كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ١

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي

كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5282-4

الصفحات: ٥٠٣
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

حمدا وشكرا لمن أبدع الكائنات الآلية ، ووقر في نفوسنا من المعارف ما يخلصنا من الآفات الظلمانية والشهوانية ، وركز في عقولنا من نور اليقين ما نستخرج به ما أودع في مواد الكائنات من أسرار المولدات التي هي : الحيوانان ، والمعدن ، والنبات ، حيث اخترع لها على مثال سابق صور موجوداتها وأتقن نظامها بكمياتها وكيفياتها ونوع أجناس أمزجتها على حسب التركيب والاختصاص ، وزين جواهرها بالأعراض ومجموع ذلك بالخواص ، وجعل عناصرهم محلا تتوارد عليه أحكام الكون من الصحة والفساد ، فحصل من اختلاف تلك العناصر وامتزاجاتها أنواع المواليد على حسب القابلية والاستعداد ، وأبرز من أعدل تراكيبها مزاج الإنسان الذي أتقن تكوينه وتصويره ، وأبدع خلقه وأحسن تدبيره ، وأرشده لحسن النظر في ارتباط مؤثرات تلك المواد بها ، حتى تيقن أن ذلك من ارتباط المسببات بأسبابها ، فكان ذلك عند الإنسان أدل دليل على وحدانية مخترعها ، كما أن موافقة جزئياتها لكلياتها أعظم شاهد على تعلق علمه وإرادته بها ، وصلاة وسلاما على المختار من أشرف العناصر القدسية ، والمرشد إلى مناهج الحق وطرق الرشاد المرضية ، والشافي وجوده لنا من الداء العضال ، والكاشف عنا نوره ظلم الطغيان والضلال ، وعلى آله وأصحابه الذين انتصبوا لإرشاد الأمة فكانوا سببا لفوزهم بالنجاح ، وأبرؤوا بلطيف علاجهم علل الأجساد والأرواح ، وأدركوا بسليم نظرهم خفايا آلام النفس وأعراضها ، فوصلوا بصفاء أفكارهم إلى تخليصها من أمراضها ، وعلى أهله وأشياعه وأنصاره ما تواردت أسباب العلل والأدواء على الأجسام ، واحتيج لمعالجاتها بالأدوية الشافية المبرئة من الأسقام ، «وبعد» :

فيقول المتوكل على الواحد الأحد الصمداني محمد بن أحمد الإسكندراني : إن أحق الناس بالفضل من سعى في تحصيل العلوم بهمة أمضى من السيوف البواتر ، وأيقظ لتدوينها في ظلم الليالي أجفانه والنواظر ، حتى عد في زمرة العلماء الأنجاب ، واستكشف مخدراتها سافرة النقاب ، كيف لا والمعارف ممالك ، يستولى عليها ملاكها ، والعلوم بروج تدور عليها أفلاكها ، ولا سيما علم التفسير الذي به يرد التوحيد على الإنسان ، وهو موضوع لمعرفة الحكمة والأديان ، وشرف العلوم بشرف موضوعاتها ووثاقة بنيانها بجدوى غاياتها ، فما كان موضوعه أشرف ، كان أعظم غاية وأرفع مكانة وأكثر عناية ، فموضوع علم التفسير كلام الله تعالى الذي يتوصل به إلى معرفة الأجرام السماوية والأرضية والمولدات الثلاثة والتوحيد والأحكام الشرعية ، وغايته معرفة جميع الأحكام المستنبطة من الآيات الشريفة القرآنية ،

٣

فمنفعته عامة لعموم الاحتياج إليه ، وفائدته مطلوبة لترتب بقاء الأحكام عليه ، فلذلك كانت معرفته من أقرب الوسائل إلى الاعتراف بالخالق ذي الصفات العلية ، ولا شكّ أن لهذه الأجرام المشار إليها والآثار مؤثرا وهو الإله الموجد للعقول والنفوس والأجسام الفلكية والعنصرية.

(وكنت) منذ زالت عني تمائم الطفولية ، ونيطت بي عمائم الرجولية ممن شغف بتعلم الطب ليالي وأياما وانهمك في دراسته على قدر الطاقة سنين وأعواما ، فنيطت بي خدمة العساكر البحرية في ثغر الإسكندرية المحمية ، وذلك إلى غاية سنة ست وخمسين ، ثم حدثت قواطع بين الدولة العلية والخديوية المصرية ، وكنت إذ ذاك ببر الشام ، فتشرفت بخدمة العساكر السلطانية نصرها رب البرية بجاه خير البرية إلى غاية ثمان وخمسين ، ثم أقمت بدمشق الشام معتنيا بمداواة أهلها الأماثل الأعلام إلى أن اجتمعت في محل حافل سنة تسعين ومائتين وألف ببعض الأطباء المسيحيين ، فشرعوا يتحادثون في كيفية تكون الأحجار الفحمية وفي أنها هل أشير إليها في التوراة والإنجيل أم لا؟ فبعد الأسئلة والأجوبة والقيل والقال وإجراء البحث والجدال حكموا وعولوا على أنه لا يوجد لها ذكر فيهما أصلا ، لا صريحا ولا إشارة تؤخذ منهما وتفهم فهما ، ثم خصصوا بي المقال ووجهوا إلي السؤال بأنه هل أشير إليها في القرآن الشريف ، أم صرح بذكرها في ذلك الكتاب المنيف؟ وإن لم يشر إليها فيه بشيء فكيف قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٣٨]. وإن أشير إليها فيه ، ففي أي موضع أشير إليها ، وفي أي سورة نص عليها؟ فتصدرت حينئذ للجواب ، وتلطفت في التفهيم والخطاب قدر طاقتي ووسعها ؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وتتبعت كلام كثير من العلماء ، وتصفحت ألوفا من مسائل الفصحاء البلغاء ، وتفردت في طلبه من كتب التفسير والطب القاصية ، ووقفت على كلام كثير من العلماء بهمة عالية مع زيادة الاجتهاد والجد والحرص والتعب والكد ، واجتنيت ولله الحمد من رياضها ثمار أشجار الأقلام ، واستخرجت من بحار سطورها فرائد فوائد المفسرين الأعلام ، وازدادت همتي من بعد وقوفي على حقيقة تكون الحجر المشار إليه ، فبينت كيفية تكون الحيوانات والنباتات والأجرام السماوية والأرضية والجواهر المعدنية ، مقتصرا غالبا على القول المعتمد عليه ، وأبرزت ذلك في ثلاثة أبواب كأنها بساتين أزهار أو حدائق معارف تفجرت منها الأنهار ، وأرجو من الله الكريم المنان ذي الفضل والجود والإحسان أن تتلقاها الناس بالقبول ، وإن عدت في نفسها بالنسبة لتفسير الأفاضل من الفضول ، وكنت مع ذلك منوطا بخدمة العلماء الأعلام ؛ لكي أكتسب حل الأمور الصعاب ؛ لتدركها العقول والأفهام ، فحينئذ ركبت جياد الشوق قبل مطايا السوق ، وتشاورت مع أرباب المعارف وأهل الإشارات ، فانحط الرأي على أن من اللازم لما قصدته من بيان كيفية التكونات التي ذكرتها ـ تأليف كتاب يشتمل على شرح الآيات القرآنية

