كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي

كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5282-4

الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

المغذية للنباتات يحصل التحام التطعيم ، فهذه المادة السائلة تخدم واسطة للانضمام بين النبات الأصلي والزر أو الفرع المطعم عليه كما أن اللينفا القابلة للتعضون في الحيوانات ترتشح بين شفتي جرح جديد فتضمها وتقربهما من بعضها ، فتى بحث في جرح تطعيم بعد العملية بنحو خمسة عشر يوما يرى بين الجزأين أي المنضمين طبقة رقيقة من منسوج خلوي تنعضون شيئا فشيئا ، وتستحيل إلى أنابيب ليفية وأوعية تخدم لإحداث الاتصال بين النبات الأصلي والزر أو الفرع المطعم عليه وهذه الطريقة المستعملة للتكاثر تتخذ منها جملة منافع في فن الزراعة :

(الأولى) : أنها تخدم لحفظه ولتكاثر الأصناف المرغوبة لجمال منظر أزهارها أو لجودة ثمارها ، وهي التي لا يمكن أن تتجدد بواسطة البذور.

(الثانية) : أنها تخدم للحصول على ثمار بسرعة من الأشجار.

(الثالثة) : أنها تخدم للحصول على عدة ثمار من أشجار لطيفة بسرعة تتكاثر بعسر بأي طريقة كانت.

(الرابعة) : أنها تنفع لانتشار أصناف الأشجار ذات الفواكه المرغوبة ، وهذه أقسام التطعيم وهي خمسة أقسام :

(القسم الأول التطعيم بالتقارب):

اعلم أنه يشاهد أحيانا في بعض الغابات أو في مطلق الغابات أو في مطلق الأشجار المتراكمة على بعضها في بستان أن بعض الأشجار تلتحم فروعها ببعضها إذا كانت من نوع واحد التحاما ذاتيا ، وما يحصل من نفسه في الطبيعة يفعل بالصناعة في فن الزراعة ، ويسمى التطعيم بالتقارب ، وكيفيته أن ينزع من الفرعين هدبان مكونان من القشرة والخشب طولهما واحد وعرضهما واحد أيضا ، ثم يقرب هذان الجرحان المتساويان من بعضهما ، ويثبتان بواسطة عصاته تغطى بطلاء مخصوص.

(الثاني التطعيم بالفروع):

التطعيم بالفروع : هو أن يقطع ساق النبات الذي يراد فعل التطعيم عليها قطعا أفقيا ، ويفعل فيه شق عمودي ، ثم يدخل في هذا الشق الفرع الذي يراد تطعيمه ، وإنما يشترط أن يكون مزينا بأزرار بعد قطع طرفه السفلى بانحراف ، ثم تجعل ملامسة تامة بين الفرع والساق ، ويشد عليهما برباط ، ثم يغطي محل الملامسة بواسطة طلاء.

١٨١

(الثالث التطعيم الإكليلي بالفروع):

التطعيم بالفروع يسمى الإكليلي ؛ لأنه يطعم فيه جملة فروع على ساق واحد على هيئة حلقة.

(الرابع التطعيم القلمي):

التطعيم القلمي حاصله أن يبرى الفرع المطعم والمطعم عليه بانحراف كبرى القلم ، ويشترط أن يكون القطعان متساويين ، ثم يوفقا على بعضهما ، ويوثق عليهما برباط ، ثم يطلى حول الجرح بالطلاء المناسب ؛ لذلك ويستعمل التطعيم بالفروع في الأشجار ذات الفواكه ، وبواسطة التطعيم يصل الزراع إلى تنويع متحصلات النباتات على نبات واحد في البساتين ، ويزينها بأزهار وثمار خلاف الأزهار والثمار الخاصة بالساق الأصلية ، بل يمكنه أن يعيد الشجرة أو الشجيرة إلى سن الشبوبية.

(الخامس التطعيم بالأزرار):

التطعيم بالأزرار حاصله أن يصنع على الساق الذي يراد فعل التطعيم عليها شقان بسن سكين ، أحدهما عمودي ، والثاني أفقي علوي مقاطع له ، ويكون الشق بكيفية أن تصل السكين إلى أول طبقة خشبية من الظاهر أي يشق جميع سمك القشرة ، ثم ينتخب الزر المراد تطعيمه ، ويفعل شق بيضاوي الشكل تقريبا بالسكين ، ثم ينزع هذا الزر بقشرته ، وتبعد شفتا الجرح الذي صنع على الساق ، وذلك يكون بواسطة يد السكين ، ثم توضع القشرة بين شفتي الجرح وبين الخشب الكاذب ، ويترك الزر بارزا إلى الخارج ، ثم ينشد برباط ، ويستعمل الطلاء ، وأكثر استعمال هذه الطريقة في الأشجار ذات الثمار الحمضية المنسوبة للفصيلة البرتقانية ، وتطعيم النباتات الحشيشية كتطعيم الأشجار ، فقس على ما تقدم والله تعالى الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.

(مسألة أخرى مهمة) :

في قوله تعالى : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢)).

وفيه مسائل :

(المسألة الأولى) :

في قوله : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) [الزّخرف : الآية ١١].

١٨٢

وفيه وجوه :

(الأول) : أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن الماء ينزل من السماء فهل الأمر كذلك ، أو يقال إنه ينزل من السحاب ، وسمي نازلا من السماء ؛ لأن كل ما سماك أي علاك فهو سماء ، وهذا البحث قد مر ذكره بالاستقصاء.

(الثاني) : قوله : (بِقَدَرٍ) [الزّخرف : الآية ١١]. أي إنما ينزل الماء بقدر ما يحتاج إليه أهل تلك البقعة من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم ، بل بقدر حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم.

(الثالث) : قوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الزّخرف : الآية ١١]. أي خالية من النبات فأحييناها وهو الإنشار ثم قال : (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزّخرف : الآية ١١]. يعني أن هذا الدليل كما يدل على قدرة الله تعالى وحكمته ، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة ووجه التشبه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي أنشرت بعد ما كانت ميتة ، وقال بعضهم : بل وجه التشبيه أنه يخرجهم من الأرض بماء كالمني كما ينبت الأرض بماء المطر ، وهذا الوجه ضعيف ؛ لأنه ليس في ظاهر اللفظ إلا إثبات الإعادة فقط دون هذه الزيادة.

(المسألة الثانية) :

في قوله تعالى : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [الزّخرف : الآية ١٢]. قال ابن عباس رضي الله عنهما : الأزواج الضروب ، والأنواع كنوع النبات مثل القسط البحري ، والقطرية والخرازية والقلقلسية والنجيلية والهليونية إلى آخر الأنواع.

وقال بعض المحققين : كل ما سوى الله تعالى فهو زوج : كالفوق والتحت ، واليمين ، واليسار والقدام والخلف ، والماضي والمستقبل ، والذوات والصفات ، والصيف والشتاء ، والربيع والخريف ، والزوجان أما الضدان فإن الذكر والأنثى كالضدين والزوجان منهما كذلك ، وإما المتشاكلان فإن كل شيء له شبيه ونظير وضد وند.

