كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي

كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5282-4

الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وبالاختصار يظهر كأن الكائنات كلها حظيت بحياة جديدة قوية ، وقد غلط من ظن أن أصوات النواقيس ولغط طلق المدافع يشتت الصواعق إذ الغالب أن الحركة المنطبعة في الهواء من اهتزازات الأجسام الرنانة تجذب هذه الصاعقة إليها ، وأنه كثيرا ما يحصل أن الصاعقة تصيب أبراج النواقيس وتهدمها زمن ضربها ، وتحرق السفينة زمن طلقها مدافعها ، ومما يشتت الصواعق القوية جدا المطر الغزير الذي هو موصل جيد للسائل الكهربائي ، فيحصل الموازنة بين الأرض والجو ، ولم يعرف إلى الآن سبب لغط الصاعقة والرعد. هل ذلك بمجرد قعقعة منعكسة من الغمام أو تتابع أصوات متواصلة بينها وبين بعضها مسافة قصيرة أو أن ذلك من مصادمة الهواء الذي يتكون فيه وقت حصول الصاعقة خلو بسبب اتحاد كتلة عظيمة من السائل الناري حيث يحصل ذلك في الطبقات المرتفعة من الجو أو أن ذلك من مصادمة الهواء لشرر كهربائي اجتاز فيه بسرعة قوية بحيث إن حالة اهتزازاته الرنينة وسعتها وشدتها تكون على حسب قوة هذا الأثر المهول ، والذي يظهر لي أن الأخير هو القريب للعقل.

(في قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصّافات : الآية ١٠])

أي اتبعه ولحق وقرئ (فاتبعه) والشهاب ما يرى منقضا من السماء ثاقب مضيء في الغابة كأنه يثقب الجو بضوئه يرجم به الشياطين إذا صعدوا للجو لاستراق السمع فيقتلهم أو يحرقهم أو يخبلهم.

قالوا : وإنما يعود من يسلم منهم حيا طمعا في السلامة ونيل المراد كراكب السفينة ، ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع مقصودهم أو إلى غير تلك المواضع فإن وصلوا إلى مواضع مقصودهم احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع مقصودهم لم يفوزوا بمقصودهم أصلا فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل ، وإذ حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محال وجب أن يمتنعوا عن هذا العمل ، وأن لا يقدموا عليه أصلا بخلاف حال راكب السفينة فإن الغالب عليهم‌السلامة والفوز بالمقصود أما هاهنا فالشيطان الذي يسلم من الاحتراق هو الذي لم يصل إلى مواضع المقصود ، وإذا لم يصل إلى تلك المواضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة ، ولأقرب في الجواب أن نقول : هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة ، فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة بين شياطين الإنس أي المنجمين وشياطين الجن والله سبحانه وتعالى أعلم.

(في بقية الآثار الجوية وتكون الشهب وفيه أمور)

(الأول الضياء المنطقي): هذا الضوء المنسوب لمنطقة البروج نادر في المناطق

٤١

المعتدلة وكثير بين المدارين ، وهو ضوء ضعيف مبيض يقرب في الشبه من ضوء المجرة المسماة أيضا بالطريق اللبنية أو درب التبانة ، وأما شكله فتاره يكون مخروطيا قاعدته مائلة جهة الشمس ، ورأسه متجهة نحو نجم من نجوم منطقة البرج ، وأحيانا يكون عدسيا مفرطحا مستدقا موضوعا في سطح خط الاستواء الشمسي وحدوده المشاهدة تمتد إلى مسافة بعيدة ، ويظهر في الربيع بعد غروب الشمس ، وفي الخريف قبل طلوعها ، ونسبه علماء الهيئة للضوء المنعكس من الكواكب الصغيرة القريبة جدا للشمس ، وبعضهم جعل أصل هذا الحادث كأصل الفجر الشمالي ، وبعضهم رفض هذا الرأي وقال : إن الضياء المنطقي لا يصح كونه ناشئا من جوّنا لكونه يمتد وراء مدار الأرض فإذا كان حادثا ضوئيا يقال حينئذ ما سببه ، وبعض الفلكيين الذين اعتبروا الحجارة الساقطة التي سنذكرها فيما يأتي سيارات صغيرة أو بقايا سيارات موجودة كثيرة العدد في مجموعنا رأوا أن الضوء المنطقي يمكن كونه حاصلا من مجموع كواكب صغيرة نشاهد مقدارا عظيما منها على شعاع واحد بصري بواسطة وضعنا في مسطح دائرة الاستواء الشمس ، فهي أصغرها لعسر مشاهدة كل منها على حدته ولو مع الاستعانة بالنظارات القوية لكن متى كانت منضمة مع بعضها نتج منها ضوء مختلط مشابه في شكله لذنب ذوات اللحى.

(الثاني النيران الطيارة): هي شعل لطيفة خفيفة مضيئة تخفق وترفرف في الليل على الأماكن الاحامية وفي محال الدفن وعلى القبور نفسها ، وفي ميادين الحروب وهي ناشئة من التعفنات مع مصاحبة السائل الكهربائية فتلتهب من محاكة الهواء ، وينسب لهذا الأثر معظم قصص العفاريت والشياطين والسحرة التي تفزع منها سكان القرى بل ، والمدن وتستولي عليهم الغلفة في ذلك.

(الثالث الشهب الساقطة): هي أكر صغيرة من نار تطير أي تجري في السماء مجتازة أي جهة كانت من جهاتها راسمة في سيرها قوسا يختلف في العظم والاتساع ، والغالب أنها تنطفئ بنشرها ضياء قويا وتركها بعدها ذنبا من الضوء طويلا ، وقد يبقى ضوؤها محفوظا معها مدة وجودها القصير ، وأحيانا يتناقص تدريجيا من ابتداء ظهورها إلى نهايته ، ثم إنها تارة تهف على الأرض ، وتارة تتحرك بين أورق الأشجار الكبيرة ، وتارة تضيع في الطبقات المرتفعة من الجو.

(الرابع الشعلة): هي شعلى مضيئة سريعة الزوال تشاهد هناك على السفن المصابة بالعواصف والقدماء كانوا إذا رأوا هذا الحادث وشاهدوا واحدة من تلك النيران سموها هيلانة

٤٢

وإذا شاهدوا اثنتين أو أكثر سموها بأسماء آلهة كانوا يعترفون بها ، وتتناشد بها شعراؤهم المخرفون والكهربائية هي سبب هذا الحادث.

