كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي

كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5282-4

الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

الطفح ؛ كالصخور الحبوبية والبورفيرية والطرشيت والبازلت والطفحات البركانية الجديدة كذلك انقذفت منه على سطح الأرض مياه في حالة الغليان مشحونة بكربونات الجير الحمضي المصحوب بالسليس غالبا وذلك كينابيع جزيرة أزلانده التي تخرج منها في أيامنا هذه نافورات من ماء مغلي محتو على السليس ذائبا ، فإن قيل : كيف تكونت الأراضي من كربونات الجير الحمضي الذائب في المياه الجارة قلنا : لما كان البحر مغطيا أغلب سطح الكرة الأرضية في الأزمان الأولية كانت المياه الحارة المشحونة بكربونات الجير الحمضي تستفرغ في باطن هذه المياه بالضرورة فصارت مياه البحر محتوية على مقدار عظيم من هذا الملح فاستولت الحيوانات العديدة التي كانت تعيش في البحار الأصلية خصوصا الحيوانات النباتية والحيوانات الرخوة ذات الأصداف على هذا الملح من مياه البحر لتكوين غلافاتها ، وكانت الحيوانات الرخوة والمساكن الأخطبوطية كثيرة العدد في هذا السائل المحتوي على كثير من هذا الملح ، وبعد هلاك هذه الحيوانات زالت مادتها الحيوانية بالتعفن في باطن الماء ولم يبق منها إلا المادة الغير العضوية ، أي كربونات الجير الذي كانت غلافاتها مكونة منه فصارت هذه الرسوبات الجيرية تتكون وتتراكم على شكل طبقات سميكة في قاع البحار ، ثم انضمت إلى بعضها فتكونت منها طبقات ، ولما صارت هذه الطبقات تزداد بمضي القرون تكونت منها الأراضي الجيرية التي نشاهدها الآن ، ويدل على ما قلناه : أن يتأمل في قطعة صغيرة من الطباشير بالمنظار المعظم فإنه يرى عند ذلك أنها مكونة من بقايا عديدة من مساكن أخطبوطية وقواقع أمونية ، وهذه الظاهرة العجيبة حاصلة ببحر بلطق في عصرنا هذا فقاعه أخذ بالبحر في الارتفاع منذ قرون بسبب رسوب القواقع البحرية الجيرية الحجرية والرمل والطفل فيه ولا شك أن بحر بلطق ينطمي بهذه الرسوبات بمضي الزمن القديم ، وتتكون الأراضي الطباشيرية من ثلاث طبقات ، أي مجاميع تعد من أسفل إلى أعلى :

أولاها : طبقة الحجر الرملي الأخضر.

وثانيتها : طبقة الطفل والمارن الأخضر. وثالثتها : طبقة الحجارة الجيرية الطباشيرية البلاطية ، والجواهر المعدنية في هذه الطبقة كثيرة كملح الطعام وحجر الجص ، والطفل المندمج المعد لصناعة الآجر ، وتوجد في قاعدتها طبقات قليلة السمك من الخشبيت القاري ، ويوجد بين طبقات الخشبيت طفل أسود قاري يحتوي على نباتات حفرية استحالت إلى قار ، ويستخرج من هذه الطبقة حجارة نحت ، بل رخام ذو ألوان مختلفة ، والغالب أن يكون ضاربا للصفرة كما في الرخام الذي يوجد في بني سويف كما في رخام أسيوط ، ومن

١٠١

هذه الطبقة قاعدة المقطم نحو الجهة الجنوبية والجهة الشرقية من القاهرة أي وادي حلوان.

(في المواد النافعة التي في الأرض الطباشيرية)

الصوّان الذي على هيئة كليات يوجد بكثرة في التكوين الطباشيري خصوصا في طبقات الطباشير اللينة ، ويتخذ منه حجر الزند الذي كان كثير الاستعمال ، وهذا الجوهر كثير الانتشار في بر مصر في طبقات الطباشير نحو قاعدة ، في وادي قنا وادي سنور يستخرج من الأرض الطباشيرية حجر الجير الجصي وحجر البلاط الذي تتكون منه قاعدة المقطم وحجر رملي حديدي يحتوي على مقدار جيد من الحديد كما في وادي قنا وكربونات الحديد المحتوي على الطفل الأخضر خشبيت وملح طعام.

(في حفريات الأراضي الطباشيرية)

نباتات المدة الطباشيرية تشبه نباتات عصرنا هذا ، فيوجد فيها بعض نباتات تنسب إلى زمننا هذا مع أجناس نباتات خاصة بالزمن القديم ، وقد رأينا من نباتات الزمن القديم أنواعا عجيبة انقرضت ، وفي المدة الطباشيرية نرى نباتات معتادة كالنخيل وغيره ، وازداد عدد النباتات ذات الفلقتين وقل عدد أنواع السرخس في المدة المذكورة وحيوانات المدة الطباشيرية لا تشبه حيوانات عصرنا هذا ، والحيوانات ذات الكيس البطني التي خلقت في المدة الجوراوية فنيت في المدة الطباشيرية ولم يخلق من الحيوانات الثديية ما يحل محلها ، وكانت الأرض الطباشيرية معمورة بزواحف كثيرة ، وأغلبها أنواع الورل المهولة الكبيرة ، وكانت الأسماك كثيرة في المدة الطباشيرية لاتساع البحار ، وكانت تشبه أسماك عصرنا هذا.

(في تكوين الأراضي الثلاثية):

ينقسم هذا الزمن إلى ثلاث مدد تسمى باليونانية توسين وميوسين وبليوسين فمعنى الكلمة الأولى المدة الجديدة ، ومعنى الثانية المدة المتوسطة والجدة ، ومعنى الثالثة الأكثر جدة.

(الكلام على الأرض السفلى المسماة توسين)

هذه الأرض مكونة من رسوبات بحرية ورسوبات من المياه العذبة ، فالظاهر أن البحر شغل الأحواض الطباشيرية ، ثم فارقها على التعاقب فتسلطنت عليها المياه العذبة ، وتشاهد

١٠٢

هذه الأرض نحو قاعدة بر مصر المتوسطة أي على عرض النيل وكلما اتجهت نحو الشمال أخذت في ازدياد السمك حتى تصل إلى القاهرة فهي واضحة في المقطم ؛ ولذا سميت بأرض المقطم ، وتنقسم إلى ثلاث طبقات رئيسة :

الأولى : الطفل الفخاري مع الرمل السفلي.

والثانية : الدبش.

والثالثة : الحجر الجيري السليسي ، وقد كشفت بقايا الحيوانات الثديية الحفرية التي لا يوجد ما يشبهها الآن في الطبقة الجصية من بعض جبال.

