كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي

كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5282-4

الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وعند حصول هذا العارض القوي كيف تحدث النارية ، بل نقول : النيران العظيمة تنطفئ بصب الماء عليها والسحاب كله ماء ، فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية؟

(الثالث) : من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها ألبتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة بأجزاء السحاب فمن أين حدث ذلك اللون الأحمر ، فثبت أن السبب الذي ذكروه بخلاف ذلك ، وإنما أسباب ذلك أمور :

(أولها) : لما خلق الله تعالى السائل الذي تكونت منه الأرض جعل منه عنصرا إشعاعيا ناريا سيالا في غاية اللطافة منتشرا في جميع الأجسام بمقادير مختلفة وله أوصاف وألوان كأوصاف الشمس وألوانها ، وتنشأ عنه أمور عجيبة.

(ثانيها) : أن سبب تكون هذا السائل ينشأ دائما على أسطحة البحار الواسعة المتأثرة دائما من أشعة الشمس ، وذلك السائل دائما يتكون ويصعد إلى الجو كما أن تصاعد البخار من البحار لا ينقطع.

(ثالثها) : أن قوة تولد البخار من الإنبات والبحار في جميع البلدان والفصول واحدة ، بل كلما كانت (٣) لا يستحيل له البخارية أقوى فيهما كان انتشار السائل منهما أعظم ، والبلدان لها فصول توجد فيها المؤتفكات ، ففي أزمنة الاستحالة البخارية ترتفع في الجو أبخرة غزيرة تجتمع وتتقارب وتندمج وتصير سحبا ممزوجة بهذا السائل.

(رابعها) : أنهم قالوا إن سبب ظهوره هو المحاكة وذلك باطل فإن المحاكة لا تكون إلا بالأجسام الصلبة فإن الحكيم القادر جعله ساريا في الأجسام بمقادير كما قلنا ولا يظهر ذلك في الأجسام إلا بأمور :

الأول : الدلك.

والثاني : الحك.

والثالث : الحرارة.

وقد فعلها مرارا أرسطاطاليس في الجواهر الثمينة والنحاس والصوف والتوتيا والقلفونيا والفضة وجلد السنور ، وقد تظهر في بعض أخشاب يابسة كخشب الزيتون.

(النوع الثاني) : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) [الرّعد : الآية ١٢].

__________________

(٣) قوله : بل كلما كانت ... إلخ. كذا بالأصل ، والمعنى غير ظاهر لعدم استقامة التركيب. اه.

٢١

قال صاحب الكشاف : السحاب اسم جنس والواحدة سحابة ، والثقال جمع ثقيلة لأنك تقول : سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما تقول امرأة كريمة ونساء كرام وهي الثقال بالماء.

(واعلم) أن هذا أيضا من دلائل القدرة وذلك لأن هذه الأجزاء المائية إما أن يقال إنها حدثت في جو الهواء ، أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض والأول تكون من الثاني ، وتخصيص مخصص وهو أن يقال : إن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض ، فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض ، وذلك لأن الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة ، وتارة تكون صغيرة ، وتارة تكون متقاربة ، وأخرى تكون متباعدة ، وتارة تدوم مدة نزول المطر زمانا طويلا ، وتارة قليلا ، فاختلاف الأمطار في هذه الصفات على حسب الأزمنة بقيعات الأرض وشدة حرارة الشمس قوة وضعفا ، وأيضا فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثرا عظيما ، ولذلك كانت صلاة الاستسقاء مشروعة ، فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل المختار.

(النوع الثالث) : من الدلائل المذكورة في هذه الآية الرعد وهو قوله : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [الرّعد : الآية ١٣]. وفيه أقوال :

(القول الأول) : أن الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص ، ومع ذلك فإن الرعد يسبح الله سبحانه ؛ لأن التسبيح والتقديس لله سبحانه وتعالى فلما كان حدوث هذا الصوت دليلا على وجود موجود متعال كان ذلك في الحقيقة تسبيحا ، وهو معنى قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : الآية ٤٤].

(القول الثاني) : أن المراد من كون الرعد مسبحا أن من يسمع الرعد فإنه يسبح الله تعالى ؛ فلهذا المعنى أضيف هذا التسبيح إليه.

(القول الثالث) : أما قوله : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [الرّعد : الآية ١٣].

فاعلم أن من المفسرين من يقول : عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد ، فإنه سبحانه جعل له أعوانا ، ومعنى قوله : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ.) أي وتسبيح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته.

(النوع الرابع) : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) [الرّعد : الآية ١٣].

(اعلم) أن أمر الصواعق عجيب جدا ، وذلك لأنها نار تتولد في السحاب ، وإذا نزلت

٢٢

من السحاب فربما غاصت في البحر ، وأحرقت الحيتان في لجة البحر ، والحكماء بالغوا في وصف قوتها ، ووجه الاستدلال أن البحار البرقي يتكون من أسطحة البحار وغيرها ، ويجتمع في السحاب ويتقارب من بعضه ويندمج فتكون الصاعقة كقوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)) [البقرة : الآية ١٩]. وفيه أسئلة :

(السؤال الأول) : ما الصيب؟ فالجواب : أنه المطر الذي يصوب أي ينزل من صاب يصوب إذا نزل ، ومنه صوب رأسه إذا أخفضها ، وقيل : إنه من صاب يصوب إذا قصد ، ولا يقال صيب إلا للمطر الجود كان عليه الصلاة والسّلام يقول : «اللهم اجعله صيبا هنيئا». أي مطرا جودا ، وأيضا يقال للسحاب صيب قال الشماخ :

وأسحم دان صادق الرعد صيب

وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل ، وقرئ (أو كصائب) والصيب أبلغ وأبلغ لسماء هذه المظلة.