قال المنطقيون : المراد بالشيء الجنس ، وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان فمن كل جنس خلف نوعين من الجوهر مثلا المادي والمحوي ، ومن المادي النامي والحامد ومن النامي المدرك والنبات ومن المدرك الناطق والصامت ، ومن المعادن الأزواج التنافر والتجاذب في كل معدنين ، وكونها أزواجا يدل على كونها ممكنة الوجود في ذواتها محدثة مسبوقة بالعدم ، فالحق سبحانه وتعالى هو الفرد المنزه عن الضد والند ، والمقابل والمعاضد ، فلهذا

١٨٣

قال سبحانه وتعالى : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) [الزّخرف : الآية ١٢]. كلها أي كل ما هو زوج فهو مخلوق فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية.

(المسألة الثالثة) :

علماء الحساب بينوا أن الفرد فضل من الزوج من عدة وجوه :

(الأول) : إن أقل الأزواج هو الاثنان وهو لا يوجد إلا عند حصول وحدتين ، فالزوج يحتاج إلى الفرد والفرد هو الوحدة غنية عن الزوج ، والغني أفضل من المحتاج.

(الثاني) : أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين ، والفرد هو الذي لا يقبل القسمة ، وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة ومقاومة فكان الفرد أفضل من الزوج.

(الثالث) : أن العدد الفرد لا بد وأن يكون أحد قسميه زوجا والثاني فردا ، فالعدد الفرد حصل فيه الزوج والفرد معا ، وأما العدد الزوج فلا بد وأن يكون كل واحد من قسميه زوجا ، والمشتمل على القسمين أفضل من الذي لا يكون كذلك.

(الرابع) : أن الزوجية عبارة عن كون كل واحد من قسميه معادلا للقسم الآخر في الذات والصفات والمقدار ، وإذا كان كل ما حصل له من الكمال فمثله حاصل لغيره لم يكن هو كاملا على الإطلاق ، وأما الفرد فالفردية كائنة له خاصة لا لغيره ولا لمثله فكان كماله حاصلا لا لغيرة فكان أفضل.

(الخامس) : أن الزوج لا بد وأن يكون كل واحد من قسميه مشاركا كالقسم الآخر في بعض الأمور ، ومغايرا له في أمور أخرى ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فكل زوجين فيهما ممكنا الوجود لذاتهما ، وكل ممكن فهو محتاج فثبت أن الزوجية منشأ الفقر والحاجة ، وأما الفردانية فهي منشأ الاستغناء والاستقلال ؛ لأن العدد محتاج إلى كل واحد من تلك الوحدات ، وأما كل واحد من تلك الوحدات فإنه غني عن ذلك العدد فثبت أن الأزواج ممكنات ومحدثات ومخلوقات ، وأن الفرد هو القائم بذاته المستقل بنفسه الغني عن كل ما سواه فلهذا قال سبحانه : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [الزّخرف : الآية ١٢].

(السادس) : قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠)) [النّازعات : الآية ٣٠].

(اعلم) أن المواد الداخلة في تركيب الأرض كانت ابتداء على حالة بخار ، ثم صارت سائلة ، ومن هذا السائل تكونت الأجزاء التي لا تتجزأ وانضم كل جزء إلى أجزاء متكملة كتلا بسيطة ، ومن اجتماع بعض تلك العناصر مع بعضهما تكونت المركبات الأرضية.

١٨٤

(واعلم) أن علماء الهيئة بينوا : أن كل عنصر بسيط جعل الله فيه قوة سائلة تتحول إلى أزواج ، وجعل تعالى أحدهما متسلطنا على الآخر ، وأول من اطلع على ذلك أرسطاطاليس في قطعة من الكهرباء ، والآن سمى ذلك علماء الهيئة بالكهربائية ، وهو سيال في غاية اللطافة منتشر في الأجسام بمقادير مختلفة ، وتظهر في الزجاج واللك والراتينج ، وبعض الأحجار الثمينة والكبريت توجد فيها هذه الخاصية بالدلك ، وبيان ذلك بتقريب كرة صغيرة من جسم خفيف كخشب الفلين وقلب النبق معلقة بخيط من الحرير للجسم المكهرب بالدلك ، ثم ظهرت أن الكرة المذكورة إذا جذبت لجسم زجاجي تكهرب بالدلك ، ثم نفرت عنه ورأت قطعة من منّ نوعان زجاجية وراتنجية ونوعا الكهربائية من الراتنج انجذبت نحوها بقوة عظيمة وكذا عكسه ، فعرف من ذلك أن الكهربائية وإن كانا متخالفين طبيعة يوجدان في جميع الأجسام ، وإنما الحكم للمتسلطن ، ثم إن اتفق الجسمان في نوع الكهربائية تنافرا إن اختلفا فيه تجاذبا كقوله تعالى : (خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : الآية ٣٦]. وأيضا قد بينوا أن الزوجية المغناطيسية التي هي سيال لطيف لا يقبل الوزن وجود في الأجسام كوجود السيال الكهربائي ، لكنه دائما على نسق واحد ، ووجوده في بعض المعدنيات يفيدها خاصية جذب الحديد إليها وانجذابها إليه ، فيسمى ما وجدت فيه هذه الخاصية مغناطيسيا ، ثم إن من الجواهر المغناطيسية ما تكون هذه الخاصية فيه ضعيفة حتى إن ذا الحجم الكبير لا يجذب الحديد إلا قليلا ، وبعضها تكون فيه قوية فيجذب ما يكون حجمه منها بعض قراريط مكعبة مائتي رطل أو ثلاثمائة من الحديد ، ولا ينفصل عنه إلا بقوة ، وعنف وقطبا المغناطيس هما نقطتا الجذب من الجسم المغناطيسي.

وإذا عرض المغناطيس أو الجسم الممغطس لكرة من الحديد معلقة بخيط من الجسم سلس في الهواء جذب تلك الكرة إليه ، وكذا لو كان المعلق المغناطيس ، والمعرض الكرة ، وإذا قطع الجسم المغناطيسي إلى أجزاء متعددة كان كل جزء ولو دقيق مغناطيسيا مستقلا دقيقا قطبان ووسط ، فمن ذلك يعلم أنه يستحيل وجود مغناطيس له قطب واحد ، ولو علق قطعتا مغناطيس في خيط غير مفتول ، وقربتا إلى بعضهما لشوهد تباعدهما من القطبين المتماثلين وتجاذبهما من القطبين المتخالفين ، فإذا تركتا معلقتين ، وبينهما بعد اتجه كل من واحدة طرف إلى ناحية الشمال ، فإذا قرب هذان الطرفان من بعضهما تنافروا ، وإذا قرب أحدهما للطرف الثاني الذي كان متجها نحو الجنوب تجاذبا ، فمن ذلك أخذ وجه تشبيه بالسيال الكهربائي ، وعلم أن فيه قوتين مضادتين ، وتأثيرهما في جذب الحديد واحد ، ومعنى تضادهما أنهما يتعاكسان في الجذب فما تجذبه إحداهما تنفره الأخرى ، فعلم من ذلك أن جميع السوائل الكهربائية والمغناطيسية والعناصر والذوات مكونة من الأزواج ، وهي مخلوقات وممكنات

١٨٥

ومحدثات ، وجميع ما سوى الله تعالى مزدوج ومحدث فإنه الواحد الفعال لما يريد.

(مسألة أخرى) :

في قوله تعالى سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) [يس : الآية ٣٦].