(في حفريات الأرض الثالثة السفلى):

قد خلقت في هذه المدة حيوانات ثديية وطيور وزواحف ، كالتماسيح والسلاحف ، وأسماك وحيوانات رخوة وحشرات والحيوانات الثديية ذات الجلد الثخين ، هي أول الحيوانات التي ظهرت في المدة المذكورة ، وكانت عديدة ، ثم خلقت بعدها أنواع الخفاش ، ثم الحيوانات القرّادة لكن الحيوانات المميزة التي هي القسم الأكثر عددا من الحيوانات الثديية التي تعيش في زمننا هذا لم تكن موجودة في المدة المذكورة ، وذلك كالإبل والبقر والغنم ، أي الضأن والمعز والغزلان ، وكذا الخيول لم تكن موجودة ولم تظهر إلا في انتهاء الزمن الثالث ، وكذا القنافذ لم توجد في الأرض المقابلة للمدة المذكورة مع أن زمننا هذا لا يوجد فيه إلا عدد قليل من الأنواع ذوات الجلد الثخين ، والحيوانات ذوات الجلد الثخين المعروفة جيدا تشبه الفيلة ، وفي الزمن المذكور خلقت الحيوانات القيطسية أي الثديية البحرية كالدرفيل والقيطس ، وكانت أوصافها مخالفة لأوصاف الحيوانات القيطسية التي تعيش الآن ، وكانت الأسماك كثيرة في المدة المذكورة.

(الكلام على الأرض الثالثة والوسطى المسماة ميوسين)

تتكون هذه الأرض من رسوبات بحرية ورسوبات عذبة ، وتنقسم إلى طبقتين :

إحداهما : تسمى مولاس والثانية تسمى قالون ، فطبقة المولاس مكونة نحو قاعدتها من رمل كوراثي تارة يكون نقيا وتارة محتويا على قليل من الطفل ، وتحتوي على حجارة رملية قد تكون مختلطة بحجارة جيرية تستخرج من معاملها لتبليط الطرق ، وهذه الطبقة بحرية ومغطاة

١٠٣

برسوب بنسبة للمياه العذبة مكون من حجر ضارب للبياض سليسي قليلا يخالطه طفل رملي يحتوي على كتل متفرقة من حجر جيري الطاحون ، وهو حجر جيري سليسي مسامي غالبا ينسب للماء العذب ، ومسامه تارة تكون دقيقة وتارة خليات متسعة مبطنة ببلورات من كربونات الجير ، وهذا الحجر الحجري وإن كان مساميا فهو ذو صلابة ومتانة فإذا طرق عليه سمع له رنين وانتشر له شرر ، وهو يتحمل تأثير الهواء والرطوبة فلا يتغير كثيرا وبسبب ذلك يستعمل للبناء تحت الماء ، وإذا عومل بحمض الكذاب حصل فيه فوران ورسب منه راسب مكون من السليسي ، ويندر أن يحتوي على قواقع حفرية ومنه تصنع أحجار الطواحين ، وهو يوجد على الجهة الجنوبية الشرقية للقلعة العامرة المصرية من البساتين إلى نحو ثلثي جبل الجيوشي ، وطبقة القالون مكونة من حجر جيري محتوي على قواقع ومساكن أخطبوطية متبددة يستعمل لتسميد الأراضي ، وقد وجد كثير من عظام سلاحف وطيور وحيوانات ثديية.

(في حفريات الأرض الثالثة الوسطى):

الصفة المميزة للمدة التي تكونت فيها الأرض الثالثة الوسطى هي اختلاطات النباتات الخاصة بالمنطقة الحارة من إفريقيا مع نباتات تنبت الآن في أوروبا ، وذلك كالنخيل والعناب ، وجملة أنواع من الفصيلة البقولية مختلطة بشجر الجوز والبلوط الخاصة بالمنطقة الحارة المعتدلة والباردة ، ويوجد سوى ذلك من أنواع الأشنا والتين والحور.

والحيوانات التي كانت تسكن الأرض القارة هي حيوانات ثديية وطيور وزواحف وأسماك ، وقد خلقت حيوانات ثديية جديدة في المدة المذكورة ، وهي أنواع من القردة والخفاش وحيوانات كاسرة وحيوانات ذات كيس بطني وحيوانات قرادة وطيور وزواحف كالأفاعي والضفادع والسمندل ، وكانت المياه العذبة مسكونة بأسماك كثيرة ، والحيوانات الثديية هي التي ينبغي البحث فيها عن الأنواع المهمة المميزة لهذه المدة وهذه الحيوانات عديدة وشهيرة بحجمها وأشكالها وقد خلقت منها جملة أجناس فنيت وانقرض نسلها ، وقد خلق فيها الفيل والفرس والدب والهرة والفأر والجندبادستر والتابير ، وهذه الحيوانات على قيد الحياة الآن ، وكان يوجد قردة وكانت البحار مسكونة بعدة حيوانات خلقت في المدة المذكورة أكثرها حيوانات رخوة كبيرة ، وكانت تحتوي على حيوانات قشرية ، ونباتات المدة المذكورة مشابهة لنباتات عصرنا هذا ، وقد تكون منها الخشب الحفري المنسوب إلى هذه الأرض ولم يستحل إلى فحم حجري ؛ لأنه إنما اندفن في الأرض جديدا ولم تؤثر فيه الحرارة

١٠٤

المركزية ولا ضغط الطبقات العديدة الأرضية المتراكبة ، وهذان الشرطان ضروريان في تكون الفحم الحجري الكثيف المندمج المنسوب للأراضي المتوسطة ، والخشب الحفري الذي يوجد في هذه الأرض والتي قبلها يستعمل وقودا في جملة من البلاد ، ويوجد الكهرباء في هذا الحفري ، وهو عبارة عن راتينج متلون قليلا بمضي الزمن عليه ، وكان يسيل من أشجار الزمن الثالث ، وأمواج بحر بلطق تأكل الخشب الحفري الذي يوجد في قاعه وتفصله ، ويتحصل هذا الجوهر من بحر بلطق منذ قرون وكثيرا ما توجد حشرات حفرية في باطن كتلة الكهرباء ، وهي محفوظة فيه بلونها ، وأشكالها فإن الكهرباء يمنعها من التعفن.

(في الأراضي الثالثة العليا المسماة بليوسين):

رسبت طبقات هذه الأرض فوق طبقات الأرض الثالثة الوسطى المسماة ميوسين ، ورسوباتها بحرية مكونة من حجارة جيرية ومارن نحو أسفلها ، ومن رمل نحو أعلاها فالحجارة الجيرية رملية بيضاء أو ضاربة للصفرة تحتوي على قواقع حفرية ذات صدفتين والمارن ضارب للزرقة يحتوي على قواقع عديدة يعيش أغلبها في بحارنا الآن ، والرمل يحتوي على حفريات كثيرة أيضا وخصوصا على كثير من قواقع.

(في المواد النافعة الموجودة في الأراضي الثالثة):

يوجد فيها طبقات قليلة السمك من حجر رملي ، أو من طفل متشرب بقليل من أوكسيد الحديد. وكتل صغيرة من رخام أصفر متوازعة في الطفل والمارن ، ويوجد فيها الفيروز الذي هو أسنان حفرية متشربة بفوسفات الحديد وأنواع مختلفة من العقيق وخشب متحجر سيما ساق النخيل كما في الغابة المتحجرة والمرمر الجصي وأملاح كبريتية والممغرة الحمراء المستعملة في النقش بالحمرة والجص والمتبلور والطفل النافع في قلع الدفر من الثياب ؛ لأنه يمتص المواد الدسمية وتصنع منه أنواع مختلفة من الأواني وحجارة الشبقات ، ويوجد فيها كثير من الكبريت والقار وبعض رسوبات من الخشب الحفري وحجارة الرحى.