(السؤال الثاني) : في قوله : (مِنَ السَّماءِ) [البقرة : الآية ١٩]. ما الفائدة فيه؟ والصيب لا يكون إلا من السماء فالجواب من وجهين :

(الأول) : لو قال أو كصيب فيه ظلمات احتمل أن يكون ذلك الصيب نازلا من بعض جوانب السماء دون بعض ، فلما قال من السماء دل على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء ، فكما حصل في لفظ الصيب مبالغات من جهة التركيب والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقا.

(الثاني) : من الناس من قال المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ، ثم تنزل مرة أخرى فذلك هو المطر كقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [الفرقان : الآية ٤٨]. وقوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النّور : الآية ٤٣].

(السؤال الثالث) : ما الرعد وما البرق؟ فالجواب : الرعد هو الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السماء تضطرب وترتعد إذا حدتها الريح فتصوب عند ذلك من الارتعاد ، والبرق هو الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقا إذا لمع.

(السؤال الرابع) : الصيب هو المطر أو السحاب فأيهما أريد؟ فما ظلماته؟ الجواب : أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقا فظلمتا سحمته وتطبيقه مصمومة إليهما ظلمة الليلة.

٢٣

(السؤال الخامس) : كيف يكون المطر مكانا للرعد والبرق وإنما مكانهما السحاب؟ الجواب : لما كان التعلق بين السحاب والمطر واحدا جاز إجزاء أحدهما مجرى الآخر في الأحكام.

وأما الرعد فمن البرق والبرق من السحاب.

(السؤال السادس) : هلا قيل : رعود وبروق كما قيل ظلمات الجواب : الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع.

وأما الرعد فإنه نوع واحد جعله الله تعالى من مرور الصاعقة في الهواء ، وكذا البرق جعله تعالى شرارا من الصاعقة ، ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد ، فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع.

(السؤال السابع) : لم جاءت هذه الأشياء منكرات؟ الجواب أن المراد أنواع منها كأنه قيل : فيه ظلمات داجية ، ورعد قاصف وبرق خاطف.

(السؤال الثامن) : إلى ما ذا يرجع الضمير في يجعلون؟ الجواب إلى أصحاب الصيب ، وهو وإن كان محذوفا في اللفظ لكنه باق في المعنى ولا محل لقوله : (يَجْعَلُونَ) [البقرة : الآية ١٩]. لكونه مستأنفا ؛ لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلا قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم ، ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقال يكاد البرق يخطف أبصارهم.

(السؤال التاسع) : رؤوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان فهلا قيل : أناملهم؟ الجواب : المذكور وإن كان هو الأصبع لكن المراد بعضه كما في قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : الآية ٣٨]. المراد بعضهما.

(السؤال العاشر) : ما الصاعقة؟ الجواب : هي السائلات البخارية البرقية أي التي بها خاصية المغناطيس من جذبها للأشياء الخفيفة كالقش ونحوه ، وتوجد في كرة الهواء بعدة حوادث جوية ناشئة عن الحرارة ، وهذا السيال منتشر في كرة الهواء المحيط بالأرض ، وفي كرة الأرض في سائر الأجسام الموجودة في الأرض.

(السؤال الحادي عشر) : كيف سقوط الصاعقة؟ الجواب إذا لمع البرق من السماء فقد تمت نتائج الصاعقة فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد فقد أمن من ضررها فإن لم يمض بينهما شيء بأن كان الإنسان قريبا من محل الصاعقة ، وسمع الرعد مع مشاهدة

٢٤

البرق في آن واحد أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها ، وكثيرا ما يحصل عقب انطلاق الصاعقة سريعا اضطراب في السحب ، ثم تمطر مطرا غزيرا وفي بعض الأحيان يحصل برد يختلف حجمه من حبة الرمان إلى الرمانة الكبيرة أو أعظم ، فقد شوهد منه ما يبلغ وزنه نحو أربعة وعشرين درهما ، وقطر الواحدة من ثلاثة قراريط إلى تسعة ، والغالب أن يكون حبة مستديرا أو بيضيا ، والغالب أن يسبقه مطر عاصفي ، وربما بصاحبه ، ويندر أن يعقبه ، وكل من زنة البرد وقوة اندفاعه بالرياح وسرعة سقوطه ينبئ عن الضرر الذي يحصل منه ، فمتى صدم الأشجار أو الزروع أو الكروم انحنت قضبانها أو انكسرت وسقطت أزهارها وعرت عن ثمارها أو تلفت بالكلية ، وكثيرا ما يحصل للناس من غلظه جروح بالغة أو موت كما أنبأنا الله تعالى بذلك في قوله العزيز : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) [الرّعد : الآية ١٣]. الآية ، وفي قوله الكريم : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٤٤) وهاهنا حكمة عظيمة لا يطلع عليها إلا الراسخون في العلم من أهل الدراية والله ولي الهداية.

(في بيان قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)) [الرّوم : الآية ٢٤])

وفي الآية مسائل :

(المسألة الأولى) :

كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء ، وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض ، وهو الإنبات والإحياء.

(المسألة الثانية):

كما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقدم البرق والرعد على المطر منفعة ؛ وذلك لأن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كنّ يخاف الابتلال فيستعد له ، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء ، وأيضا العرب من أهل البوادي لا يعلمون البلاد المنشأة إن لم يكونوا قدر أو البروق اللائحة من جانب دون جانب.

(واعلم) أن فوائد البرق وإن لم تظهر للمقيمين بالبلاد فهي ظاهرة للبادين ؛ ولهذا جعل

٢٥

تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية.

وأما كونه آية فظاهر فإن السحاب ليس إلا ماء وهواء.

