إلى الجنوب ، وهذا أيضا لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة.

(النوع الثاني منها) : قوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرّعد : الآية ٢]. وفيه قولان :

(الأول) : تحقيقه هو أن الله تعالى قدر لكل واحد من هذه الكواكب سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة حال ، أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك :

(والقول الثاني) : أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وعند مجيء ذلك اليوم

٦٣

تنقطع هذه الحركات ، وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك بقوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)). وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١)) [الانشقاق : الآية ١]. وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١)) [الانفطار : الآية ١]. وجمع الشمس والقمر وهو كقوله سبحانه وتعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : الآية ٢]. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [يونس : الآية ٣]. وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم ، والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالأحياز الأمانة ، وبالإغناء والإفقار ، ويدخل فيه إنزال الوحي ، وبعثة الرسل عليهم‌السلام ، وتكليف العباد وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة ؛ وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى ، والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وجليته ليس إلا من الله تعالى ، ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه تدبير شيء آخر إلا الباري تعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإذا تأمل في هذه الآية الشريفة علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، فلا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات ، ثم قال تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) [يونس : الآية ٥]. وفيه قولان :

(الأول) : أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته.

(والثاني) : أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان :

(أحدهما) : الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب ، وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره.

(والثاني) : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموت بعد الحياة ، والفقر بعد الغنى ، والهرم بعد الصحة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل الذكي في أشد الأحوال ، فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة ، وقوله : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) [يونس : الآية ٥]. إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التميز والتفصيل ، ثم قال : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرّعد : الآية ٢].

(واعلم) أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضا تدل على صحة القول بالحشر والنشر ؛ لأن من قدر على خلق هذه الأشياء على عظمها وكثرتها فلأن

٦٤

يقدر على الحشر والنشر أولى ، يروى أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ إنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة ، وكما خلق الأجرام السماوية وخلق حركاتهم دفعة واحدة ، وحاصل الكلام (٩) أنه تعالي كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي ، وإن كان الخلق جزيت عنه ، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن.

(في بيان قوله تعالى :

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)). فيه مسائل):

(المسألة الأولى) :

اعلم أن الله تعالى لما بين أن كونه خالقا لجميع الأجرام وعين حيزها في الفضاء وعين خطوط دوائرها للنفع والانتفاع ذكر أن من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية ، وهما الشمس والقمر ، ولو لا الشمس لما زالت الظلمة ولما بقيت حياة الكائنات ، ولو لا القمر لفات كثير من النعم الظاهر بخلاف غيرهما من الكواكب فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ما نظمهم نعمتهم ثم بين كمال نفعهما في حركتهما بحساب لا يتغير ، وذلك أن الشمس يحصل من سيرها الظاهري المائل حول الأرض الفصول الأربعة التي لا تحصل عند سكان ما بين المدارين ، وتكون اثنين فقط جهة القطبين.

أما في المناطق المعتدلة فهي أربعة ، وتكون أدوارها منتظمة فتنتشر في تلك المناطق ، ومقياس الزمن الذي لا يختل نسقه ولا يتعطل سيره إنما يؤخذ من كونها تحرك جميع ما هو معرض لتأثيرها حركة لا تتغير ، وقد قسمت منطقة البروج إلى اثنى عشر قسما كما قلنا : وكل قسم منها ثلاثون درجة ، ومن سير الشمس بحسب الظاهر في هذه الأقسام تحصل الفصول الأربعة ومددها ، وذلك أن هذه الكواكب بتركها النصف الجنوبي من الكرة ، ودخولها في نصفها الشمالي تنفتح السنة الشمسية أعني بمجرد دخولها في برج الحمل ، وفي ذلك الوقت يبتدئ الربيع الذي يحيا به الكون ، ويستمر تسلطن هذا الفصل مدة اجتياز البرج المذكور وبرج الثور والجوزاء ، ثم تدخل على التعاقب في السرطان والأسد والسنبلة ، وهذه تسمى بفصل الصيف فينبعث إلينا منها مدة إقامتها في تلك البروج أشعة شديدة الحرارة ، ثم بعد بلوغها هذا

__________________

(٩) قوله : وحاصل الكلام ... إلخ. كذا بالأصل والتركيب غير مستقيم. اه.

٦٥

الارتفاع تنزل جهة النصف الجنوبي فتجتاز على التوالي الميزان والعقرب والقوس ، ويقال لهذه البروج الثلاثة فصل الخريف ، ثم يدخل الشتاء فتكون الشمس حينئذ في أبعد نقطة عنا ولا ينبعث منهما إلينا إلا أشعة مائلة فتقطع بروجه الثلاثة أعني الجدي والدلو والحوت ، ثم ترجع لمحلها الأول :

(ومن النعمتين) : نعمة القمر الذي هو كوكب الليل وسراجه ، ويشاهد في هيآت مختلفة كثيرا ، وهو جرم مظلم كروي كالكواكب السيارة له حركات إحداهما حول محوره.