وفيه مسألتان :

(المسألة الأولى) :

اعلم أن لفظ سبحان علم دال على التسبيح ، وتقديره سبح تسبيح الذي خلق الأزواج كلها ، ومعنى سبح نزه ، ووجه تعلق الآية بما قبلها أنه تعالى لما قال : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس : الآية ٣٥]. وشكر الله بالعبادة وهم تركوها ولم يقتنعوا بالترك ، بل عبدوا غيره وأتوا بالشرك ، فقال : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : الآية ٣٦]. وغيره لم يخلق شيئا ، أو نقول لما بين أنهم أنكروا الآيات ولم يشكروا بين ما ينبغي أن يكون عليه العاقل فقال : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : الآية ٣٦]. أو نقول لما بين الآيات قال : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ) [يس : الآية ٣٦]. ما ذكره أن يكون له شريك أو يكون عاجزا عن إحياء الموتى.

وقوله تعالى : (كُلَّها) [البقرة : الآية ٣١]. يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله ؛ لأن الزوج هو الصنف ، وأفعال العباد أصناف ، ولها أشباه هي واقعة تحت أجناس الأعراض ، فتكون من الكل الذي قال الله فيه : (خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : الآية ٣٦]. لا يقال مما تنبت الأرض يخرج الكلام عن العموم ؛ لأن من قال أعطيت زيدا كل ما كان لي يكون للعموم إن اقتصر عليه ، فإذا قال بعده من الثياب لا يبقى الكلام على عمومه لأنا نقول ذلك إذا كانت من البيان التخصيص ما إذا كانت لتأكد العموم فلا بدليل أن من قال : أعطيته كل شيء من الدواب والثياب والعبيد والجواري يفهم منه أنه يعدد الأصناف لتأكيد العموم ، ويؤيد هذا قوله تعالى في حم : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢)) [الزّخرف : الآية ١٢]. من غير تقييد.

(المسألة الثانية) :

ذكر الله تعالى أمور ثلاثة تنحصر فيها المخلوقات فقوله : (تُنْبِتُ الْأَرْضُ) [البقرة : الآية ٦١]. يدخل فيها ما في الأرض من الأمور الظاهرة كالنبات والثمار وقوله : (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) [يس : الآية ٣٦]. يدخل فيها الدلائل النفسية وقوله : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : الآية ٣٦]

١٨٦

يدخل فيها ما في أقطار السماوات ، وتخوم الأرضين ، وهذا دليل على أنه لم يذكر ذلك للتخصيص بدليل أن الأنعام مما خلق الله ، والمعادن لم يذكرها ، وإنما ذكر هذه الأشياء لتأكيد معنى العموم كما ذكرنا في المثال ، وقوله : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : الآية ٣٦]. فيه معنى لطيف وهو أنه تعالى إنما ذكر كون الكل مخلوقا لينزه الله عن الشرك فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخالق لكن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلا بالاعتراف بأن لا إله إلا الله فقال تعالى : اعلموا أن المانع من التشريك فيما تعلمون وما لا تعلمون ؛ لأن الخلق عام والمانع من الشركة الخلق ، فلا تشركوا بالله شيئا مما تعلمون ، فإنكم تعلمون أنه مخلوق ، ومما لا تعلمون فإن ما عند الله كله مخلوق لكونه كله ممكنا.

(مسألة أخرى) :

في قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَهاطَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)). إشارة إلى دليل آخر ، وهو ما بين السماء والأرض ، فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما ، وذلك إنزال السماء من فوق ، وإخراج النبات من تحت وفيه مسائل :

(الأولى) : هذا الاستدلال قد تقدم فما الفائدة في إعادته بقوله : (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : الآية ٩]. فنقول : قوله : (فَأَنْبَتْنا) [النّمل : الآية ٦٠]. استدلال بنفس النبات أي أن الأشجار تنمو وتزيد ، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد بأن يرجع الله تعالى إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء ، وقوله : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : الآية ٩]. فيه حذف تقديره وحب الزرع الحصيد ، وهو المحصود أي أنشأنا جنات تقطف ثمارها وأصولها باقية ، وزرعا يحصد كل سنة ويزرع في كل عام أو عامين ، ويحتمل أن يقال التقدير وتنبت الحب الحصيد ، والأول هو المختار ، وقوله تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) [ق : الآية ١٠]. إشارة إلى المختلط من جنسين ؛ لأن الجنات تقطف ثمارها وتثمر من غير زراعة في كل سنة ، وهي خنثية أعضاء التناسل ، لكن النخل يؤبر بالعمل أو الهواء ، ولو لا التأبير لم يثمر فهو جنس مختلط من الزرع والشجر ، فكأنه تعالى خلق كل سنة ويزرع ، وخلق ما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصله ، وخلق المركب من جنسين في الثمار ؛ لأن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه ، وأكثر الزرع قوت ، والثمر فاكهة وقوت ، الباسقات الطوال من النخيل ، وقوله تعالى : (باسِقاتٍ) [ق : الآية ١٠]. ليوجد (٢) كمال

__________________

(٢) قوله : ليوجد ... إلخ. كذا بالأصل ، وهو ظاهر وإن كان في العبارة ركة. اه.

١٨٧

القدرة والاختيار وذلك من حيث إنه الزرع إن قيل فيه أنه يمكن أن يقطف منه ثمرته لضعفه وضعف حجمه ، فكذلك يحتاج إلى إعادته كل سنة ، والجنات لكبرها وقتها واختلاف أجناسها تبقت وتثمر سنة بعد سنة ، فيقال : أليس النخل الباسقات أكبر وأقوى من الكرم الضعيف ، والنخل محتاجة كل سنة إلى عمل عامل ، والجنات أغلبها خنثى غير محتاجة ، فالله تعالى هو الذي قدر لذلك لا لكبر والصغر ، والطول والقصر ، وقوله تعالى : (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : الآية ١٠]. أي منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في الزهرة وسنبلة الزرع فإن الأشجار أنوارها بارزة ، وأعضاء تذكيرها متميز بعضها من بعض لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز وغيرهما ، والطلع في النخيل مزدوج يكون كل واحد منها أصلا وفيه مباحث :

(المبحث الأول في اختلافات أعضاء التناسل في الكائنات الآلية):

وضع الأعضاء التناسلية في الحيوانات والنباتات فيه اختلافات واضحة ، فالحيوانات التي لها قدرة على التحرك بإرادتها والانتقال من محل إلى آخر أعضاء تناسلها منفصلة غالبا على شخصين مختلفين ، أحدهما ذكر ، والآخر أنثى ، فالذكر حيث إنه منته بإحساس باطني في أزمان معلومة يبحث عن الأنثى فيقرب منها والنباتات بخلاف ذلك حيث إنها مجردة عن هذه الحركة ويجب أن تنمو وتتناسل وتموت في المحل الذي خلقت فيه ويوجد فيها العضوان التناسليان مجتمعتين غالبا على نبات واحد ، بل الغالب في زهرة واحدة ؛ ولذلك كانت حالة الخنوثة كثيرة الانتشار في النباتات ، ومع ذلك فبعض النباتات بمجرد التأمل فيه يظهر أنه ليس في أحوال مناسبة ، وذلك كالنباتات ذات المسكن ، وذات المسكنين ففي الحقيقة أعضاء التناسل فيها متباعدة عن بعضها ، وحينئذ ينبغي أن يتعجب هنا في الحكمة الإلهية والقدرة الربانية حيث إن جوهر الحيوانات المخصب سائل ، والعضو الذكر يلزم أن يؤثر مباشرة في العضو الأنثى لكي يمكنه أن يخصبه أي يلقحه ، فلو كان هذا الجوهر طبيعته في النباتات كما في الحيوانات كان التلقيح يحصل فيه موانع عظيمة جدا في النباتات ذا المسكن الواحد وذات المسكنين ، لكن الطلع في النباتات على هيئة مسحوق تنتقل جزئياته الخفيفة التي تكاد أن لا ترى بواسطة الهواء الجوي والرياح إلى المسافة عظيمة غالبا كما قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : الآية ٢٢]. ولننبه أيضا على أن الأزهار الذكور في النباتات ذات المسكن الواحد تكون موضوعة في أغلب الأحيان نحو الجزء العلوي للنباتات بحيث إن الطلع متى خرج من مساكن الحشفات يسقط من نفسه بثقله الخاص على الأزهار ، والإناث الموضوعة أسفله.