(المسألة الثالثة) :

قال هاهنا : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : الآية ٥]. لما كان حدوث الولد من الوالد أمرا عاديا مطردا قليل الاختلاف كأن يتطرق إلى الأوهام العامية. إن ذلك بالطبيعة ؛ لأنه أقرب للطبيعة من المختلف لكن البرق والمطر ليس أمرا مطردا غير مختلف ، ومثل تلك الآثار الجوية النارية إذ تقع ببلدة دون بلدة ، وفي وقت دون وقت ، وتارة تكون قوية ، وتارة تكون ضعيفة فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار.

(ومن الآثار الضوئية الجوية النارية أشياء):

الأول الفجر قال تعالى : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)). [الفجر : الآيات ١ ـ ٤]

(اعلم) أن هذه الأشياء التي أقسم الله بها لا بد وأن يكون فيها فائدة دينية مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد أو فائدة دنيوية توجب بعثا على الشكر أو مجموعهما ، ولذلك كثرت الآراء في تفسير هذه الأشياء واختلفت اختلافا شديدا فكل أحد فسره بما رآه أعظم درجة في الدين ، وأكثر منفعة في الدنيا.

أما قوله : (وَالْفَجْرِ (١)) [الفجر : الآية ١]. فذكروا فيه وجوها :

(منها) : ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن الفجر هو الصبح المعروف فهو انفجار الصبح الصادق والكاذب ، وأقسم الله به لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء ، فيكون من الصادق انتشار الناس ، وسعي الحيوانات من الطيور والوحوش في طلب الأرزاق ، وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم ، وفيه عبر لمن تأمل وهذا كقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤)) [المدّثّر : الآية ٣٤]. وتمدح في آية أخرى بكونه خالقا له ، فقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام : الآية ٩٦].

وأما الكاذب ويسمى بالفجر الشمالي فربما كان هو أجمل الآثار الجوية الضوئية بسبب كثرة إضاءته وطول إقامته ، وغريب تشكلاته ، والغالب كونه على هيئة أقواس كثيرة مضيئة تجتاز فيما بينها شعل نارية ، وتسير متجهة نحو نقطة واحدة من السماء ، والاعتبار العظيم فيها

٢٦

هو أن رأس القوس يكون موضوعا على خط الزوال ، والمنسوب للمحل الذي توجد فيه ، والغالب ظهور هذا الضوء جهة الشمال ، ويكون فيه ميل قليل جهة المغرب ، وقالت البادون نوره يشبه نور شعلتين عظيمتين منبسطتين في الهواء تهتزان في جهة الهواء تتصادمان فتنطبقان ، ثم تستقلان بسرعة عجيبة ، وعلامة ظهور هذا الفجر أن يشاهد بعض استضاءة في ناحية الشمال ثم يظهر تفجج نور فوق الأفق ، ويمتد بغير انتظار في جهة سمت ذلك الأفق ، ثم يشاهد عمودان عظيمان من نار أحدهما في ناحية المشرق ، والثاني في ناحية الغرب يصعدان نحو السماء وليسا متساويين في ذلك الصعود ، بل يكون أحدهما أقصر من الآخر ، ثم تتغير ألوانهما من الصفر ، إلى الخضرة ، ثم إلى الأرجوانية اللامعة ثم يميل كل من العمودين رأسه إلى الآخر حتى يتلامسا فيكونان قوسا والمسافة التي بين العمودين يكون فيها بعض عتمة لكون قد تقطعها أضواء سائرة من أحد العمودين إلى الآخر لحظة فلحظة فيكون القوس متقطعا بسهام من نار تخرج من رأس القوس وتشق السماء شقا عموديا ، ثم تجتمع هذه السهام ويتكون منها ما يسمى بتاج الفجر الكاذب فإذا تم تكون هذا التاج تم ظهور الفجر فيبدو زاهيا بأضوائه ، ثم بعد مدة يسيرة يكبر وتضمحل الأنوار فهذا حال الأسفار الشمالي في حال كماله ، لكنه يندر أن يكون كاملا بل هو كما ذكروا غير واضح الظهور.

(الشيء الثاني):

في قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)) وفيه مسائل :

(المسألة الأولى) :

اعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الكواكب في سماء الدنيا لفائدتين :

(أولاهما) : تزينها كما قال : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)) [الصّافات : الآية ٦]. في ذلك وجوه :

(الأول) : أن النور والضوء أحسن الصفات ، وأكملها فإن حصول هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك لا يبقي الضوء والنور في جرم الفلك بسبب حصول هذه الكواكب فيها قال ابن عباس : (بزينة الكواكب) أن بضوء الكواكب.

(الثاني) : يجوز أن يراد أشكالها المتناسبة المختلفة كشكل الجوزاء وبنات نعش والثريا وغيرها.

٢٧

(الثالث) : يجوز أن يكون المراد بهذه الزينة كيفية طلوعها وغروبها.

(الرابع) : أن الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك ، ورأى هذه الجواهر والزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق ، فلا يشك أنها أحسن الأشياء وأكملها في التركيب والجوهر ، وكل ذلك يفيد كون هذه الكواكب زينة.

(الخامس) : أن الله تعالى زين السماء الدنيا بمقدار عظيم من الأجرام السماوية الفلكية المالئة للفضاء ، وهي لا حد لها ولا يمكن إحصاؤها كما أن القدرة الإلهية لا حصر لمتعلقاتها ، والأرض جرم منها وتنقسم تلك الأجرام باعتبار حركاتها أو طبيعتها إلى نجوم تسمى بالشموس ، وكواكب وتوابع وذوات أذناب ، وكلها بحسب الظاهر مثبة في القبوة المسماة بالسماء الشبيهة بسطح باطن كرة عظيمة تشغل الأرض مركزها ، والمراد بالنجوم المسماة بذلك حقيقة النجوم الثوابت ، وهي يشرق منها ضوء مخصوص بها ، ومنها الشمس ، وتنقسم بالنظر لتلك المقادير إلى نجوم من القدر الأول والثاني والثالث وهكذا إلى ما وراء القدر السادس وهو لا يشاهد جيدا.