(الخامس الأكر النارية الشهبية والحجارة الساقطة من الجو)

الأكر النارية هي أعظم ما تستغربه العقول ، وتندهش منه الأفكار وتفزع منه الأفئدة ، وضوؤها الذي ينتشر منها نير لامع كالذي ينتشر من الشمس ، وتختلف أشكاله وشدته ولمعانه لا إلى نهاية عظمها الظاهري تعتريه جميع الأبعاد فيكون من أصغر ما يتصور في الحجم إلى ما يكون قطره قدر بيضة الدجاجة والنعامة ، وتأتي من محل مختلفة من السماء متجهة جهة الأرض ، فتارة تخط بسيرها خطوطا تقرب لأن تكون موازنة لسطح الأرض ، وتارة تسقط راسبة بحيث تقرب للخط القائم على الأرض وتارة تخط أقواسا منحنية ، وزعموا أنهم شاهدوا منها ما يثبت في الجو فيكون شبيها بكرة مرنة مقذوفة بانحراف على جسم صلب فيحصل منه وثبات وقفزات ، ومع ذلك تتبع في سيرها الخط الزاوي أي قطر الشكل للمربع المتوازي الأضلاع.

(في بيان حركة هذه الأكر)

حركة هذه الأكر سريعة جدا ، وشوهدت سرعتها أحيانا تفوق عن ستين ميلا في الثانية ، فتقطع في زمن وجودها وإن كان قصيرا مسافة كبيرة من السماء ، ويظهر كأنها ألهبتها وأوقدت فيها نارا فإذا وصلت إلى نهاية سيرها تتمزق بصوت كالبنب أو الصواريخ ، وتنقسم إلى قطع صغيرة تنطفئ فجأة وتترك في الهواء بخارا خفيفا معتما يتبدد شيئا فشيئا حتى يزول في زمن قصير ، ويسمع عند تمزقها فرقعة وأصوات مرعبة تشبه قوتها صوت طلق جملة مدافع في آن واحد فتزعزع الهواء وتزعج الأرض ، والآثار القديمة المتينة ، وترعب جميع الكائنات ، وبعد غيبوبتها ببعض ثوان بل وقت زوالها بالفعل يسمع في الجو صفير قوي سريع وتسقط على الأرض حجارة تهدم سقوف الأبنية ، بل الغالب أنها تحرقها وتكسر فروع الأشجار وتجرح وتميت الأشخاص والحيوانات التي تقع عليها كقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)). وفي الآية مسائل.

(المسألة الأولى) :

في الأمر وجهان :

(الأول) : أن المراد من هذا الأمر ما هو ضد النهي ويدل عليه وجوه.

٤٣

(الأول) : أن لفظ الأمر حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره دفعا للاشتراك.

(الثاني) : أن الأمر لا يمكن حمله هاهنا على العذاب وذلك لأنه تعالى قال : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) [هود : الآية ٨٢]. وهذا الجعل هو العذاب فدلت هذه الآية على أن هذا الأمر شرط ، والعذاب جزاء ، والشرط غير الجزاء فهذا الأمر غير العذاب ، وكل من قال بذلك قال : إنه هو الأمر الذي هو ضد النهي.

(الثالث) : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود : الآية ٧٠]. فدل هذا على أنهم كانوا مأمورين من عند الله تعالى بالذهاب إلى قوم لوط ، وبإيصال هذا العذاب إليهم. إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أمر جمعا من الملائكة بأن يخربوا تلك المدائن في وقت معين ، فلما جاء ذلك الوقت أقدموا على ذلك العمل فكان قوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) [هود : الآية ٦٦]. إشارة إلى ذلك التكليف ، فإن قيل لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال : فلما جاء أمرنا جعلوا عاليها سافلها. لأن الفعل صدر عن ذلك المأمور ، قلنا هذا لا يلزم على مذهبنا لأن فعل العبد فعل الله تعالى عندنا وأيضا إن الذي وقع منهم إنما وقع بأمر الله تعالى وبقدرته فلم يبعد إضافته إلى الله تعالى عزوجل ؛ لأن الفعل ، كما تحسن إضافته إلى المباشر فقد تحسن أيضا إضافته إلى المسبب.

(الوجه الثاني) : أن يكون المراد من الأمر هاهنا قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النّحل : الآية ٤٠]. وهاهنا وجه ثالث وهو أن يكون المراد من الأمر العذاب كما تقدمت الإشارة إليه وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الإضمار والمعنى ولما جاء وقت عذابنا جعلنا عاليها سافلها.

(المسألة الثانية)

اعلم أن ذلك العذاب قد وصفه الله تعالى في هذه الآية بنوعين من الوصف.

(فالأول) : قوله : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) [هود : الآية ٨٢]. روي أن جبريل عليه‌السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك ، ولم تنكفئ لهم جرة ، ولم ينكب لهم إناء ، ثم قلبها دفعة واحدة وضرب بها الأرض.

(واعلم) أن هذا العمل كان معجزة قاهرة من وجهين.

(أحدهما) : أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب السماء فعل خارق للعادة.

٤٤

(والثاني) : أن ضربها من ذلك البعيد على الأرض بحيث لم تتحرك سائر القرى المحيطة بها البتة ، ولم تصل الآفة إلى لوط ـ عليه‌السلام ـ وأهله مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضا.

(الثاني) : قوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : الآية ٨٢]. فجعل تعالى جو تلك المدائن متكونا بالشهب أي الأكر النارية المعقبة بالأحجار.

قوله : (مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : الآية ٨٢]. اختلفوا في السجيل على وجوه.

(الأول) : إنه فارسي معرب وأصله سنككل ، وأنه شيء مركب في غاية الصلابة قال الأزهري : لما عربته العرب صار عربيا وقد عربت كلمات كثيرة كالديباج والديوان والاستبرق.

(والثاني) : سجيل أي مثل السجل وهو الدلو العظيم.

(والثالث) : سجيل شديد من الحجارة.

(والرابع) : مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته وهو فعيل منه.

(والخامس) : من أسجلته أي أعطيته تقديره مثل العطية في الإدرار.

(والسادس) : هو من السجل الكتاب تقديره من مكتوب في الأزل أي كتب الله أن يعذبهم بها ، والسجل أخذ من السجل وهو الدلو العظيمة لأنه يتضمن أحكاما كثيرة ، وقيل مأخوذ من المساجلة وهي المفاخرة.

(والسابع) : من سجيل أي من جهنم أبدلت النون لاما.

(والثامن) : السماء الدنيا وتسمى سجيلا.

(واعلم) أنه تعالى وصف تلك الحجارة بصفات ، فالصفة الأولى كونها من سجيل ، الصفة الثانية قوله تعالى : (مَنْضُودٍ) [هود : الآية ٨٢]. قال الواحدي : هو مفعول من النضد ، وهو وضع الشيء بعضه على بعض وفيه وجوه.

(والأول) : أن تلك الحجارة كان بعضها فوق بعض في النزول فأتى به على سبيل المبالغة.