٤

المتعلقة بذلك شرحا يكشف معناها وحقيقتها ، فاستنهضت جواد الفكر كرّا أو فرّا ، وغصت في ميادين تفسير الآيات مؤملا ظفرا ونصرا ، وشجعني على ذلك صدق النية فيما هممت وخلوص الطوية فيما عزمت ، فجمعت من كتب التفسير والطب ما تفرق ، ومن شتات المسائل ما تمزق ، وسلكت في هذا المختصر جزالة الألفاظ مع تمام المعاني ؛ لتسهيل ما أودعت فيه حسب طاقتي ما كان جيد الإفادة ، واضح المباني ، ومع ذلك أقول بلا انكسار وخشوع وتواضع وتذلل وخضوع : إن أفهامي جادة ، وقرائحي هامدة خامدة ، وأذهاني كليلة ؛ وبضاعتي مزجاة قليلة ، وأخشى أني مع جهلي لم أوفه حقه في التهذيب ، ولم أعطه استحقاقه في حسن الترتيب ؛ إذ الكلام لا بد أن يتعانق لفظه ومعناه ظهرا وبطنا ، وتتوافق عباراته بعضها مع بعض سبكا ومبنى ، وبدون هذا يختل نظمه ؛ ويعتل إدراكه وفهمه ؛ وتحنط منزلته ورتبته ؛ وتسقط من الفصاحة والبلاغة درجته ؛ فلذا يلزم لتهذيبه بحر ذهن صافي ومعدن علم بكفالة نظم جواهر عقوده واف ، ومن لي بذلك ، وأنى يتيسر سلوك تلك المسالك ، لكن لما كان الشروع في ذلك طبق أمر القلب لازما ، وإتمام تحصيل ما طلب مني محتما ، تلقيت ذلك الأمر كرها بالقبول ، وسعيت في تحصيل ذلك المأمول ، وأولجت نفسي في وعوره أقع وأقوم ، وفي أعماق بحوره أغطس وأعوم ، حتى أنقذتني الهمة الربانية العلية والنجدة الإلهية السنية ، وألهمتني المقصود والمطلب ، واهتديت على جل المأمول والمرغوب في قول عالم السر والنجوى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥) [الأعلى : الآيات ١ ـ ٥] فحينئذ بذلت في ذلك جميع القوى والحيل ، ولازمت الاشتغال فيه طرفي النهار وزلفا من الليل وساعدتني على ذلك القدرة الرحمانية ، وشملتني تلك العناية الربانية ، واطمأنت لذلك طويتي ، وعلمت أن ذلك من صدق نيتي ، وتيمنت بعناية من شملني إحسانه ، وعمني إنعامه وامتنانه ؛ إذ هو الوسيلة إلينا في كل خير ورد من الله تعالى علينا ، صلّى الله عليه وعلى آله الكرام وأصحابه أولي الفضل والاحترام آمين.

«وسميت هذا الكتاب ب «كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية» ، وأرجو أن يتهلل عليه بدر النجاح ، ويغرد عليه طير القبول الفلاح على أني لا أقول : إني صغته في قالب الكمال ، أو نسجته على أحسن منوال ؛ لعلمي بأن ميدان الأفكار لا تسلم فيه الجياد من العثار ؛ فالأمل ممن اطلع عليه ؛ أو رمق من طرفه إليه سلوك سبيل الإنصاف وترك التحامل والاعتساف ، وأن لا يبادر بالانتقاد إلا بعد التماس انسداد ، مع أن الجواد قد يكبو ، والصارم قد ينبو ، والإنسان محل النسيان ، فلا أبرئ نفسي من الزلل ، ولا أنزهها عن الخطأ والخلل ، وإنما أقول : ما كان من

٥

صواب فهو من الله واصل إلي ، وما كان من خطأ فاللوم قينا علي. والرجاء من ذوي المعالي والهمم إذا رمقوا خطأ مارقه القلم أن يسبلوا ذيل الإغضاء عليه ، وينظروا بعين الرضا إليه ، ويقبلوا عذره ويقيلوا له العثرة ، ويدفعوا خلله ، ويحققوا لمؤلفه أمله ، نسأل الله تعالى حسن الإصابة والتوفيق والهداية لأقوم سبيل وطريق ، وأن يغفر زلاتنا ويستر عوراتنا ، وينفع به كاتبه ومطالعه وقارئه وسامعه ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وسببا للفوز بجنات النعيم ، بجاه سيدنا محمد وصحبه وآله والسالكين على نهجه ومنواله.

«ورتبته» على مقدمة في الأحجار الفحمية ، وثلاثة أبواب في الحيوانات والنباتات والأجرام الأرضية والسماوية ، وكل باب منها مشتمل على مسائل ومباحث وخاتمة.

٦

المقدمة في «الأحجار الفحمية وما يتعلق بذلك»

في بيان قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠) [يس : الآية ٨٠]. اعلم أن النار من جملة المنافع العظيمة المحتاج إليها جميع العباد ، وهي ناشئة من الصمغية والشمعية المودعتين في الشجر ، والجعل هنا بمعنى الخلق ، أي خلق لكم ولمنفعتكم من الشجر الأخضر نارا ، ولا معارضة (١) في جعله من ذلك نار ، فالذي قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها ، قدر سبحانه وتعالى على خلق الصمغ والشمع في الشجر كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (٧١) [الواقعة : الآية ٧١]. أي تقدحون (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٧٢) [الواقعة : الآية ٧٢]. وفي تفسير شجرة النار وجهان : (أحدهما) : أن الشجر التي تصلح لإيقاد النار هي الحطب ، فإنها لو لم تكن لم يسهل علينا إيقاد النار ولم يتيسر. (وثانيهما) : أصول شعلها الساري بها المتولد بخلقه تعالى منها ، ينتشر بها لأجل تغذيها ، ويحيله تعالى بقدرته إلى سوائل دهنية ، فلو لم يجعلها تعالى ذات شعل ، لما صلحت لإنضاج الأشياء ، فمن قدر على إحداث هذه الدهنية التي هي أصل الشعل قدر على إحداث النار في الشجر ؛ لأنه على كل شيء قدير ، ولا شك عند كل عاقل أنه تعالى هو المخرج للأشجار والنباتات كما قال تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥) [الأعلى : ٤ ، ٥]. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : المرعى هو الكلأ الأخضر ، والغثاء من النبات ما حملته المياه وسيرته مع الزبد بقدرته تعالى ، ورسب وانطم في الكدرات ، وقوله تعالى : (أَحْوى). أي أسود ، أي اكتسب بعد الزمن الذي انطم فيه سواد انتشر به مكتسبا من الأرض ، فإن قيل : هل يعلم قدر المدة التي يصير فيها الغثاء أحوى ؛ أي أسود؟ قتلت : لا يعلم ذلك ؛ ولا يعلم أيضا أزمان تكون طبقات الأرض إلا الله تعالى كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) [الأعلى : ٢ ، ٣].