١٨٨

(المبحث الثاني في التلقيح عند ابتسام الزهر):

الأزهار الخنثى : هي التي تجتمع فيها جميع الشروط المناسبة للتلقيح ، والواقع أن العضوين التناسليين يوجدان مجتمعين في زهرة واحدة ، وهذه الوظيفة تبتدئ في البرهة التي تنفتح فيها مساكن الحشفة كي يخرج منها الطلع ، وهناك نباتات يحصل فيها انفتاح الحشفات والتلقيح قبل الابتسام التام للزهر ، لكن لا تحصل هذه الظاهرة في أغلب النباتات إلا بعد أن تنفتح الغلافات الزهرية وتبتسم الأزهار ، وفي بعض أزهار خنثى يتراءى أن طول أعضاء التذكير أو قصرها بالنسبة لعضو التأنيث مانع للتلقيح ، لكن قد شوهد أن أعضاء التذكير إذا كانت أطول من عضو التأنيث تكون الأزهار قائمة ، وتكون منكسة إذا كانت أعضاء التذكير أقصر من أعضاء التأنيث كما في الداتورا ، ومن المعلوم أن مثل هذا الوضع يكون مناسبا جدا لحصول التلقيح ، وإذا كانت أعضاء التذكير طولها كطول عضو التأنيث تكون الأزهار على حد سواء قائمة كانت أو مدلاة.

(المبحث الثالث في الظواهر السابقة للتلقيح):

يحصل التلقيح في النباتات في زمن التزهر غالبا أي متى وصلت الأجزاء التي تركب منها الزهر إلى نموها التام فتبتسم الغلافات الزهرية ، وتظهر الأعضاء التناسلية ، فيرى أن الحشفات التي كانت مغلقة إلى الوقت المذكور تنفتح مساكنها ، فينفصل منها الطلع لكي يسقط الفوهة المهبلية أو على الأجزاء الأخر للزهر أيضا ، وهذه الحالة هي الأغلبية ، وحينئذ يبتدئ حصول التلقيح ، ومع ذلك فهناك بعض نباتات يحصل فيها التلقيح قبل الابتسام التام للزهر أي متى كان الغلاف الزهري لم يزل يغطي الأعضاء التناسلية ، ومن هذا القبيل جملة نباتات من الفصيلة المركبة ونحوها ، فمتى ابتسم الزهر في هذه النباتات تكون الحشفات منفتحة ، وجزء منها فارغا ، والتلقيح تام وفي الوقت الذي يحصل فيه التلقيح كثيرا ما تشاهد في الأعضاء التناسلية تغيرات محسوسة تسبق هذه الوظيفة ، أو أن هذه الأعضاء تفعل حركات مختلفة الوضوح ، ولنذكرها في بعض النباتات التي تكون فيها أوضح فنقول : أعضاء التذكير الثمانية أو العشرة التي توجد في أزهار السذاب تنعطف نحو الفوهة بعد أن كانت موضوعة وضعا أفقيا أو لا وتضع عليها جزء من طلعها ، ثم تنعطف بعد ذلك إلى الخارج واحد بعد الآخر ، وأعضاء التذكير الكائنة في زهر النبات المسمى أسبارمانيا ، كذا أعضاء تذكير الأمير باريس متى هيجت بسن إبرة تنضم إلى بعضها وتتقارب وتميل نحو عضو التأنيث ، وتحصل هذه الحركة أيضا بتأثير أسباب مختلفة ؛ لأنه يرى في أغلب الأحيان أن أعضاء التذكير منعطفة بجانب عضو

١٨٩

التأنيث ، وفي جملة أجناس من الفصيلة الأبخرية أي في حشيشة الزجاج وشجرة التوت الورقية تكون أعضاء التذكير منعطفة نحو مركز الزهر أسفل الفوهة المهبلية.

وفي وقت معلوم تنتصب بمرونة فتقذف طلعها على عضو التأنيث ، وفي جنس الكالميا تكون أعضاء التذكير العشرة موضوعة وضعا أفقيا في قاع الزهر ، وحشفاتها تكون مشمولة في حفر صغيرة تشاهد في قاعة التويج ، ولأجل حصول التلقيح ينحني كل منها على نفسه انحناء لطيفا فيقصر طول خيط ؛ وينتهي بأن يخلص حشفته من الحفرة الصغيرة الشاملة له فينعطف حينئذ فوق عضو التأنيث ويلقي طلعه عليه وأعضاء التأنيث في بعض النباتات تكون متمتعة أيضا بحركات متعلقة بقابلية تهيج حاصلة مدة التلقيح ، فحشفة السنبل وجملة نباتات أخرى من الفصيلة الزنبقية تنفتح وتكون أكثر رطوبة في الزمن المذكور ، وكذا خيوط أعضاء التأنيث ، والفوهات المهبلية تفعل في بعض النباتات حركات أيضا لكي تتجه نحو أعضاء التذكير ، وهذا ما يشاهد في بعض أنواع التين الشوكي وفي نبات الشوينز المعروف بحبة البركة وبالحبة السوداء ، فخيوط أعضاء التأنيث أو فروع الخيوط المتقاربة من بعضها تتباعد أولا وتنعطف نحو أعضاء التذكير ، وتنتصب ثانيا متى ألقت الحشفات طلعها عليها.

والصفيحتان المكونتان لفوهة النبات المسمى ميولولس من الفصيلة الشخصية تتقاربان وتنضمان ببعضهما كلما لامستهما كتلة صغيرة من طلع أو جسم غريب ، وفي النبات المسمى ليخنوليتا : وهو نبات صغير لطيف تكون الفوهة المهبلية على شكل إناء حافته مزينة بوبر طويل ، وفي الوقت الذي تنفتح فيه الحشفات يسقط جزء من الطلع في الفوهة التي هي مقعرة ، وحينئذ يرى أن الوبر المذكور يتقارب من بعضه بحيث إنه يسد مدخلها ، والفوهة نفسها تتقلص فكأن ذلك لأجل معانقة الحبوب التناسلية والإحاطة بها ، وعدة نباتات مائية كالبشنين والويلارسيا أي البشنين الصغير ، والبشنين : وهو اللينوفر وبرسيم الماء وغير ذلك أزرارها الزهرية تكون مختفية أولا تحت الماء ، ثم يرى أنها تأخذ في القرب من سطحه شيئا فشيئا فتظهر عليه وتبتسم ، ومتى حصل التلقيح تنزل ثانيا تحت الماء لكي تنضج فيه بزرها ، وذكرنا ذلك في بحث السجود.