وثانيتهما : حول الأرض ، ويقطع مداره حول الأرض في تسعة وعشرين يوما ونصف تقريبا ، وهي تسعة وعشرين يوما واثنا عشرة ساعة وأربعة وأربعون دقيقة وثانيتان وثمانية ثوالث ، وهذا هو المسمى بالشهر القمري ، ويتمم دورته على محوره في سبعة وعشرين يوما ونصف تقريبا ، ويتأخر طلوعه على الأفق كل يوم خمسين دقيقة ونصف هذا هو الحد الأوسط والسنة الأرضية اثنا عشر شهرا قمريا ، وأحد عشر يوما ، ويبتدئ دور انتظام الأشهر القمرية بعد كل تسعة عشرة سنة تقريبا أو مائتين وخمسة وثلاثين شهرا قمريا ، وهو كما ذكرنا يستفيد نوره من نور الشمس فيقابلها بجميع أوجهه جزء فجزأ ولا تشاهد بمقتضى حركاته إلا نصف كرته فقط ، ولا يتغير ذلك النصف أصلا في كل مرة ، فتارة يستضيء كله وتارة بعضه ومن هذه التغيرات ينشأ ما يسمى بأوجه القمر وهي أربعة : القمر الجديد المسمى بالمحاق ، والقمر الممتلئ أي الكامل المسمى بالبدر والربع الأول والربع الأخير فإذا كانت الأرض بين الشمس والقمر ، وكان هناك استقبال وإذا كان القمر بين الشمس والأرض كان هناك اجتماع ، وإذا كان القمر في وسط المسافة بين محل الاستقبال والاجتماع أعني بعيدا عن كل منهما بتسعين درجة كان هناك تربيع ، والقمر حينئذ يكون إما في ربعه الأول ، وإما في ربعه الأخير ، ثم هو في دورته حول الأرض يخط قطعا ناقصا ، والنقطة التي يكون فيها أقرب إلى الأرض تسمى حضيضا ، والتي يكون فيها أبعد عنها تسمى أوجا ومدار القمر الذي يخطه حول الأرض ، ويكون على شكل قطع ناقص مائل عن دائرة وسط فلك البروج المسماة بالدائرة الكسوفية بخمس درج فالقمر غالبا يكون فوق هذه الدائرة أو تحتها ، ولا يمكن مشاهدة الخسوف إلا إذا كان القمر على تلك الدائرة مباشرة ، وكل من الخسوف والكسوف قد يكون كليا وقد يكون جزئيا على حسب ستر الكواكب عنا كلا أو بعضا ، ولا نشاهد الكسوفات الشمسية إلا في بعض أقطار الأرض وتكون كلية وجزئية وحلقية بخلاف الكسوف القمرية فإنه يشاهدها من كان القمر إذ ذاك فوق أفقهم ، ولا تكون حلقية أصلا ويشاهد في سطح القمر نكت كثيرة لا تتغير ولا تختلف كميتها ولا مقاديرها ، ومن ذلك استنتج ما ذكرناه من أننا لا نشاهد دائما إلا نصفه

٦٦

المحاذي لنا فقط ، ولجسم القمر تأثير قوي على الأرض فتسلطن المد والجزر وحصول كثير من الحوادث ربما كانت حاصلة من تأثير القمر.

(المسألة الثانية) :

لما كان القمر وحده كافيا في إثبات الوحدانية والقدرة الصمدانية لا يحتاج معه إلى دليل آخر قال بعده : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)). وغيرهما من الآيات إشارة إلى أن بعض الناس إن لم تكن له النفس الزكية التي يعينها الله تعالى بالدلائل التي في القرآن فله في الآفاق آيات منها الشمس والقمر ، وإنما اختارهما للذكر ؛ لأن حركتهما بحسبان تدل على وجود فاعل مختار سخرهما على وجه مخصوص ، ولو اجتمع من في العالم من الطبيعيين والفلاسفة وغيرهم وتواطؤوا أن يبينوا أسرار حركة مجموع نجمي مع مجموع آخر ، وجملة أعدادها لما بلغ أحد مراده إلا أن يرجع إلى الحق سبحانه ويقول جعل تعالى لها أسرارا أو أعدادا لا يعلمها إلا هو كما أراد الرحمن إلى قوله تعالى : (يَسْجُدانِ) [الرّحمن : الآية ٦].

(المسألة الثالثة) :

أن في قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)). ترتيبا من وجوه :

(أحدها) : هو أن الله تعالى لما أثبت كونه رحمانا ، وأشار إلى ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن ذكر نعمه العظيمة التي أنعم بها على عباده فضلا وكرما ، وبدأ بخلق الإنسان فإنه نعمة جميع النعم به تتم ، ولو لا وجوده لما انتفع بشيء ثم بين نعمة الإدراك بقوله : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)) [الرّحمن : الآية ٤]. وهو كالوجود إذ لولاه لما حصل النفع والانتفاع ، ثم ذكر من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية ، وهما الشمس والقمر كما قلنا وشرحنا ، ثم بين في مقابلتهما نعمتين ظاهرتين في الأرض : وهما النبات الذي لا ساق له والذي له ساق فإن الرزق أصله منه ، ولو لا النبات لما كان للآدمي رزق إلا ما شاء الله ، وأصل النعم على الرزق الدار ، وإنما قلنا : النبات هو أصل الرزق ؛ لأن الرزق إما نباتي وإما حيواني كاللحم واللبن وغيرهما من أجزاء الحيوان ، ولو لا النبات لما عاش الحيوان ، والنبات هو الأصل وهو قسمان :

الأول يشتمل على جميع النباتات التي لها أزهار واضحة.

٦٧

والثاني : يشتمل على النباتات الخفية الزهر فالقسم الأول ثلاث وعشرون رتبة ، والنباتات خفية الزهر لا تكون إلا رتبة واحدة وهي الرابعة والعشرون وكل من هذه الرتب تشتمل على النبات الذي ليس له ساق والمتطفل على الأشجار والذي له ساق.

(الثاني النجم) وفيه وجهان :

(أحدهما) : النبات الذي لا ساق له.

(والثاني) : نجم السماء المعلوم والأول أظهر ؛ لأنه ذكر مع الشجر في مقابل الشمس والقمر ذكر أرضيين في مقابل سماويين ولأن قوله : (يَسْجُدانِ) [الرّحمن : الآية ٦] يدل على أن المراد ليس نجم السماء لأن من فسره به قال يسجد بالغروب والشروق ، وعلى هذا فالشمس والقمر أيضا يغربان ويشرقان فلا يبقى للاختصاص فائدة.

وأما إذا قلنا : هما أرضيان فنقول يسجدان بمعنى ظلالهما وانبساطهما وانقباضهما وتأثيرهما وازدهارهما يسجدان فيختص السجود بهما دون الشمس والقمر وفي سجودهما وجوه :

(الأول) : سجودهما من أوراقهما وكثيرا ما يتغير وضع أوراق بعض النباتات تغيرا واضحا من الغروب إلى الشروق ، وذلك أن هناك نباتات تنبسط أوراقها من الشروق إلى الغروب ، وتنقبض من الغروب إلى الشروق ، وأغلب وقوع ذلك في شجر الصفصاف وشجر اللنج وشجر السنط والنبات المسمى بالمستحي فوريقات تويجه تنفتح عند ابتداء الليل وتنقبض عند ابتداء النهار وإذا لامسها أدنى جسم انبسطت على الأرض كالساجدة ، فجميع أوراق النباتات بهذه الخاصية التي عينها لها المعين الحكم سبحانه بقوله : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)).