ولما أتم الله تعالى خلقة الأرض وكونها تعالى من الأرض الأصلية والأرض الوسطى والأرض الثانية السفلى والأرض الثانية الوسطى والأرض الثانية العليا ، والأرض المتنوعة إلى ثلاث مدد توسين ميوسين وبليوسين خلق الله سبحانه وتعالى في هذا الزمن ، أي بعد أن أتم خلق هذه الأرضين الحيوانات الثديية وكائنات عضوية حديثة ، وقد قلنا : إن الحيوانات

١٠٥

القشرية والأسماك كانت كثيرة في مدة تكون الأراضي الثانية.

وأما هذا الزمن فتسلطنت فيه الحيوانات الثديية ، وصارت كثيرة العدد ، وإذا استثنينا الحيوانات ذوات الكيس البطني التي تنسب إلى الأراضي الجوراوية وجدنا أن الحيوانات الثديية التي خلقت أولا في الزمن الثالث هي ذوات الجلد الثخين ، وقد خلقت هذه الحيوانات في المدة الأولى من الزمن المذكور ، ثم خلقت حيوانات ثديية فنيت وكانت عجيبة بالنظر لجثتها الهائلة ، وبنيتها وأغلب الأنواع التي خلقت في هذا الزمن لم تنقرض أنواعها ، بل هي على قيد الحياة إلى الآن ، ويضاف إلى رتبة الحيوانات الثديية زواحف جديدة من جملتها أنواع من السمندل في حجم التمساح.

وفي هذا الزمن خلقت طيور لكنها كانت أقل عددا من ذوات الثدي ، وكانت البحار معمورة بكثير من كائنات تنسب إلى جميع الرتب كما في زمننا هذا.

والأزمان ستة : زمن تكون الأراضي الأصلية ، وزمن تكون الأراضي الوسطى ، وزمن تكون الأرض الثانية السفلى ، وزمن تكون الأرض الثانية الوسطى ، وزمن تكون الأرض الثانية العليا ، وزمن تكون الأراضي المسماة توسين وميوسين وبليوسين ، وفي آخر هذا الزمن رسبت الأراضي الطوفانية ، والأراضي التي بعد الطوفان وفيه حصل الطوفان وخلق الإنسان.

ونشرع الآن في ذكر الحوادث التي وقعت فنقول :

(اعلم) أن الأراضي الأخيرة مغطاة في جملة أماكن بطبقة من بقايا غير متجانسة في السهول والأودية ، والمغارات وشقوق الصخور وعلى أسطحة الجبال وجوانبها ، وهذه الطبقة مكونة من مواد مختلفة ناشئة عن قطع انفصلت من الصخور المجاورة لها فالتأكلات التي تشاهد في قاعدة الأودية ، وقد أعانت على اتساع الأودية والرواسب المتراكمة في مكان واحد ، وهي المكونة من مواد متدحرجة ، أي متأكلة بالاحتكاك أثناء انتقالها إلى بعد عظيم دليل على أن انتقال الأجسام الثقيلة إلى مسافات بعيدة ناشئ عن ماء قوي أثر فيها ، فانقذفت أمواج عظيمة على سطح الأرض دفعة واحدة فأخربت جميع ما قابلته في أثناء مرورها ، وتكونت عنها أخاديد غائرة في الأرض ، ثم جذبت ودفعت البقايا التي حملتها أثناء جريانها غير المنتظم ، فالأرض التي تكونت بهذه الكيفية تسمى بالأرض الطوفانية ، والظاهرة التي ذكرناها تسمى بالطوفان ، فإن قيل : ما سبب الطوفان؟ قلنا : إن الله تعالى أراد بحكمته وقدرته أن يجعل في الأرض سبلا وطرقا ويخلق تعالى جبالا تشغل اتساعا عظيما بقرب البحار

١٠٦

أو في قاعها فلما ارتفعت الأرض دفعة واحدة حصل اضطراب في المياه فانقذفت داخل الأراضي القارة فأغرقتها وغطتها بأمواجها المفزعة المختلطة ببقايا الأراضي التي أتلفتها ، وكان حصول هذه الحادثة دفعة واحدة لكنها كانت قصيرة المدة متكررة فانكشفت الوديان والسبل كما قررنا ذلك في قوله تعالى : (سُبُلاً فِجاجاً) [نوح : الآية ٢٠]. وقد حصل في أراضي أوروبا بعد طوفانان وفي آسيا طوفان واحد ، وكان حصول الطوفانين الأولين قبل ظهور الإنسان ، وأما طوفان آسيا فكان بعد خلق الإنسان ، ولنتكلم على كل منها فنقول :

(الكلام على طوفاني أرض أوروبا)

الطوفان الأول منهما حصل في شمال أوروبا ، وكان ناشئا عن ارتفاع جبال النورويج فأخربت مياه الطوفان أرض السويد والنورويج وأرض الروسيا وأرض شمال النمسا ، فتغطت جميع سهول تلك الأراضي بأرض طوفانية وبما أن الأماكن التي حصل فيها الارتفاع والبحار المجاورة لها كانت مغطاة بالجليد بالنظر لمجاورتهما القطب الشمالي كانت الأمواج التي تتقلب على هذه الأماكن تحمل كتلا عظيمة من الجليد ، وقد أعانت مصادمتها منها على ازدياد قوة الطوفان.

والدليل على حصول الطوفان في تلك الأراضي الرمل والزلط الذي يغطي جميع سهولها ومنخفضاتها ، وقد شاهدوا هذه الرسوبات كثيرا من صخور ضالة تخالف صخور البلاد الموجودة بها الآن فإنها تنسب إلى الأراضي الأصلية التي ببلاد النورويج وقد حملتها مياه الطوفان.

والطوفان الثاني نشأ عن ارتفاع جبال الألب ، وقد ملأ أودية أرض فرنسا والنمسا وإيطاليا برسوبات مكونة من رمل وطفل وزلط وصخور ضالة أيضا.

(الكلام على طوفان آسيا وعلى خلق الإنسان)

خلق الإنسان على وجه الأرض بعد حصول الطوفان العام.

(واعلم) أن الأراضي القارة والبحار كانت في انتهاء الزمن الأخير كما هي الآن ، وكانت الشقوق التي تحدث في الأرض والطفحات البركانية لا تحصل إلا بعد مضي زمن ولا يتأتى منها إلا إتلاف قليل ، وكان الجو شفافا والأنهار تجري بين شواطئ هادئة ساكنة ، وكانت

١٠٧

النباتات كثيرة العدد والأرض والمياه والهواء معمورة بكثير من الحيوانات ومع ذلك لم تكمل الخليقة فلم يخلق إذ ذاك الإنسان ، وقال بعضهم : إن الإنسان خلق بجوار نهر الفرات من آسيا الصغرى وهذا القول مثبت بحادثة مهمة شهيرة عند جميع الأمم هي طوفان آسيا ، أي طوفان سيدنا نوح عليه‌السلام ، وقد نشأ عن ارتفاع سلسلة من الجبال في البلاد المذكورة فانشقت الأرض فحصلت طفحات بركانية مصحوبة بكثير من أبخرة مائية تكاثفت ، ثم سقطت مطرا فغرقت السهول والجبال ووصلت إلى ارتفاع عظيم ، وقدمنا شرح ذلك فيما سبق مطولا فارجع إليه إن شئت.