(والثاني) : أن كل حجر فإن ما فيه من الأجزاء منضود بعضها ببعض وملتصق بعضها ببعض.

٤٥

(والثالث) : أنه تعالى عند تكوينها نضد بعضها فوق بعض وأعدها لإهلاك الظلمة.

(واعلم) أن قوله : (مَنْضُودٍ) [هود : الآية ٨٢]. صفة لسجيل.

(الصفة الثالثة) : مسومة هذه الصفة صفة للأحجار ، ومعناها المعلمة ، واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه :

(الأول) : قال الحسن والسدي : كان عليها أمثال الخواتم.

(الثاني) : قال ابن صالح رأيت منها عند أم هانئ حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع.

(الثالث) : قال ابن جريج كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض تدل على أن الله تعالى إنما خلقها للعذاب.

(المسألة الثالثة)

قال علماء الهيئة : لم يعلم إلى الآن بالضبط الارتفاع الذي تبدأ فيه مشاهدة هذه الآثار ، فإن بعضهم شاهدها في علو ينوف عن ثلاثمائة ميل ، وآخرون رأوها قريبة من سطح الأرض ، وهي كما تحصل على الأرض تظهر في البحر وتتمزق فيه ، بل يقال. إنها سقطت حجارة جوية على سفن بينها وبين الجزائر والبرور مسافة كبيرة جدا وأهلكتهم ، وقد أمعن الفلاسفة في الأزمنة السالفة أفكارهم وتأملاتهم في هذا الأكر النارية وأمطارها الحجرية ، وذكرها بعدهم علماء كل عصر ولم يختلفوا في أوصافها العمومية ، وإنما حصل الاختلاف في بعض أشياء خصوصية ، وقد اطلع بعضهم على الكتب القديمة فوجد حصول هذا الأثر أكثر من مائتي مرة واستمر القدماء زمنا طويلا يعتبرونها أثر غضب آلهتهم وانتقامهم ، وحفظت تلك الحجارة مقدسة عندهم في معابد وهياكل كثيرة ، ومعدودة آية دالة على عظم جبروته سبحانه وتعالى وقوة سلطانه ، وهذه الحجارة متشابهة الطبيعة ولا تختلف عن بعضها إلا في مقدار أجرامها وصلابتها ودقة حباتها ، وعدد الجواهر الداخلة في تركيبها ومقاديرها ولها ، أسماء كثيرة مثل : حجارة الصاعقة وحجارة القمر والحجارة الجوية والحجارة السماوية والحجارة العلوية وغير ذلك ، ولم يعثر المعدنيون المشتغلون بمعادن الأرض إلى الآن على معادن أو حجارة شبيهة بتلك الحجارة ، وتحصل الأكر النارية في جميع البلاد وتتمزق في جميعها على حد سواء وحلل حجارتها كثير من الكيماويين وذكروا نتيجة أعمالهم فلم يتبين لهم أن هذه الحجارة فيها مشابهة لحجارة أرضنا ، واستظهر كثير من الطبيعية في أصل هذه الأحجار آراء مختلفة

٤٦

فقال بعضهم : إنه يمكن أن يكون آتية من براكين القمر أي جبال نيرانه ولذلك سموها بحجارة القمر ، وقال بعضهم : إنها بقايا كواكب وبقايا الهيولى الأصلية تأليفها (٦) ، وانتظام العالم منها ، وبعضهم اعتبرها أجراما صغيرة كوكبية في أعمار مختلفة من تكونها تجذبها الأرض في كرة جذبها ، وقال بعضهم : إنها مجتمع جو ضوئي لذوات الأذناب وهناك ، آراء غير ذلك فلا حاجة لإيرادها هاهنا.

(في بيان قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)) [يونس :الآية ٥])

وفي الآية مسائل :

(المسألة الأولى) :

(اعلم) أنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ؛ ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة الحراثة ، وإعداد مهمات الصيف والشتاء وأوقات العبادات ، والاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجهين المذكورين في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه ، وعلى نعم الله تعالى من وجه آخر.

(المسألة الثانية) :

الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال الأجسام في ذواتها متماثلة وفي ماهياتها متساوية ، ومتى كان الأمر كذلك كان جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار ، أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية فلو خالف بعضها بعضا لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة ، وإذا كان كذلك فنقول إن ما به

__________________

(٦) قوله : تأليفها ... إلخ. كذا بالأصل وحرر. اه.

٤٧

حصلت المخالفة من الأجسام إما أن يكون صفة لها أو موصوفا بها أو لا صفة لها ولا موصوفا بها والكل باطل.

أما القسم الأول : فلأن ما به حصلت المخالفة لو كان صفات قائمة بتلك الذوات لكانت الذوات في أنفسها مع قطع النظر عن تلك الصفات متساوية في تمام الماهية ، وإذا كان الأمر كذلك فكل ما صح على جسم وجب أن يصح على كل جسم ، وذلك هو المطلوب.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضا أمورا موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار ، فنقول : هذا أيضا باطل ، لأن ذلك الموصوف إما أن يكون حجما ومتحيزا أو لا يكون ، والأول باطل وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر ، ويستمر ذلك إلى غير النهاية ، وأيضا فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلا للحال ، ولم يكن كون أحدهما محلا والآخر حالا أولى من العكس فيلزم كون كل واحد منهما محلا للآخر وحالا فيه وذلك محال ، وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز وله حجم فنقول : مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة ، والجسم مختص بالحيز وحاصل في الجهة ، والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة يمتنع أن يكون حالا في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : ما به خالف جسم جسما لا حال في الجسم ولا محل له فهذا أيضا ؛ باطل لأنه على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئا مباينا للجسم لا تعلق له به فحينئذ تكون الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية ، وذلك هو المطلوب ، فثبت أن الأجسام بأسرها متساوية في جميع لوازم الماهية وكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر ، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضا وبالعكس ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر ، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص ، وإيجاد موجد ، وتقدير مقدر ، وذلك هو المطلوب ، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء يجعل جاعل ، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور يجعل جاعل ، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : الآية ٥]. وهو المطلوب.

(المسألة الثالثة) :

قال أبو على الفارسي : الضياء لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون جمع ضوء كسوط

٤٨

وسياط وحوض وحياض ، أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك. قام قياما وصام صياما ، وعلى أي الوجهين فالمضاف محذوف ، والمعنى جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذات نور ، ويجوز أن يكون من غير ذلك لأنه لما عظم الضوء والنور فيهما جعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم أنه كرم وجود.