(الثاني) : سجودهما من أزهارهما ، الأزهار مجموع الأعضاء المعدة لتكون الثمر ، ويختلف النبات في التزهر فمنه يتزهر في أقل من سنة من مدة زرعه كالنباتات الحشيشية التي منها القمح ، ومنه ما يتزهر في كل سنة مدة حياته ، ومنه ما يتزهر في كل سنتين أو ثلاث من وقت إنباته مرة ، وغالب النبات يتزهر في ابتداء فصل الربيع ، وبعضه يتزهر في الصيف ، والقليل في الخريف ، وأقل منه في الشتاء ، ومن حيث إن كل نوع منه عين له تعالى التزهر في وقت معين فعين تعالى لتبسم الأزهار ساعات مختلفة فمعظم الزهر يتسم في ساعات النهار كلها ، ومنه ما يتشخص أحداقه وتنبض في ساعات معينة كزهر اللبين فإنه يبتسم عند ساعات انصداع الفجر ، ويقطب قبل الشروق بساعة ، وزهر البقلة الحمقاء يبتسم قبيل الظهر بقليل ،

٦٨

وزهر الغاسول يبتسم قبيل الغروب ، وزهر شب الليل يبتسم في أول ساعة من المساء ويبقى كذلك مدة ساعتين ، وزهر نبات ست الحسن يبتسم في الساعة الرابعة من الليل ويدوم ابتسامه إلى عاشر ساعة منه ، ولما رأى النباتيون تلك الخاصية العجيبة التي عينها الله تعالى لتلك الأزهار بحسب ساعات ابتسامها سموها المؤقتة الزهرية ، وتنقسم الأزهار إلى ابتسامات ليلية وابتسامات نهارية فالأولى : كزهر بعض أنواع العليق فإنه يبتسم بعد الشروق بساعة ، ويبقى متبسما إلى الزوال ، والثانية الشب الظريف فإنه يبتسم قبل الغروب بساعتين ، ويبقى مبتسما إلى قرب الفجر ، وهناك أزهار اعتدالية نسبة إلى الاعتدال الربيعي والاعتدال الخريفي ، وهذه الأزهار تبتسم ثغورها وتعبس مرارا في ساعات منتظمة ، وتنقسم إلى اعتدالية نهارية واعتدالية ليلية ، فالأولى تبتسم كل يوم قبل الزوال بساعة وتبقى مبتسمة بعد الزوال بثلاث ساعات ، والثانية تبتسم بعد المغرب وتبقى كذلك إلى الصباح فهذه الانقباضات والانبساطات الزهرية التي خصها الله تعالى بها وعينها لها في أزمنة منتظمة دالة على معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله.

(الوجه الثالث) : سجودهما من تأثيرهما إذا تأمل عاقل في الأعضاء النباتية التي تكلمنا عليها يتعجب من صنع الباري عزوجل وقدرته جل وعلا ، وذلك أنه يشاهد الجذور ذات الألياف الشعرية التي تمتص السائلات الكائنة في الأرض بقوة عجيبة ، وتنقل السائل المغذي إلى أوعية النبات ، وكذلك إلى السوق والفروع والأوراق القائمة في وسط الهواء المعد لتغذيته ، ثم الأوراق التي هي أعضاء تنفس وتحلب وإفراز يمتص بها النبات الهواء ويخرج الأبخرة والغازات التي ليست نافعة لغذائه ، وكذلك الأوعية المختلفة الأشكال التي تدور فيها العصارة اللنفاوية والعصارة المصلحة وكذلك المسام القشرية والخلايا وجميع هذه الأجهزة الحية التي تحصل بها الوظائف النباتية وكل هذه الأعضاء ليس لها إلا غاية واحدة هي تغذية الزهر ونحوه.

لنتكلم عليها فنقول : إن المشاهدة تثبت لنا أن الجذور والسوق والأوراق والفروع لا توجد إلا لتكوين الزهر ، والزهر لا يوجد إلا لتكوين الثمر ، والثمر لم يخلق إلا لتغذية البذر وهذا هو المقصود من الإنبات ؛ لأن القدرة الإلهية وجهت جميع الأفعال لتناسل النوع وحفظه في النباتات والحيوانات ، ثم إن أعضاء التناسل كما في الحيوانات تتكون من عضو الذكر وعضو الأنثى فحينئذ توجد مشابهة عظيمة بين النباتات والحيوانات في الكائنات العضوية حيث أن أهم الوظائف وهو التلقيح يحصل بكيفية تحصل بها المشابهة بينهما ، وباجتماع أعضاء التناسل النباتية مع بعضها يتكون الزهر ويوجد في النبات ذكر وأنثى كما في النخيل ، ومنه

٦٩

خنثى فإذا بحثنا في زهر من الأزهار نرى أن عضو التأنيث شاغل للمركز دائما وحوله أعضاء التذكير ومن المشاهد أيضا أن عدد أعضاء التذكير يكون دائما أكثر من عدد أعضاء التأنيث ؛ لأن الحكمة الإلهية اقتضت إتقان هذه الأشياء إتقانا بديعا محكما ؛ لأنه قد يتفق أن أعضاء التذكير لا يكون جميعها صالحا للتلقيح فيقوم البعض مقامها ، وعضو التأنيث وعضو التذكير كل منهما مركب من ثلاثة أجزاء فعضو التأنيث يكون وضعه في وسط الزهرة وهو أنبوبة فيها بعض طول ، وهي في النبات بمنزلة المهبل ، وفي الحيوانات ويوجد في قاعدة تلك الأنبوبة كرات صغيرة تستحيل بعد التلقيح إلى بذر ، وهذه الكرات في النبات بمنزلة الرحم والمبيض في الحيوانات ، ويوجد أيضا في الجزء العلوي من الأنبوبة بعض انتفاخ له فوهة يكون بمنزلة فوهة المهبل في الحيوانات ، وعضو التذكير متكون أيضا من ثلاثة أجزاء :

الأول : العسيب وهو خيط رفيع. الثاني : يوجد في الطرف الأعلى للعسيب بعض انتفاخ يشبه الحشفة.