وفيه أسئلة : (الأول) : هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات ، منفرد سبحانه وتعالى بعلم جميع المعلومات ، خلق ما أراد على وفق ما أحب وأراد ، موصوفا بالإحكام والإتقان والكمال والعرفان ، مبرأ عن العبث والاختلال وعن العلة والاعتلال.

(الثاني) : قرأ الجمهور (قَدَّرَ) [الأعلى : الآية ٣] مشددة ، وقرأ الكسائي على التخفيف ، أما قراءة التشديد ، فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم ، وأما التخفيف فقال

__________________

(١) قوله : ولا معارضة ... إلخ. تأمل هذه العبارة فإنها لا تكاد تظهر. اه.

٧

القفال : ملك فهدى. وتأويله أنه خلق فسوى وملك ما خلق ، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد ، وهذا هو الملك ، فهاداه لمنافعه ومصالحه ، ومنهم من قال : هما لغتان بمعنى واحد ، وعليه قوله تعالى : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (٢٣) [المرسلات : الآية ٢٣].

(الثالث) : أن قوله تعالى : (قَدَّرَ) [الأعلى : الآية ٣]. يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها ، كل واحد على حسبة ، فقدر السماوات والأرض والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم ، وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ، ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقدارا معلوما كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١) [الحجر : الآية ٢١]. وتفصيل هذه الآية الشريفة بخصوصها مما لا يفي شرحه مجلدات ؛ لأنه داخل فيها جميع الأشياء ، حتى العوالم كلها من أعلى عليين إلى أسفل السافلين داخلة في تفسير هذه الآية ، ولنرجع إلى تتمة تفسير الآية السابقة فنقول : أما قوله : (فَهَدَى) [البقرة : الآية ٢١٣]. فالمراد أن كل مزاج فهو مستعد لقوة خاصة ، وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين ، فالتسوية المفهومة من قوله : (فَسَوَّى) [الأعلى : الآية ٢]. والتقدير المفهوم من قوله : (قُدِرَ) [الطّلاق : الآية ٧]. قبل قوله : (فَهَدَى) [البقرة : الآية ٢١٣]. عبارة عن التصريف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص ؛ لأجل أن تستعد لقبول تلك ، وقوله : (فَهَدَى) [البقرة : الآية ٢١٣]. عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأجزاء الأعضاء والأجرام ، بحيث تكون كل قوة مصدرا لفعل معين ، فيحصل من مجموعهما تمام المصلحة.

ولنشرع الآن في ذكر ما قرره الجيولوجيون ، أي العلماء الذين بحثوا في الكتلة الأرضية ، وشاهدوا طبقات الأرض ، وعاينوا حقائقها وحقائق الأحجار الفحمية التي قصدنا بيانها ، كما أشرنا إلى ذلك في الخطبة فنقول :

«بيان الأحجار الفحمية»

وفيه مباحث :

(الأول) : اعلم أنه يتكون على سطح الأراضي الغازية يوميا في تجاويف منها وفي الأودية ذات الانحدار القليل ، وفي الأماكن المنخفضة ذات المستنقعات رسوبات من نباتات متى تحللت تحصل منها جسم قابل للاحتراق ، ولا تتكون هذه الرسوبات إلا في أحوال مخصوصة ، فلا تتكون في المياه الجارية ولا في البرك العميقة ولا في المحال التي يجف

٨

ماؤها في بعض الأحيان ، وإنما تتكون في المحال التي تبقى فيها المياه الراكدة على الدوام ، وفي عمق قليل الغور ، وهذا الجسم يسمى عندهم ب «التورب» ، وتكونه ينشأ خصوصا عن تراكم النباتات الخلوية المغمورة في الماء على الدوام ، وهي تتكاثر بسرعة كأنواع النباتات المائية ، فهي التي تتكون منها العجينة الأصلية للرسوب ، أي المادة التي تحيط بجميع النباتات المائية ، وربما ساعدتها في تحللها ، ويضاف إليها عدة نباتات أرضية جذبتها مياه الأنهار ، وكثيرا ما توجد أشجار كبيرة مندفعة في غور مختلف منها وخصوصا نحو جزئها السفلي ، فتوجد متراكمة على الرمل والطفل اللذين يتكون منهما الرسوب ، وأحيانا تكون هذه الأشجار موضوعة وضعا عموديا ، والغالب أنها تتكسر في مكانها بقرب جذورها المثبتة في قاع ذلك المكان الذي تكون فيه «التورب» ، وأحيانا تكون هذه الأشجار كثيرة العدد ملقاة في تجاه واحد فكأنها تنشأ عن غابات تامة اندفنت في المكان الذي كانت ثابتة فيه قبل تكون «التورب» وهي تنتسب إلى نباتات عصرنا هذا ، وهي أشجار راتنجية وأنواع من البلوط ، وقد تكون من أنواع لسان العصفور ، فالأشجار الراتنجية باقية على حالتها الطبيعية تقريبا ؛ لأنها حافظة لصلابتها ، لكن لما جفت واستحالت إلى غبار ، اسودت ، ويوجد في الفجوات التي يتولد فيها «التورب» بقايا حيوانات ثديية ، وهي عظام البقر وقرون الإيل ونحو ذلك ، والفجوات التي يتولد فيها ، «التورب» تركز على أنواع مختلفة من الأراضي ، وأحيانا تركز على المتبلور ، وفي جميع الأحوال يندر أن لا تكون مبتدئة برسوبات من رمل أو طفل أو بزلط ، ومن المواد التوربية ما تكون فيها بقايا النباتات المتراكمة على بعضها كتلة واحدة مختلفة الثخن ، أكثر اسودادا واندماجا نحو جزئها السفلى ، ومنها ما يكون على شكل طبقات منفصلة عن بعضها برسوبات مختلفة الثخن مكونة من الرسوبات المتوالية التي غطتها ، وهذه الرسوبات مكونة من رمل ومارن حجري جيري أو طفلي ، وتحتوي على كثير من قواقع المياه العذبة والقواقع الأرضية التي جذبتها مياه الأنهر ، وكثيرا ما يكون سطح «التورب» مغطى بالمياه ، وقد يكون مغطى أيضا بأرض تنبت فيها نباتات مختلفة تناسبها الرطوبة ، وقد قدمنا أن «التورب» لا يتكون إلا تحت المياه القليلة الغور ، لكن هناك رسوبات من «التورب» ثخنية جدا فالظاهر أنها تكونت في أحوال مخصوصة ، فالأماكن التي توجد فيها هذه الرسوبات ، حصل فيها على غلبة الظن متتابع في أثناء تكونها والذى يدل على ذلك طبقات الأرض النباتية التي في «التورب» والأشجار المقلاة في قاع المواد التوربية ، فكأنها غابات وقعت في محلها ، فهذه أحوال يعرض فيها جفاف الأرض زمنا ، ثم انغمارها بالمياه زمنا آخر ، وهكذا ، والمواد التوربية كثيرة الانتشار على سطح الأرض فتكون متوزعة أخواصا مختلفة الاتساع في جميع الارتفاعات شاغلة لتجاويف الأرض المختلفة ، فيوجد منها على قمم جبال