(المسألة الرابعة) :

الضوء إذا وقع على الأجسام المعتمة انعكس ، وإن وقع على الأجسام الشفافة انكسر إذا علمت ذلك فتعلم أن للضوء أحكام. منها أنه ينتشر من الأجسام المضيئة في كل جزء ، ومنها أنه إذا سرى في وسط ذي طبقة واحدة كالماء والهواء كان سريانه على خط مستقيم ، ومنها أنه ينعكس إذا وقع بانحراف على جسم معتم صقيل ، ثم يتجه اتجاها آخر ويسير به على خط مستقيم أيضا ، ومنها أنه إذا كان الوسط مختلف الكثافة كان سيرها دائما على خط مقوس ولذا كان لا يصل إلينا من الشمس على خط مستقيم أصلا لكون طبقات الهواء مختلفة الكثافة ، وكذا ضوء بقية الكواكب ، ومن ذلك تعلم أنه لا يمكننا أن نشاهد كوكبا في حيزه الحقيقي ، وإنما نشاهده قبل بزوغه من الأفق وبعد غروبه فيه كما هو شأن سيره على الخط المقوس ، وعلى حسب كثافة الوسط يكون زيغان الأشعة الضوئية أعني تقوس خط سيرها ، وذلك إذا وضعت قرصا معدنيا في إناء وأبعدته حتى لا تراه فلو صب في الوعاء ماء شيئا فشيئا لشوهد ارتفاع القرص كلما ارتفع الماء حتى يشاهد القرص بتمامه مع أنه قار في محله ، وما ذاك إلا لكون أشعة القرص ارتفعت في الماء ، فعلى قياس ما سبق يقال : إن الجو المحيط بنا أكثف من الجو الذي فوقه إلى حد الكوكب فهو بمنزلة الماء ينكسر عنده ضوء الكوكب فيصل للعين على خط مقوس فيرى الكوكب قبل بزوغه من الأفق ، فعلم أن الانكسار في الهواء مثل الانكسار في الماء موجب لتقوس خط الشعاع غير أن ذلك التقوس يكون في الهواء أكثر بسبب تعدد الانكسار فيه بعدد طبقاته فإن الانكسار فيه واحد ، والشعاع الضوئي : هو الأجزاء الضوئية المتجهة من الجسم المضيء إلى جهة ما ، والضغث الضوئي : جملة أشعة يتجمع من أحد طرفيها على هيئة الضغث ، وهو القنو ، والحزمة الضوئية : مجموعة أضغاث ، ثم إن الأشعة إن أتت من بعد عظيم كالأشعة الآتية إلينا من الشمس تعتبر موازية ، وأشعة الحزمة منفرجة ، ويعرض لها الانضمام بمرورها في وسط يجمع أشعتها إلى نقطة واحدة تسمى البؤرة ، فإذا جاوزت الأشعة تلك البؤرة أخذت في الانفراج ثانيّا واتجهت على خط مستقيم في السير الجديد فتكون حزمة ثانية.

(واعلم) أن شدة الضوء ينقص على حسب مربعات المسافة فإذا أنفذ الضوء من ثقب

٤٩

ضيق ووقع على جسم بعيد عن ذلك الثقب بمسافة ، ثم أبعد عنه بمسافة ضعف المسافة الأولى زادت سعة السطح المستنير عما كانت أربع مرات ، ونقصت قوة الضوء عما كانت مثلها. وذلك لأن الضوء لم تزد كميته ، بل انتشر في مساحة قدر الأولى أربع مرات فضعفت قوته ، والأجسام الغير النيرة في ذاتها على ثلاثة أقسام.

(الأول) : الأجسام المعتمة ، وهي التي لا ينفذ منها الضوء ، والقول بأن عتامتها آتية من كثافة أجزائها أحسن من القول بأنها من طبيعتها لأنها إذا رققت جدا نفذ الضوء منها ، وإذا ألصقت ورقة مرققة من الذهب على جسم زجاجي شوهد منها ضوء مائل للخضرة إذا نظر من خلفها الشمس أو المصباح.

(الثاني) : الأجسام الشفافة وهي التي ينفذ منها الضوء ولا تحجب ما وراءها فيرى ما خلفها أتم الرؤية ، وهذه إن غلظ حجمها جدا تلونت ، لأنها تشرب حينئذ جزءا من الضوء النافذ بها فلذا تجد الماء القليل صافيا والماء الكثير أزرق أو أخضر ، وإذا وقف الإنسان في عمق بحر وكان البحر صافيا جدا ، وفوقه مائة وخمسون قدما من الماء شاهد ضوء الشمس كضوء القمر على الأرض لا يزيد عنه بشيء.

(الثالث) : الأجسام النصف شفافة أعني التي بين الشفافة والمعتمة وهي التي ينفذ فيها بعض الضوء ولا تشاهد من خلفها ألوان المرئيات ولا أشكالها ولا أبعادها كالورق المدهون بالزيت والزجاج الخشن ، فالأجسام المعتمة إذا صادفها الضوء في سيره على الخط المستقيم كما ذكرنا لا يستنير منها إلا ما كان جهة الضوء ، والجهة المقابلة يوجد فيها ظل تلك الأجسام ، ويمتد بعيدا عنها إلى مسافة ما وكلما اشتد الضوء زادت قتامة الظل ، والظل المذكور لا ينتهي من جميع الجوانب بحد قطعي تام يظهر في جوانبه خيال ظلي يأخذ في الضعف حتى ينتهي ، وهذا الخيال يسمى بالغبش.

(المسألة الخامسة) :

اعلم أن الناس اختلفوا في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض؟ والحق أنه عرض ، وهو كيفية مخصوصة ، وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس؟ أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الأجرام المقابلة لقرص الشمس بتأثيرها فيهم على سبيل العادة. فهي مباحث عميقة ، وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات ، وإذا عرفت هذا فنقول النور اسم لأصل هذا الكيفية ، وأما الضوء فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية ، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس ضياء ،