(في بيان كيفية دوران الأرض وفيه دليلان)

الدليل الأول : قوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : الآية ٤٠].

(اعلم) أنه لا يجوز أن يقال وكل في فلك يسبحون إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر والنجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى كل أي كل ما كان مغروز في الخلاء اللانهائي فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة أولا كأنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها.

والفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك ، واختلفت العقلاء فيه فقال بعضهم : الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم ، أي الخلاء للانهائي ، وهو قول الضحاك ، وقال الأكثرون : بل هو شيء تدور النجوم عليه ، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن ثم اختلفوا في كيفية فقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري النجوم فيه ، وقال الكلبي : ماء مجموع تجري فيه الكواكب ، واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء قلنا : لا نسلم فإنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح. وقال أصحاب الهيئة : إن الخلاء هو هواء متخلخل خلخلة لا تدرك حسا تجري الشمس والنجوم والقمر فيه.

(واعلم) أن مدار هذا الكلام على امتناع القول بسكون الأرض وأنها خارجة عن الخلاء فهو باطل ، بل الحق أن دورانها ممكن ، والله تعالى قادر على كل الممكنات ، والذي يدل عليها قوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : الآية ٤٠]. قال صاحب الكشاف التنوين في كل تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كلهم في فلك يسبحون ، والله أعلم ، الدليل الثاني قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : الآية ٢٢]. وقوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) [النّمل : الآية ٦١]. وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

١٠٨

الْأَرْضَ مَهْداً) [طه : الآية ٥٣].

واعلم أن كون الأرض فراشا مشروط بشروط ، وهي متضمنة لدلائل :

(الدليل الأول) : في كونها متحركة ؛ وذلك لأنها لو كانت ساكنة لما كانت فراشا لنا على الإطلاق ؛ لأن الأرض لو كانت ساكنة لانحلت منها قوة التماسك ، وفسد تركيب الجزئيات التي لا تتجزأ ، والدليل على ذلك أنه ينتج من انعزال الأرض في الفراغ قاعدة ؛ وهي أن جميع الأجسام تميل إلى الانجذاب نحو مركز الأرض ؛ إذ لا شيء ينفصل من كرة أرضنا ويضيع في الفراغ ، فالأجسام التي تقذف بعيدا عن سطحها تعود إليه بسرعة دائما ، وهذا الميل هو المعبر عنه بالثقل أو الجذب الأرضي فجعل تعالى خاصية الأرض أن تجذب نحو مركزها جميع الأجزاء المادية التي هي مركبة منها ، وجميع الأجسام التي على سطحها أو التي تكون بعيدة عنا ، وقد ثبت بالتجارب أن قوة الجذب تكون على حسب عكس مربع المسافة وحينئذ تكون كرة الأرض عبارة عن جملة جزئيات منضمة إلى بعضها بالقوة الجاذبة إلى المركز ، والظاهر أن شكلها الكروي يدل على أن هذه الجزئيات كانت تنزلق على بعضها فانجمع أغلبها نحو المركز.

(الدليل الثاني) : في تحركها أيضا قول علماء الهيئة أن الكرة مفرطحة أي منبعجة قليلا جهة قطبيها ومنتفخة جهة خط الاستواء ، وقد ثبت هذا التفرطح بالمشاهدة وبحركة البندول والاهتزازية أيضا الآتي شرحه فإن عدها في زمن مقدر معلوم يكون أكثر جهة القطبين منه في خط الاستواء ، ونصف قطر الأرض في خط الاستواء يبلغ أربعة آلاف وثلاثمائة ميل وخمسة أميال تقريبا وبجوار القطبين أربعة آلاف ومائتي ميل وتسعين ميلا تقريبا ، فيكون الفرق بين قطرها الاستوائي وقطرها القطبي خمسة عشر ميلا ، ويتضح من ذلك أن كرة الأرض لم تكن جزئياتها المادية منضمة كما هي الآن ، بل كانت متحركة تنزلق على بعضها فأثرت فيها القوة المركزية الطاردة الناشئة عن حركتها اليومية ، فأحدثت انتفاخا في كتلتها نحو خط الاستواء وانبعاجا نحو القطبين ، ثم تصلبت هذه الجزئيات بعد ذلك وحينئذ يعلم أن الأرض كانت سائلة في ابتداء خلقتها ، وقد قلنا : إن مركز الأرض لا تزال فيه درجة الحرارة المرتفعة جدا تتجاوز كل ما يتصوره العقل وقدرها بعضهم على وجه التقريب فقال إنها مائة ألف وخمس وتسعون ألف درجة ، ويمكن أن يقال : إن جميع المواد الداخلة في تركيب الأرض كانت ابتداء على حالة غازات أو أبخرة بتأثير هذه الحرارة الشديدة كما قررنا ذلك في تفسير قوله

١٠٩

تعالى : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) [الرّعد : الآية ١٧].

وقد تقدم شرحه ، وحينئذ نتخيل أنها أي الأرض كانت في ابتداء أمرها حادة غازية ، ومتى علم أن الجواهر الصلبة التي تستحيل إلى غازات تشغل حجما قدر حجمها الأصلي بقدر ألف وثمانمائة حجم ، نتج من ذلك أن هذه الكتلة الغازية كانت ذات حجم عظيم وحيث إن الكتلة الغازية التي كانت تتكون منها الأرض ذات حرارة مرتفعة جدا كانت تضيء في الفراغ كما تضيء الشمس الآن ، وكما تضيء النجوم الثابتة والسيارة ليلا ، وهذه الكتلة الغازية المضطرمة لما دارت حول الشمس على مقتضى ما جعل تعالى من قوة الجذب العام ، كانت منقادة إلى القوانين المؤثرة في بقيّة الجواهر المادية ، فكانت تبرد وتترك جزأ من حرارتها لطبقات الفراغ الباردة جدا التي بين الأفلاك ، فبسبب هذا التبريد المستمرّ مع طول الزمن الذي لا يمكن تعيين مدته ولو على وجه التقريب صارت الأرض سائلة بعد أن كانت غازية فتناقص حجمها تناقصا عظيما ، ومن المقرر في المشاهدات أنّ الجسم السائل المتحرك حركة رحوية يكتسب شكلا كرويا فبهذه الكيفية اكتسبت الأرض الشكل الكروي المميز لها ولأغلب الأجسام السماوية ، وليست الأرض منقادة إلى حركة رحوية حول الشمس فقط ، بل لها حركة دوران على محورها أيضا يتكون منها تعاقب الليل والنهار ، وقد تقرر أيضا بالمشاهدات التجريبية أن الكتلة السائلة المتحركة تنتفخ نحو خط استواء الكرة ، وتتفرطح نحو قطبيها بسبب اختلاف القوة المركزية الطاردة ، وبسبب هذه الظاهرة لما كانت الأرض سائلة انتفخت نحو خط الاستواء ، وتفرطحت نحو القطبين ، واستحالت من الشكل الكروي إلى شكل كرة مفرطحة نحو قطبيها.

(واعلم) أن انتفاخ الأرض نحو خط الاستواء وتفرطحها نحو القطبين دليل على أن الأرض كانت سائلة ابتداء ، فإن الكرة الصلبة التي من العاج لا يتغير شكلها إذا دارت على محورها قرونا ومتى كانت سائلة أو عجينية انتفخت نحو وسطها وتفرطحت نحو طرفي محورها.