الثالث : يوجد في هذه الحشفة غبار وهو الطلع وفي الورقة التي يحصل فيها التلقيح كثيرا ما تشاهد في الأعضاء التناسلية للنبات تغيرات محسوسة تسبق هذه الوظيفة أو أن هذه الأعضاء تفعل حركات مختلفة الوضوح ، ولنذكرها في بعض النباتات التي تكون فيها أوضح فنقول ، أعضاء التذكير القشرة التي توجد في أزهار السناب تنعطف نحو أعضاء الإناث وتنحني بعد أن كانت موضوعة وضعا أفقيا أولا وتضع عليها جزءا من طلعها ، ثم تنعطف إلى الانتصاب واحدا بعد واحد وأعضاء الإناث تنحني وتقصر وتنفتح الفوهة المهبلية ، وبعده تنتصب وفي جملة أجناس مثل حشيشة الزجاج وشجرة التوت الورقية تكون أعضاء التذكير منعطفة نحو مركز الزهرة أسفل أعضاء الإناث ، وكذا خيوط أعضاء التأنيث تفعل في بعض نباتات حركات أيضا لكي تتجه نحو أعضاء التذكير ، وهذا ما يشاهد في بعض أنواع التين الشوكي وفي نبات حبة البركة ، فخيوط أعضاء التأنيث أو فروع الخيوط المتقاربة من بعضها تتباعد أولا وتنعطف نحو أعضاء التذكير بالحناآت وتنتصب ثانيا متى ألقت أعضاء التذكير طلعها عليها ، وأيضا عدة نباتات مائية كالبشنين الكبير والبشنين الصغير وبرسيم الماء وغير ذلك أزهارها الزهرية تكون مختفية أولا تحت الماء ، ثم يرى أنها تأخذ في القرب من سطحه شيئا فشيئا فتظهر عليه وتبتسم ومتى حصل التلقيح تنزل ثانيا تحت الماء لكي تنضج فيه بذرها فالحكمة الإلهية خصت كل نبات بخاصية عجيبة من الحركات المشتملة على الانبساط والانقباض والدواء والغذاء والسم فأشار إليها بقوله جل من قائل : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)).

٧٠

(الوجه الرابع) : سجودهما من جذورهما وجذوعهما وفروعهما.

(اعلم) أن الجذر هو الجزء الأسفل من النبات وغالبه يكون مستترا في الأرض مستعدا للتعمق على خط مستقيم ، وقد توجد جذور تكون غير مستترة كجذور الطحلب وغيره من النباتات المائية واستعداد الجذور للتعمق هو الخاصية التي خصها الله تعالى بها من الامتداد في الأرض وجزء الجذر الأعلى الحاف على سطح الأرض الحائل بين الجذور والساق يسمى عنق الجذر أو عقدة الحياة ، والساق والجذع اسمان لمسمى واحد وهو الجزء الذي يعلو عنق الجذر مستعدا للارتفاع ومنه تتفرع الفروع وتنبت الأوراق وتخرج الثمار ، فالنبات الذي لا ساق له يسمى نجما ، وعقدة الحياة فيه تقوم مقام الساق والفروع تولدات أو شعب من الساق تنشأ من الجراثيم النابتة من الخشب من طرف تولد نخاعي ومن حيث إنها كالأوراق في الوضع فلا نفردها بالتعريف ؛ لأن ما يتعلق بها يعرف من الكلام على الأوراق غير أننا ننبه على ما يحدث لها من التسمية بالنظر لاتجاهها مع الساق فنقول : متى كانت الساق منتصبة وكونت عند اجتماعهما بالفروع زاوية حادة سميت الفروع مرتفعة أو صاعدة أو مستقيمة ، وإن كانت متقابلة أوقية وكونت مع الساق زاوية تقرب من الاستقامة كفروع شجر الحور بالمهملة سميت منفرجة ، وإن تفاوتت وكونت مع الساق الزاوية المذكورة كفروع الزنزلخت سميت جهرية ، وإن كانت أطرافها أنزل عن محل اندعامها في الساق حتى صارت كقوس تقعيره يلي الأرض كفروع الصفصاف سميت منكبة ، وإن انسدلت أطرافها انسدالا يقرب من الاستقامة لضعفها وطولها كالصفصاف المستحي سميت مدلاة ، وإن تساوت في العلو كفروع الصنوبر سميت سامية أو مصفصفة وإن استقامت وانضمت من أسفل حتى اكتسب منها النبات شكلا اهراميا كالسر وسميت أهرامية.

وأما فروع الشجر التي ليس لقممها الطرية إلا طبقة واحدة خشبية فتسمى أخلافا ، والورق جزء من الساق يخرج منفرشا بأن تنفصل عن الساق حزيمات ألياف وتتباعد عن بعضها فينفرش المنسوج الخلوي انفراشا رقيقا مستويا ، وبذلك الانفراش تثبت الحزيمات وتنتظم فيتكون الورق ، والتباعد المذكور للألياف.

إما أن يكون حال خروجها من الساق أو بعد أن يبقى فيها بعض طول ففي الحالة الأولى تتكون الأوراق اللاذنيبية ، وفي الثانية تتكون الأوراق الذنيبية والذنيب حزيمة ألياف متصلة ببعضها تضم الورق بالساق ، ومنسوج النباتات مكون من أجزاء أعظمها القشرة المركبة من المبشرة والمنسوج الخلوي ، والمنسوج الخشبي المسمى بالوعائي ليس إلا نوعا من المنسوج الخلوي ، وهو مكون من أنابيب ذات تفرعات تسمى بالأوعية اللينفاوية وأنابيب أخرى تسمى

٧١

بالأوعية الهوائية ، فالأولى تمر فيها السوائل المغذية ، والثانية الغازات والهواء ويوجد قصبات تكون بين المنسيج الخلوي والأوعية.

(في بيان كيفية التغذي)

وكيفية التغذي أن جذر النبات من أطرافه الدقيقة يمتص السوائل الصالحة من الأرض فتسري السائلات إلى أعلى الشجرة ، وكيفية ذلك هي أن العصارة المائية حال دخولها في النبات تسري في الأوعية اللينفاوية المحيطة بالنخاع فتسد الأوعية ومتى انسدت الأوعية نفذت العصارة في الأوعية الكائنة بين الطبقات الخشبية ، وإن العصارة كما تتجه في سيرها اتجاها عموديا تتجه اتجاها أفقيا أيضا ؛ لأن أكثر الأنابيب اللينفاوية إما أن تكون ذات مسام أو شقوق ترشح منها العصارة بواسطة المنسوجات الخلوية وتنفذ في أوعيتها الجانبية.