٥٠

والكيفية القائمة بالقمر نورا وشك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر ، وقال تعالى في موضع آخر : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : الآية ٦١]. وقال في آية أخرى : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣)) [النّبإ : الآية ١٣]. فكلام أهل اللغة مضطرب في تفسير الوهاج فمنهم من قال الوهج مجتمع الضوء والحرارة فبين الله تعالى أن الشمس بالغة إلى أقصى الغايات في هذين الوصفين ، وهو المراد بكونها (سِراجاً وَهَّاجاً) [النّبإ : الآية ١٣]. وروى الكلبي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن الوهاج مبالغة في الضوء فقط. يقال للجوهر إذا تلألأ توهج ، وهذا يدل على أن الوهاج يفيد الكمال في الضوء ، وفي «كتاب الخليل» الوهج حر النار والشمس وهذا يقتضي أن الوهاج هو البالغ في الحر ، وأما كلام أهل الهيئة فمضطرب أيضا فمعظمه سطح الشمس المشاهد لنا مغطى ببقع ونكت تختلف في العدد والقدر ، ومع ذلك فالظاهر أنها لا تأثير لها في عظم الضوء ، ولا في الحرارة المنبعثين إلينا في ذلك ، وهل الشمس جرم مشتعل مسلط عليه ثوران شديد؟ أو أنها كما قال بعضهم : كوكب مضيء مسكون بسكان يستضيؤون بغمام ملتهب نير ، أو أنها كما قال بعض متأخري الطبيعيين : مؤلفة من طبقات متحدة المركز مختلفة الطبيعة يؤثر بعضها في بعض كما يحصل ذلك في صفحات العمود الكهربائي ، أو أنها كرة عظيمة من ساءل كهربائي متجمع تحدث قوته الجاذبة والدافعة في أجرام الكواكب معنى غير محسوس يسمى الجاذبية أو التثاقل العمومي ، ومعارفنا لم تزل إلى الآن قاصرة على تحقيق ما هو الأجدر من هذه الأقوال بالصحة.

(المسألة السادسة) :

قوله قدره منازل نظيره قوله تعالى في سورة يس : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : الآية ٣٩]. وفيه وجهان :

(أحدهما) : أن يكون المعنى وقدر مسيره منازل.

(والثاني) : أن يكون المعنى وقدره ذا منازل ، والضمير في قوله : (قَدَرُهُ) [البقرة : الآية ٢٣٦]. وفيه وجهان :

(الأول) : أنه لهما ، وإنما وحد الضمير للإيجاز وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر ، ونظيره قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التّوبة : الآية ٦٢].

(والثاني) : أن يكون هذا الضمير راجعا إلى القمر وحده لأنه بسير القمر تعرف الشهور

٥١

وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية كما قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) [التّوبة : الآية ٣٦].

(المسألة السابعة) :

اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر انتفاع عظيم وذلك أن الشمس في عشرة في آذار تدخل برج الحمل فينتشر النور بين القطبين وينور أنصاف كل الدوائر المتوازية ، فتظلم الأنصاف الأخرى ، فيستوي النهار والليل ، فيكون هذا هو الاعتدال الربيعي ، وكلما تقدمت الأرض بواسطها في دائرة وسط فلك البروج يستضيء القطب الشمالي بالشمس ستة أشهر إلى الاعتدال الخريفي ، ويزيد النور حول هذا القطب إلى العاشر من حزيران فيمكث القطب الجنوبي في الظلام ستة أشهر ، ويتخيم فيه الظلام مسافة مساوية للمسافة التي حصل فيها ازدياد النور جهة القطب الشمالي ، ثم في عشر حزيران (٧) ، وآخر ثلاثة أشهر من العاشر من شهر آذار يتوجه القطب الشمالي جهة الشمس فيشتد ضوؤها على الأماكن المجاورة لهذا المقطب ، فيكون الضوء مستمر إلى بعد ثلاث وعشرين درجة ونصف فيختفي القطب الجنوبي وما حوله من الأماكن بالكلية عن الشمس إلى بعد ثلاث وعشرين درجة ونصف وينتشر ضوء الشمس في نصف الأرض الشمالي وينور ، أزيد من أنصاف الدوائر المتوازية فيكون النهار فيها أطول من الليل ، وفي النصف الجنوبي يكون الأمر بالعكس فيكون الليل أطول من النهار ، وتقع المساواة في الأماكن التي بخط الاستواء فتسوي فيه ساعات الليل والنهار فيكون الصيف في نصف الأرض الشمالي ، والشتاء في النصف الجنوبي ، فيسمى هذا الزمن المنقلب الصيفي وفي آخر ثلاثة أشهر نحو العاشر من أيلول لا توجه الأرض في دورانها قطبيها إلى الشمس فيحدث ما كان في العاشر من آذار ، فيسمى هذا الزمن الاعتدال الخريفي ، فينعدم الضوء في القطب الشمالي ، ويغلب فيه الظلام ستة أشهر إلى الاعتدال الربيعي ، وينعكس ذلك في القطب الجنوبي فإنه يستضيء دائما ويمكث فيه النهار ستة أشهر ، ثم بعد مضي ثلاثة أشهر وفي العاشر من كانون أول توجه الأرض جهة الشمس قطبها الجنوبي ، فيكون القطب الشمالي بتمامه في الظلام إلى بعد ثلاث وعشرين درجة ونصف ، فيكون وضع الأرض حينئذ على عكس وضعها في العاشر من حزيران ، فيتحصل منه نظير ما تقدم ، ولكن على التضاد ، وهو طول النهار في النصف الجنوبي ، وطول الليل في النصف الشمالي ، فيكون الصيف في

__________________

(٧) قوله : ثم في عشر حزيران ... إلخ. كذا بالأصل وهو غير ظاهر. اه.

٥٢

الأول والشتاء في الثاني ، وهذا هو المسمى بالمنقلب الشتوي ، فهذه أربعة أزمنة ناشئة عن أوصاف الأرض الأربعة بالنسبة للشمس ، وبها انقسمت السنة أربعة فصول ، وليست هذه الفصول مستوية المدة فإن الربيع يمكث نحو اثنين وتسعين يوما وإحدى وعشرين ساعة وستة عشر دقيقة ويمكث الصيف نحو ثلاثة وتسعين يوما وثلاث عشرة ساعة وثلاثا وخمسين دقيقة ، ويمكث الخريف نحو سبعة وثمانين يوما وسبع عشرة ساعة وثمانية دقائق ، ويمكث الشتاء تسعة وثمانين يوما وساعة واحدة وثلاثين دقيقة.

(المسألة الثامنة) :