(المبحث الرابع في الظواهر الرئيسة للتلقيح):

الظواهر الرئيسة للتلقيح : هي التي تكون الوظيفة هذه حقيقة ، ويمكن أن يميز فيها ثلاثة مدد : (المدة الأولى) : مدة التغيرات التي تحصل في حبوب الطلع التناسلية في الوقت الذي تكون فيه ملامسة للفوهة المهبلية. (والمدة الثانية) : مدة انتقال المادة اللقاحية أو سيرها من

١٩٠

الفوهة إلى البيضات الصغيرة ، (والمدة الثالثة) : مدة تأثير المادة اللقاحية على البيضات الصغيرة أي أصول البزور ، ولنبين الظواهر التي تنسب إلى هذه المدد الثلاث على التعاقب فنقول : متى ابتسمت الأزهار فالحشفات التي هي الأجزاء الرئيسة لأعضاء التذكير تنفتح بكيفيات مختلفة على حسب الأنواع وتوزع الطلع أي المسحوق المخصب على الفوهة التي هي أحد الأجزاء الرئيسة لعضو التأنيث ، وفي الزمن المذكور تكون الفتحة المهبلية مغطاة بجوهر لزج يضبط الطلع عليها ، ويمنعه من أن يتطاير بالهواء ، وحيث إنها عبارة عن حويصلات صغيرة تسترخي بملامستها لهذا السائل اللزج فحينئذ كل حبة من الحبوب الموضوعة على فتحة الأوعية التي توصل من الفتحة إلى المبيض تتمدد نحو نقطة ملامستها بالأوعية فتستطيل على هيئة أنبوبة تدخل في أحد هذه الأوعية ، ويتمزق طرفها السفلي ، فيخرج منه سائل لقاحي ينتقل إلى المبايض لكي يلقحها.

(المبحث الخامس) :

في النتائج التي تثبت التلقيح في النباتات وفيه أمور :

(الأول) : إذا تزهرت شجرة ذكر وشجرة أنثى من ذات المسكنين يقرب بعضهما ببعض كالتوت مثلا يحصل التلقيح على ما ينبغي ، وذلك لأن طلع الشجرة الذكر ينتقل بالهواء على الفوهة المهبلية للشجرة الأنثى ، فإذا كانت الشجرتان بعيدتين عن بعضهما قليلا فالمسافة الكائنة بينهما حيث إنها تصير مانعة من ذلك يصير التلقيح أقل كمالا ، وتصير جملة من المبايض عقيمة ، وإذا كانت الشجرتان بعيدتين عن بعضهما بعدا عظيما يصير التلقيح مفقودا ما لم يجعل تعالى اتجاه الريح مستقيما من أعضاء الذكور إلى الإناث ، أو تنقل الحشرات التي تطير من زهرة إلى أخرى لكي تأخذ منها غذاءها حبوب الطلع الذي يلتصق بأرجلها وجسمها من الأزهار الذكور إلى الأزهار الإناث.

(الثاني) : أن التلقيح الصناعي يثبت هذه الظاهرة أيضا ، فقد شوهد تخيل إناث في بلدة كانت تزهر جملة سنين بدون أن يؤخذ منه ثمر مطلقا فأخذ من بلدة أخرى من نخيل ذكر من نوعها قد ابتسمت أزهاره وعلقت على أزهار الشجرة الأنثى فأعطت ثمارا.

(الثالث) : أن شجرة تفاح كانت أزهارها لا تحمل إلا أعضاء تأنيث بسبب تلهوج أعضاء التذكير منها على الدوام. وفي كل سنة تؤخذ أزهار محتوية على أعضاء تذكير من الأشجار المجاورة لها ، ويوزع الطلع على أعضاء التأنيث ، فالأزهار التي ينزل عليها شيء من هذا الطلع تستحيل إلى ثمار ، والأخرى تبقى عقيمة.

١٩١

(الرابع) : أن تكون الأزهار الممتلئة تعين أيضا بالكلية إثبات تأثير التذكير على أعضاء التأنيث ؛ لأنه من المشاهد أن الأزهار الممتلئة بالكلية كأزهار الكرز والخوخ الممتلئة ، وهي التي أعضاء تذكيرها وأعضاء تأنيثها استحالت بالكلية إلى وريقات تويجية لا تعطى ثمارا أصلا.

(الخامس) : إن تأثير الرطوبة يثبت النتائج التي ذكرناها أيضا فإذا حصلت أمطار غزيرة أو ضباب مستطيل المدة فإن الأزهار التي تبتسم تكون عقيمة غالبا ، وهذا ناشئ عن كون الطلع الملامس للرطوبة يتمزق ويتفجر قبل أن ينقذف على الفوهة المهبلية أو أنه يذوب بمياه الأمطار.

(السادس) : أن الدليل الذي لا شك فيه على وجود عضوي تناسل ، وعلى حصول تلقيح ، هو تكون النباتات البقلية فقد يتفق أحيانا أن بزورا مأخوذة من نباتات وموضوعة في الأرض تتولد منها نباتات تتباعد بأوصافها عن النبات الذي أخذت منه هذه البزور كثيرا أو قليلا ، وهذا يكون ناشئا في الغالب عن كون هذا النبات تلقح بنوع آخر بجواره ؛ ولذا يشاهد دائما أن أوصاف النبات الذي يتولد من هذه البزور تقرب من أوصاف النبات الأصلي ، ومن أوصاف النبات الذي استعمل طلعه للتلقيح ، وهذه النباتات تسمى بالبغلية تشبيها لها بالبغل الذي يتكون من اجتماع الحمار بأنثى الخيل ، والأتان بالحصان ومع ذلك نوع بآخر لا يمكن أن يحصل إلا بين نباتات كثيرة القرب من بعضها بأوصافها فلا يمكن أن يتلقح الرمان بالخوخ ، ولا التفاح بالبرتقال ، ولا لسان العصفور بالجوز ، وإنما يتلقح البرتقال بالليمون ، وبجميع الأنواع المشابهة للجنس الليموني كما قال تعالى : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) [الأنعام : الآية ٩٩].

(المبحث السادس) :

في الظواهر التابعة للتلقيح ، بعد حصول التلقيح بزمن يسير ترى جملة تغيرات تبين الحيوية الجديدة التي تحصل في بعض أجزاء الزهر مع ذبول الأجزاء الأخرى فالزهر الذي كان لطيف المنظر إلى زمن التلقيح ، ومزينا بالألوان البهية غالبا يفقد لونه الطيف الذي لا يدوم فيذبل التويج ، وتجف وريقاته ، وتسقط أعضاء التذكير حيث إنها قد تمت الوظائف التي خلقها الله تعالى من أجلها تذبل وتسقط وبعد زمن يسير يبقى عضو التأنيث بمفرده في مركز الزهر ، وحيث إن الفوهة والخيط صارا غير نافعين للنبات يسقطان أيضا.