(المسألة الثانية) :

حفظها من كل شيطان مارد كما قال تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)) [الصّافات : الآية ٧]. وفي ذلك بحثان : (الأول) : فيما يتعلق باللغة فقوله تعالى : (وَحِفْظاً.) أي وحفظناها حفظا قال ابن عباس : يريد حفظ السماء بالكواكب من كل شيطان مارد يريد الذي تمرد على الله تعالى قيل : إنه لا يتمكن منه.

(الثاني) : أن جعلها زينة وحفظا يقتضي بقاءها ، فإن قيل : هلا يناقض هذا قوله تعالى في سورة تبارك : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : الآية ٥].

(قلنا) : ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب ، بل يجوز أن منفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها ، وتلك الشعل هي الشهب ، وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار باقية ، وقيل في تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : الآية ٥]. أن الضمير في جعلنا عائد إلى المصابيح ، فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها ، والجواب حينئذ أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية.

وأما كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير ، والفساد ومنها ما لا يكون كذلك.

٢٨

(المسألة الثالثة) :

في كائنات الجو من الأضواء والنيران الشهبية وفيه مباحث :

(المبحث الأول في السراب):

قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)) [النّور : الآية ٣٩].

(اعلم) أنه سبحانه لما بين حال المؤمن وأنه في الدنيا يكون في النور وبسببه يكون متمسكا بالعلم الصالح ، ثم بين أنه في الآخرة يكون فائزا بالنعيم المقيم والثواب العظيم أتبع ذلك بأن بين أن الكافر في الآخرة في أشد الخسران وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل واحد منهما مثلا أما المثل الدال على الخيبة في الآخرة فهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [النّور : الآية ٣٩]. (السراب) : ظاهر بصرية حاصلة من انعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها معا فإن المرئيات إذا أبصرت من بعد كاف لأبصارها شوهدت صورها إما مستقيمة أو مائلة أو منقلبة وحوافي تلك الصور دائما تكون مغايرة لها إما يسيرا أو كثيرا ، وهذه الظاهرة كثيرا ما تشاهد في قفار الديار المصرية أيام الحر إذا كان الجو صافيا شفافا ، والهواء ساكنا فيتهيأ للناظر من بعد أن أمامه بركة ماء واسعة ، وسبب ذلك أنه إذا اشتدت سخونة الرمل من حر الشمس سخنت الطبقة السفلى من الهواء التي تلي الأرض فيحدث فيها حركات تموجية تظهر للبصر تصير جوا في صور المرئي غير مستوية ، ويلزم من سخونة تلك الطبقة تخلخلها وصعود جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فتكون تلك الطبقات أكثف من التي تحتها ، ويكون هواء البقعة التي سخنته بعيدا عن موقعه الطبيعي من الأرض ، فبوصول الضوء إلى ذلك الهواء الكثيف ، وخروجه عنه ينكسر ، فيتخيل المرئي للرائي بصورة جديدة أعني أنه يظهر له أن جزءا منها مستقر في موضعه والواقع ليس كذلك ، والسبب المتمم لرؤية السراب بلون الماء هو لون السماء المنعكس للأرض ، وكلما قرب الإنسان من موضع السراب انتقل أمامه أو على جانبيه بحسب تغير أسطحة الأرض الموجب لتغير انعكاس الضوء ولو عمل في هذا بموجب ما تدركه حاسة البصر لسعي الإنسان أبدا إلى ما لا يلحقه ، وقد غش السراب جملة أشخاص ، ومن جملة من انغش في ذلك الجيش الفرنساوي فإنه أول ما قدم إلى مصر وصار بقفارها ورمالها رآه فلما رآه ظن أنه بركة ماء فتوجه إليه رشدة عطشه ليشرب فلم ينل إلا المشقة والعناء.

٢٩

(المبحث الثاني) :

يقال : سرب الماء يسرب سروبا إذا جرى فهو سارب ، وأما قوس قزح والهالات والشموس الكاذبة فهو ما يتراءى للعين كسراب ، وأما القيعة فقال الفراء : هي جمع قاع مثل جار وجيرة والقاع ، المنبسط المستوي من الأرض ، وقال صاحب الكشاف القيعة بمعنى القاع وقال الزجاج الظمآن قد يخفف همزه وهو الشديد العطش ، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثوابا مع أنه يعتقد أن له ثوابا عليه وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه عقابا مع أنه يعتقد أنه يستحق عليه ثوابا فكيف كان فهو يعتقد أن له ثوابا عند الله تعالى فإذا وافى عرصات القيامة ، ولم يجد الثواب ، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتكاثر غمه فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الماء فإذا جاءه شاهد السراب تعلق قلبه به فيرجو به النجاة ويقوى طمه ، فإذا جاءه وآيس مما كان يرجوه عظم ذلك عليه ، وهذا المثال في غاية الحسن قال مجاهد : السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا ، فإن قيل قوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) [النّور : الآية ٣٩]. يدل على كونه شيئا. وقوله : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النّور : الآية ٣٩]. مناقض له.

(قلنا) : الجواب عنه من وجوه ثلاثة :

(الأول) : المراد من معناه أنه لم يجده شيئا نافعا كما يقال فلان ما عمل شيئا ، وإن كان اجتهد.