٩

كما في جبال الألب ، وعلى الأسطحة الجبلية المرتفعة كما في مركز فرنسا ونحوها ، ويوجد منها مقدار عظيم في السهول المنخفضة ، حتى أنها تغطي اتساعا كبيرا منه كما في بروسيا والهولانده ، وكما أن غالب «التورب» تكوّن من النباتات النهرية ، تكون بعضه أيضا في مستنقعات كانت تتصل بالبخار فهناك رسوبات توربية مكونة من أنواع الأشنة والنباتات البحرية ، كما في الشواطئ الرملية من البحر المحيط ، وأحيانا يحصل على الجبال رسوب عارض من أوراق النباتات وبقايا مختلفة تتراكم في قيعان الأودية الرطبة ، فيتولد منها (تورب) غير جيد لا يمكن استعماله للاحتراق.

المبحث الثاني في «الحجر الفحمي»

لا شك أن الرسوبات الفحمية التي توجد في باطن الأرض تكونت من نباتات تراكمت على بعضها كالتورب ، ودليل ذلك البقايا التي تكشف فيه وفي التورب بالمنظار المعظم ، وكذا السوق والأوراق العديدة التي توجد في المواد الطينية التي تصاحبه ، وقد اتفقت آراء الجيولوجيون على هذه المسألة غير أنهم لم يتفقوا على كيفية التراكم فبعضهم قال : إن الرسوبات الفحمية ناشئة عن اندفان نباتات كبيرة الحجم حملتها مياه الأنهار أو تيارات البحار التي كانت موجودة قديما في بعض الأماكن ، وقال بعضهم : إن أغلب هذه الرسوبات تكون في حفر بركية من أرض مكشوفة ، وكانت مياه الترع تحمل إليها أيضا بقايا النباتات المجاورة لها ، والقول الأول مردود ؛ لأن النباتات الكبيرة الحجم التي حملتها تقتضي أن تكون ذات سمك عظيم ؛ لتكون طبقات ثخينة جدا من الفحم كالطبقات التي توجد في بعض البلاد ، أي أن طبقات الفحم التي ثخنها ذراع وثلث أو ثلاثة أو أربعون ذراعا تستدعي طبقة من الخشب ثخنها نحو أربعين ذراعا أو خمسة وسبعين أو مائة وعشرين ذراعا ، وهذا لا يجوزه العقل ، فإن هذه الطبقات لا تطفو على سطح الأنهار ولا على سطح أغلب البحار والقول الثاني لا صعوبة فيه فلا يستدعي إلا ما يلزم من الزمن لتراكم المواد العضوية التي تكون منها الفحم الحجري ، والظاهر أن الزمن المذكور كان طويلا جدا ، قال بعضهم : في شأن مقدر الكربون الذي يتكون سنويا في الغابات القديمة الباقية إلى عصرنا : أنه لا يتكون منه في كل قرن إلا طبقة واحدة فحمية ثخنها واحد ونصف من مائة ، لكن لما كان الجوّ في الزمن القديم قبل تكوّن الحيوانات مشحونا بأبخرة كان منه نبات قوي جدّا ، وكان يتصاعد من باطن الأرض كثير من حمض الكربونيك ، فكانت النباتات تثبت الكربون في باطنها بسرعة ، وعلى كل فليست رسوبات الفحم الحجري وحدها هي التي يستدعي تكونها زمنا طويلا ، بل جميع الرسوبات كذلك ، فالرسوبات الحجرية الجيرية القوقعية التي اكتسبت ثخنا عظيما جدّا استدعى تكونها

١٠

قرونا عديدة ، ورأى من يشبه الرسوبات الفحمية ب «التورب» يعضد ببقايا النباتات الخفية الظهر الخلوية العديدة التي تكشف بالمنظار المعظم في الفحم الحجري وفي «التورب» ويعضد أيضا بالأشجار المنغرسة بجذورها في الأرض ، وبأوراقها المحفوظة في الشست الفحمي ، وبوجودها في أحواض مختلفة الاتساع منفصلة عن بعضها ، فهذه الأحوال كلها تدل على أماكن ذات مستنقعات متكونة في حفر أرض مكشوفة ، وبها يرفض القول بأن الأشجار حملتها مياه الأنهار أو مياه البحار.

«المبحث الثالث»

وفيه أمور :

الأمر الأول : في مدة تكون الأرض :