والمبيض بمفرده يبقى ؛ لأن الله تعالى وضع في باطنه الجنين لكي ينمو فيه ، والمبيض

١٩٢

هو الذي يكون الثمر بنموه ، وليس من النادر أن تبقى الكأس مع العضو فتصاحبه إلى نضجه التام ، وهذه الحالة تحصل خصوصا إذا كانت ذات قطفة واحدة ، فإذا كان المبيض سفليا تبقى الكأس خالدة بالضرورة ، حيث إنها ملتصقة التصاقا شديدا ، وفي نباتات حب الكاكنج تبقى الكأس خالدة أيضا بعد التلقيح ، وتتلون باللون الأحمر فتكون غلافا مثانيا يوجد في باطنه الثمر.

وفي أنواع النرجس وشجر التفاح والكمثرى وجميع النباتات ذات المبيض السفلي تكون الكأس الخالدة الغلاف الظاهري للثمر ، وبعد حصول التلقيح بزمن يسير يتبدئ المبيض في النمو فالبيضات الصفيرة التي يحتوي عليها وهي التي تكون في الابتداء ذات جوهر خلوي وغير عضوية تكتسب قواما شيئا فشيئا ، والجزء الذي يلزم أن يكون البذرة التامة أي الجنين ينمو على التعاقب ، وجميع أعضائه التي هي الجذير والسويق والريشة والجسم الفلقي تتضح ، وبعد زمن يسير يكتسب المبيض الأوصاف الخاصة بالثمر.

(مسألة أخرى) :

في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٩٩].

(اعلم) أن هذه الآيات الشريفة كلها دلائل دالة على كمال القدرة لله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه.

(واعلم أيضا) أن هذه الدلائل كما أنها دلائل ، فهي أيضا نعم بالغة ، وإحسانات كاملة ، والكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه ، وكان إنعاما وإحسانا من سائر الوجوه كان تأثيره في القلب عظيما ، وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة وفي هذه الآية مسائل :

(المسألة الأولى) :

ظاهر قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [الأنعام : الآية ٩٩]. أن الماء وهو المطر نازل من السماء ، ولا يبعد ذلك حيث إن قدرة الخالق جل جلاله فوق ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد من السماء كل ما علا ، فالسحاب على هذا يسمى سماء ، فقوله أنزل من السماء أي من السحاب ، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان ، وليس هذا بعيدا عن الصواب ، وقد تقدم الكلام على ذلك لكن أعدناه اهتماما به.

١٩٣

(المسألة الثانية) :

في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٩٩].

وفيه مباحث:

(المبحث الأول) :

إن ظاهر قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٩٩]. يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء ، وذلك يوجب القول بالطبع والمتكلمون ينكرونه ، وقد بالغنا في تحقيق قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) [البقرة : الآية ٢٢].

(المبحث الثاني) :

قال الفراء : قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٩٩]. ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات ، وليس الأمر كذلك ، فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات ، فإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلا فيه.

(المبحث الثالث) :

قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ) [الأنعام : الآية ٩٩]. بعد قوله : (أُنْزِلَ) [البقرة : الآية ٤]. يسمى التفاتا ، ويعد ذلك من الفصاحة.

(واعلم) أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة ، وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب.

(المبحث الرابع) :

قوله : (فَأَخْرَجْنا) [الأنعام : الآية ٩٩]. صيغة جمع والله واحد فرد لا شريك له إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه فإنما يكنى بصيغة الجمع ، فكذلك هاهنا ، ونظيره قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [يوسف : الآية ٢]. (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [نوح : الآية ١]. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر : الآية ٩].

أما قوله : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) [الأنعام : الآية ٩٩]. فقال الزجاج : معنى خضرا كمعنى أخضر يقال خضر ، فهو أخضر وخضر ، مثل عور فهو أعور وعور ، وقال الليث : في

١٩٤

الكتاب إنه هو الزرع ، وفي الكلام كل نبات سمن الخضر ، وأقول : إنه تعالى حصر النبات في الآية حيث قال : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام : الآية ٩٥]. فالذي ينبت من الحب هو الزرع والذي ينبت من النوى هو الشجر ، إذا علمت هذا فلنبين لك كيفية تكون الخضر في زمنين منفصلا فنقول :

(اعلم) أنا إذا أخذنا حبة من اللوبيا ووضعناها في الأرض ، وتتبعناها في جميع أزمان نموها ، فترى أولا أن جميع كتلة هذه البزرة تتشرب الرطوبة وتنتفخ ويتمزق الغلاف البزري بدون انتظام ، وبعد زمن يسير يتبدئ الجذير الذي كان على هيئة حلمة صغيرة مخروطية بأن يستطيل وينعرس في الأرض وتتولد عنه تفرعات صغيرة جانبية دقيقة جدا وبعد ذلك بزمن يسير ترتفع الريشة التي كانت مختفية بين الفلقتين ، وتظهر إلى الخارج ، ويستطيل السويق ويرتفع خارج الأرض كلما غاص الجذير فيها ويتفرع ، وحينئذ تتباعد الفلقتان ، وتصير الريشة خالصة بالكلية ومكشوفة ، والوريقات الصغيرة المكونة لها تنبسط وتنمو وتصير خضرة اللون ، وتبتدئ بأن تأخذ من الهواء جزءا من الأصول التي تستعمل لنمو النبات الصغير ، فينتهي من الإنبات الأول الذي هو شبيه بزمن الرضاعة في الحيوانات كما قال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) [الأنعام : الآية ٩٩].

(الزمن الثاني) : إذا تأمل عاقل في الأعضاء النباتية التي تكلمنا عليها يتعجب من صنع الباري عزوجل ، وذلك أنه يشاهد الجذور ذات الألياف الشعرية التي تمتص السائلات الكائنة في الأرض بقوة عجيبة ، وتنقل السائل المغذي إلى أوعية النبات وكذلك إلى السوق والفروع القائمة في وسط الهواء المعد لتغذيه ، ثم الأوراق التي هي أعضاء تنفس وتحلب وإفراز يمتص بها النبات الهواء ويخرج الأبخرة التي ليست نافعة لغذائه ، وكذلك الأوعية المختلفة الأشكال التي يدور فيها السائل المغذي ، وكذلك المسا القشرية والخلايا ، وجميع هذه الحبة التي تحصل بها الوظائف النباتية ، وكل هذه الأعضاء ليس لها إلا غاية واحدة هي تغذية الزهر ، والمشاهدة تثبت لنا أن الجذور والسوق والأزرار والفروع لا توجد إلا لتكون الزهر.

والزهر لا يوجد إلا لتكون الثمر ، والثمر لم يخلق إلا لتغذية البزور لتكون الثمر والتويج والكأس ، وهو الذي يكون متلونا بألوان لطيفة خضر ، فأنبأنا تعالى بقوله : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) [الأنعام : الآية ٩٩]. فالزمن الأول (٣) الذي هو زمن الإنبات بمنزلة الحضانة ، وزمن تكون الحلمة والريشة زمن الفطامة ، وزمن كمال الإنبات يسمى بزمن

__________________

(٣) قوله : فالزمن الأول ... إلخ. كذا بالأصل وحرر. اه.