(واعلم) أنه لو لم يخلق الله تعالى الأرض أولا غازا ، ثم سال فصار ماء ، ثم تعجن فصار صلبا لما كانت الأرض فراشا لنا ، فسبحان القادر الحكيم الحميد البديع الفعال لما يريد ، وبناء على ما تقدم لك من الأدلة المفصلة على ما قاله أهل الهيئة تبين للبيت حق البيان أن الأرض دائرة لا محالة كما لا يخفى على المتفطن.

١١٠

(الدليل الثاني وهو الشرط الثاني في الثقل):

الثقل هو القوة التي تلجئ الأجزاء المادية إلى قربها من الأرض إذا كانت بعيدة عنها ، وتتركها ملازمة لها حتى تأتيها قوة تبعدها عنها ، والزنة : هي مقادير الأجزاء المادية التي تركب منها الجسم ، ومن الثقل أيضا الجذب الذي هو قوة تلجئ كتل الأجسام وأجزاءها الصغيرة لقربها من بعضها لكنه في تقريب الأجزاء يسمى بالقوة التماسكية أو الميل.

(واعلم) أن الأجسام التي تظهر فيها قوة التثاقل صغيرة جدا بالنسبة للأرض فإن محيطها سبعة وعشرون ألف ميل ولا تبعد عنها الأجسام إلا بمسافة قليلة لكون الأرض تجذبها إليها نظرا إلى كبرها عنها وهذا الجذب هو المانع للأجسام من تشتت الأجزاء الصغيرة المنفصلة من الأرض ، وهذه القوة تسمى بالجاذبة إلى المركز ، ولو لا هذه القوة لما جعل الله تعالى الأرض فراشا لنا.

(الشرط الثالث وهو الدليل الثالث التجزى):

التجزى : خاصية للأجسام بها يتمكن من فصلها إلى أجزاء في نهاية الدقة ، والأجزاء التي لا يمكن تجزيها إلا في العقل تسمى جواهر فردة.

ولا شك في أنه يمكن تجزئة الأجسام إلى أجزاء دقيقة جدا فيمكن احالتها إلى مسحوق ناعم جدا بحيث لا تدرك أجزاؤه باللمس ولا في أن الجواهر الروائحية تتطاير منها أجزاء دقيقة جدا تؤثر في حاسة الشم منا ، ويمكن الحكم على كميتها ودقتها فإنا إذا تأملنا في المسك مثلا رأينا أن القمحة منه تبقى أجزاؤها الرائحية مدة سنين في محل يتجدد هواؤه في اليوم مرات كثيرة من غير أن يظهر في زنتها نقص ، وإذا حللنا مقدارا يسيرا من اللعل في قليل من الماء ثم أضفنا له مقدارا عظيما من الماء فما دام الماء متلونا يوجد فيه عدد كثير من أجزاء اللعل تشاهد بالبصر.

(واعلم) أنه يمكن تقسيم الأجزاء إلى عدد خارق للعادة مع بقائها متصلة كما يظهر ذلك فيما لو أخذ سلك من فضة فيه غلظ ما وغطى بصفيحة من ذهب وزنها عشرة دراهم مثلا ، ثم سحب في مسحب حتى صار سلكا دقيقا أدق من الشعرة مغطى بالذهب من كل جهة طوله ثلاثمائة ميل فلو لم يهيئ الله تعالى الأجسام للتجزئة لما كانت الأرض فراشا لنا.

١١١

(الشرط الرابع وهو الدليل الرابع المسام):

المسام التي هي خاصية من خواص الأجسام عبارة عن الأخلية التي تكون بين أجزائها سواء كانت كبيرة كما في الإسفنج أو صغيرة ، وتلك الأخلية تكون في الأجسام النامية الحيوانية والنباتية مملوءة بالسوائل ، وفي غير النامية مملوءة بالغازات ؛ ولذا يشاهد عند وضع السكر والإسفنج في الماء وجود فقاقع على سطح الماء وما ذاك إلا من صعود الهواء الذي كان منحصرا في المسام ، واختلاف المسام بالكبر والصغر والكثرة والقلة هو السبب في اختلاف زنة الأجسام المتساوية في الحجم الظاهري الذي هو مادة مع المسام في الحالة الطبيعية.

وأما الحجم الحقيقي فهو كمية مادة الجسم بقطع النظر عن المسام والكثافة تراكم الأجزاء المادية للجسم في حجم ؛ ولذا كان المكعب من القصدير أكثف من مكعب مماثل له من خشب الفلين وتفاوت زنتها يكون على حسب كمية أجزائها ، والحرارة لا تمدد الأجسام إلا من مسامها فتبعد أجزاء الجسم عن بعضها ، والأجسام كلها ذات مسام ، والمعادن أكثرها اندماجا ومع ذلك ينفذ الماء في مسامها ؛ ولذا لو أخذت كرة مجوفة من الذهب والفضة أو أي معدن كان وملئت ماء وسدت سدا محكما ، ثم ضعط وطرق عليها بقوة لنفذ الماء من مسامها ولو لا ذلك لما جعل الله الأرض فراشا لنا.

(الشرط الخامس وهو الدليل الخامس المرونة):

المرونة : خاصية بها تميل الأجسام إلى العود لحالتها الأصلية إذا انقطع عنها تأثير القوة التي أحالتها عن تلك الحالة بجذب أو مصادمة أولى أو ضغط أو ثني أو نحو ذلك ، فمن ذلك الوتر الحاني للقوس فإنه إذا انقطع رجع القوس إلى تمدده ، والدحروجة التي من العاج إذا سقطت على سطح صلب جدا كالرخام فإنه يحصل فيها سطح على حسب اتجاه محورها العمودي وانفراش على حسب محورها الأفقي ، وبالجملة فأكثر الأجسام مرونة هو أسرعها عود إلى حالته ، وقد تكتسب المرونة في الأجسام من الصناعة ، فإن النحاس إذا طرق عليه ، وهو بارد اكتسب مرونة أكثر مما إذا طرق عليه وهو مسخن ، وكذا الحديد المتحد بالفحم ، أعني الذي صار فولاذا فإنه إذا سقي صار مرنا جدا وسهل الكسر وسقيه يكون بغمره في سائل بارد ليبرد بسرعة وتزول مرونته بتسخينه حتى يحمر ، ثم يتركه حتى يبرد بنفسه تدريجيا ، وتزول أيضا بتوالي الضرب بقوة شديدة بعرض صفائح منه بكل العرض في آن واحد على سطح مستو من نحو خشب أو سطح ماء كما يفعل أهل شغالة السيوف عند امتحانها فإنهم