اعلم أن الأرض قد كانت مسطحة ولا جبال بها ، وكانت مغمورة بالمياه ، وهذه الأرض يوجد فيها بعض أنواع من النباتات ، وأشكال النباتات الخاصة بالمدة المذكورة كانت تخالف أشكال النباتات المنسوبة إلى زماننا هذا ، فكانت من فصيلة الأشنة وفصيلة الكبريت النباتي ، وهي نباتات بسيطة التركيب خفية الزهر ، لكنها كانت في ابتداء الخلقة أكبر حجما وأكثر عددا ، وهذه النباتات تكونت منها الأرض الفحمية ، وهذا الجوهر القابل للاحتراق متحصل من النباتات التي كانت في الزمن القديم قبل تكون الحيوانات ، فلما اندفنت تحت سمك عظيم من الأرض بسبب تكوّن الجبال ، بقيت إلى زماننا هذا بعد أن تنوّعت طبيعتها وهيئتها ، ولما فقدت بعض عناصرها ، استحالت إلى فحم مشرب بمواد قارية وقطرانية هي متحصل التحليل البطيء الذي حصل في الموادّ النباتية ، فعلم أن الفحم الحجري الذي يستعمل في المطابخ والتنانير والآلات البخارية ونحو ذلك ويستحضر منه غاز «الاستصباح» ليس إلا مادة النباتات التي تتكون منها الغابات ، وكانت تنبت في المستنقعات في قديم الزمن ، والوصف الرئيسي للمدّة الفحمية هو عظم نحو النباتات التي كانت تغطي الكرة الأرضية بتمامها ؛ لأن الجو كان ذا حرارة قوية ورطوبة كثيرة ، فالأجناس التي تنسب إليها نباتات المدة الفحمية لا تعيش الآن إلا في البلاد الحارة ، وهذه النباتات الحفرية نموها العظيم يدل على أن الجو كان متشعبا بالرطوبة ، وكانت درجة الحرارة واحدة في جميع العروض ، فكان نمو النباتات التي تكوّن منها الفحم الحجري واحد في جميع نقط الأرض ، وحيث علم بالمشاهدة أن الأنواع النباتية التي فنيت كانت درجة نموها واحدة وأنها كانت في دائرة الاستواء ، وفي الدائرة القطبية ، يستنتج أن درجة الحرارة كانت واحدة في جميع الجهات في الزمن المذكور الذي هو الثالث

١١

من تكون الأرض ، وأنه لم يكن إلا قطر واحد في الكرة بتمامها ، والوصف العجيب الذي يوجد في نباتات الزمن المذكور هو نموها الخارق للعادة ، فأنواع «السرخس» التي لا يتكوّن منها في عصرنا هذا إلا نبات حشيشية خالدة في البلاد الباردة ، كان يتكون منها أشجارا أعظم ارتفاعا من أشجار «التنوب» ومثل ذلك يقال في أنواع الكبريت النباتي التي ارتفاعها ذراع واحد في زماننا هذا ، وكان ارتفاعها في الزمن القديم اثنين وثلاثين ذراعا إلى أربعين ، وكان قطرها ذراعا ونصفا ، وهذه الأشجار المرتفعة هي التي تكونت منها الغابات المتسعة في المدة الفحمية ، وكانت تغطي الأرض بتمامها من قطب إلى آخر. ولأجل بيان المدة الفحمية ينبغي تقسيمها إلى مدتين :

(الأولى) : مدة الحجر الجيري الفحمي التي تولدت فيها رسوبات بحرية مهمة.

(والثانية) : المدة الفحمية ، فقد حصل تكون الفحم الجيري في هاتين المدتين ، وخصوصا المدة الثانية ، وأما مدة الحجر الجيري الفحمي فاعلم أن النباتات التي كانت تغطي الجزائر كانت من أنواع «السرخس» أو «ذيل الفرس» أو الكبريت النباتي أو نباتات ذات فلقتين تشبه نباتات الفصيلة المخروطية ، فالأنواع ذات الأوراق الحلقية ، والأنواع ذات الختوم تنسب إلى فصائل نبتت وانقطع نسلها وكانت من ذات الفلقتين ، والنباتات العظيمة الارتفاع من أنواع القصب الفارسي كانت كثيرة في هذه المدة ، وكان طول كل من هذه الأشجار من ثلاثة عشر ذراعا إلى خمسة عشر ، وجذوعها عقدية ، وهي تنمو بواسطة ساق أرضية يخرج منها أزرارا أرضية جديدة ، والمدة الفحمية تتصف بكثرة النبات العجيب الذي كان يغطي الأرض ، وكانت النباتات إذ ذاك متشابهة في النمو ، ونبات الزمن الفحمي كان يخالف نبات زماننا هذا بالكلية ، ومن الأحوال الجوية والأرضية بالزمن الفحمي تعرف الصفات التى بها يتميز هذا النبات الأصلي ، فالأمطار المستمرة والحرارة الشديدة والضوء الخفيف المستور بضباب مستمر كان يتولد عنها نبات مخصوص لا يمكن الحصول على ما يشبه في عصرنا هذا ، ومع ذلك إذا أريد تصور نبات ذلك الزمن ، ينبغي التأمل في بعض جزائر من البحر الهادئ أو شاطئه كجزيرة «شبلوية» التي يسقط فيها المطر مدة ثلاثمائة يوم من السنة ، والشمس فيها مستورة بضباب مستمر ، فنبات هذه الجزيرة يتصور منه على وجه التقريب النبات الذي غطى الكرة الأرضية في المدة الفحمية ، فأنواع من «السرخس الشجري» يتكون منها في هذه الجزيرة غابات تنمو في ظلها أنواع «السرخس» حشيشية ترتفع إلى ذراع فوق أرض ذات مستنقعات ، وينبت تحتها أنواع كثيرة من نباتات صغيرة خفية فهيئة هذه النباتات كنباتات هذه المدة الفحمية ، وكانت هذه النباتات قليلة الأجناس كما قلنا ، لكن الفصائل القليلة كانت تحتوي

١٢

على أنواع كثيرة ، فأنواع «السرخس الحفرية» من الأرض الفحمية بأوروبا مائتان وخمسون نوعا مع أن أنواع «السرخس» التي تنبت بأوروبا الآن لا يصل عددها إلا إلى خمسين نوعا ، والنباتات ذات الفلقتين ذات البذور العريانة كان عددها أكثر من مائة وعشرين نوعا ، والأنواع التي تعيش منها الآن خمسة وعشرون نوعا.

المبحث الرابع : في «كيفية تكون الفحم الحجري»

قد قلنا : إن الفحم الحجري ليس إلا نتيجة تحلل جزئي في النباتات التي كانت في الأرض مدة طويلة ، وقد أجمع علماء الفن على هذا الرأي ، فكثيرا ما يشاهد في معادن الفحم الحجري بقايا هذه النباتات التي بجذوعها وأوراقها تتميز الأرض الفحمية ، وقد وجدوا مرارا جذوع أشجار كبيرة في طبقات الفحم الحجري ، ويحتمل أن وجود الفحم الحجري في باطن الأرض ناشئ عن اندفاع نباتات آتية من بعد حملتها الأنهار أو البحار فكانت طافية على سطحها كروامس كبيرة جدّا ، ثم وقفت في أماكن مختلفة ، ثم نفطت بأراضي ، أو أن النباتات التي تكون منها خلقت ونمت في أماكنها ، فلم تنقل بواسطة المياه ، فنشوؤه تحلل كتلة من نبات خلقت ثم ماتت في الأماكن التي نجدها فيها الآن ، والاحتمال الأول بعيد ؛ إذ عليه يلزم أن تكون النباتات التي حملتها المياه كانت ذات سمك عظيم حتى تكون منها طبقات ثخينة من الفحم كما ذكرنا ذلك فيما تقدّم ، وأما الاحتمال الثاني فقريب من العقل ؛ إذ لا يلزم عليه إلا الزمن الضروري لتراكم المواد العضوية التي تكون منها الفحم الحجري ، فإن توازي طبقات الأراضي الفحمية وحفظ انطباعات الأجزاء الدقيقة فيها يدل على أن هذه الطبقات تكونت مع الهدء التام ، فينتج من ذلك أن الفحم الحجري إنما نشأ من تحلل النباتات في أماكنها ، أي في المحال التي نمت فيها هذه النباتات.