١٩٥

العظامة ، وقوله : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) [الأنعام : الآية ٩٩]. يعني نخرج من ذلك الخضر حبا متراكبا بعضه فوق بعض في سنبلة واحدة ، وذلك لأن الأصل هو ذلك الكأس الأخضر ، وتكون الثمرة متكونة داخله ، ولما ذكر ينبت من الثمر أي الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى ، وهو القسم الثاني فقال : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) [الأنعام : الآية ٩٩]. وهاهنا مباحث :

(الأول) : أنه تعالى قد ذكر الزرع على ذكر النخل ، وهذا يدل على أن الزرع أفضل من النخل ، وهذا المبحث قد أفرد الجاحظ فيه تصنيفا مطولا :

(المبحث الثاني) :

روى الواحدي عن أبي عبيدة أنه قال : أطلعت النخل إذا أخرجت طلعها ، وطلعها كيزانها من ذكر وأنثى قبل أن يشق عن الأغريض ، والأغريض يسمى طلعا أيضا قال : والطلع أول ما يرى من عذق النخلة الوحدة طلعة.

وأما قنوان فقال الزجاج : القنوان جميع قنو مثل صنوان وصنو ، وإذا ثنيت القنو قلت قنوان بكسر النون ، فجاء هذا الجمع على لفظ الاثنين. والإعراب في النون للجمع إذا عرفت تفسير اللفظ ، فنقول : قوله : (قِنْوانٌ دانِيَةٌ) [الأنعام : الآية ٩٩]. قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يليها ، وروي عنه أيضا أنه قال قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض. قال الزجاج : ولم يقل. ومنها قنوان بعيدة ؛ لأن ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كما قال : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النّحل : الآية ٨١]. ولم يقل والبرد ؛ لأن ذكر أحد الضدين يدل على الثاني فكذا هنا ، قيل أيضا ذكر الدانية القريبة وترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكثر.

(المبحث الثالث) :

قال «صاحب الكشاف» : قنوان رفع بالابتداء ، ومن النخل خبره ، ومن طلعها يدل منه كأنه قيل وحاصله من طلع النخل قنوان ، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه تقديره (ومخرجة من طلع النخل قنوان) ومن قرأ (يخرج منه حب متراكب) كان قنوان عنده معطوفا على قوله حب ، وقرئ (قنوان) بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع كركب ؛ لأن فعلان ليس من زيادة التكسير ، ثم قال تعالى : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) [الأنعام : الآية ٩٩]. وفيه أبحاث :

١٩٦

(البحث الأول) :

قرأ عاصم جنات بضم التاء ، وهي قراءة علي ـ رضي الله عنه ـ والباقون جنات بكسر التاء أما القراءة الأولى فلها وجهان :

(الأول) : أن يراد وثم جنات من أعناب أي مع النخل.

(والثاني) : أن يعطف على قنوان على معنى وحاصلة أو مخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب ، وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله : (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٩٩]. والتقدير وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) [الأنعام : الآية ٩٩]. قال صاحب الكشاف : والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص كقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النّساء : الآية ١٦٢]. لفضل هذين الصنفين.

(البحث الثاني) :

قال الفراء قوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) [الأنعام : الآية ٩٩]. يريد شجر الزيتون وشجر الرمان كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : الآية ٨٢]. يريد أهلها.

(البحث الثالث) :

اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وإنما قدم الزرع على الشجر ؛ لأن الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه ؛ لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ؛ ولأن الحكماء قد بينوا منافع ما في النخل من الأغذية والأدوية والمنفعة وقد تقدم كيفية ما في النخل من المنفعة ، والآن نذكر باقي فصيلته فنقول :

(الأول) : من النخيل الفوفل قال صاحب كتاب «ما لا يسع الطبيب جهله» : هو ثمر بقدر جوزة يوافي طعمه شيء من حرارة وبرودة شديد القبض.

وقال في منهاج البيان : هو ثمرة قوتها قريبة من قوة الصندل ، وشجرتها نخلة مثل نخلة النارجيل. انته ، واسم فوفل معرب عن الكوبل الهندي فجنسه عند النباتيين أريكا من الفصيلة النخلية ، والذي يسمونه في هذه الفصيلة بالكوز : هو مجموع أزهار مختلفة النوع محوية قبل نموها في غلاف ثنائي الصف ، فالذكور موضوعة في قمة الكوز ، والإناث في أسفله ، وكل من تلك الأزهار له كأس ذو ستة أقسام مصفوفة صفين ، فالباطن يسمى تويجا ويوجد في الأزهار المذكرة تسعة ذكور وفي الأزهار المؤنثة مبيض يعلوه ثلاثة فروج ، وفيما

١٩٧

بعد يصير ثمرا نوويا محاطا من قاعدته بالكأس المستدام ، ومحتويا في الباطن على غلاف سميك يكون أولا لحميا ، ثم يصير جافا خيطيا ، وعلى لوزة محفورة من قاعدتها بتجويف صغير يسكن فيه جنين وحيد الفلقة ، والأوراق جناحية كبيرة ، وتتولد الكيزان من بين القواعد العريضة لذنيبات الأوراق.

والنوع الشهير لهذا الجنس هو الذي ذكرناه ، وهو شجر ينبت بالهند وسيما جزيرة ملوك كجزيرة السيلان أيضا ويعلو نحو أربعين قدما ، بل أكثر ، وقطره قدم وأوراقه طويلة نحو خمسة عشر قدما ، ووريقاته متقاربة منثنية مروحية الشكل ، والوريقات العليا مقطوعة متمزقة من القمة ، ونواته تستعمل في الهند كثيرا ، وتدخل مع أوراق البيتل الذي هو نوع من الفلفل ، ومع الكلس في تركيب المضغة وبراعيم قمة هذا النخل تؤكل كالبقول كما يحصل ذلك في كثير من الأنواع الأخر من هذه الفصيلة حيث يسمى ذلك بالجمار ، وتؤكل أيضا ثماره التي في حجم البيضة ، ولونها أصفر برتقالي ولكن الأكثر استعمالا هو اللوزة التي هي في حجم جوزة الطيب ، وتختلف بالبياض والحمرة مع حرافة فيها.

وتسمى جوز الفلفل وتقطع شققا من أوراق البيتل فيكون ذلك مضغة في الهند تمضغها الأهالي ، وإن كانت توسخ الأسنان ، وتخرم أحيانا انتظام المعدة إذا أفرط منها ، وتزعم الأهالي أن هذه المضغة تساعد على الهضم ، وتحفظ القوى التي ضعفت من العرق المفرط وحرارة المنطقة المحرقة ، وتصير اللعاب أحمر ، وتحمر الأجزاء الباطنة من الفم ، ويتسبب عنها في المرات الأول نوع سكر ، ونوى هذه الثمار هو أيضا البندق الهندي خلافا لما نقله كثير من الأطباء ، ويسمى أيضا عند الهنديين أفيلين ، كما يسمى أيضا شوفول ، وذلك النوى مخروطي صلب محاط بألياف أو وبر ، وهي بقايا نفس الثمار المجففة التي كانت صفراء ، وتخلط مع جواهر أخر تنبت هناك ليتركب منها نوع معجون مائع يستعمل منه نصف كوب يكرر مرتين في اليوم لمعالجة الإمساك الذي يحصل لبعض الأشخاص المصابين بعسر الهضم ، وثمار الفوفل قابضة جدا ، ويوجد فيها حمض عفصي ومقدار كبير من المادة العفصية ، وصمغ ودهن طيار وأملاح وغير ذلك.