١١٢

يجربون السيوف بالضرب بكل عرضها ثم يتأملون في مرونتها فما وجدوه فقد منه المرونة أكثر مما هو لازم طرحوه ومما له دخل في زيادة مرونة الأجسام أيضا أشكالها كما يظهر فيما لو سقطت حلقة على سطح من حجر أو رخام فإنها تنفذ أكثر مما لو كان الساقط قرصا مماثلا لها في المادة والوزن ، وكذا الكرة المجوفة فإنها تنفذ أكثر من كرة مصمتة مساوية لها في الوزن فإذا تكون الحلقة والكرة المجوفة أكثر مرونة من القرص والكرة المصمتة ، ثم إن الأجسام الكثيرة المرونة لا تعود إلى شكلها الأول بسرعة دفعة ، بل بعد ارتجاجات متعاقبة تأخذ في التناقص حتى تزول بالكلية كما يشاهد ذلك فيما لو أخذ منها يد ماسك أو جفت كبير وقرنت شعبتاه مع بعضهما ، ثم تركناه دفعة واحدة وفيما لو أثبت مقبض سيف في نحو حفرة أو بين شعبتي منجله وأميلت ذبابته قسرا ، ثم تركت فإن رجوع كل مما ذكر إلى حالته لا يحصل إلا بعد اهتزازات كثيرة ، ومثل ذلك يشاهد في الأجسام السلسة جدا كالأوتار ، وفي الجلود والسلوك المعدنية الرقيقة إذا كانت متوترة كما في آلات الطرب ذوات الأوتار وفي الطبول والكوبة المشهورة بالدربكة والرطوبة في ذلك كله تكون سببا لفقد المرونة لا سيما الجلود ولو لا ذلك لما جعل الله تعالى الأرض فراشا لنا.

(تنبيه):

اعلم أن جميع المفسرين أشاروا.

(أولا) : إلى أن كرة الأرض تدور إلى قطبين معينين ، وإذا كان كل فلك متشابة الأجزاء كان جميع النقط المفترضة عليه متساوية وجميع الدوائر المفترضة أيضا متساوية ، فاختصاص نقطتين معينتين بالقطبية دون سائر النقط مع استوائها في الطبيعة يكون أمرا جائزا فيقتضي العقل بافتقاره إلى المقتضى ، وهكذا القول في تعيين كل دائرة معينة من دوائرها بأن تكون منطقة.

(وثانيا) : أن الأجرام الفلكية مع تشابهها في الطبيعة الفلكية كل واحد منها مختص بنوع معين من الحركة في البطء والسرعة فانظر إلى فلك الشمس مع نهاية اتساعه ، وعظمه ، ثم إنه يدور على نفسه في خمس وعشرين ، ونصف وكسور والمشترى في إحدى عشرة سنة وزحل في تسع وعشرين سنة على ما قاله أهل الهيئة : فاختصاص الأعظم بمزيد السرعة والأصغر بمزيد البطء مع أنه على خلاف حكم العقل فإنه كان ينبغي أن يكون الأوسع أبطأ حركة لعظم مداره ، والأصغر أسرع استدارة لصغر مداره ليس إلا بمخصص.

والعقل يقتضي بأن كل واحد منها إنما اختص بما هو عليه بتقدير العزيز العليم.

١١٣

(وثالثا) : أن الأجسام متساوية في الجسمية والحركة ؛ لأنه يصح تقسيم الجسم إلى الفلكي والعنصري والكثيف واللطيف والحار والبارد والرطب واليابس ومورد التقسيم مشترك بين كل الأجسام ، فالجسيمة قدر مشترك بين هذه الصفات والأمور المتساوية في الماهية يجب أن تكون متساوية في قابلية الصفات والحركة ، فإذا كل ما صح على جسم صح على غيره ، فإذا اختصاص كل جسم بما اختص به من المقدار والوضع والشكل والطبع والصغر والحركة لا بد وأن يكون من الجائزات وذلك يقضي بالافتقار إلى الصانع الحكيم القديم ولا بد أن نزيدك ايضاحا وبيانا لكروية الأرض لتتم الفائدة ولتكون على بصيرة فنقول :

(في بيان البندول)

البندول : هو آلة من جسم ثقيل ، ومن سلك متصل به ، ويكون لهذا البندول حامل مكون من أربع أعمدة متصل بعضها ببعض من الأعلى اتصالا تاما ، ومنفصل من الأسفل انفصالا متساويا فاليمينيان كل واحد يبعد عن صاحبه أربعة قراريط تقريبا ، واليساريان كذلك.

وأما نقطة البندول التي هي الوسطى فالبعد ما بينها وبين العمود اليميني الثاني أربعة قراريط أيضا وبينها وبين العمود اليساري الثاني أربعة أيضا فيكون بعد الوسطى ثمانية قراريط فإذا علق البندل في وسط ذلك الحامل انقسمت المسافة إلى خمس نقط نقطة البدل الوسطى وتسمى بها ، والنقطة الثانية هي نقطة العمود الثاني اليميني للبندول ، وتسمى النقطة اليسارية ، والنقطة الرابعة هي نقطة العمود اليميني والأخير ، وتسمى النقطة الوحشية اليمينية والنقطة الخامسة هي نقطة العمود الثاني اليساري الأخيرة وتسمى النقطة الوحشية اليسارية وهذه الأدلة معدة لبيان الاتجاه القمي وتعيين قوة الثقل وأقسام الزمن ، أو لبيان زاوية التباعد فإذا بعد البندول عن وضعه القمي قيل لذلك في الاصطلاح عمل زاوية التباعد فإذا رفع البندول من الأسفل إلى النقطة الأنسية أو الوحشية اليساريتين ، ثم ترك نزل إلى نقطته ، ثم صعد إلى النقطة الإنسية أو الوحشية اليمينيتين بواسطة السرعة التي اكتسبها بنزوله فقطع بهذه السرعة مسافة تساوي المسافة التي رفع إليها أولا ، ثم أخذ يرجع إلى النقطة الأنسية أو الوحشية اليساريتين ، ثم إلى النقطة الأنسية أو الوحشية اليمينيتين وهكذا راسما في حركاته أقواسا لا تتغير ، وكل من هذه الحركات يسمى ذبذبة ، والذبذبة إما كاملة أو نصفية ؛ والنصفية إما صاعدة أو نازلة فالنازلة من النقطة الأنسية أو الوحشية اليمينيتين ، وزمن الذبذبة : هو المدة التي يقطع فيها البندول قوس حركته ومن حيث إن البندول فيه قوة الرجوع إلى نقطة التباعد

١١٤

حتى تكون له كمية الحركة التي انبعث بها في أول أمر الأم ينتج أنه متى تذبذب دامت ذبذبته ما لم يعارضه الهواء ، أو الاحتكاك الخفيف لنقطة التعلق فيكون سببا لوقوفه لكن الغالب أنهما لا يؤثران إلا قليلا شيئا فشيئا ، فبندول معلق تعليقا جيدا يتذبذب ساعات كاملة من غير انقطاع ولأجل تحصيل ذلك عملوا البندول المسمى بالمركب ، وهو قضيب معلق فيه جسم ثقيل عنبسي الشكل لثقل مقاومة الهواء له ذبذبته تسمى بالذبذبة المتساوية الزمن لكونها تتم في مدد متماثلة ، والبندول الذي قرب من وقوفه تكون ذبذبته متساوية الزمن كذبذبته الأولى وإن لم تكن المسافة التي يقطعها حينئذ إلا كسور من مسافة الذبذبة الأولى ، وحينئذ فالمدة متماثلة وإن تغيرت المسافة المقطوعة وطبيعة مادة العدسة لا تؤثر في هذه المدة شيئا وإذا كان هناك جملة بنادل لها سوق متخالفة في الطول كانت مدة ذبذبتها على نسبة جذور أطوال السوق فلو كانت البنادل ثلاثة ، ونسبة أطوالها لبعضها كواحد وأربعة وتسعة كانت مدة الذبذبة كواحد واثنين وثلاثة والتي هي جذور واحد وأربعة وتسعة ، فإذا قوبل البندول الذي طوله واحد بالذي طوله أربعة وبالذي طوله تسعة وجد التذبذب مرتين في مقابلة واحدة لبندول الأربعة وثلاثة في مقابلة واحدة لبندول التسعة ومعظم ما مر في البندول البسيط الذي يفرض بحسب اصطلاح هذا العلم اجتماع مادته كلها في نقطة واحدة.