(في حقيقة التغذية)

التغذية وظيفة بها تمثل النباتات جزءا من الجواهر الصلبة والسائلة والغازية المنتشرة في باطن الأرض أو في وسط الجو بعد أن تمتصها منها إما بالأطراف الدقيقة لأليافها وهي الأفمام الإسفنجية.

وإما بالأجزاء الخضر التي تنمو في الهواء ، فالتغذية من باطن الأرض بواسطة أن الجذور تمتص الماء المتحمل بالأصول المغذية التي توجد ذائبة فيه باطراف أليافها الصغيرة الدقيقة جدا ، وهي التي سميناها بالأفمام الإسفنجية لكن جميع الأجزاء الخضر للنباتات كالأوراق والفروع ونحوها متمتعة بقوة امتصاص شديد جدا فتمتص الهواء ، وبعض غازات من الجو تكون صالحة للينفا المغذية وهي كالتنفس في الحيوانات فالسوائل التي امتصتها الجذور اختلطت مع السوائل التي دخلت في النباتات بالتأثير الماص لأوراقه فيتكون ما يسمى بالعصارة اللينفاوية أي السائل المغذي للنبات فإذا يوجد تياران متضادان للعصارة اللينفاوية فتصعد من الجذور إلى الأوراق وبعد تنوعها وانصلاحها في هذه الأعضاء تنزل ثانيا من الأوراق نحو الجذور فظهر حينئذ أن النباتات كالحيوانات لها تنفس حقيقي ، وهذه الوظيفة متضاعفة فيها ؛ لأنها لا تحصل في الأوراق التي هي المؤثرات الرئيسة للتنفس فقط ، بل فيها وفي أغلب الأجزاء الأخرى للنبات بواسطة الأوعية الحلزونية فالنباتات تتنفس بالأوراق بأنابيب هوائية وهي الأوعية الحلزونية فجميع العناصر الآتية من التنفس تختلط بالعصارة اللينفاوية فتنصلح وتتجرد عن المقدار الزائد من الأصول المائية بالتخير وعن الجواهر التي صارت غير نافعة

٧٢

للتغذية ؛ ولذا يحصل فيها انصلاح مخصوص فتكتسب خواص جديدة ، ومتى تبعت طريقا معكوسا للذي مرت فيه تنزل ثانيا من الأوراق نحو الجذور من خلال الطبقات الكتانية أي الجزء المقابل للنمو من القشرة.

(في بيان الأمور المختصة باللينفا)

ولصعود اللينفا في الأوعية ونزولها إلى الجذور جملة أمور :

(الأول الحرارة) : لأنها أعظم مؤثر في صعودها لكونها تنعش القوة الحيوية الجامدة من البرد ، وتساعد القوة المذوّبة على تحليل الجواهر الفردية الغذائية وتركيبها.

(الثاني الضوء) : فإن له تأثيرا عجيبا في جميع وظائف النبات وبدونه تضعف قوة الإنبات يصاب النبات بسوء القنية فيموت.

(الثالث) : شوهد أن النبات النامي في بيت معد لوقايته ينعطف إلى جهة كوات البيت ويميل إلى منافذه الآتي منها الضوء ، وإن الجزء المستنير أقصر من المظلل وأن الأجزاء المظللة تطول طالبة للضوء ويضعفها فتنحني إلى جهته.

(الرابع) : أن دورة العصارة والتغذية لا تتمان إلا بواسطة فعل عضوي مصاحب لارتفاع وانحطاط في درجة الحرارة فبسبب تعاقب هذه الأفعال تحصل حركة مستمرة في المنسوج النباتي فينشأ عنها نوع انقباض وعائي يتحرك به جميع أعضاء النبات ، وباستمرار حركة اللينفا الأنابيب تصعد حتى تنتهي إلى قمم الفروع وحينئذ لا يمكنها التقهقر والرجوع ؛ لأن قوة صعود العصارة الجديدة من فعل الأعضاء تمنعها من ذلك فتسري بين القشرة والخشب وترجع للجذر ثانيا ، فظهر لك مما ذكرناه أن جميع وظائف النبات صادرة من هذه الأفعال ، وذلك بأن تستحصل قطع جزء شجرة من الحور حال نبات ورقها فحين وصول القطع إلى نصف قطر الساق ينبثق منها ماء رائق شفاف ، ويسمع لخروجه نوع صغير صادر من فراقع الهواء المصاحبة لانبثاق الماء ثم اثقب شجرة أخرى فحين وصول الثقب إلى المحور ينبثق من الأوعية القريبة من النخاع مقدار عظيم من الماء مختلط بالهواء ويسمع الصفير المذكور ويستمر مدة الصيف ويقوى إذا اشتد حر الشمس ويكثر التحلب ويكون بالليل ضعيفا جدا ، والأدوية الرديئة تؤثر على النباتات بالرداءة كما تؤثر على الحيوانات ، وذلك أن السوائل القابضة إذا وضعت على محل قطع عرق في الحيوانات قبضت فوهته ومنعت النزيف ، والنباتات كالحيوانات في ذلك فإذا بل محل قطع الفربيون بأحد السوائل القابضة وقف بزوغ العصارة أو

٧٣

قل وجميع المهيجات التي تهيج انسجة الحيوانات تهيج أيضا أعضاء النبات أو تميته إذا عرفت ذلك علمت أن كل ما أثر في الحيوانات أثر في النبات حتى النخس فعلى هذا لو نخست أعضاء التذكير من نبات التين الشوكي أو غيره بابرة ولو رقيقة جدا يشاهد في العضو المنخوس تقلصات وحركات أشد من حركات الاضطراب ، فالحكيم المخصص الذي خصص هذه النباتات من النعم بالأزهار والإثمار والبذور والسكر والصموغ والأدوية النافعة والمسمة فسبحانه من إله أتقن كل شيء وجعل فيها خضوعا له سبحانه وتعالى ، وأخرجها من الأرض وأدامها وأثبتها عليها بإذنه فسخر الشمس والقمر كلا منهما بحركتين ، وسخر النجم والشجر بحركتي الانقباض والانبساط وبحركة العصارة الصاعدة والنازلة ، وجعل سبحانه وتعالى رؤوس الشجر في الأرض وأطرافها في الهواء فجميع انقباض أعضاء النبات الصاعدة والنازلة يميل إلى السجود لهذا الرب المعبود كما قال تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)). وقد بسطنا الكلام لاقتضاء المقام فنحمد الله تعالى ونشكره ونتوب إليه ونستغفره من جميع الذنوب والآثام.