(الثاني) : حتى إذا جاءه أي موضع السراب لم يجد السراب شيئا فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه.

(الثالث) : الكناية للسراب لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة وخلو الطبقة التي تلامس سطح القيعة فإذا قرب منه رق وانتشرت الطبقة الكثيفة ، وأما قوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النّور : الآية ٣٩]. أنه وجد عقاب الله الذي توعد به الكافر عند ذلك فتغير ما كان فيه من ظن النفع العميم إلى تيقن الضرر العظيم ، أو وجد زبانية الله عنده يأخذونه فيقبلون به إلى جهنم فيسقونه الحميم.

(المبحث الثالث في الهالات):

الهالات هي الدوائر اللامعة المتلونة في الغالب بالألوان المختلفة التي تكون حول كل من النيرين ، وهو في مركزها ، والمسافة التي بينهما تسمى بفناء الهالة تشبيها لها بفناء الدار ، وهو الفضاء الذي حولها ، ولون هذا الفناء إما رمادي أو أكثر زرقة من لون السماء على حسب

٣٠

صفاء الجو وضبابه ، ودائرة الهالات التي تكون حول القمر بيضاء ، وقد تكون حمراء ، لكن احمرارها ضعيف من حافتها الباطنة ، والهالة التي تكون حول الشمس ضعيفة الألوان ، وتشبه قوس قزح ، واللون الأحمر منها يكون خطا محددا لفناء الهالة لا يتداخل شعاعه فيما يجاوره من الجانبين ، وكل من النيلي والبنفسجي يأخذ في التناقض تدريجا حتى ينتهيان للون السماء ، ومن المحقق عندهم أن الهالات ضوء منكسر في بلورات صغيرة كبلورات الجليد يتكون الثلج الموجود في الجو ولا تتكون الهالات عن انكسار الضوء في غير بلورات الثلج.

(المبحث الرابع في الشموس):

هي صور شموس تحصل من انكسار الشمس الحقيقة وانعكاسها في بعض الأجسام وتظهر دائما في الأفق على سمت خط ارتفاع الشمس ، وتتكون على دائرة بيضاء قطبها جهة السمت العلوي ، ودائرتها من ناحية الشمس الحقيقة يكون متلونا بألوان قوس قزح كالشمس المتكونة فيه ، وما كان منها في مقابلة ذلك الجزء لا لون له كالشمس المتكونة فيه ، فينتج من ذلك أن الصورة الأولى حاصلة من الانكسار والصورة الثانية من الانعكاس مثل بقية الدوائر الكبرى ، ومتى تكونت الشموس شوهد حول الشمس الحقيقية هالة أو هالتان متلونتان بلون قوس قزح ، وقد يشاهد على هاتين الهالتين وعلى بعض نقط من الدائرة الكبرى قطع أقواس ضوئية وأقواس كاذبة ، والوقوف على حقيقة تولد الشموس الكاذبة هو أن ضوء الشمس إذا وقع على أجسام اسطوانية الشكل دائرها شفاف ووسطها معتم كونت الأشعة المنعكسة من سطح هذه الأجسام الدوائر البيضاء ، وكونت الأشعة المنكسرة من جوانب تلك الأسطوانات من محورها العمودي الشموس الكاذبة.

(في بيان قوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)) [الملك : الآية ٥])

(اعلم) أن الله تعالى قادرا عالم ، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص وموضع معين وسير معين تدل على أن صانعها قادر ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا وسببا لانتفاعهم بها تدل على أن صانعها عالم ، ونظير هذه الآية في سورة الصافات : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)). وهاهنا مسائل.

(المسألة الأولى)

السماء الدنيا السماء القربى وذلك لأنها أقرب السماوات إلى الناس ، ومعناها السماء

٣١

الدنيا من الناس ، والمصابيح السرج سميت بها الكواكب والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح فقيل ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم بها وفيه بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة ، وأما قوله تعالى : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : الآية ٥].

(فاعلم) أن الرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به ، وذكروا في معنى هذه الآية وجهين.

(الأول) : أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها ، فإن قيل جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوما للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها ، والجمع بينهما متناقض. (قلنا) : ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب ، بل يجوز أن ينفصل من الجو شعل ترمى الشياطين بها كما قدمنا الإشارة إلى ذلك ، وتلك الشعل هي الشهب وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار باقية.

(والوجه الثاني) : في تفسير كون الكواكب رجوما للشياطين إنا جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين.

(المسألة الثانية) :

اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب في السماء الدنيا ، وذلك لأن السماوات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سماوات أخرى فوقها فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها ، فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح.

(في قوله تعالى :

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُبا ً(٨)) [الجنّ : الآية ٨])

اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال لمسه والتمسه ، ومثله الجس يقال جسوه بأعينهم وتجسسوه ، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها ، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ، ولذلك وصف بشديدا ولو ذهب إلى معناه لقيل شددا ، وأما قوله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)) [الجنّ : الآية ٩]. ففي قوله : (رَصَداً.) وجوه :

(أحدها) : قال مقاتل يعني رميا من الشهب ورصدا من الملائكة ، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهابا ورصدا لأن الرصد غير الشهاب ، وهو اسم جمع لراصد.

٣٢

(وثانيها) : قال الفراء أي شهابا قد أرصد له ليرجم به وعلى هذا الرصد نعت للشهاب ، وهو فعل بمعنى مفعول.

(وثالثها) : يجوز أن يكون رصد أي راصدا وذلك لأن الشهاب لما كان مبدأ له فكأن الشهاب رصد له ومترصد.

(واعلم) أن كهنة الأنس والجن كانوا جاعلين أنفسهم عالمين بما وقع وسيقع على زعمهم وكان لهم مقاعد للسمع.