وأما البندول الستيني لكونه يتذبذب في كل دقيقة ستين ذبذبة فتكون له في كل ثانية ذبذبة واحدة ، وطول هذا البندول يكون في عرض خمسين درجة تسعمائة وثلاثة وتسعين جزءا من ألف من متر وثمانية آلاف ومائتين وسبعة وستين جزءا من عشرة آلاف جزء ، فهذا الطول إذا علق بغير هذا العرض من أقسام الأرض اختلفت سرعة ذبذبته ؛ لأن جذب الأرض يختلف باختلاف محال سطحها ، وهذا مما يستدل به على كروية الأرض ، وبعضهم شاهد في عرض خمسة أن بعض البنادل يضرب ثواني في أزمنة أطول من أزمنة الثواني التي في عرض خمسين فاضطر إلى تقصيرها بنحو خط وربع حتى استقامت له الذبذبة الستينية ، ولما احتاج الأمر إلى البحث عن سبب هذا الفرق وارتحل لذلك جماعات إلى أقاليم عديدة وامتحنوا ذلك ظهر لهم أنهم كلما قربوا من أحد القطبين قصرت مدة الذبذبة فلزمهم الجزم بأن السبب في ذلك القرب من مركز الأرض وبأن محورها القطبي لكون كرتها مفرطحة من ناحية القطبين أقل طولا بالنسبة للمركز من محورها الاستوائي بالنسبة إليه أيضا ، وفي الحقيقة المقدار الذي يذبذبه المحور الاستوائي واحد وكسور من ثلاثمائة وثمانية ، وهو بالفراسخ أربعة وسبعة أعشار تقريبا ، وبالمتر عشرون ألف وستمائة وستون من شعاع المحور الاستوائي ؛ لأن شعاع هذا المحور

١١٥

بالمتر ستة ملايين وثلاثمائة وستة وسبعون ، وألفا وتسعمائة وأربعة وثمانون بالفراسخ ، وألف وأربعمائة وأربعة وثلاثون فرسخا وأربعة أخماس فرسخ.

وأما شعاع المحور القطبي فهو بالمتر ستة ملايين وثلاثمائة وستة وخمسون ألفا وثلاثمائة وأربعة وعشرون ، وبالفراسخ ألف وأربعمائة وثلاثون فرسخا وعشر فرسخ ، وقد جاب جميع كرة الأرض مع اختلاف أجزائها طولا وعرضا ما عدا قطبيها كثير من الناس فلم يمكنهم الوصول إليها ، لكثرة الجليد المائي لها دائما فوجد من امتحن أحوال البندول من السواحين أن ذبذبته في جميع الأماكن التي تحت خط الاستواء دائما تكون في مدد مستوية ، فلو سار أحد من عرض معين في جهة المشرق لوجد أن ذبذبة البندول دائما مستوية متى كان خط السير في بعد واحد عن القطبين ، وهذا مما يثبت أن سير بعضهم كان في بعد واحد عن مركز الكرة ، فإن قرب خط السير من أحد القطبين حصل الفرق في الذبذبة من أي ناحية كان التوجه ، ولو أن الأرض كروية لما كان كذلك ، بل لو كانت مسطحة لوجد فيها محال يكون تذبذب البندول فيها سريعا جدا ، ومحال يكون فيها بطيئا جدا ، وهذا لم يشاهد أبدا ، ويكفي استصحاب بندول واحد لاستيعاب كرة الأرض ، وهذا البندول يكون ساقا من معدن يعلق فيه جسم ثقيل.

هذا والعوام يتعجبون من استقرار الأجسام على الوجه السفلي من كرة الأرض مع كون تلك الأجسام غير مثبتة عليه بشيء مع أنهم لو عرفوا أن كتلة الحيوان صغيرة جدا بالنسبة لجرم الأرض ، الذي شعاعه المتوسط ، أعني الذي في الخامسة والأربعين من درجات العرض ألف وأربعمائة واثنان وثلاثون فرسخا ، أعني ستين مليونا وثلاثمائة وستة وستين ألفا وسبعمائة وخمسة وأربعين من المتر عرفوا مقدار عظم جذب الجرم للأجسام ولو كبرت كتلتها مهما كبرت وما تعجبوا من شيء.

وهاهنا تتم الخاتمة بعد إتمام الباب ، والله تعالى أعلم بالصواب ، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحسن ختامنا ، ويحسن المآب ، وأن يدخلنا جنته بفضله ورحمته من غير حساب ، ومن غير سابقة عذاب بجاه سيد الأحباب ـ عليه الصلاة والسّلام ـ من رب الأرباب آمين ، والحمد لله وحده.

١١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

إن أبه روض ابتسمت أزهاره بأطيب الأريج ، وأزهى دوح أينعت أثماره بكل زوج بهيج حمد من غرس في قلوب أهل مودته التصديق والإيمان ، ووعدهم على طاعته بجنة فيها من كل فاكهة زوجان ، فسبحانه من إله قادر ماجد أوجد من النبات صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد تحير أولو الأبصار ببديع قدرته ، واندهش ذوو الاستبصار في آلاته وحكمته لا نحصى ثناء عليه ولا نشرك به أحدا.

والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ، ونسأله من فضله وإحسانه وجوده وامتنانه أن يرسل شآبيب مزن رضاه وإكرامه ، ويهطل سحب صلاته وسلامه على أصل شجرة الهداية الرحمانية الثابت بالحكمة الربانية سيدنا محمد الداعي إلى سبيل الرشاد الذي أنزلت عليه (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ.) وعلى آله فروع الشجرة الزكية ذوي الرتبة العلية ما فاح عبير الرياض بالأرواح آمين.

(أما بعد):

فإن من جملة بدائع القدرة في المخلوقات إيجاد الأشجار والثمار والنباتات ، والتأمل في كيفية تكونها مما يقوى الإيمان برب الأرض والسماوات ، فأحببت أن أبين ما يتعلق بذلك مما وقفت عليه في كتب أهل العلم والإتقان رجاء العفو والغفران فأقول :

(الباب الثالث

في تفسير الآيات الشريفة المتضمنة لذكر النباتات وفيه مقالات)

وكل مقالة منها تشتمل على مسائل ومباحث :

(المقالة الأولى)

في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)).

١١٧

وفيها مسائل :

(المسألة الأولى) :

(اعلم) أن في هذه الآية الاستدلال على وجود الصانع الحكيم ، وبعجائب أحوال النبات.