(في بيان قوله تعالى :

(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)) [الأنعام : الآية ٩٦])

وفيه مسائل :

(المسألة الأولى) :

أن الصبح صبحان الأول الصبح المستطيل كذنب السرحان ، ثم تعقبه ظلمة خالصة ، ثم يطلع بعده الصبح المستعرض في جميع الأفق ، وهو الصبح الثاني الذي هو الضوء يبشر بالصباح ، ويشتت ظلمات الليل وهو معدوم في خط الاستواء ، وإنما تبتدئ مشاهدته في الأجزاء الجنوبية من المناطق المعتدلة ، ويقوي ظهوره كلما قربت الأقطار القطبية ، وأهل تلك البلاد يمكثون أربعة أشهر تقريبا بدون رؤية الشمس غايته أن الصبح في هذا الليل الطويل يضيء عليهم إضاءة تكفي لاجتيازهم السهول والأراضي ، وضوء الشروق الذي يشاهد عند طلوع الشمس يعقب الصبح كما أن ضوء الغروب يسبق الشقق وما ذاك إلا أن ضوء هذا الكوكب يبقى نافذا في فضاء الجو حتى يصل إلينا ، وتنسب تلك الأنوار المدهشة البارقة التي تسبق الشمس وتصحبها حيثما تقارب حد الأفق لكثافة الجو وللأبخرة الساحبة فيه ، وهذه

٧٤

الألوان اللامعة لشبهها بالصبح والشروق والشفق لا تظهر في سماء سكان المدارين ، فالقدرة الربانية والحكمة الإلهية لم ترد كمال انتشار تلك الحوادث المشرقة ووصولها إلى غاية جمالها وإضاءتها والبارقة إلا لسكان القطبين ، فكلما لاحت هناك تلك الأنوار البهية يحصل في عقولنا اندهاش وفي أفكارنا اضطراب ويزيد يقيننا بوجود مبدع حكيم صانع للموجودات وهو بكل شيء عليم.

(المسألة الثانية) :

إن جميع الطبيعيين والفلاسفة تحيروا في كيفية ضوء الشمس وحرارتها ، فمنهم من قال : الظاهر أنها لا تأثير لها في عظم الضوء ولا في الحرارة المنبعثين إلينا من ذلك الكوكب ، ومنهم من قال : هل الشمس جرم مشتعل مسلط عليه ثوران شديد؟ أو أنها كوكب مضيء مسكون بسكان يستضيؤون بغمام ملتهب نير؟ أو أنها كما قال متأخر والطبيعيين مؤلفة من طبقات متحدة المركز مختلفة الطبيعة يؤثر بعضها في بعض؟ أو أنها كرة عظيمة من سائل كهربائي أي مجتمع تحدث قوته الجاذبية والدافعة في أجرام الكواكب معنى غير محسوس يسمى الجاذبية أو التثاقل العمومي ، ثم قالوا بعد هذا معارفنا لم تزل إلى الآن قاصرة عن معرفة ذلك ، ونحن نقول هب أن النور الحاصل في العالم إنما كان بتأثير الشمس إلا أنا نقول الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، ومتى كان الأمر كذلك كان حصول هذه الخاصية لقرص الشمس يجب أن يكون بتخليق الفاعل المختار مكور الليل على النهار.

(أم بيان المقام الأول):

فهو أن الأجسام متماثلة في كونها أجساما ومتحيزة كما تقدم فلو حصل الاختلاف بينها لكان ذلك الاختلاف واقعا في مفهوم مغاير لمفهوم الجسمية ضرورة أن ما به المشاركة مغاير لما به المخالفة فنقول ذلك الأمر إما أن يكون محلا للجسمية أو حالا فيها ، أو لا محلا لها ولا حالا فيها والأول باطل ؛ لأنه يقتضي كون الجسم صفة قائمة بذات أخرى ، وذلك محال لأن ذلك المحل إن كان متحيزا أو مختصا بحيز كان محل الجسم غير الجسم ، وهو محال وإن لم يكن كذلك كان الحاصل في الحيز حالا في محل لا تعلق له بشيء من الأحياز والجهات ، وذلك مدفوع في بديهة العقل ، والثاني أيضا باطل لأنه على هذا التقدير الذوات هي الأجسام وما به حصلت المخالفة هو الصفات ، وكل ما صح على الشيء صح على مثله فلما كانت الذوات متماثلة في تمام الماهية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر وهو المطلوب ، والقول بأن ما به حصلت المخالفة ليس محلا للجسم ولا حالا فيه فساده ظاهر

٧٥

فثبت إذا بالبرهان أن الأجسام متماثلة ، وإذا ثبت هذا فنقول كل ما صح على أحد المثلين فإنه يصح أيضا على المثل الثاني ، وإذا استوت الأجسام بأسرها في قبول جميع الصفات على البدل كان اختصاص جسم الشمس بهذه الإضاءة وهذه الإنارة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار الواحد القهار ، وإذا ثبت هذا كان فالق الإصباح في الحقيقة هو الله تعالى وحده ، وذلك هو المطلوب والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة في تقرير هذا المطلوب):