لما تبين أن دائرة الاستواء الأرضية تتجه في زمنين مختلفين إلى الشمس من السنة وهما الانقلابان داما في الزمانين الأخيرين في السنة ، وهما الاعتدالان ، وبهذه الحركة تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم ، وبسبب الحركة العمومية يحصل النهار والليل ، فالنهار يكون زمانا للتكسب والطلب ، والليل يكون زمانا للراحة وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات الشريفة اللائقة بها فيما سلف وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله تعالى على الخلق وعظم عنايته بهم ، فإنا قد دللنا على أن الأجسام متساوية ، ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين وحيزه المعين وصفته المعينة ليس إلا بتدبير مدبر حكيم قادر قاهر ، وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذه العوالم بسبب حركات الأفلاك ، وبسير الشمس والقمر والكواكب المتعلقة بالحركة المستوية ، فدائرة وسط فلك البروج هي دائرة عظمى مائلة على خط الاستواء بثلاث وعشرين درجة ونصف ، وهذه الدائرة تمتد إلى دائرتين متوازيتين موضوع كل منهما على البعد بثلاث وعشرين درجة ونصف من دائرة الاستواء ، وهاتان الدائرتان تسميان بالمدارين ، وهما يدلان على موضع الشمس الذي تنتهي إليه في الصعود ، ثم تهبط إلى مثل محلها الذي صعدت منه وهكذا ، وأما الدائرتان القطبيتان فهما على البعد من القطب بثلاث وعشرين درجة ونصف ، وهما ما يكون عليهما النهار الدائم أو الليل الدائم مدة كون الشمس في نقطتي الانقلابين ، ثم إن المدراين ودائرتي القطب يقسمان الأرض إلى خمس مناطق ، منطقة شديدة الحرارة ومنطقتان معتدلتان ، ومنطقتان شديدتا البرودة ، فالأولى هي ما بين المدارين أشد الأماكن حرا بسبب وجود الشمس دائما في سمت بعض نقطتها ، ويسمى أهلها أرباب الظلين ، لأن الشمس في وجودها في نصف النهار تنبعث أشعتها في تلك المواضع ستة أشهر جهة الشمال ، وفي الستة أشهر الأخرى يمتد الشعاع جهة الجنوب ، والثانية والثالثة كل منهما هو بين أحد المدارين ودائرة قطبية ، ولا تكون الشمس في سمت رأس أهلهما أبدا فيسمى

٥٣

أهلهما أرباب اختلاف الظل ، لأن أرباب المنطقة المعتدلة الشمالية يرون الشمس في الجنوب ، وأرباب المنطقة المعتدلة الجنوبية يرونها في الشمال ، وأما الرابعة والخامسة فإحداهما من مبتدأ الدائرة القطبية الشمالية إلى القطب الشمالي ، والأخرى من مبتدأ الدائرة القطبية الجنوبية إلى القطب الجنوبي ، وفيهما غاية اشتداد البرودة ، ويسمى أهلهما أرباب الظل الدوار ، لأن الظل في زمن صيفهم يدور حولهم.

(واعلم) أنه يوجد في الكرة السماوية دوائر أنصاف النهار ، ودوائر متوازية ودائرة معدل النهار ودائرة وسط فلك البروج ، وهذه الدائرة الأخيرة هي دائرة وسط فلك البروج الذي هو منطقة منتهية بدائرتين متوازيتين لدائرة وسط فلك البروج ، وعرض هذه المنطقة نحو سبع عشرة درجة ، وفيها سائر الدوائر التي تمر فيها الكواكب ، ثم إن منطقة فلك البروج منقسمة إلى اثني عشر برجا ، وكل برج ثلاثون درجة وفي كل برج جملة من الكواكب ، ثم إن الشمس تقطع بسيرها في كل فصل من فصول السنة ثلاثة بروج للربيع الحمل والثور والجوزاء ، وللصيف السرطان والأسد والسنبلة ، وللخريف الميزان والعقرب والقوس ، وللشتاء الجدي والدلو والحوت كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥) [يونس : الآية ٥].

(المسألة التاسعة) :

ما يكون عليه الليل والنهار ، إن دائرة الاستواء مستوى الليل والنهار في سائر أيام السنة ، وكلما حصل التباعد عن هذه الدائرة جهة الشمال والجنوب طال نهار الصيف وليل الشتاء بحسب كيفية البعد قلة وكثرة فأعظم طول النهار في دائرة القطب أربع وعشرون ساعة ، وأعظم طوله إلى نفس القطب يكون من أربع وعشرين ساعة إلى ستة أشهر على حسب قرب الأقاليم وبعدها كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)). معناه نسلخ النهار من الليل أي نميزه منه يقال انسلخ النهار من الليل إذا أتى آخر النهار ودخل أول الليل وسلخه الله منه فانسلخ هو منه ، وأما إذا استعمل بغير كلمة من فقيل : سلخت النهار أو الشمس فمعناه دخلت في آخره ، فإن قيل فالليل في نفسه آية فأية حاجة إلى قوله نسلخ منه النهار ، فنقول : الشيء يتبين بضده منافعه ومحاسنه ، ولهذا لم يجعل الله تعالى الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آيات النهار معها ، وقوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) [يس : الآية ٣٧]. أي داخلون في الظلام وإذا للمفاجأة أي ليس بيدهم بعد ذلك أمر ولا بد لهم من الدخول فيه.

٥٤

(المسألة العاشرة) :

في قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)) [يس : الآية ٣٨]. يحتمل أن يكون الواو للعطف على الليل تقديره وآية لهم الليل نسلخ منه النهار والشمس تجري ، والقمر قدرناه فهي كلها آية وقوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) [يس : الآية ٣٨]. إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها ، وهو وقت الغروب فينسلخ النهار وفائدة ذكر السبب هو أن الله تعالى لما قال نسلخ منه النهار وكان غير بعيد من الجهال أن يقول قائل منهم : سلخ النهار ليس من الله إنما سلخ النهار بغروب الشمس فقال تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [يس : الآية ٣٨]. بأمر الله تعالى فمغرب الشمس سالخ للنهار فبذكر السبب يتبين صحة الدعوى ، ويحتمل أن يقال بأن قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [يس : الآية ٣٨]. إشارة إلى أن نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : الآية ٣٧]. ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار بمنافعه فقوله : (لِمُسْتَقَرٍّ) [يس : الآية ٣٨]. اللام يحتمل أن تكون للوقت كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : الآية ٧٨]. وقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطّلاق : الآية ١]. ووجه استعمال اللام للوقت هو أن اللام المكسورة في الأسماء لتحقيق معنى الإضافة ، لكن إضافة الفعل إلى سببه أحسن الإضافات ؛ لأن الإضافة لتعريف المضاف بالمضاف إليه كما في قوله : دار زيد لكن الفعل يعرف بسببه فيقال : اتجر للربح واشترى للأكل ، وإذا علم أن اللام تستعمل للوقت فنقول : وقت الشيء شبه سبب الشيء ، لأن الوقت يأتي بالأمر الكائن فيه ، والأمور معلقة بأوقاتها فيقال خرج لعشر من كذا وأقم الصلاة لدلوك الشمس ، لأن الوقت معروف كالسبب وعلى هذا فمعناه تجري الشمس وقت استقرارها ، ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أي إلى مستقر لها ، وتقديره هو أن اللام تذكر للوقت وللوقت طرفان : ابتداء وانتهاء يقال : سرت من الجمعة إلى يوم الخميس فجاز استعمال ما ستعمل فيه من أحد طرفيه لما بينهما من الاتصال ، ويؤيد هذا قراءة من قرأ (والشمس تجري إلى مستقر لها) وعلى هذا ففي ذلك المستقر وجوه.