(في بيان قوله تعالى :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠) [الصافات])

وقد قدمنا الكلام على هذه الآية الشريفة وفيها مسائل أيضا :

(المسألة الأولى) :

قرأ حمزة وحفص عن عاصم بزينة منونة الكواكب بالجر ، وهي قراءة مسروق بن الأجدع قال الفراء : وهو رد معرفة على نكرة كما قال بالناصية ناصية فرد نكرة على معرفة ، وقال الزجاج : الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كما تقول مررت بأبي عبد الله زيد ، وقرأ عاصم بالتنوين في الزينة ونصب الكواكب قال الفراء يريد زينا الكواكب ، وقال الزجاج : يجوز أن تكون الكواكب في النصب بدلا من قوله بزينة لأن بزينة في موضع نصب وقرأ الباقون بزينة الكواكب بالجر على الإضافة.

(المسألة الثانية) :

بين تعالى أنه زين السماء الدنيا ، وبين أنه إنما زينها لمنفعتين.

(أحدهما) : تحصيل الزينة (٤) لكل كوكب سماء كما للأرض زينة.

(والثانية) : حفظها من الفساد والتغير فلقائل أن يقول : إنه ثبت في علم الهيئة أن هذه الثوابت في الكرة السادسة والسابعة والثامنة هناك أكثر من الساريات في الكرات المحيطة بسماء الدنيا ، فكيف يصبح قوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)) [الصّافات : الآية ٦]؟.

__________________

(٤) قوله : تحصيل الزينة ... إلخ. كذا بالأصل وحرر. اه.

٣٣

(والجواب) : أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب ، وأيضا الساكنون في كل كوكب يرون سماء كسمائنا فصح قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)) [الصّافات : الآية ٦].

(المسألة الثالثة) :

الزينة مصدر كالنسبة واسم لما يزان به كالليقة اسم لم تلاق به الدواة قال صاحب الكشاف ، قوله : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصّافات : الآية ٦]. يحتملهما فإن أردت المصدر فعلى إضافته إلى الفاعل أي بأن زينتها الكواكب أو على إضافته للمفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسنها لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان أن تقع الكواكب بيانا للزينة ؛ لأن الزينة قد تحصل بالكواكب وبغيرها وأن يراد ما زينت الكواكب.

(المسألة الرابعة) :

في بيان كيفية كون الكواكب زينة للسماء وجوه :

(أحدها) : أن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها فإنه بحصول هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك لا جرم بقي الضوء والنور في جرم الفلك بسبب حصول هذه الكواكب فيها. قال ابن عباس : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصّافات : الآية ٦]. أي بضوء الكواكب.

(الوجه الثاني) : يجوز أن يراد أشكالها المتناسبة المختلفة كشكل الجوزاء وبنات نعش والثريا وغيرها.

(والوجه الثالث) : يجوز أن يكون المراد بهذه الزينة كيفية طلوعها وغروبها.

(والوجه الرابع) : أن الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك ، ورأى هذه الجواهر الزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق فلا يشك أنها أحسن الأشياء وأكملها في التركيب والجوهر ، وكل ذلك يفيد كون هذه الكواكب زينة.

(المسألة الخامسة) :

في قوله :(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)) [الصّافات : الآية ٧]. وفيه بحثان:

(البحث الأول فيما يتعلق باللغة):

فقوله : (وَحِفْظاً) [الصّافات : الآية ٧] أي وحفظناها حفظا قال المبرد : إذا ذكرت فعلا

٣٤

ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر ؛ لأنه قد دل على فعله مثل قولك أفعل وكرامة لأنه لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فكان المعنى أفعل ذلك وأكرمك كرامة. قال ابن عباس : يريد حفظ السماء بالكواكب من كل شيطان مارد يريد الذي تمرد على الله قيل إنه الذي لا يتمكن منه وأصله من الملاسة ، ومنه قوله : (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) [النّمل : الآية ٤٤] ومنه الأمرد وقوله : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التّوبة : الآية ١٠١].

(البحث الثاني) :

هذه الشهب هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم غيرها فالقسم الأول باطل ؛ لأن هذه الشهب تبطل وتضمحل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ، ومعلوم أن هذا المعنى لم يوجد البتة فإن أعداد كواكب السماء باقية على حالة واحدة من غير تغير البتة ، وأيضا فجعلها رجوما للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض ، وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن هذه الشهب جنس آخر غير الكواكب ، فهذا أيضا مشكل لأنه تعالى قال في سورة تبارك الذي بيده الملك : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : الآية ٥]. فالضمير في قوله : (وَجَعَلْناها) [الأنبياء : الآية ٩١] عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها من غير تفاوت.

(والجواب) : أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية ، وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : الآية ٥]. فنقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ، ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين وبهذا التقدير فقد زال الإشكال.

(المسألة السادسة) :

الشيطان مخلوق من النار قال تعالى حكاية عن إبليس : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) [الأعراف : الآية ١٢]. وقال : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)) [الحجر : الآية ٢٧]. وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار.

(والجواب) : يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ناقصة قابلة للزيادة فإذا ظهرت إلى نيران الشهب لحقت بها بطريقة الجاذبية كالصاعقة وبعض الأبنية العالية

٣٥

الموضوع عليها بعض المعادن كما قال تعالى فأتبعه شهاب ثاقب.

(المسألة السابعة) :

إن الشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى الأقرب من سطح الجو الأسفل ، فكيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة ، فإن قلتم إن الله تعالى هو الذي يسمع الشيطان حتى يسمعوا كلام الملائكة فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة وجب أن لا ينفي سمع الشيطان وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم.

(فالجواب) : مذهبنا أن أفعال الله تعالى غير معللة يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله.