(واعلم) أن الماء المنزل من السماء هو المطر أما كون المطر نازلا من السماء أو من السحاب فقد تقدم ذكره موضحا ، والحاصل أن ماء المطر قسمان :

(القسم الأول) : هو الذي جعله الله تعالى شرابا لنا ولكل حي وهو المراد بقوله : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) [النّحل : الآية ١٠]. وقد بين الله تعالى في آيات أخر أن هذه نعمة من النعم الجزيلة فقال : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : الآية ٣٠]. فإن قيل : أتقولون إن شرب الخلق لا يكون إلا من المطر ، أم تقولون قد يكون منه ومن غيره ، وهو الماء الموجود في قعر الأرض. أجاب القاضي بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف شربنا من غيره.

ولقائل أن يقول : ظاهر الآية يدل على الحصر لأن قوله : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) [النّحل : الآية ١٠]. يفيد الحصر ؛ لأن معناه منه لا من غيره ، إذا ثبت هذا فنقول : لا يمتنع أن يكون الماء العذب الذي تحت الأرض من جملة ماء المطر ، ويسكن فيها ، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : الآية ١٨]. ولا يمتنع (١) هذا أيضا في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر مثل نيل مصر.

(القسم الثاني) : من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سببا لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله : (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النّحل : الآية ١٠]. إلى آخر الآية وفيه بحثان :

(الأول) : ظاهر الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة ، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالشجر الكلأ والعشب ، وهاهنا قولان :

(الأول) : قال الزجاج : كل ما ينبت على الأرض فهو شجر وأنشد شعرا :

نطعمها اللحم إذا عز الشجر

__________________

(١) قوله : ولا يمتنع هذا ... إلخ. كذا بالأصل ، ولعل الصواب ولا يمتنع هذا أيضا في غير العذب ، وهو البحر الملح وأن يكون ... إلخ. فتأمل. اه.

١١٨

يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، وقال ابن قتيبة في هذا الآية : المراد من الشجر الكلأ وفي حديث عكرمة «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت». يعني الكلأ ، ولقائل أن يقول : إنه تعالى قال : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)) [الرّحمن : الآية ٦]. والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق هكذا قال المفسرون.

وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما ، ويمكن أن يجاب عنه بأن عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور ، وأيضا فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت ، وقال تعالى : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النّساء : الآية ٦٥]. ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه.

(القول الثاني) : إن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار ، وأيضا المعز على هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول.

(البحث الثاني) : قوله : (فِيهِ تُسِيمُونَ) [النّحل : الآية ١٠]. أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال : أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي تسوم سوما إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج : أخذ ذلك من السمة وهي العلامة وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات ، وقال غيره : لأنها تعلم للإرسال في المراعي. وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في قوله : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) [آل عمران : الآية ١٤].

(المسألة الثانية) : قوله : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) [النّحل : الآية ١١]. وفيها بحث هو أن النبات الذي ينبته الله تعالى من ماء السماء قسمان :

(أحدهما) : معد لرعي الأنعام وإسامة الحيوانات وهو المراد من قوله : (فِيهِ تُسِيمُونَ) [النّحل : الآية ١٠].

(وثانيهما) : ما كان مخلوقا لأكل الإنسان ، وهو المراد من قوله : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ) [النّحل : الآية ١١].

أما الزرع فسيأتي الكلام عليه ، وأما الزيتون فهو نوعان :

(الأول) : ينبت في آسيا والمغرب الأوسط والأقصى ومصر فجنسه أولى من الفصيلة الياسمينية ثنائي الذكور أحادي الإناث ، ويعلو من خمس وعشرين قدما إلى ثلاثين إلى خمس وأربعين ، وجذعه غير متساو ، وينقسم إلى فروع عديدة قوية ، وأوراقه متقابلة سهمية ضيقة

١١٩

حادة ، ولونها أخضر ، وفي وجهها العلوي العديم الزغب وسخ ، وأبيض كأنه فضي وجهها السفلي وبسبب ما فيه من الفلوس الصغيرة الرقيقة الترسية الشكل الهدبية الحافات.

والأزهار صغيرة مهيأة بهيئة عناقيد إبطية ومصحوبة بوريقات زهرية قشرية الشكل مستطيلة ، والثمار نوائية لحمية بيضاوية مستطيلة تبلغ في الطول نحو قيراط ، وهي خضراء وبيضاء وبنفسجية من الخارج على حسب الأنواع وتحتوي على نواة واحدة مستطيلة مخرزة شبكية السطح يابسة ذات مسكن واحد وبذرة واحدة أي لوزة بسبب الإجهاض أي عدم إتمام الثمرة وإلّا فاللازم وجدان لوزتين ، وغالبا يوجد في العنقود الواحد عدد كثير من أزهار غير تامة النمو صغيرة جدا بحيث يندر أن يوجد عنقود مركب من أكثر من ثلاثين زهرة يصل فيه غالبا اثنان أو ثلاثة لتمام نموها.

وأما أوراقه فهي مرة عطرية لها طعم غض لاحتوائها على مقدار كبير من مادة تينية وحمض عفصي ؛ ولذا تستعمل في بعض الأماكن لدبغ الجلود ، وذكر في كثير من الكتب القديمة في المواد الطبية استعمالها غراغر أكدوا أنها مضادة للعفونة ، وهي أيضا ممتعة بخاصية مضادة للحمى التي توجد أيضا في القشر ، «والمعلم بالاس» استعمل أوراق الزيتون في أربع وعشرين حالة من الحميات المتقطعة واعتبرها أحسن ما يقوم مقام الكينا ، وتأكد عند غيره من جملة مشاهدات جودتها في ذلك ، وأنها استعملت من الظاهر لإيقاف تقدم «غنغرينا» استعصت على الوسائط الأخر ، ومقدار ما يستعمل من الأوراق من الباطن درهمان ، وقال ميرا في الذيل : كان استعمال أوراق الزيتون مضادا جيدا للحمى.

وقال المعلم «غيا دارو» : كان المقدار منها أوقيتين مطبوختين في ثمان أواق من الماء بعد رضهما يسيرا ، ويستعمل ذلك ثلاث مرات في اليوم ، ثم أبدل بإعطاء مسحوق الأوراق بمقدار من درهم إلى ثلاثة على حسب سن المريض ، ويعمل ذلك حبوبا ، وأوصى الطبيب المذكور بصمغ الزيتون في الحالة المذكورة مع نجاح أيضا بمقدار أوقية ونصف يقسم ستة أقسام يستعمل المريض في كل ساعتين قسما بلعا من مقدار كاف من الماء بحيث يؤخذ الكل قبل النوبة بثلاث ساعات وتأثيره ولو بمقدار أقل أوضح من تأثير الأوراق مطبوخة أو مسحوقة ، ويؤثر هذا الراتينج كتأثير الرواند بكونه مقويا مسهلا بسبب القاعدة المرة التي فيه ، وخشب الزيتون مغطى بقشرة سنجابية مشققة مكرشة خشنة في الجذوع وملساء في الفروع سيما في الأغصان الصغيرة ، وهي عديمة الرائحة مرة.

وذكروا قديما أنها مضادة للحمى ، واستعملها «بالاس» على حسب هذه الدلالة علاجا للحميات المتقطعة كأوراق الشجرة ، وعرف أن هذه القشرة تحتوي على قاعدة فعالة مثل

١٢٠