(واعلم) أن القشرة الأرضية لم يتكون عنها في مدة الفحم الحجري إلا غلاف رقيق مرن مرتكز على كتلة سائلة أسفله ، وكانت مضطربة بحركتي الارتفاع والهبوط المتعاقبتين الحاصلتين في الكتلة السائلة الباطنية التي كانت منقادة إلى الجذب القمري والشمسي كما هو الشأن في بحارنا الآتية ، فكان ينشأ عنهما هبوطهما هبوطا عظيما في مدد مختلفة البعد عن بعضها ، والظاهر أن المياه غمرت الغابات والكتل العظيمة من نباتات الزمن الفحمي لما هبطت الأرض ، ثم نبتت غابات أخرى فوقها ، ثم غمرتها المياه عند هبوط الأرض أيضا فبتعاقب هذه الظاهرة المزدوجة ـ أي انغمار النباتات بالمياه ، ونمو غابات جديدة في مكان عينه ـ تراكمت كتل النباتات العظيمة التي تكوّن عنها الفحم الحجري ، وكان حصول ذلك في

١٣

قرون كثيرة عديدة ، فإن قيل : ما الاستحالات التي حصلت في نباتات الزمن القديم حتى تحولت إلى كتلة فحمية مشحونة بالقار؟ قلنا : إن النباتات التي غمرتها المياه كانت كتلتها خفيفة إسفنجية تشبه «التورب» الذي يتكون الآن في المستنقعات ، فلما مكثت في المياه حصل فيما تعفن جزئي وتخمر لا يمكن الإفصاح عنه بأكثر من أن يقال : إن التحلل الذي حصل في نباتات الزمن القديم كان مصحوبا بتكون غازات معدنية سائلة المتشرب به الفحم الحجري ، ومنشأ الزيوت القطرانية المتشربة بها أنواع الشيت القاري ، وقد استمر انتشار تلك الغازات بعد اندفان طبقات «التورب» تحت الأراضي التي غطتها ، وقد اكتسب الفحم الحجري الكثافة العظيمة المميزة له ، وحالة الانضمام بثقل هذه الأراضي وضغطها له وكذلك الحرارة المتصاعدة من جوف الأراضي كان لها تأثير عظيم في ذلك ، وينبغي أن تنسب الاختلافات التي في طبقات الفحم الحجري إلى هذين السببين ، أعني الضغط والتسخين الواقع من تأثير الحرارة المركزية ؛ ولذا كانت الطبقات السفلى أكثر جفافا واندماجا من الطبقات العليا ؛ لأن الحرارة التي أثرت فيها كانت أكثر ارتفاعا ، وكان الضغط الواقع عليها أقوى ، وقد اتضح من التجربة المتكررة مرارا كيفية تكون الفحم الحجري ، وحصل النجاح في تكون فحم حجري مندمج جدّا بتأثير الحرارة والضغط على الخشب وعلى مواد نباتية أخرى ، وكان الجهاز الذي استعمل في هذه التجربة يتأتى معه تعريض مواد نباتية محالة بالطين المندى بالماء ، ومضغوطة إلى حرارة مرتفعة ، واستمر تأثيرها زمنا طويلا ، ولم يكن هذا الجهاز مغلقا ، لكن يمنع تصاعد الغازات والأبخرة ، بحيث إن تحلل المواد النباتية كان يحصل في وسط مشحون بالرطوبة بتأثير ضغط يمنع انفصال العناصر التي تكونت منها ، فلما وضعت نشارة أخشاب ذات طبيعة مختلفة في هذا الجهاز ، تكونت منها متحصلات تشبه الفحم الحجري اللامع تارة ، والفحم الحجري المعتم تارة أخرى ، وهذه الاختلافات ناشئة عن اختلاف صنوف الخشب التي عرضت للتجربة ، وبها يعلل اختلاف أنواع الفحم ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وقد آن لنا الشروع في تمام المقصود بعون الله تعالى الملك المعبود فنقول :

١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الأول : في كيفية تكون الحيوانات وما يتعلق بذلك

اعلم أن هذا الباب من أعظم وأعجب الآيات الدالة على وجود الصانع القادر الحكيم الباهر ، فعلى العاقل أن يتأمل فيما ذكرنا فيه ،

فألق نحو ما أقول السمعا

واجمع حواشي الكلمات جمعا

 «المقالة الأولى»

في بيان قوله تعالى عزوجل :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (٢٠) [الرّوم : الآية ٢٠]

وفيه مسائل :

المسألة الأولى :

كيفية خلق آدم وبيان خلقنا منه وهي أن الله تعالى خلق آدم من تراب ، وخلقنا منه ، فكيف قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الرّوم : الآية ٢٠]. فنقول : الجواب عنه من وجهين : (أحدهما) : ما قيل : إن المراد من قوله : (خَلَقَكُمْ) [البقرة : الآية ٢١]. أنه خلق أصلكم. (الثاني) : إن كل بشر مخلوق من تراب ، أما آدم فظاهر وأما نحن فلأنا خلقنا من نطفة ، والنطفة متولدة من الدم بواسطة الأنثيين ، والدم متكون من المادة اللبنية ، أي اللينفاوية الناشئة عن «الكيلوس» المتكون من «الكيموس» الناتج عن تناول الأغذية في المعدة ، والأغذية من التراب والماء.