وذكر المتقدمون أن الفوفل عموما يطيب النكهة ويقوي اللثة والأسنان مضغا ، وينفع من أمراض الفم المزمنة ، ويقع في الطيوب ومع العفص ينفع من الترهل ، ويقع في الإكحال لشد الحقن وقطع الدمعة ، والبندق الهندي (٤) هي كبندقة صغيرة غير صحيحة الاستدارة ، ولونها

__________________

(٤) قوله : والبندق الهندي ... إلخ. كذا بالأصل وليحرر. اه.

١٩٨

أخضر داكن ، ولون ما هو في الداخل أبيض مائل للصفرة ، والقشرة رقيقة مصقولة ، وإذا عتق الثمر تخشخش الحب داخله عند التحريك ، وقالوا : إنه لحرارته ويبوسته يوافق المعدة الباردة ، ويعين على الهضم ، وإذا طلي به على الأعضاء الرخوة شدها وقواها أي مع ماء الورد أو مع ضماد ، وإذا سقي من قشر الثمر مثقال بماء الحاج أي العقول نفع من لسع الرتيلا والعقرب بجميع أصنافه ، وكذا إذا حك وطلي به موضع اللسعة أو اللدغة ، وينفع أيضا من حمى الربع واستطلاق البطن من الرطوبة والهيضة ، ويسعط منه بقدر فلفلة فيبرئ الشقيقة والصداع والسدر والدوار والصرع وريح الخشب ، وهي التي تذهب بالشم ، والقشر الملتصق بحبه الذي في جوفه يبخر به لريح الصبيان والجنون ويطلى به على الخنازير بخل فيبرئها ، ويسقى منه قدر حمصة أياما فينتفع للريح في الظهر والخاصرة ، ويحل القولنج ويخلط عصيره أو جرمه أو ماء طبيخه بالإثمد ، ويكتحل به فيزيل الحول وعصارته أقوى وهو جيد للفالج شربا وسعوطا.

وقيل : إنه جيد في تقوية الإنعاظ ، فإن أدمنه ضعيف الذكر أياما أبرأه ، ومن الغريب ما نقله ابن البيطار عن اندراس جماع العقاقير أن من هذه الثمرة صنفا فارغا أي لا لب له ولا نوى فيه خفيفا ، وعلى قشره شكل خطوط سود في شكل صليب ، فإذا قطعها إنسان من شجرتها عرض له صرع من ساعته فلا يفيق ما دامت في يده فإذا سقطت من يده ، أو نزعت منه أفاق وإلا خشي عليه الموت ؛ ولذا يحذر أهل تلك البلاد من أخذ شيء من هذا الثمر. انتهي.

(الثاني النارجيل):

هو : جنس من النخيل يقال له قوقوس أي نارجيل ، ويسمى النوع المقصود لنا بالترجمة بهذا الاسم أي نارجيل وبالجوز الهندي ، وجوز الهند هو نبات من سكن بين المدارين ، وهو من أشجار الكون لنفع جميع أجزائه في احتياجاته للناس إذ بدونه لا تسكن جزائر الأوقيانوس الكبير الهادي ، ولا توجد مساكن في المتسع الكبير الاستوائي ، ولو لم يكن لماتوا جوعا وعريا ؛ فلذلك يسمى هذا النبات بملك النبات ؛ إذ منه يخرج نبيذ وكؤل وخل وزيت وسكر ولوز ولبن وقشطة وحبال وأوان وثياب وزنابيل وخشب ، وهو شجر كالنخل من غير فرق إلا أن وجه الجريد فيه إلى أسفل.

ويقال إنه إذا قطع لم يمت ، ويزرع ثمر لا قضبا وزمن غرسه نزول الشمس في الجوزاء ، ويثمر بعد سبع سنين ، وتبقى شجرته نحو مائة سنة ، ويدرك ثمره إذا نزلت الشمس الميزان ، وجذور هذا النبات قليلة التعمق في الأرض متقاربة الفروع الكثيرة ، وطعمها أولا حريف ، ثم

١٩٩

تصير قابضة تستعمل في الهند في الدوسنطاريا المزمنة والإسهالات مسحوقة مع مسحوقة الأنيسون مدة سبعة أيام ، وذكروا أن الجذع قد يعلو مائة وستين قدما إذا كان قرب البحر ، وينقص علوه كلما بعد عنه ، وتتكون منه غابات جميلة المنظر في جزائر بولينسيا والاقيانوس ، وتنفع جذوعها في العمارات والأثاثات وغير ذلك ، وتحتوي أغصانها الصغيرة في باطنها على نخاع مأكول سكري مقبول الذوق.

وإذا كمل تكون السوق كان خشبها الذي من الخارج قليل الخن لكن شديد الصلابة مكونا من ألياف مستطيلة بطول الجذع ، ويصنع من تلك الأشجار حبال للسفن ، لكنها أقل متانة من نخل التمر ، وأوراق النارجيل تطول من خمسة عشر ، قدما إلى ثمانية عشر وهي مركبة من وريقات متينة خضر سهلة الانثناء يصنع منها ما يصنع من خوص النخل وكل ورقة محاطة من أول منشئها بنوع شبكة حيطية هي الليف تستعمل مرشحا ومنخلا ، وتصنع منها ملبوسات ، وتسقط كل سنة مع الورقة ، ويبقى منها أثر على الجذع ، ويستعمل في بلاد الهند منسوجها القطني لإيقاف دم لدغ العلق الزر الذي ينتهي به الجذع طري لطيف المأكل يسمى أيضا بالجمار ، وهو ألطف من جمار النخل ولكنه مثله فيما إذا قطع ماتت الشجرة ، ويظهر أنه لا يخرج من الجذع إلا قليل نبيذ ، وينال من ثمره لبن أحسن من ذلك ، ويقال : إن عصارته النباتية تركز في بعض الأماكن فتنال منها مادة سكرية مسودة تربى مربيات.

وأزهار النارجيل كثيرة بيض أو صفر قد تؤخذ وتدق فينال منها سائل مائي يكون مشروبا لذيذا يتحول إلى خل قوي ، وإذا انفتحت كانت صدرية ، وقليل منها يتحول ثمارا وإلا كانت الثمار عديمة الحصر ، والجزء المهم من النبات هو الثمر ، وهو النارجيل الحقيقي ، وحجمه كبير ولونه مسود وشكله قريب لتثليث ، والشجرة يوجد فيها جملة أقناء كل قنو فيه نحو ثلاثين نارجيلة ، ويخرج النارجيل في غلف ليفية خارجة يجهز منه بعد الدق والهرس نوع مشاق لقلفطة السفن ، وقد تعمل منه أقمشة غليظة وملبوسات وغير ذلك ، ثم في داخل هذه الغلف غلاف خشبي صلب ، وهو قشرة الجوزة تستعمل بمنزلة الأواني ، وتعمل منها أكواب وصحون تطلى بالأطلية وتزخرف ، ويقطر هذا الغلاف الخشبي فينال منه دهن شياطي يستعمل في الهند لوجع الأسنان ، وفحم خملي قطيفي يستعمل في صناعة التصوير ، ثم في داخل تلك الجوزة وهي إذا كانت طرية كانت مملوءة بمادة مائية دهنية بيضاء مسكرة ، وكذا إذا ارتقى إلى الشجرة.

وقد أطلع الطلع قبل أن ينشق فيقطع طرف طلعة من طلعها ويلقم كوزا ويعلق بالعرجون فيقطر فيه من الطلعة إلى آخر النهار الرطلان والثلاثة والخمسة بحيث يسمع حس القطر من هو

٢٠٠