(الأول) : مستقرة في مكانها ، ولها جريان على نفسها وجريان آخر حتى تعود لما ابتدأت منه.

(الثاني) : الليل أي تجري إلى الليل.

(الثالث) : أن ذلك المستقر ليس إلى زمان بل هو للمكان وحينئذ ففيه وجوه.

٥٥

(الأول) : هو غاية ارتفاعها في الصيف وهو قربنا منها ، وانخفاضها في الشتاء وهو بعدنا عنها.

(الثاني) : هو الدائرة التي عليها مستقرها حيث لا تميل عن منطقة البروج ، ويحتمل وهو الوجه الثالث ، والشمس تجري لمستقر لها لحد معين ينتهي إليه دورها ، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، وهو مستقر أو لكبد السماء فإن حركتها فيه توجد إلا أنه يظن أن لها هناك وقفة فإن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس فلك مستقر يدور فيدير الكواكب السيارة ، وقرئ (لا مستقر لها) على أن لا بمعنى ليس ، وقوله : (ذلِكَ) [البقرة : الآية ٢]. إشارة إلى جريها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته أي ذلك الجري البديع المنطوي على الحكم الرائعة التي تحار في فهمها العقول والإفهام تقدير العزيز العليم ، فإن قيل : عددت الوجوه الكثيرة ما ذكرت المختار. فما الوجه المختار عندك؟ قلنا الوجه المختار هو : أن المراد من المستقر المكان أي تجري في مستقرها والمجرى الذي لا يختلف والزمان وهو السنة والليل فهو أتم فائدة ، وذلك تقدير الله تعالى الذي قدر على إجرائها على الوجه الأنفع.

(المسألة الحادية عشرة) :

في قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)) [يس : الآية ٣٩] قال الزمخشري : لا بد من تقدير مضاف ليتم به معنى الكلام لأن القمر لم يجعل نفسه منازل فالمعنى أنا قدرنا مسيره منازل وعلى ما ذكره يحتمل أن يقال المراد منه والقمر قدرناه منازل لأن ذا الشيء ، قريب من الشيء ولهذا جاز قوله (عيشة راضية) لأن ذا الشيء كالقائم به الشيء فأتى بلفظ الوصف وقوله : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : الآية ٣٩]. أي إذا رجع في آخر منازله وهو الذي يكون قبيل الاجتماع في آخر سنة من التسع عشرة دق واستقوس حتى عاد كالعرجون كالشمراخ المعوج ، وقرئ (العرجون) بوزن الفرجون ، وهما لغتان كالبزيون والبزيون والقديم المتقادم الزمان قيل إن ما غبر عليه سنة فهو قديم ، والصحيح أن هذه بعينها لا تشترط في جواز طلاق القديم عليه وإنما تعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين أنها بناء قديم ، أو هي قديمة ويقال لبعض الأشياء إنه قديم وإن لم يكن له سنة ، ولهذا جاز أن يقال بيت قديم وبناء ، قديم ولم يجز أن يقال في العالم إنه قديم لأن القديم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه ، وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد إلا عند من يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه.

٥٦

(واعلم) أن القمر في حد ذاته جرم مظلم يكتسب الاستضاءة من شعاع الشمس ، ثم إن بعض أهل الميقات زعم أن الكلف الذي يرصد في القمر هو شعوب وجبال كالموجود في الأرض واستظهر خلوه عن الهواء وهو يدور على نفسه في سبعة وعشرين يوما وثمان ساعات تقريبا فيستقبل شعاع الشمس بأحد جزئيه في نحو أربعة عشر يوما يمكث بالجزء الآخر مثلها في الظلام ولما كانت مدة دوران القمر حول الأرض مساوية لمدة دورانه على نفسه لم يظهر لنا إلا أحد النصفين في سائر الحالات ، ولكون القمر غير مستضيء لا بد أنه لم يمكنا أن ننظر منه إلا الجزء المستضيء بالشمس ، وهذا هو السبب في تنوع صوره في أي العين ، وبيان ذلك أن القمر إذا توسط بين الشمس والأرض خفي عن بصرنا لأن نصفه المستقبل للأرض يكون بتمامه في الظلام فيسمى قمرا جديدا ومحاقا ، وتسمى هذه الحالة قرانا وبتقدمه في السير في دائرته ومحاذاته بالجزء المضيء يظهر أولا هلالا كالقوس المحرف بطرفيه جهة المشرق وفي ثامن يوم يظهر في صورة نصف دائرة لأن نصف الجزء المستضيء بشعاع الشمس هو المتوجه جهة الأرض فيسمى حينئذ الربع الأول ، ولا يزال يتقدم حتى يتم نصف دورانه حول الأرض إلى اليوم الخامس عشر فيوجه إلى الأرض سائر النصف المستنير الذي يظهر مدورا ، فيسمى حينئذ بدرا ، وتسمى هذه الحالة حالة الاستقبال ، ثم يأخذ الجزء المستضيء المحاذي الأرض في النقصان إلى اليوم الثاني والعشرين فلا يظهر لنا إلا نصف هذا الجزء فيسمى حينئذ الربع الأخير ، وإذا كان القمر في الربع الأول أو الأخير يقال : هو في التربيع لأن الخط الموصول من القمر إلى الأرض يصنع زاوية قائمة مع الخط الذي يوصل الأرض بالشمس ، والزاوية القائمة ربع الدائرة ، وإذا كان القران أو الاستقبال يقال إنه في درجة الاجتماع على خط مستقيم.

(المسألة الثانية عشرة)

في قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)) [يس : الآية ٣٩]. والقمر قدرناه بالنصب بإضمار فعل يفسره الظاهر ، وقرئ بالرفع على الابتداء أي قدرنا له منازل ، وقيل قدرنا مسيره منازل ، وهي ثمان وعشرون : السرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجهة ، الزبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو ، المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، الرشا وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه فإذا كان في آخر منازله ، وهو الذي يكون قبيل الاجتماع حتى يظهر هلالا جديدا يكون كالقوس المنحرف بطرفيه في جهة

٥٧

المشرق ، وقوله : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : الآية ٣٩].