إن الظلمة شبيهة بالعدم بل البرهان القاطع قد دل على أنه مفهوم عدمي ، والنور محض الوجود فإذا أظلم الليل حصل الخوف والفزع في قلب الكل ، فاستولى النوم عليهم وصاروا كالأموات ، وسكنت المتحركات ، وتعطلت التأثيرات ، ورفعت التفصيلات فالنوم سكون جميع وظائف المخالطة كما أن السهر تحركها ، والسبب المسبب للنوم تعب الجهاز العصبي ، وسببه الحقيقي نقصان وفور الدم نحو المخ ، فكلما تحول الدم عن هذا العضو يسعفه النوم والوسائط المسعفة في تولد النوم هي عدم المنبهات البدنية والخارجية للجهاز العصبي ، فالخارجية كالضوء ، والبدنية كالحركات العضلية والنفسانية ، والنوم إذا حصل وقت الليل فإنما هو من حيث إن الأعضاء كلت من تعب النهار ، ولم يبق فيها منبه فإذا وصل نور الصباح إلى هذا العالم فكأنه نفخ في الصور مادة الحياة ، وقوة الإدراك فضعف النوم وابتدأت اليقظة بالظهور ، وكلما كان نور الصباح أقوى وأكمل كان ظهور قوة الحس والحركة في الحيوانات أكمل ، ومعلوم أن أعظم نعم الله تعالى على الخلق هو قوة الحياة والحس والحركة ، ولما كان النور هو السبب الأصلي لحصول هذه الأحوال كان تأثير قدرة الله تعالى في تخليق النور من أعظم أقسام النعم وأجل أنواع الفضل والكرم ، إذا عرفت هذا فكونه سبحانه فالق الإصباح من أجل البراهين في كونه دليلا على كمال قدرة الله تعالى ومن أجل أقسام الدلائل في كونه فضلا ورحمة وإحسانا من الله تعالى على الخلق.

(المسألة الرابعة) :

قال بعضهم الفالق هو الخالق فكان المعنى خالق الإصباح ، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه وأسرار كتابه.

وأما قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : الآية ٩٦]. فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الشريفة ثلاثة أنواع من الدلائل الفلكية على التوحيد :

٧٦

(فأولها) : ظهور الصباح وقد فسر بمقدار الفهم.

(وثانيها) : قوله : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : الآية ٩٦]. قال صاحب الكشاف : السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب ، ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها المؤنسة ، ثم إن الليل يطمئن إليه الإنسان ؛ لأنه تعب بالنهار فاحتاج إلى زمان يستريح فيه وذلك هو الليل كما قال تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً.) فتسكن فيه جميع الحواس لتعويض ما نقص منها ، ونوم هذه الأعضاء أعني أعضاء الحواس يكون على التوالي فأول ما يسكن وظيفة الإبصار ، ثم الذوق ، ثم الشم ويبقى كل من السمع واللمس متيقظان بعض تيقظ ليوصل بعض احساسات ثم تتناقص الإدراكات الغير المنتظمة شيئا فشيئا حتى تزول بالكلية فإن قيل : إن الخلق يبقون في الجنة في أهنى عيش مع أنه ليس هناك ليل فعلمنا أن وجود الليل والنهار ليس من ضروريات اللذة والخير في الحياة قلنا : كلامنا في أن الليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم في الدنيا.

وأما الدار الآخرة فهذه العادات غير باقية فظهر الفرق.

(وثالثها) : قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِحُسبان) [الأنعام : الآية ٩٦].

بحسبان وفيه مباحث :

(المبحث الأول) :

معناه أنه قدر حركة الشمس والقمر بحسبان معين من السنين والشهور ، ولو قدرنا كونهما أسرع وأبطأ مما وقع لاختلت مصالح العالم ، فهذا هو المراد من قوله : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) [الرّحمن : الآية ٥].

(المبحث الثاني) :

في الحسبان قولان :

(الأول) : وهو قول أبي الهيثم أنه جمع حساب مثل ركاب وركبان وشهاب وشهبان.

(والثاني) : أن الحسبان مصدر كالرجحان والنقصان ، وقال صاحب الكشاف : الحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب ، ونظيره الكفران والغفران والشكران إذا عرفت هذا فنقول معنى جعل الشمس والقمر حسبانا جعلهما على حساب ؛ لأن حساب الأوقات ليس إلا بدورهما وسيرهما.

٧٧

(المبحث الثالث) :

قد صح بالحساب أن النجوم تقدم كل يوم في الوصول إلى خط نصف النهار بنحو أربع دقائق عن وصولها في اليوم السابق ، وما يقطعه النجم من الزمن في رجوعه إلى خط نصف النهار يسمى يوما نجميا ، وزمن اليوم النجمي أربع وعشرون ساعة إلا أربع دقائق ، وهذه المدة أيضا هي المدة الحقيقية التي تسيرها الشمس على حسب الظاهر وقد تقدم الكلام على علة تعويق القمر في حلوله في خط نصف النهار بإحدى وخمسين دقيقة ، وهذه العلة هي علة تأخر الشمس كل يوم نحو أربع دقائق عن ظهورها في النصف ، ولما كانت الشمس على حسب الظاهر لا تسير كل يوم في دائرة وسط البروج إلا درجة ولا تقطع منه إلا درجة واحدة احتاج الأمر أن نجعل لها درجة زائدة كل سنة حتى يمكن أن ترجع وتصل إلى المحل الذي انتقلت منه يعني خط نصف النهار الذي ابتدأت منه السير ، وهذا كله هو السبب في كون السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، والسنة النجمية ثلاثمائة وستة وستين يوما وربع يوم ، واليوم النجمي مستوي الزمن دائما ، وليس كذلك اليوم الشمسي ؛ لأن الأرض حين بعدها الأقرب تعوق الشمس بعض شيء عن الظهور في خط نصف النهار فيكون اليوم حينئذ أزيد من أربع وعشرون ساعة ، وإذا كانت الأرض في البعد الأبعد فلا يبلغ أربعا وعشرين ساعة ، وقد سمى أهل الهيئة الساعات التي تحسب بالشمس الزمن المختلف والزمن الحقيقي ، وسموا الساعات التي تؤخذ من ساعة صحيحة مضبوطة الزمان الأوسط ، وهذان الزمانان ليسا دائمين متفقين ؛ لأن أيام الشمس مستوية الزمن فقد يكون الاختلاف ربع ساعة ، ففي الشتاء تكون ساعات الزمان الأوسط أطول من ساعات الزمان المختلف ، وعكس ذلك يقع في الصيف.