(المسألة الثامنة) :

وفيها مباحث :

(المبحث الأول) :

في قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) [الصّافات : الآية ٨].

(القول الأول) : وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال تعالى (٥) : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النّساء : الآية ١٧٦]. وكما قال تعالى : (رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النّحل : الآية ١٥]. قال صاحب الكشاف : حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها.

(والقول الثاني) : وهو الذي اختاره صاحب الكشاف أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك المقصود.

(المبحث الثاني) :

الملأ الأعلى الملائكة ، وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل.

__________________

(٥) قوله : كما قال تعالى ... إلخ. في العبارة نقص ظاهر. اه.

٣٦

(واعلم) أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاث : الأولى : أنهم لا يسمعون ، والثانية : أنهم يقذفون من كل جانب دحورا ، وفيه قولان :

(الأول) : قال المراد الحور أشد الصغار والذل ، وقال ابن قتيبة : دحرته دحرا ودحورا أي دفعته وطردته.

(الثاني) : في انتصاب قوله : (دُحُوراً) [الصّافات : الآية ٩]. وجوه :

(الأول) : أنه انتصب بالمصدر على معنى يدحرون دحورا ، ودل على الفعل قوله تعالى : (وَيَقْذِفُونَ) [سبإ : الآية ٥٣].

(الثاني) : التقدير ويقذفون للدحور ثم حذف اللام.

(الثالث) : قال مجاهد دحورا مطرودين فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر كالرجوع والسجود والحضور.

(المبحث الثالث) :

قرأ أبو عبد الرحمن السلمي (دحورا) [الصافات : الأية ٩] بفتح الدال قال الفراء : كأنه قال يقذفون ويدحرون بم يدحر ، ثم قال لست أشتهي الفتح ؛ لأنه لو وجد ذلك على صحته لكان فيها الباء كما تقول : يقذفون بالحجارة ولا تقول : يقذفون الحجارة إلا أنه جائز في الجملة كما قال الشاعر :

تعالى اللحم للأضياف نيا

أي تعالى باللحم.

(المسألة التاسعة) :

في قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) [الصّافات : الآية ٩]. والمعنى أنهم مرجومون بالشهب : وهذا العذاب مسلط عليهم على سبيل الدوام ، ثم قال تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) [الصّافات : الآية ١٠]. وهو أخذ الشيء بسرعة وأصل خطف اختطف قال صاحب الكشاف : من في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون أي يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة فأتبعه يعني : لحقه وأصابه يقال : تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره وأتبعه إذا لحقه ، وأصله من قوله : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : الآية ١٧٥]. وقوله تعالى : (شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصّافات : الآية ١٠].

٣٧

قال الحسن : ثاقب أي مضيء ، وأقول سمى ثاقبا لأنه يثقب بنوره الهواء.

(في بيان قوله تعالى :

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) [الرّعد : الآية ١٣])

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمانه ويجادلانه ويريدان الفتك به فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة أخبرنا : عن ربنا أمن النحاس هو أم من الحديد فردعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا على أربد بما يلحق بالحديد وعلى عامر بغدة ثم إنه لما رجع أربد أرسل الله عليه صاعقة فأحرقته ورمى عامرا بغدة كغدة البعير ومات في بيت سلولية ، وهاهنا نذكر الآثار الجوية النارية ، فنقول :

(الآثار الجوية النارية):

قد زاد بسبب هذه الآثار في الأزمنة السالفة اندهاش الناس وخوفهم إما من التلف الذي يتبع ظهورها وإما من الضوء الساطع الذي ينتشر منها وإما من عظمها المهول مع تدميرها الأشياء معا ، وطالما صدرت خرافات وظنون وتوهمات فاسدة في منشأ الرعد والأضواء الشمالية أي الفجر الكاذب الذي تقدم ذكره والأكر النارية.

(الكهربائية الجوية والصاعقة والرعد):

هذا السائل وجده أرسطاطاليس في قطعة كهرباء ، وسماه بهذه الاسم وهو نوعان : كالمغناطيس ، والجو يحتوي دائما على مقدار من هذا السائل يختلف قلة وكثرة فإذا كان الهواء ساكنا والسماء مصحية كانت كهربائية الجو زجاجية ، وتتغير حالتها كل يوم مرتين ، فقبل طلوع الشمس بزمن قليل تكون في غاية ضعفها ، ثم تتزايد بسرعة وتصل إلى غاية قوتها الأولى نحو الساعة الثامنة الفلكية أعني قبل الظهر بأربع ساعات في الشهر الثالث من الربيع ، ثم تأخذ في الضعف شيئا فشيئا ، وبعد الزوال بساعتين يكون الاستشعار بها قليلا أعني أنها تكون زائدة في الضعف جدا ، وفي الساعة الرابعة تقريبا تكون في غاية ضعفها ، ثم في المساء بعد مغيب الشمس بساعة أو ساعتين تكون قوتها كهي في الصباح أعني في غاية قوتها ، ثم تأخذ في التناقض أولا بسرعة ، ثم تبطئ حتى تصل إلى غاية ضعفها الثاني ، وهذان التغيران يشاهدان السنة كلها حتى في زمن الغيم ، غير أن قوتها تختلف باختلاف كثرة الغمام وسمكه ، وكهربائية الصيف أقوى من كهربائية الشتاء بمرتين والغالب أنها في جميع الأشهر تزيد أو تنقص على طريقة النسبة المستقيمة لارتفاع الشمس على الأفق ، وثبت من المشاهدات أن

٣٨

العواصف تكون أقوى وأكثر في زمن القمر الجديد والامتلاء منها في أوقات الربيع.