المسألة الثانية : في خلق آدم من ماء ومن ماء مهين ومن تراب وكيفية الجمع بينهما المسألة الثانية : فإن قيل : قال تعالى في موضع آخر : (خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) [الفرقان : الآية ٥٤]. وقال في موضع آخر : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢٠) [المرسلات : الآية ٢٠]. وهاهنا قال : (مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : الآية ٥٩]. فكيف الجمع؟ قلنا : أما على الجواب الأول ، فالسؤال زائل ، فإن المراد منه آدم ، وأما على الثاني فنقول : ما قاله هنا هو أصل أوّل ، وما قاله في ذلك الموضع هو أصل ثان ؛ لأن ذلك التراب الذي صار غذاء يصير مائعا وهو المني ، ثم ينعقد ويتكون بخلق الله تعالى منه إنسانا ، أو نقول : الإنسان له أصلان ظاهران وهما الماء والتراب ، فإن التراب لا ينبت إلا بالماء ، ففي النبات الذي هو أصل غذاء

١٥

الإنسان تراب وماء ، فإنه تعالى جعل أصل تكون الجزئيات التي لا تتجزأ من الماء وتكونت منه المركبات ، وجعل تعالى التراب أجزاء دقيقة من أغلب المركبات ، وجعله أصلا للإنبات بدخول أصله عليه ، فصار التراب أصلا والماء أصلا أولياء وأصلا ثانويّا ، فإن جعل تعالى التراب أصلا والماء لجمع حياته ، فالأمر كذلك ، وإن جعل تعالى الأصل هو الماء والتراب متولد منه ، فالأمر كذلك أيضا ، فإن قال قائل : إن الله يعلم كل شيء ، فهو يعلم أن الأصل منهما ما هو. وإنما الأمر عندنا مشتبه يجوز هذا وذاك ، فإن كان الأصل هو التراب فكيف قال : (خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) [الفرقان : الآية ٥٤]. وإن كان الماء فكيف قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الرّوم : الآية ٢٠]. وإن كان الأصل من كل منهما فلم لم يقل : خلقكم منهما. فنقول في ذلك لطيفة : وهي أن كون التراب أصلا والماء أصلا أيضا ، ليس لذاتهما ، وإنما هو بجعل الله تعالى ، فإنه تعالى نظر لقدرته له أن يخلق أولا الإنسان ، ثم يفنيه ويجعل منه التراب ، ثم يذيبه فيجعل منه الماء ، لكن الحكمة اقتضت أن يكون الناقص وسيلة إلى الكامل لا الكامل وسيلة إلى الناقص ، فخلق التراب والماء أولا ، وجعلهما أصلين لمن هو أكمل منهما بل للذي هو أكمل من كل كائن وهو الإنسان ، فإن كونهما أصلين ليس أمرا ذاتيا لهما ، بل بجعل جاعل ، فتارة جعل الأصل التراب ، وتارة الماء ؛ لنعلم أن ذلك بإرادته واختياره ، فإن شاء جعل ذاك أصلا ، وإن شاء جعل ذاك أصلا ، وإن شاء جعلهما أصلين ، إن الله على كل شيء قدير.

«المقالة الثانية»

في قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (١٤) [الرّحمن : الآية ١٤]. وفي تفسير الصلصال قولان : (أحدهما) : هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن وتغير ، وهذا القول ضعيف لما سيأتي ، ويكون الصلصال حينئذ من الصلول. (وثانيهما) : من الصليل ، يقال : صل الحديد صليلا إذا حدث منه صوت ، وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت ؛ إذ هو الطين اللازب ، وهو الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة واحدة ، سمع منه عند الانفصال صوت ، فإن قيل : الإنسان إذا خلق من الصلصال. فكيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب ، وورد أيضا أنه خلق من الطين ، ومن حمأ ومن ماء مهين ، إلى غير ذلك ؛ فنقول أما قوله : (مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : الآية ٥٩]. أي تارة ، وأما قوله : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات : الآية ٢٠]. فتارة أخرى ، فذلك باعتبار شخصين ؛ آدم خلق من صلصال ومن حمأ ، وأولاده خلقوا من ماء مهين ، ولو لا خلق آدم لما خلق أولاده ، ويجوز أن يقال : زيد خلق من حمأ ، بمعنى أن

١٦

أصله الذي هو جده خلق منه. وأما قوله : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصّافات : الآية ١١]. أو (مِنْ حَمَإٍ) [الحجر : الآية ٢٦] وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه‌السلام خلق أولا من التراب ثم صار طينا ثم حمأ مسنونا ثم لازبا ، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك ومن ذاك ، والفخار الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف ، مستعمل على أصل الاشتقاق ، وهو مبالغة في الفاخر كالعلام في العالم ، وذلك أن التراب إلي من شأنه التفتت إذا صار بحيث يجعل ظرفا للماء وللمائعات ، ولا يتفتت ولا يرشح ، فكأنه يفخر على أفراده.

«المقالة الثالثة»

في قوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦) [الحجر : الآية ٢٦]

وفيه مسائل :

المسألة الأولى :

ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها ، وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث ، وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس ، وإذا كان كذلك ، فذلك الإنسان الأول غير مخلوق من الأبوين ، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى ، فقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) [الحجر : الآية ٢٦]. إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، والمفسرون أجمعوا على أن المراد به آدم عليه‌السلام.

المسألة الثانية :

اعلم أن آدم جسم ، وكل جسم محدث ، فوجب القطع بأن آدم عليه‌السلام وغيره من الأجسام محدث عن عدم محض ، وأن قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : الآية ٥٩]. دل على أن آدم مخلوق من التراب أيضا ، وأن آية أخرى دلت على أنه مخلوق من الطين ، وهي قوله تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : الآية ٧١] وجاء في هذه الآية المتقدمة : أن آدم عليه‌السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون ، فالأقرب حينئذ في الجمع بينهما أنه تعالى خلقه أولا من تراب ، ثم من طين ، ثم من حمأ

١٧

مسنون ، ثم من صلصال كالفخار ، ولا شكّ أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان ، بل هو قادر على خلقه ابتداء من غير شيء ، وإنما خلقه على هذا الوجه ، إما لمحض المشيئة ، وإما لما في ذلك من دلالة الملائكة على الاعتراف بقدرته ، وفي ذلك كمال معرفتهم وزيادة مصلحتهم ؛ لأن خلق الإنسان من هذه الأشياء أعجب من خلقه من شكله وجنسه.