(اعلم) أن للقمر دورة في كل تسع عشرة سنة ترجع في آخرها صورة القمر كما كان عليه في أول هذه المدة ولما كانت السنة الشمسية تفصل على اثنى عشر هلالا جديدا بأحد عشر يوما ، ظهر أنه إذا كان بين السنتين صفر من السنة الأولى من الدور القمري فإنه يكون في السنة الثانية أحد عشر يوما والثالثة والرابعة كذلك فتكون الجملة ثلاثة وثلاثين ، فإذا ألقيت الثلاثين على أنها قمر جديد زاد ثلاث سنوات أولية والسنة الخامسة والسادسة والسابعة بثلاثة وثلاثين ، فإذا ألقيت الثلاثين على أنها قمر جديد فيكون الباقي ثلاثة والثلاثة الباقية أولا ، فيكون الباقيان سنة ، والثامنة والتاسعة والعاشرة قمر جديد والباقي ثلاثة ، والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة قمر جديد والباقي ثلاثة ، والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة قمر جديد والباقي ثلاثة ، والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة قمر جديد فيكون الباقي عن الجميع ثمانية عشر وأحد عشر فهي تسعة وعشرون يوما ففي آخرها دق واستقوس حتى عاد كالعرجون القديم.

(في بيان الدور القمري)

الدور القمري هو كل تسع عشرة سنة ، وقد حسب أهل الهيئة السنة التي قبل التاريخ الرومي فكانت أول الدور وما بعدها هي الثانية منه وهكذا ، وكيفية استخراج نسبة السنة للدور أن تأخذ عدد تاريخ السنة المطلوب وتضيف إليه واحدا وتقسمه على تسعة عشر فما فضل بعد القسمة فهو عدد ما مضى من الدور مثلا إذا أخذت سنة ألف وثمانمائة وستة وسبعين وقسمتها على تسعة عشر كان الفاضل بعد القسمة الصحيحة أربعة عشر فهي عدد دور سنة ألف وثمانمائة وستة وسبعين.

(المسألة الثالثة عشر)

في قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)) [يس : الآية ٤٠]. إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلقه الله تعالى على وفق الحكمة. فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر وإلا لكان تعطل سيرهما وانتظامهما وارتباطهما ، وقوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠]. قيل تفسيره أن سلطان الليل هو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النار ، وقيل معناه : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠]. أي الليل لا يدخل وقت النهار ، والثاني بعيد لأن ذلك يقع إيضاحا للواضح ، والأول صحيح إن أريد به ما بينته وهو أن معنى قوله

٥٨

تعالى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠]. أن الشمس تدور على نفسها في خمسة وعشرين يوما واثنتي عشرة ساعة ، وقد استنبطها بعض أصحاب الميقات من تحول كلف الشمس الذي يظهر على ظهرها ورجوعه في أزمنة مخصوصة ، ولها دورة أخرى حول شيء (٨) ، وخلق الله تعالى الكواكب السيارة كل واحد منها له حركتان : إحداهما تحرك الكوكب على نفسه ، والأخرى تحركه حول الشمس ، وبهذه الدورة لا يسبق كوكب كوكبا أصلا ؛ لأن كل كوكب من الكواكب إذا طلع غرب مقابلة ، وكلما تقدم كوكب إلى الموضع الذي فيه الكوكب الآخر بالنسبة إلينا تقدم ذلك الكوكب فهذه الحركة لا يسبق القمر الشمس ، فتبين أن سلطان الليل يسبق سلطان النهار ، فالمراد من الليل القمر ومن النهار الشمس ، فقوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : الآية ٤٠]. إشارة إلى حركتها على نفسها وحركتها الأخرى أي الحركة السنوية وبعدنا وقربنا منها وقوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠]. إشارة إلى الحركة اليومية وفيه مسائل :

(المسألة الأولى)

ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر؟ وما ذا يكون لو قال ولا القمر سابق الشمس؟ نقول لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم التناقض فإن الشمس جعل تعالى لها دورانين فمن ذلك جعل الكواكب السيارة لها دورتين دورة القرب والبعد الذي خلق منها الفصول الأربعة ، ودورة على نفسها خلق منها تعالى النهار والليل ، فقال : الليل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في مدة يوم وليلة ، ويكون لجميع الكواكب أو عليها طلوع وغروب وشروق في الليل والنهار.

(المسألة الثانية)

ما الفائدة في قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ) [يس : الآية ٤٠]. بصيغة الفعل ، وقوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠]. بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل يسبق ولا قال مدركة القمر. نقول : الحركتان الأوليان اللتان للشمس لا تدرك بهما القمر مختصتان بالشمس فجعلهما كالصادرتين منها ، وذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال : هو يخيط إلا أن يكون يصدر منه الخياطة ،

__________________

(٨) قوله : حول شيء كذا بالأصل وهو غير ظاهر. اه.

٥٩

والحركة الثالثة هي التي وقع منها الجذب والدفع ، فالأول نشأ منه القرب والبعد ، والثاني نشأ منه الحركة اليومية ، فهاتان الحركتان ليستا مختصتين بكوكب من الكواكب السيارة ، بل الكل فيهما مشترك فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال فلان خائط وإن لم يكن خياطا.

(المسألة الثالثة)

فإن قيل قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : الآية ٥٤]. يدل على خلاف ما ذكرتم ؛ لأن النهار إذا كان يطلب الليل فالليل سابق ، وقلتم : إن قوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠]. معناه ما ذكرتم كما تقدم فيكون الليل سابقا ولا يكون سابقا قلنا : قد ذكرنا أن المراد بالليل هاهنا سلطان الليل وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس بالحركة ، والمراد من الليل نفس الليل وكل واحد لما كان في عقيب الآخر فكأنه طالبه.

(المسألة الرابعة)

فإن قيل : لم ذكر هاهنا سابق النهار ، وقد ذكر هناك يطلبه ، ولم يقل طالبه ، قلنا : ذلك لما بينا من أن المراد في هذه الآيات من الليل كواكب الليل ، وهي الكواكب السيارة المختصة بحركة البعد والقرب وهي الحركة السنوية وبالحركة على نفسها وهي الحركة اليومية ، وهما زمانان والزمان لا قرار له فهو يطلب حثيثا لصدور التفصي منه.

(المسألة الرابعة عشر)

قوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : الآية ٤٠]. يحقق ما ذكرناه أي لكل طلوع وغروب وشروق في يوم وليلة لا يسبق بعضها بعضا بالنسبة لهذه الحركة ، وكل حركة في فلك تخصه وفيه وجوه :

(الوجه الأول) : التنوين في قوله : (وَكُلَ) [النّبإ : الآية ٢٩]. عوض عن الإضافة معناه كل واحد ، وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكير في شيء واحد ، فلما سقط المضاف إليه لفظا ، رد التنوين عليه لفظا وهو في المعنى معرف بالإضافة (فإن قيل) : فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظها وتركها؟ فنقول : نعم وذلك لأن قول القائل كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه فإذا قال كل كذا يدخل في الفهم عموم أكثر من العموم عند الإضافة ، وهذا كما قبل وبعد إذا قلت أفعل قبل كذا أفاد فهم الفعل قبل شيء مخصوص ، فإذا حذفت المضاف وقلت : أفعل قبل أفاد فهم الفعل قبل

٦٠