(في النسبة الكهربائية):

وليس هناك نسبة بين كهربائية الجو وثقله وحرارته بخلاف رطوبته فإن لها بها نسبة عظيمة لأن غايتي ارتفاع الكهربائية تكونان في الوقت الذي يكون فيه الهواء متحملا لمقدار عظيم من الرطوبة ، ومتى تكاثف البخار المائي المتحمل له الجو وسقط على هيئة مطر أو ثلج أو برد فإنه يتكهرب بكهربائية تزيد جدا عن كهربائية الجو إذا كان الزمن هادئا مصحيا.

(في بيان الكهربائية)

ثم إن كهربائية الماء الجوي تارة تكون زجاجية ، وتارة راتنجية ككهرباء الهواء ، وتكون أيضا في الصيف أعظم منها في الشتاء.

(تنبيه) اعلم أن المغناطيس سيال واحد ولكن جعل الله تعالى فيه خاصيتين : إحداهما : جنوبية والأخرى شمالية ، وجعل الله تعالى السيال الكهربائي متنوعا إلى نوعين : أحدهما : زجاجي والآخر راتنجي على حسب تسلطنه في أفراد المعادن ، وأيضا هو سار في السائلات الجوية ويكون على حسب تجمعه وقوته زجاجيا أو راتنجيا ، وذلك إذا سبح المطر مرتين وتخلل بينهما زمن قليل فإنه قد يتفق أن أحدهما يتكهرب بكهربائية مخالفة لكهربائية الأخروين كانا متساويين في الشدة ، ويندر جدا وجود أمطار غير مكهربة ، ولا يشاهد ذلك إلا في الامطار التي تحصل في المسافة التي تتخلل بين سحتي مطر مختلفي الكهربية أو حين ما يكون المطر خفيفا.

(في بيان الضباب)

الضباب الرطب يكون عموما أقل كهربائية من الضباب البارد الجاف ، وزجاجية الثلج أكثر من راتنجيته ، ولم تعرف إلى الآن الحالة الكهربائية للبرد بفتح الراء.

(في كهربائية الغمام)

قد اعتبرت الغمامة الكثيفة الحاملة للعواصف جسما واحدا يتراكم على سطحه مقدار مخصوص من السائل الكهربائي المنتشر في الفضاء المعرض لتأثير هذه الغمامة ، ولعل ذلك هو الذي يحدث شكل هذه الكتل المتكونة من الأبخرة الحوصلية المائية فثبت بموجب ما ذكر أن الجو يكون دائما مكهربا ، ومثله في ذلك الغمام ، وأنه يمكن أن كهربائية إحدى سحابتين

٣٩

قريبتين لبعضهما تكون مخالفة لكهربائية الأخرى.

(في تداخل السحاب في بعضه)

إذا كان الهواء مضطربا ولم يكن لكتلة إلا اتجاه واحد فإن السحب تنجذب بالريح وتتبع اتجاهه ولا يحصل بينها وبين بعضها ملامسة ولا معارضة ولا اختلاط أما إذا انقلب الجو برياح متعارضة فإنه يشاهد إذ ذاك شرر كهربائي واضطراب وانزعاج متى قاربت السحب لبعضها حتى تتجاذب أي يدخل كل منها في سلطنة جذب الأخرى فحينئذ يشقق البرق والسحابة العاصفة فيسمع الرعد وكثيرا ما يشاهد طبقات من السحب في اتجاهات متعارضة أو أن تلك الطبقات تأتي من السماء من مواضع مختلفة وتنضم بعد ذلك في محل واحد ومن هذا المحل تظهر العواصف وذلك عقب تأثير الغمام على بعضه بيسير.

(في الغمامة الصاعقية)

قد يشاهد أحيانا على الأفق غمامة مظلمة مسودة تبقى واقفة جزءا من النهار ، وتكون السماء في غير هذا الموضع نقية مصحية ، ثم يتجه الريح نحو تلك الغمامة الصاعقية ، وتتقدم نحو السمت حتى تصل إليه بسرعة ، وتغطي الكون ببرقيع معتم وتسير مسبوقة بالرياح والبرق والرعد ، ومتبوعة بالأمطار الوابلة والبرد بفتح الراء الذي ينتشر ويتدحرج في ممرها.

(في كهربائية الأرض ونزول الصواعق)

قد ثبت أن الارض مكهربة كالهواء ، لكن يقال : هل كهربائيتها من نوع كهربائية؟ الهواء أقول المقرر خلافه فإن علماء الهيئة ذكروا أن كهربائية الهواء في الغالب تكون زجاجية بخلاف كهربائية الأرض فإنها راتنجية ، فإذا انقطعت الموازنة بين هذين السائلين وانجذب بموجب أسباب مخصوصة في محل ما مقدار كبير من أي نوع كان من الكهربائية حصل في الموضع المقابل لذلك المحل تراكم كهربائية مخالفة في الاسم للأولى ، والغالب تولد العواصف من هذا الحادث فإذا كان في شدة قوته فإن الشرر المنقذف من الغمام جهة الأرض أو من الأرض جهة الغمام يحصل الموازنة بينهما ثانيا ، وهذا هو أصل الصاعقة الصاعدة الصاعقة النازلة التي هي مهولة مخفية بسبب ما يحدث عنها من الإتلاف والإهلاك المدهش الغريب كيف لا وهي صورة تتشكل بأشكال غريبة مخالفة لبعضها ولم تصل العلوم إلى الآن لتوضيحها ، وبعد ذهاب الرياح العاصف والصاعقة يظهر كأن الكون اكتسب قوة جديدة وتعظم قوة الحيوانات وتشتد وتزيد حيويتها ، ويحسن الإنبات ، وتصير الروائح العطرية للأزهار أقبل وألطف ،

٤٠