المسألة الثالثة :

في إجمال تفسير الآية السابقة وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) [الحجر : الآية ٢٦] إلى آخرها ، أي هذا النوع الإنساني خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا من صلصال من طين يابس غير مطبوخ يصلل ، أي بصوت عند نقره إذا نقر عليه. وقوله : (مِنْ حَمَإٍ) [الحجر : الآية ٢٦]. أي من طين تغير واسود بطول مجاورة الماء ، وهو صفة لصلصال ، أي من صلصال كائن من حمأ مسنون ، أي مصور من سنة الوجه ، وهي صورته ، أو مصبوب من سن الماء صبه ، أي مفرغ على هيئة الإنسان ، كما تفرغ الصور من الجواهر في القوالب ، وقيل : منتن. فهو صفة لحمأ ، وعلى الأولين حقه أن يكون صفة لصلصال ، وإنما أخر عن حمأ تنبيها على أن ابتداء مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا ، بل في حال كونه حمأ ، كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال الإنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صوت ، ثم غيره إلى جوهر آخر ، وذلك الجوهر على ما قيل مادة لحمية غروية ، فتنوعت فنشأ منها جميع الجسم ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

«في بيان هذه المادة اللحمية الغروية» :

وفيه مباحث :

المبحث الأول : «في تشكيل هذه المادة» :

قال علماء هذا الفن ـ وهم الطبيعيون ـ : إن أول هذه المادّة كان جوهرا متماثلا ، ثم بعد مدّة تشكل بثلاثة أشكال متميزة عن بعضها ، تكونت منها البنية الحيوانية ، وتلك الأشكال هي المادّة الغروية والمادّة الليفية والزلالية ، وكل منها يتكوّن منه جملة أنسجة ، فأما المادّة الغروية التي يظهر أنها أكثر بساطة من الليفية والزلالية وهي مولدة لهما ، فهي منتشرة في جميع الأعضاء ؛ لأن منها يتكون أساس النسج الخلوي الذي هو أوّل ما يظهر في ابتداء نمو البنية ، وتتكوّن في وسطه الأعضاء ، ويربط بعضها ببعض ، والعظام التي هي دعائم الجسم تتكون من تلك المادّة ، وأما المادّة الليفية التي هي أكثر أجزاء الدم ، فهي المكونة للحم بخلقه تعالى ،

١٨

وأما المادّة الزلالية فالظاهر أنه لا يتكون منها إلا معظم المخ والنخاع الشوكي والأعصاب.

المبحث الثاني : «في بيان أول خاصية تظهر في تلك المادّة» :

أول خاصية حيوية تظهر في الأنسجة الحية هي ما تنكمش بها الأنسجة وتنقبض عند مماسة جسم غريب لها ، وهذه الخاصية تظهر جدّا في الأنسجة الليفية أكثر منها في بقية الأنسجة الأصلية ؛ لكونها في الليفية تدرك ببعض الحواس ، وتسمى بالقوّة القابضة العضوية الغير المحسوسة ، وحيث كانت الأنسجة المذكورة تنقبض بالملامسة لأجسام غريبة ، فلا بدّ وأن يحكم عليها بأنها خاصية أخرى على تلك الخاصية وهي الإحساس بالجسم الذي أثر فيها ذلك الانقباض ، فلا ينفعك الانقباض عن الإحساس ؛ لأنه سبب في حصوله ، وتسمى تلك الخاصية بالقوة الحساسة العضوية ، فهاتان القوّتان أعني القوّة الحساسة والقوّة القابضة هما الخاصيتان الأصليتان لتلك المادّة ، وهما منتشرتان دون غيرهما في جميع الأنسجة ، غير أن درجاتهما فيها تتفاوت بالقوة والضعف.

المبحث الثالث : «في بيان إجمال تكوين الحيوان» :

اعلم أنه إذا تأمّلنا في الحياة الموجودة في جملة الكائنات ، شاهدنا أن الحيوانان الذي تكون فيه الحياة حاصلة من عدد قليل من الوظائف الحيوية كالنبات والحيوانات العديمة الشكل التي ليس لها مخ ولا مجموع عصبي ظاهر يوجد فيه هاتان القوتان ، فهما موجودتان في جميع الأجسام التي تتصف بالحياة ، وكثيرا لا يتحققان إلا بواسطة حركات خفيفة باطنية لا تدرك إلا بواسطة نتائجها ، والخاصيتان المذكورتان مخالفتان لقوتي الإحساس والانقباض الحيوانيتين ، أي الإراديتين فإنهما ليستا إلا نتيجتين ظاهرتين لهاتين الخاصيتين ، وبالجملة فالانقباض والإحساس العضويان الخاصيتان منتشرتان في جميع أجزاء الجسم بدون أن يختصا بأعضاء أو آلات عاقبتان لكل ما فيه حياة من نبات أو حيوان ، سواء في حالة اليقظة أو النوم ، وهما الرئيستان أيضا على دورة الدم ، وعلى جميع الحركات الجزئية ، وعلى الاتحادات الحيوية التي يتحصل في وظائف الهضم والنفس والإفراز.

«المقالة الرابعة»

في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩) [الحجر : ٢٨ ، ٢٩]

اعلم أنه تعالى لما ذكر حدوث الإنسان الأوّل ، واستدل بذكره على وجوده تعالى ، وهو

١٩

الإله القادر القهار الواحد الأحد الاختيار ذكر بعده واقعته ، وهي أنه سبحانه وتعالى أمر الملائكة عليهم‌السلام بالسجود له فأطاعوه إلا إبليس اللعين فإنه أبى وتمرد. وفي الآية مسألتان :

المسألة الأولى :

أما تفسير كونه بشرا ، فالمراد منه كونه جسما كثيفا يلاقى ويباشر ، وقيل : خلقا بادي البشرة بلا صوف ولا شعر ، من صلصال متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أي بشرا كائنا من صلصال ؛ كائن من حمأ مسنون ، والملائكة ـ عليهم‌السلام ـ والجنّ لا يباشرون للطف أجسامهم عن أجسام البشر.

المسألة الثانية : في قوله : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : الآية ٢٦]. وللمفسرين أقوال في ذلك :

(الأول) : خلق الله تعالى آدم ـ عليه‌السلام ـ من طين ، فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالا كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به ، ولم يرو شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح.

(الثاني) : أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة نسيان ، والصلصال كما تقدم ، هو المنتن ، من قولهم : صل اللحم. إذا أنتن وتغير ، إلى آخر ما ذكر هناك ، ومن جملته أن هذا القول ضعيف ، ووجه ضعفه أنه تعالى قال : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : الآية ٢٦] فكونه حمأ مسنونا يدل على النتن والتغير ، وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون ، فوجب أن كونه صلصالا مغاير لكونه حمأ مسنونا ، ولو كان صلصال عبارة عن النتن والتغير ، لم يبق بين كونه صلصالا وبين كونه مسنونا تفاوت أصلا.

(الثالث) : الحمأ ، قال الليث : الحمأة بوزن فعلة ، والجمع الحمأ ، وهو الطين الأسود المنتن.

(الرابع) : قال أبو عبيدة والأكثرون : حمأة بوزن كمأة ، وقوله : مسنون. أي متغير.

(الخامس) : قال أبو الهيثم : يقال : سن الماء فهو مسنون. أي تغير ، والدليل عليه قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) [البقرة : الآية ٢٥٩]. أي لم يتغير.

(السادس) : المسنون : المحكوك ، وهو مأخوذ من سننت الحجر على الحجر إذا

٢٠