(المبحث الرابع) :

السنة : هي الزمن الذي تسيره الشمس على حسب الظاهر وهو مسافة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وخمس ساعات وخمس وأربعين دقيقة ، ولأجل التسهيل قالوا : ثلاثمائة وخمسة وستون يوما ، ثم اعتبروا ما ألقوه وأهملوه فوجدوه نحو يوم في كل أربع سنوات سنة كبيسة ، تقال على السنة التي يضاف إليها في كل أربع سنين يوم ، وهذا اليوم متجمع مما ألقي في كل سنة ، وهو ست ساعات فبهذا اليوم تصير السنة الرابعة ثلاثمائة وستة وستين يوما مع أنها في السنة البسيطة أي المعتادة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وكما تعتبر البساطة والكبس في السنة الشمسية تعتبران كذلك في السنة القمرية التي هي إحدى سني التاريخ العربي ، ومبدأ هذا

٧٨

التاريخ العربي من هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة وأوله يوم الجمعة الموافق لأربعة من شهر حزيران الرومي سنة ستمائة واثنتين وعشرين من الميلاد ، وبعضهم يقول إن أوله يوم الخميس الموافق لثلاثة من حزيران من تلك السنة ، ولما كانت سنو هذا التاريخ قمرية غير متعلقة بسير الشمس كانت غير متوافقة المبدأ مع السنين الشمسية ، وأول شهورها شهر المحرم وآخرها ذو الحجة ، وهذه الشهور قسمان :

أفراد وأزواج يعني مركبة من ثلاثين يوما وتسعة وعشرين يوما على التعاقب كما في الجدول الآتي ، وهي قسمان بسيطة وكبيسة فالبسيطة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما ، والكبيسة ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما ، وهذه السنوات تنقسم أيضا من جهة أخرى إلى أدوار كل دور ثلاثون سنة تسع عشرة منها بسيطة ، وإحدى عشرة منها كبيسة ، وهذه الأخيرة هي الثانية والخامسة والسابعة والعاشرة والثالثة عشر والسادسة عشرة والثامنة عشرة والحادية والعشرون يعني من الدور واليوم مبدؤه بعد غروب الشمس ، ثم إن أول الشهر عند العرب أو غيرهم هو موافق لثامن وخامس عشرة والثاني والعشرون منه والتاسع والعشرين ، ولنذكر لك هنا جدولا تعرف به استخراج أوائل شهور السنة وهو هذا.

يعني إذا كان محرم يوم الأحد ، فأول صفر يوم الثلاثاء ، وأول ربيع الأول يوم الأربعاء ، وهكذا ، وإذا كان أوله يوم الإثنين فإنه يكون أول صفر يوم الأربعاء وربيع الأول يوم الخميس وهكذا ، وإذا كان أول المحرم يوم السبت فإنه يكون أول صفر يوم الاثنين ، وأول ربيع الأول يوم الثلاثاء ، وقس على ذلك وبهذا تعرف كيفية استخراج السنة الهلالية الحسابية من هذا الجدول.

وأما السنون الرومية فإنها تبتدئ من سنة ثلاثمائة واثنتي عشرة مضت من ظهور سيدنا عيسى عليه الصلاة والسّلام ، ويحسبون من ابتداء الثلاثمائة والاثنتي عشرة ، وشهوره تشرين

٧٩

الأول وتشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني ، وشباط ، وآذار ، ونيسان ، وأيار ، وحزيران ، وتموز وآب وأيلول ، وأما التاريخ القبطي فأوله يوم الجمعة وأيام سني البسيطة مثل السابق ، وكذلك الكبيسة وأول شهوره توت وآخرها مسري ، وبعد هذا الأخير يعدون خمسة أيام في البسيطة وستة في الكبيسة وتسمى باللواحق كما أنها أيضا تسمى أيام النسيء ، وأسماء شهور هذه السنة توت ، وبابه ، وهاتور ، وكيهك ، وطوبة ، وأمشير ، وبرمهات ، وبرمودة ، وبشنس ، وبؤنة ، وأبيب ، ومسرى ، وطريقة معرفة السنة الكبيسة من البسيطة الرومية أن تأخذ عدد السنة وتضعه فإن خرج نصفه زوجا كانت السنة كبيسة وإلا كانت بسيطة ، ويمكن أن يكون الأوفق للطبع طريقة أخرى ، وهي أن تقسم عدد السنة على أربعة فإن انقسم عليها من غير كسر فاضل فهي كبيسة ، ثم إنه قد ظهر في الحساب أنه بزيادة اليوم في كل أربع سنوات تزيد الكسور الفاضلة ثلاثة أرباع ساعة ، فاحتاج الأمر إلى جمع هذه الثلاثة أرباع وتكميلها ثلاثة أيام وطرحها كل أربعين سنة ، يعني أن تجعل السنة الأخيرة من كل قرن من ثلاثة قرون مثلا غير كبيسة مع أن حقها أن تكون كبيسة بوصف كونها أربعة.

وأما السنة الأخيرة من رابع قرن فإنها تكون دائما كبيسة مثلا سنة ١٧٠٠ ، وسنة ١٨٠٠ ، وسنة ١٩٠٠ من الميلاد هي ثلاثمائة وخمسة ستون يوما فهي بسيطة بخلاف سنة ٢٠٠٠ فإنها تكون ثلاثمائة وستين يوما فهي كبيسة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(في قياس الزمان):

وقياس الزمن الذي قسمه القبائل المتقدمون إلى أقسام كثيرة متنوعة كانت في الغالب جعليه ، والأقرب إلى الصحة منها والضبط ما كان مؤسسا على حركات الأجرام السماوية والأرصاد الفلكية ، وقد بنيت هذه الأقسام على أصول قوية غير متغيرة ، وتلك الأقسام المستعملة هي القرن والسنة والشهر والأسبوع واليوم.

(في بيان هذه الأقسام):

أما القرن فهو مائة سنة ، والسنة : هي المدة التي تتم فيها دورة كاملة للشمس ، مبتدأة من نقطة حتى ترجع إليها وتسمى بالنسبة المدارية.

وأما الشهر والأسبوع واليوم فهي تقسم السنة إلى اثني عشر شهرا ، والشهر إلى أسابيع ، والأسبوع إلى أيام مستعمل عموما من قديم الزمان ، وهو من المعارف الفلكية ، ومدة الشهر تختلف من ثمانية وعشرين يوما إلى أحد وثلاثين يوما ، والأسبوع سبعة أيام ؛ ولذلك سمي أسبوعا ، وجعل القدماء لتلك الأيام السبعة سبعة كواكب سيارة.

٨٠